12
وتنسب المعتقدات العبرانية دائما أصل تلك الشعيرة إلى «موسى» - عليه السلام. هذا وإن اتخاذ «موسى» لعادة مصرية مقدسة واعتبارها علامة لبني إسرائيل، مع أنها شعيرة ألفها بداهة في مصر منذ نعومة أظفاره، يعد في الوقت نفسه برهانا قاطعا على أنه كان يستقي تعاليم مما كان يعرفه عن الديانة المصرية القديمة. على أن «موسى» لم يكن عبدا لمحاكاة التقليد المصري القديم، يظهر لنا ذلك عندما نراه اتخذ عن أهل «مدين» «يهوه» إلها له. ولما كان أهل «مدين» قوم بدو سذج ليس لهم من المهارة في الفنون ما يمكنهم من صنع تماثيل لإلههم، فإنه ترك «يهوه» دون أن يصنع له صورة أو تمثالا ما، كما كان الحال عند أهل «مدين» من قبل.
على أننا نجد أن «موسى» كان يتمسك ببعض الذكريات عن التماثيل الدينية المصرية، فقد كان هو نفسه يحمل عصا سحرية عظيمة، لا شك في أنها كانت في صورة ثعبان، تسكن فيها قوة «يهوه»، كما كان ينصب ثعبانا من النحاس البراق ليشفي به الناس، وكان هذا الثعبان بطبيعة الحال أحد تلك الثعابين المقدسة العديدة في مصر، وقد بقيت صورة ذلك الإله المصري القديم عند العبرانيين إلى ما بعد استيطانهم فلسطين بزمن طويل، واستمروا في إطلاق البخور له مدة خمسة قرون بعد عهد «موسى»، ولم يبعد من البيت المقدس إلا في حكم «حزقيائيل» في أواخر القرن الثامن ق.م (سفر الملوك الثاني 18: 4).
على أنه قد احتفظ العبرانيون إلى العهد المسيحي بقول مأثور عندهم يقرر أن «موسى» كان متفقها «في كل حكمة المصريين» (الإصحاح السابع الآية 22)، وهو قول لا يكاد يوجد ما يدعو إلى الشك في صحته. على أنه لم يكن في مقدورنا إلا في السنين الأخيرة أن نفهم المصادر التي وصلت إلينا عن حياة المصريين القدماء فهما كافيا ندرك به أن «حكمة المصريين» كانت قبل كل شيء عبارة عن التأملات والتدبرات الاجتماعية. ولا شك أن «موسى» كان ملما بأقوال أولئك الأنبياء الاجتماعيين الذين كانت أقدم كتاباتهم - كما ذكرنا فيما سبق - متداولة بين المصريين منذ 1500 سنة عندما ابتدأ موسى في تعليم قومه. ومن البديهي أن رجلا مثله نشأ محاطا بمثل ذلك النوع من الأدب كان لزاما عليه أن يشعر بالحاجة إلى دين يشتمل على تعاليم خلقية يزود به قومه.
وإنه من الصعب علينا الآن أن نعين بالضبط مقدار ما خلفه «موسى» لقومه من التعاليم الخلقية والأدبية، على أن الباحث يمكنه أن يحكم بنفسه فيما إذا كان القائد الذي أقام تمثال ثعبان نحاسي ليعبده قومه - وهو صورة بقيت محفوظة تعبد عدة قرون في معابد القوم - في مقدوره كذلك أن يفرض على كل صاحب بيت من العبرانيين الأمر التالي:
محظور عليك أن تصنع لنفسك تمثالا منحوتا أو (صورة) أي شكل في السماء أو في الأرض أو في الماء الذي تحت الأرض.
ويلاحظ أن كل وصية من الوصايا العشر موجهة إلى صاحب كل بيت، وأنها في صيغة المفرد المخاطب «أنت».
ومن الواضح أنه حينما كتبت الوصايا العشر كان العبرانيون قد انتقلوا فعلا من حياة المرعى في الأرض الصحراوية ذات الكلأ إلى حياة الزراعة المستقرة في المدن، حيث كانت المؤثرات الاجتماعية تعمل في تكوين الاعتقاد الديني وتزيد في موارده، ثم إن الملكية، التي يجهلها البدو، وكذلك الحياة التجارية إلى حد ما في المدن، قد أخذتا في تكوين طبقة صغيرة من الأثرياء في المدن، في حين أن أكثرية الشعب كانت لا تزال على حالتها الأولى من الفقر، ومن ثم بدأ ظهور المناقشات بين طبقات الشعب، وما نجم عنها من الأحقاد التي لا مفر منها، وما نشأ عن ذلك من اكتساب خبرة اجتماعية مفيدة.
وقد كانت الفوارق الاجتماعية بعد تأسيس المملكة العبرانية تلاحظ بدرجة أكثر من ذي قبل، كما ظهر ميل القوم للثراء والحياة التجارية حتى عند ملوك العبرانيين الجدد؛ وذلك أن ملوك فينيقية الأغنياء قد أثروا بطبيعة الحال في مطامح الحكام الإسرائيليين، فاشترك «سليمان» - عليه السلام - في تجارة مع «هيرام» ملك «صور»، وكان هو نفسه يتجر في الخيول فيجلب نسل الخيول الجياد المنسبة من مصر، حيث كان يتمتع هنالك بامتياز خاص عن طريق الفرعون حميه، ومن ثم كان يصدر هذه الخيول شمالا ويبيعها في أسواق الخيل الحيثية. وقد كانت له حظائر للخيل في جهات متعددة في طول البلاد وعرضها، ويتضح لنا ذلك الأمر جليا ملموسا حينما نقف بين دمن حظائر خيول سليمان الأصلية التي كشف عنها بين أطلال قلعته الإقليمية القوية بمدينة «مجدو» (أرما جدون)
13
ناپیژندل شوی مخ