249

فجر د ضمیر

فجر الضمير

ژانرونه

ومما يوضح لنا أن الحكيم العبراني كان مقتفيا أثر الفكر المصري القديم في هذه النقطة ما ذكر قبل تلك الآية مباشرة (من سفر الأمثال 21: 2) حيث جاء فيها:

والرب (يهوه) وازن القلوب.

إذ لم يكن في الشرق القديم إلا عقيدة دينية واحدة تقول بأن الإله يزن القلب الإنساني، وهي الديانة المصرية القديمة بما تشتمل عليه من المحاكمة الأوزورية، وقد رأينا فيما تقدم أن ذلك التمييز بين قيمة الخلق ومجرد الشعائر الدينية الظاهرية كان من غير شك نتيجة للخبرة الاجتماعية في مصر، فهذه الخبرة الاجتماعية نفسها كانت سائرة في تكونها بين الإسرائيليين بخطى سريعة، ويرجع ذلك إلى الإرث الأدبي والخلقي الذي ورثه العبرانيون؛ إذ قد وجدوا تلك الحقائق الأساسية في كتابات وتجاريب جارتهم الأفريقية العظيمة، وأخذوا يعملون بسرعة أيضا على تهيئة هذه الخبرة لتكون ملكا لهم؛ إذ من الواجب أن يكون إدراك الشعب نفسه للقيم الخلقية الإنسانية الثابتة هو حجر الزاوية لبناء أي تقدم خلقي ثابت مضمون، ومن المعلوم بطبيعة الحال أن دائرة القيم الخلقية السامية فقط هي التي توجد البواعث وتهيئ الأحوال لظهور أدب ذي قوة حقيقية، ولذلك لم يكن من باب الصدفة أن نرى القرون الثلاثة الأولى من حياة الشعب العبراني بعد تأسيس الملكية قد أنتجت أرقى فن أدبي عرفه العالم القديم إلى ذلك الوقت.

وأعظم مثل مقنع يدل على مهارة العبرانيين الجدد في القصص المسرحي الخلاب الذي تنجذب إليه النفس البشرية هو قصة يوسف - عليه السلام. ويبلغ مغزى هذه القصة الجميلة قمته في الثبات الخلقي الذي كانت تنطوي عليه نفسية ذلك الشاب المبعد عن وطنه، فنراه وهو غريب في بلدة أجنبية يجازف بحياته بلا تردد محافظة وإبقاء على سلامة أخلاقه وطهارتها، مع أنه لم يأت بذلك العمل تمسكا بالمثل الأعلى في إنكار الذات والعفة والتنسك، بل قياما بواجب الاحترام لشرف سيد وضع كل ثقته فيه. ومن الحقائق المدهشة أن هذه الحادثة التي توجت القصة كلها بتاج الفخر مستقاة من قصة مصرية قديمة شعبية كانت - لا بد - قد انتشرت في فلسطين الكنعانية حيث سمع بها ذلك الكاتب الموهوب الذي ألف قصة يوسف.

وهذه القصة المصرية تعرف الآن عادة «بقصة الأخوين»، والإلهان اللذان يظهران فيها بشكل الأخوين، اللذين يعتبران أهم شخصيات القصة، قد مثلهما الخيال القصصي الساذج في صورة اثنين من الفلاحين وسماهما بالتوالي «أنوبيس» و«باتا»، وهما اسمان يكشفان عن أن بطلي القصة يمثلان إلهين كانت لهما مكانة في الديانة المصرية القديمة منذ زمان متوغل في القدم.

فكان «أنوبيس» أكبر الأخوين متزوجا، وكان «باتا» أصغرهما يعيش مع الزوجين كأنه ابنهما، إلى أن قدر لتلك الحياة الريفية الخلابة التي احتسوا كئوسها أن يقضى عليها بإقدام الزوجة على أمر شائن؛ وذلك أنها كانت ذات يوم تنظر إلى الشاب الصغير وهو يحمل فوق منكبه القوي خمس حقائب مملوءة قمحا دفعة واحدة، فاستولى حبه على قلبها، ولما أخذت تراوده عن نفسه انقلب الشاب ثائرا غاضبا كأنه فهد من فهود الوجه القبلي، هاج من جراء تلك الكلمات الأثيمة التي وجهتها إليه، وخافت الزوجة عند ذلك خوفا شديدا من افتضاح أمرها، ثم خاطبها قائلا: «انظري، إنك عندي بمنزلة الأم وزوجك بمنزلة الوالد؛ لأنه أكبر مني سنا وقد رباني، فما معنى هذا الأمر المخزي الذي تذكرينه لي؟ لا تعيديه علي مرة ثانية، وأنا بدوري لن أفوه به لأحد، ولن أجعل شفتي تفتران عنه لأي إنسان.» ثم حمل حمولته وخرج إلى الحقل، غير أن زوجة «أنوبيس» الكاذبة خدعت زوجها فجعلته يصدق رواية معكوسة لفقتها هي للحادث، وكانت العاقبة أن «أنوبيس» تربص لقتل أخيه الصغير، فكمن له خلف باب حظيرة البيت وسلاحه بيده، وحينما اقترب الشاب الصغير من البيت وهو يسوق أمامه قطيع أنعامه حذرته البقرتان اللتان كانتا في مقدمة ماشيته وفاء له بالجميل؛ لأن ذلك الراعي الصغير كثيرا ما ساقهما إلى أحسن المراعي وأنضرها، فقفل الشاب موليا هاربا.

ويعتبر ذلك الامتحان الخلقي الذي اجتازه ذلك الشاب في «قصة الأخوين» أروع مثال لنزاهة النفس ومتانتها، لا في الأدب المصري وحده، بل في كل الأدب الشرقي القديم حتى ذلك الوقت. ومن الأمور الهامة جدا أن تكون هذه الحادثة بالذات من بين كل الأدب المصري هي التي جذبت نظر المؤلف العبري حتى ساقه ذلك إلى اتخاذها برهانا ساميا على طهارة أخلاق بطل قصته.

وقد أنزل الله - سبحانه وتعالى - هذه القصة على سيدنا محمد

صلى الله عليه وسلم

في القرآن

ناپیژندل شوی مخ