ونلاحظ أن الحساب المذكور هنا لم يرد ذكره في «سفر المزامير» كله إلا هذه المرة، وهذه ملاحظة لها خطرها؛ لأن فكرة الحساب في عالم الآخرة - كما رأينا فيما تقدم - هي من ثمرات التمدين المصري القديم.
وكذلك نلاحظ أن توكيد ذكر مجاري المياه في الصور العبرانية أمر هام أيضا؛ وذلك لأن النصف الجنوبي من فلسطين شبه صحراوي، وكانت قلة الماء فيه من أسباب المتاعب الشديدة كما هي الحال هناك إلى يومنا هذا.
ونلاحظ من جهة أخرى أن العلامة «الهيروغليفية» الدالة على كلمة «حديقة» كانت ترسم بصورة «بركة حديقة»، ولذلك كان مجرد ذكر كلمة «حديقة» دلالة على الماء لاعتبار ذلك عندهم من الأشياء البدهية، ومن ثم لم تذكر كلمة «ماء» بعينها في الوصف الذي وضعه «أمينموبي».
ولذلك نرى أن مشابهة الصور المصرية للصور العبرانية أدق مما يبدو في الظاهر.
ومما يلفت النظر ذلك التعديل الذي أدخله كاتب المزامير بتركه كلمة «شجرة» واستعماله بدلا منها كلمة «العصافة» للتعبير عن الرجل الشرير، كما أن «أرميا» فضل ذكر كلمة «العرعر» البري الجاف الذي يكثر وجوده في وطنه «يوده». وقد صار كل من الزمان والمكان اللذين عاش فيهما رجال الإصلاح الاجتماعيين الدينيين - وهم الذين نسميهم الأنبياء العبرانيين - مما يدخل في تاريخ تطور حياتهم الخلقية والدينية أمرا مفهوما ذائعا الآن، بفضل ما قام به العلماء المحدثون. ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن نقول مثل هذا القول عن الأغاني العبرانية الدينية؛ إذ قد قامت بشأنها اختلافات عريضة بين العلماء العبرانيين ومؤرخيهم من حيث تحديد تاريخ «المزامير»، فقد كان هناك رأي فيه غلو ينسبها إلى أصل متأخر جدا، حتى لقد اعتبر تاريخ وضعها كلها بعد عهد نفي العبرانين في بابل، ولكننا نعرف أن الأناشيد الدينية كانت منتشرة في عهد مبكر جدا في كل من «بابل» و«مصر»، ولم يكن هناك من الأسباب على ما يظهر ما يدعو أهل فلسطين - سواء أكانوا من الكنعانيين أم من العبرانيين - إلى عدم استعمال ذلك النوع من الأدب قبل عهد «النفي العبراني» بزمان طويل، أسوة بما رأيناه من اقتباس أنبياء العبرانيين للآراء الاجتماعية المصرية. ولا يمكننا أن نشك في أن النبي «أرميا» كان على علم بالصورة التي صورها الحكيم المصري «أمينموبي» للشجرتين، ولا بد من أن تلك الصورة كانت كذلك معروفة عند مؤلف «المزمور» الأول.
وقد لاحظنا فيما سبق أن مؤلفي «المزامير» العبرانيين قد رسموا صورة تدل على الحماية الإلهية المستمدة من تحت جناحي إله الشمس المصري الظليلين، ولا بد أنهم كانوا كذلك على علم بأنشودة «إخناتون» العظيمة التي وضعها لإله الشمس. وهنا أيضا يحتمل أن يكون الأصل المصري القديم لتلك الأنشودة قد انتشر في فلسطين أو فينيقية قبل ظهور المزامير العبرانية بزمن طويل؛ فقد انتهى «إخناتون» من إخراج أنشودته هذه قبل منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ومن البدهي أن أعداءه الحانقين عليه ما كانوا يتركونها تنتشر في مصر مدة ستة أو سبعة قرون (أي إلى ما بعد سنة 1000 قبل الميلاد بكثير)، وهو الوقت الذي ابتدأ فيه العبرانيون يبدون اهتمامهم بها، وعلى ذلك يجب التسليم بأن تلك الأنشودة انتقلت إلى آسيا في عهد «إخناتون» نفسه، وأنها بذلك أفلتت هناك من الدمار المحقق على يد أعدائه.
وقد حدث فيها تغيير عظيم بعد أن ترجمت إلى بعض اللهجات السامية من لهجات آسيا الغربية، كاللغات الفينيقية أو الآرامية أو العبرية على الأرجح. على أنه بفحص محتويات الفقرات المشابهة لها (من المزمور 104) التي أوردناها فيما تقدم مع ترجمة الأنشودة، يظهر لنا مدى الشبه المدهش بين الصورتين، لا من حيث مضمون «أنشودة إخناتون» فحسب، بل إننا كذلك نجده في تتابع الأفكار وترتيبها الظاهري، فإن ذلك بقي في الرواية الآسيوية كما كان في أنشودة إخناتون، ولا يمكن بحال أن تكون تلك المشابهات من قبيل الصدفة، بل إنها بالعكس دليل على وجود جزء عظيم من الأنشودة المصرية الدينية القديمة منشورا بشكل معدل في المزامير العبرانية.
وقد مضى الآن ما يقرب من جيل منذ أن لفت المؤلف الحالي الأنظار إلى التشابه المدهش الموجود بين المزمور 104 وبين الأنشودة الإخناتونية المنظومة لإله الشمس.
23
ولم يكن في استطاعتي في ذلك الوقت أن أتعرض لأكثر من بيان وجه الشبه فقط؛ إذ كان من الحكمة ألا تبنى أية نتيجة على مجرد وجود تلك الحقيقة، ولكن الأبحاث والكشوف التي تلت ذلك العهد قد غيرت موقفنا تغييرا جوهريا، حيث صار لدينا الآن الأصل الهيروغليفي المصري الذي ترجمت ونشرت منه فقرات كاملة برمتها في «كتاب العهد القديم العبراني»، فقد تعرف الأستاذ المأسوف عليه «هوجو جرسمان»
ناپیژندل شوی مخ