فإذا كان القارئ قد احتفظ بما يلزم من الصبر في مطالعته، فإنه لا بد قد استطاع الإلمام بأهم الأدلة المدونة التي تكشف لنا عن أصول أخلاقنا الموروثة وتاريخها المبكر كما جاءت مرتبة في فصول هذا الكتاب. وإني كمؤرخ لا يحق لي ذكر شيء فوق ما تحتاجه هذه الأدلة من مناقشة، غير أن ما لهذه الأدلة نفسها وللنتائج الناشئة عنها من الأهمية البعيدة المدى يرغبني في الإدلال ببعض ملاحظات إضافية خارجة في الأصل عن دائرة اختصاصي، ولا سيما أن خاتمة كتاب ما - إذا كان هناك شيء يسمى بهذا الاسم - تسمح بأن يدلي المؤلف فيها بكل ما يروقه قوله.
والآن نعود إلى سؤال الأستاذ «هيكل»، إنني مع شعوري بشيء من الاعتزاز بالرأي أقول إني كنت أود أن أسأله هو السؤال التالي: «من أين أتيت بكلمة «مصادق» هذه؟» ذلك لأن الأستاذ «هيكل» قد اعتبر مدلول كلمة «مصادق» أمرا بديهيا كما يعتبر المؤرخ الطبيعي المادة عاملا من عوامل بحثه دون أن يطالب بتفسيره.
ولكن مدلول كلمة «مصادق» ليس أمرا بديهيا، بل إن مجرد ظهورها في سؤال الأستاذ «هيكل» هو في الواقع إجابة عن السؤال نفسه، وكان من الواجب أن يسأل عن إيضاح تلك الكلمة؛ فلولا أن الأستاذ «هيكل» قد مات منذ زمن طويل لكان من الأمور الشائقة أن نسمع إجابته عن ذلك، ومن المحتمل أن إجابته كانت تكون شيئا شبيها بما يأتي:
ولم هذا؟ «إن كلمة «مصادق» كلمة مألوفة في جميع اللغات الحديثة المتمدينة.»
ولكن المعترف به من زمن بعيد هو أن اللغة أكثر من مجرد أداة نقل للتعبير عن الفكر، بل الواقع أن اللغة هي أداة نقل مؤلفة من تجاريب البشر، لدرجة أنها من الوجهة التاريخية تعتبر إلى حد ما سجلا لتجاريب البشر في جميع نواحيها المتعددة، سواء أكانت اجتماعية أم صناعية أم علمية أم ميكانيكية أم فنية أم خلقية أم دينية أم حكومية، إلى غير ذلك. فإذا توجهنا بنظرنا مثلا إلى سلعة هامة من نتائج تجاريبنا الميكانيكية في الوقت الحاضر، وهي السيارة، فإننا نجد أن الكلمات «جراج» و«شوفير» (سائق) و«شاسي» (الجزء الأسفل من هيكل السيارة) «وتنو» (نوع من العربات) ونحوها قد بدأ استعمالها ينتشر في اللغة الإنجليزية منذ حوالي جيل من الزمن، وسيستمر ظهور هذه المجموعة الصغيرة من الكلمات بأصلها الأجنبي إلى ما قد يبلغ آلاف السنين برهانا على حقيقتين تاريخيتين في تجاريبنا؛ الأولى: ظهور استعمال «الأتوموبيلات» في أواخر القرن التاسع عشر، والثانية: أن أصل «الأتوموبيل» ومبدأ استعماله العام كمخترع عملي يرجع إلى فرنسا.
ومن الأمثلة الشائقة التي يمكن اقتباسها من الحياة البشرية المبكرة كلمة «ببلوص»
Biblos
التي يحتمل أنها ظهرت في أوروبا في وقت يرجع إلى حوالي عام 1000ق.م، وقد أدخلت في اللغة الإغريقية بمدلول كلمة «بابيروس» (ورق). ويعد ظهور هذه الكلمة في اللغة الإغريقية قبل سنة 500ق.م بعدة قرون (على الأرجح) دليلا على وقت بداية دخول الورق في أوروبا، كما يعتبر اسمه غير اليوناني - يعني اسمه الأجنبي الذي اشتقت منه كلمتنا «بيبل» ومعناها «التوراة» - دليلا قاطعا على أن مدينة «ببلوص» الفينيقية الواقعة على ساحل سوريا الشمالي كانت هي المصدر المباشر لأول ورق استعمل في أوروبا.
وهكذا نجد في مدفون طيات اللغة إيضاحا لمنشأ اختراعين بشريين ملموسين تماما، وهما «الأتوموبيل» الذي بدأ استعماله في عصرنا الحالي، والورق (البابيروس) الذي كان أول دخوله إلى أوروبا منذ زمن يزيد على خمسة وعشرين قرنا. وما يسري على هاتين الكلمتين من حيث إدلائهما بالمعلومات عن الاختراعات الميكانيكية الحديثة يسري بطبيعة الحال كذلك بالنسبة للشئون الأقل مادية في ارتقاء الحياة الإنسانية، عندما نهضت من حالة الهمجية أو الوحشية وسارت نحو بلوغ تلك القيم النفسية الباطنة التي أفضت إلى ظهور مثل الكلمات: «صديق» و«مصادق» و«مصادقة».
وما دام الأمر كذلك أفلا يكون الأستاذ «هيكل» حينما وضع سؤاله المتقدم ذكره: «هل الكون مصادق للبشرية؟» قد فاتته أهمية مجرد وجود كلمة «مصادق»؟ وقد رأينا عند فحصنا للوثائق المصرية القديمة أنه يوجد في لغتها وفي تاريخها ما يدل على بزوغ فجر تلك الصفات البشرية وارتقائها المبكر عند قدماء المصريين مما تنم عليه كلمة «مصادق».
ناپیژندل شوی مخ