4
فهل بعد ذلك يمكننا أن نتعرف الأساس التاريخي السحيق في القدم لعقيدة «الكلمة» في أيام كتاب العهد الجديد [الإنجيل]؟ «في البدء كانت «الكلمة»، وكانت الكلمة مع الله والكلمة كانت الله.» وهل نجد هنا صدى لتجارب إنسانية عتيقة على شاطئ النيل؟
من البدهي أن هذه الفكرة الهائلة التي ظهرت في عصر مبكر كهذا في تاريخ البشر - أو بتعبير أحسن في عصر ما قبل التاريخ - هي في حد ذاتها برهان على تقدم ناضج بدرجة مدهشة للعقل الإنساني في مثل هذا التاريخ البعيد؛ إذ ننتقل فجأة وبدون وجود مراحل انتقال تدريجية من عالم آلهة الطبيعة إلى عهد حضارة ناضجة نامية ينتج فيها منظمو الديانة والحكومة تفكيرا معنويا ناضجا. وقد رأوا أن العالم الذي يحيط بهم يعمل بعقل، فاستخلصوا من ذلك أنه مخلوق ومحمي الآن بعقل عظيم محيط بكل شيء، وأنه قد صبغ بالعقيدة القائلة بحلول الإله في كل شيء؛ ولذلك كانوا يعتقدون أن هذا الإله لا يزال يعمل عمله في كل صدر وفي كل فم في جميع الكائنات الحية. وقد استمرت هذه الفكرة موجودة مدة طويلة، ولذلك نجد أن المصري الذي عاش بعد ذلك العهد بألفي سنة كان يعتقد في «وحي الإله الذي في كل الناس»، أو يشير مخاطبا غيره إلى «الإله الذي فيك».
ومن الظاهر جدا أن الجماعة المنسقة والحكومة المنظمة كان لهما أثر عظيم على عقول هؤلاء المفكرين القدامى؛ إذ كان الاعتقاد بأن المركز السامي والمراتب الرسمية والوظائف الحكومية التي يسير بمقتضاها المجتمع الإنساني هي من وضع عقل سام، وإنها برزت إلى الوجود بكلمة هذا العقل السامي، ولذلك كانت الشئون العملية في الحياة العامة والحرف الصناعية تسير حسب «الأمر الذي يفكره القلب ويخرج من اللسان».
والواقع أنه في هذه المرحلة السحيقة من التقدم البشري أخذ الإنسان يدرك أن بعض السلوك ممدوح وبعضه مذموم، وأن كل إنسان يعامل بحسب ذلك، فالحياة تمنح للمسالم (الذي يحمل السلام) ويحيق الموت بالمجرم (الذي يحمل الجريمة). على أنه مما يلفت النظر جدا أن هؤلاء المفكرين القدامى لم يستعملوا في هذا المقام الكلمتين «طيب» و«خبيث»؛ فالمسالم في نظرهم هو الذي يفعل ما هو محبوب، و«المجرم» هو الذي يفعل ما هو مكروه. وهاتان العبارتان هما حكمان اجتماعيان يحددان ما هو ممدوح (محبوب) وما هو مذموم (مكروه)، وفي هذين التعبيرين («ما هو محبوب» و«ما هو مذموم») نجد أقدم برهان عرف على مقدرة الإنسان على التمييز بين الخلق الحسن والخلق السيئ؛ لأنهما ذكرا هنا لأول مرة في تاريخ البشر، ولهما تاريخ طويل فيما يلي ذلك الزمن، وظل استعمالهما مستمرا قرونا عديدة، ولم يحل محلهما كلمتا «الحق» و«الباطل» إلا بعد ذلك بزمن طويل. وهناك بعض الغموض بشأن أصل الجمل الافتتاحية للفقرة القصيرة الخاصة بالنظام الخلقي مما جعل إنشاءها من جديد معلقا، فقد رتبت الكلمات على الحجر نفسه هكذا:
ويظهر أن هذا التركيب مفصول عما يتلوه من المتن بأداه فصل، والآن نتساءل عما إذا كانت تلك الترجمة السالفة (أو الإنشاء الجديد) قد أدت كل المعنى المطلوب أم لا؟ فنجد أولا أن الكلمة التي ترجمت بلفظ «يفعل» تعني أيضا «يصنع»، ولما كانت هذه الكلمة هنا في صيغة اسم الفاعل «الذي يفعل» فإنه يمكن أن تعني أيضا الذي يصنع؛ أي الصانع، وبذلك تنسب إلى الإله أنه صانع ما يحب وما يكره. وإذا كان الأمر كذلك فيكون لدينا هنا نص بتسمية الإله «خالق كل من الطيب والخبيث».
غير أن الأستاذ «إرمان» رأى أن هذا التفسير غير مقبول، وترجم التعبيرين المتقابلين «بالنعم» و«النقم».
ومن جهة أخرى لاحظ الأستاذ «زيته» أن هذه الترجمة غير سائغة مع التعبيرين المتضادين «مسالم ومجرم»، وهما بجلاء تعبيران خلقيان، يضاف إلى ذلك أن لهذين التعبيرين تاريخا لاحقا - كما ذكرنا - يظهران فيه مستعملين بمعنى خلقي لا يقبل الجدل.
وأراد الأستاذ «زيته» أن يربط هذين التعبيرين أحدهما بالآخر بعض الربط، فقرر أنه سقطت بعض الألفاظ من الكاتب القديم عند قيامه بالنسخ، ولذلك يقترح أن الكلمات المحذوفة يمكن إعادتها بالاستعانة بفقرة وردت عن مثل ذلك في كتاب الموتى، فيكون الترتيب هكذا:
والاعتراض المهم على هذا التصحيح هو إدخال التعبيرين «حق» و«باطل» المأخوذين عن «مصدر» متأخر عن ذلك بكثير «ككتاب الموتى»، على أن خلو مسرحيتنا من هذين التعبيرين الأخيرين يشعر بحقيقة هامة جدا؛ وهي أن وجودهما جاء متأخرا، وفيما عدا ذلك نجد تصحيح الأستاذ «زيته» مغريا رغم أنه يدل على منتهى الجرأة، كما أنه في نفس الوقت يمدنا بموازنة تامة للتعبيرين المذكورين في ذلك التركيب المصحح.
ناپیژندل شوی مخ