10
وهذا الإقليم الممتد من «سيناء» شمالا، وبخاصة على طول الأخدود العظيم الذي نتج فيه «البحر الميت» ووادي نهر الأردن، تتوافر فيه البينات الجيولوجية الدالة على وقوع ثوران بركاني حديث نوعا. ولا شك في أن الرواية العبرانية التي ذكرت في سفر التكوين (19: 23-28) عن تخريب «سدوم» و«عمورة»، وهما مدينتان كانتا في تلك البقعة، «بالنار والكبريت» من السماء ليست إلا إشارة مبهمة عن حدوث انفجار بركاني لم تنس ذكراه القبائل المحلية في العهد العبراني المبكر.
وقد صحب خروج العبرانيين من مصر خوارق جاء وصفها في كتاب العهد القديم، لا شك في أنها ذات صبغة بركانية، فالمظهر الغريب الذي ظهر به «يهوه» في صورة «عمود نار» أو «عمود من دخان»، ثم تجليه فوق «طور سينا» نهارا محدثا «للرعد والبرق والسحاب الكثيف»، هي بالبداهة ظواهر بركانية، وعلى ذلك كان من المعترف به منذ زمن بعيد أن «يهوه» ليس إلا إلها محليا للبراكين، وكان مقره المختار «طور سينا»، ولكن العبرانيين تخلوا بتأثير من «موسى» عن آلهتهم «إلوهيم»
11
القدامى واتخذوا «يهوه» لهم إلها واحدا.
على أنه لا بد من باعث آخر دعا إلى ذلك الانقلاب العظيم أقوى من تأثير «موسى» قائدهم الكبير، فمن الواضح أن التخلص من النير المصري كان مصحوبا ببعض الظواهر الرهيبة التي عزيت إلى بطش «يهوه» الشديد، وإن الرأي القائل بحدوث انفجار بركاني في «سينا» حينما ضاق الخناق على العبرانيين في خروجهم يجد من الأسباب ما يبرره؛ إذ يمكن أن نفرض أن الزلزال الذي صحب ذلك الانفجار، وموجة المد التي نتجت عن ذلك، هما اللذان أفضيا إلى ابتلاع الجنود المصريين الذين كانوا يتعقبون أثر القوم الفارين.
ومهما يكن من أمر فإن الاعتقاد بأن العبرانيين عندما دخلوا منطقة «يهوه» الواقعة بالقرب من جبل سينا نجاهم هو ببعض المظاهر العظيمة لقوته وعطفه، قد احتل مكانة ثابتة في المعتقدات العبرانية المأثورة، وحينما أقيم محراب ذلك الإله بعد مضي زمان طويل على ذلك في «بيت المقدس» صوره عباده من الإسرائيليين بأنه آت من «سينا» في قوة وأبهة ليتخذ مثواه فوق جبل «صهيون».
أما آلهة العبرانيين القدامى «إيل» التي لم يكن لها لون ولا أسماء أعلام يستدل بها على كل منها، وليس لها شخصية ولا أصل تاريخي، فإنهم استمروا طويلا منافسين ضعفاء لإلههم «يهوه» بعد أن استوطن الإسرائيليون فلسطين، وأما الآلهة التي كانت أشد بأسا في مناهضة «يهوه» فهم «البعول» الكنعانيون، وبالرغم من أن العبرانيين كانوا قد اتخذوا «يهوه» إلههم القومي فإنه كان يوجد الكثير من بينهم من تمسك باعتقاده في الآلهة الأخرى مثل البعول، وكثيرا ما كانوا يتخذونها معبودات لهم من دون إلههم. على أن وجود نفس اسم «يهوه» كأنه علم مثل «أبولو» أو «المريخ» لدليل على وجود آلهة أخرى لها أسماء أعلام مثله، ونجد في التعليم الأول الذي وضعه «يهوه» نفسه لبني إسرائيل أنه كان يعلم بوجود الآلهة الأخرى، ولذلك قال: «لن تكون لكم آلهة أخرى قبلي.»
وقد كان سير الإسرائيليين في الانتقال من عبادة آلهة عدة إلى عبادة إله واحد لجميع العالم بطيئا وتدريجيا حتى لقد استغرق عدة قرون، كما نجد كذلك أن تصور العبرانيين فيما يختص بأخلاق إلههم قد مر في عدة أطوار، منذ الوقت الذي كانوا فيه مبتهجين بقوة إلههم الطبيعي التي كانت تحطم الكنعانيين وتذبحهم، إلى أن وصلوا إلى تصور الإله أبا رحيما عادلا. وإن الذي يجعل في استطاعتنا للآن أن نتعرف بعض الخطوات في ذلك التطور، الذي به تخطى الإسرائيليون في تفكيرهم إله الطبيعة، هو كتابات الأنبياء العبرانيين بوجه خاص، حيث يتبين لنا أن ذلك الإله، مع استمراره في حمل اسم إله البركان القديم «يهوه»، فإن الشعب العبراني أخذ ينظر إليه تدريجا بمثابة قوة فعالة في المجتمع البشري.
ولا بد أن النشأة المصرية القديمة التي يرجع إليها الفضل في جعل موسى قائدا قوميا عظيما قد ساهمت في إدراكه لتلك الصورة الواجبة «ليهوه» في حياة قومه، فإننا نرى مثلا أن نشأة «موسى» في مصر وتسميته باسم مصري جعلاه يحض مواطنيه على الأخذ بشعيرة الختان، وهي عادة مصرية قديمة جدا كانت مراعاتها عامة في أيامه بين سكان وادي النيل، ويرجع عهدها إلى ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة أو تزيد قبل عصره.
ناپیژندل شوی مخ