14
بعد ذكرها في التوراة بنحو 1400 سنة، وقد ظهرت هذه القصة في صور متنوعة في أوقات مختلفة من تاريخ الأدب لمدة تبلغ نحو 3000 سنة منذ أول ظهورها في وادي النيل، وكذلك نجد لها بعض الأهمية في تاريخ فن التصوير الغربي، والفحوى الخلقي لاختيار تلك القصة ضمن الأدب العبراني أمر له أهمية أساسية؛ لأن مجرد وجودها في الأدب العبراني يعتبر برهانا قاطعا على أن الإسرائيليين في القرن الثامن قبل الميلاد كانوا قد دخلوا في عصر الأخلاق فعلا.
وفي هذا العصر الذي سادت فيه التأملات الخلقية أخذ إله الطبيعة القديم الذي ينتمي إلى صحراء «مدين»، والذي قاد الإسرائيليين إلى فلسطين ووجد لذة وحشية في تقتيل الكنعانيين يتحول تدريجا في نظر العبرانيين إلى أن صار إله عدالة، يتطلب بدوره أن يتصف عباده أيضا بالعدالة في أخلاقهم. ومع أن هذا التحول الذي نبت في الأذهان نتيجة لتجارب العبرانيين الاجتماعية الشخصية يرجع بدرجة عظيمة إلى العبرانيين أنفسهم، فإن التفكير الديني عند هؤلاء القوم الذين سكنوا فلسطين اعتمد جوهره في هذه الحالة - كما اعتمد في تجاريب كثيرة مشابهة لها - على الاستقاء من تراث الماضي كما وجدوه باقيا في الجماعات الكنعانية التي اندمجوا فيها تدريجا.
وكان هذا التراث مفعما بالأفكار المصرية القديمة التي تتناول صفات إله الشمس وتعده حاكما عادلا بين الناس، ولذلك نجد أن نبيا من العبرانيين يقول لقومه:
إليكم يا من تخافون اسمي
تشرق شمس العدالة بالشفاء في أجنحتها.
15
رأينا فيما سبق أن «العدالة» كانت ممثلة في شخص الإلهة «ماعت» التي كان يعتقد المصريون أنها بنت إله الشمس، وبما أن «شمس العدالة» العبرانية وصفت بأن لها أجنحة فلا يمكن أن يكون المراد بذلك شيء سوى الإشارة إلى إله الشمس ذات الأجنحة؛ لأنه لم يكن يوجد بين جميع التصورات العبرانية القديمة للإله «يهوه» أية صورة تمثله بأجنحة.
هذا؛ وقد دلت الحفائر الحديثة في «سامرا» على أن هذه التصورات المصرية لإله الشمس العادل كانت شائعة الانتشار في الحياة الفلسطينية، فقد كشف الحفارون في خرائب قصر ملوك بني إسرائيل في «سامرا» بعض ألواح من العاج منقوشة نقشا بارزا كانت تستعمل يوما ما في التطعيم الزخرفي الذي كان يحلى به أثاث الملوك العبرانيين، ومن بين تلك القطع قطعة نقشت عليها صورة إلهة العدالة «ماعت» يحملها إلى أعلى ملاك شمس هليوبوليس في وضع نفهم منه أنه كان على ما يظهر يقدم تلك الصورة لإله الشمس. وتصميم الرسم مصري في كل نواحيه، إلا أن صناعته تدل بوضوح على أن نقشه من صنع أياد فلسطينية. ومن ذلك يتضح أن الصناع العبرانيين كانوا على علم ومعرفة بمثل تلك الرسوم المصرية القديمة، وأن وجهاء العبرانيين كانوا ينظرون كل يوم إلى هذه الرموز التصويرية الدالة على عدالة إله الشمس المصري وهي تزين نفس الكراسي التي يجلسون عليها. ولم يكن إله الشمس ذات الأجنحة المتأصلة في وادي النيل معروفا عند العبرانيين بأنه إله عدالة فقط، بل كان كذلك معروفا بأنه الإله الحامي لعباده الرءوف بهم، وقد أشارت المزامير العبرانية أربع مرات إلى الحماية الموجودة «تحت (أو في) ظل أجنحتك».
على أننا لم نجد قط - كما ذكرنا ذلك فيما تقدم - أن «يهوه» كان يصور عند العبرانيين بأجنحة، في حين أنه قد عثر على صور رائعة منحوتة للفرعون وإله الشمس يرفرف عليه في شكل صقر له جناحان منتشران يحميان المليك.
ناپیژندل شوی مخ