والواقع أن تلك القصور «الإلهية» الضخمة قد رفعت من قيمة الشعائر الدينية الظاهرية إلى مستوى لم تتمتع به من قبل، لا في فخامة مبانيها فحسب، بل في معداتها العظيمة الرائعة أيضا.
وقد صار آنئذ «آمون طيبة» وهو متوج بتاج من العظمة لم يسمع بمثله في بذخ الشرق قط، في أيدي كهنته الماكرين، مجرد مصدر للقرارات السياسية والإدارية، بل إن الأحكام القضائية المعتادة كان يصدر الفصل فيها بإيحاء من الإله، كما كان غير ذلك من أمور الوصايا والهبات خاضعا كذلك لما يوحي به الإله، فكأن الدعاء القديم الذي كان يبتهل به المظلوم إلى الإله «آمون» أن يستحيل بنفسه إلى وزير للرجل الفقير قد نفذ تنفيذا حرفيا بحتا، وأفضى إلى نتائج لم تكن في حسبان الذين قاموا بتأليف هذا الدعاء.
أما الدين بصفته قوة شخصية خلقية فقد بقي في قلوب الفقراء وحثالة الشعب من المتدينين فقط، من أمثال أولئك الذين عثرنا على أدعيتهم الناطقة بورع أصحابها وإيمانهم الشخصي على أحقر اللوحات المقدمة للنذر في جبانة «طيبة»، وهذه الألواح المنذورة، مجتمعة مع نصيحة «آني» وحكم «أمينموبي»، قد كشفت لنا عن روح عصر ساد فيه الورع الشخصي، وكان خاتمة تطور الآراء الخلقية عند قدماء المصريين، وكان ذلك بعد مرور بضعة أجيال من ألف السنة الأخيرة ق.م، وفي نفس الوقت الذي انهارت فيه المملكة العبرانية المتحدة، التي لم يقم بالحكم فيها غير ثلاثة ملوك ثم انقسمت إلى مملكتين. ومن المهم جدا أن نلاحظ أن التطور الخلقي عند قدماء المصريين - كسائر عناصر ثقافتهم - قد وقف وانتهى أمره تقريبا قبل بداية الحياة القومية العبرانية، بعد أن سار في تدرجه نحو خمسة وعشرين قرنا.
وعندما انتقل ذلك الانحطاط المصري القديم الذي دام نحوا من خمسمائة سنة إلى دور إصلاح ونهضة بعد سنة 700ق.م، كان عصر الابتكار والتجديد في النمو الباطني للتدين والأخلاق قد مضى وقضي عليه قضاء أبديا.
فبدلا من أن نجد نشاطا فياضا يبدو من تلقاء نفسه في شكل آراء ومظاهر جديدة، كما كان الحال في بداية كل تلك العصور العظيمة التي مرت بها البلاد، فإننا نجد أن مصر قد رجعت إلى الماضي للأخذ بما كان لها فيه من مجد تالد، وحاولت عن رغبة أن تصلح الحكومة وتعيدها إلى ما كانت عليه حال المملكة المنقرضة في تلك الأيام الخالية قبل أن تحدث عصور الإمبراطورية المصرية تلك التغييرات والتجديدات؛ إذ كانت مصر القديمة في نظر هؤلاء القوم - كما بدت لهم من خلال ضباب ألفي سنة مضت - صورة أسبغت عليها نعمة الكمال المثالي الذي سادها من قبل في عهد حكم الآلهة. ولا شك أن جماعة الرجوع إلى القديم، عند محاولتهم بعث الديانة والمجتمع والحكومة من جديد على الأسس القديمة، كان لا بد أن يعترضهم على الدوام ذلك التقلب الذي لا مناص من حدوثه - سواء أشعروا به أم لم يشعروا - بسبب أحوال الشعب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فإنه لم يكن في الإمكان محو ألفي السنة التي انقضت منذ عصر الأهرام، ولذلك كانت الأحوال الواقعية الجديدة تبدو صارخة من خلال ذلك الستر القديم الزائف الذي أحيطت به الشئون الحاضرة. ولما عثر على حل تلك المعضلة، كان العلاج مماثلا لما حاوله العبرانيون فيما بعد عندما وقعوا في مثل هذا المأزق، فنسب القوم للعناصر الجديدة كذلك ماضيا مجيدا سحيقا، كما نسبت كل مجموعة التشريعات العبرية إلى سيدنا «موسى» - عليه السلام؛ وبذلك أنقذوا هذا الإحياء النظري.
فكتابات الأهرام الجنازية القديمة - وهي ما نسميه «متون الأهرام» - بعثت من جديد، وبالرغم من أنها لم تكن في الغالب مفهومة كانت تنقش فوق التوابيت الحجرية الضخمة، وكذا «كتاب الموتى» الذي كان لا يزال يحدث في تأليفه بعض التغيير، قد ظهرت فيه آثار واضحة تنم على هذه الحركة. وفي مزارات المقابر أيضا ذات الصور الجديدة نجد المناظر السارة المأخوذة من حياة الشعب في المستنقعات والمراعي وفي المعامل ومرافئ بناء السفن، وكلها صورة نقلت بدقة مدهشة عن المناظر المنقوشة في مقابر عصر الأهرام التي بنيت على هيئة المصاطب. وقد وصلت الدقة في نقلها لدرجة أن الباحث لأول وهلة كثيرا ما يشك في تاريخ الأثر الذي نقشت فوقه. والواقع أن شخصا من رجال «طيبة» يدعى «آبا» أرسل فنانيه الرسامين إلى أحد القبور التي من عهد الدولة القديمة بالقرب من «أسيوط» لينقلوا عنه النقوش التي يريدها في القبر الذي كان يعده لنفسه في «طيبة»، وكان كل السبب في ذلك أن صاحب القبر القديم كان يسمى هو الآخر «آبا» أيضا.
كذلك رأينا فيما تقدم في الفصل الثالث من هذا الكتاب أن «المسرحية المنفية» قد وصلت إلينا؛ لأن الفرعون الإثيوبي الذي وجد في القرن الثامن ق.م أخذته روح التقوى فأمر بإعادة تدوين كتاب قديم، كان مكتوبا على بردية من عهد الأسر القديمة، باعتبار «أنه من صنع الأجداد وأنه قد أكله الدود»، فنقش على حجر من البازلت الأسود يوجد الآن بالمتحف البريطاني.
وهكذا جرى البحث وقتئذ بشغف عن الكتابات واللفائف القديمة المقدسة التي بقيت من عهد تلك الأيام الخالية، حيث كانت تجمع وفوقها تراب تلك العصور الماضية ثم تفرز وترتب. لقد صار الماضي القديم صاحب السيادة العليا، ولا شك أن الكاهن الذي كان يحبذ ذلك الماضي العتيق كان في الحقيقة يعيش في عالم من الخيالات، حيث لم يكن لكل ذلك أي معنى حيوي لأهل العصر الذي يعيش فيه. وبمثل ذلك كانت نفس الروح الرجعية في «بابل» هي السائدة، وقت أن كانت إمبراطورية «نبو خاد نزر» (بختنصر) هي الأخرى تقوم بحركة بعث جديد. كما سادت نفس تلك الفكرة أيضا فيما بعد بين العبرانيين العائدين من المنفى، فكأن العالم قد أخذ يطعن في السن، وكان القوم يتحدثون بولوع وشغف عن أيام شبابه الغابر. على أن هذا المنهاج الذي كان يجري مجراه للاحتفاظ بالقديم هوى بذلك التدين العتيد عند المصريين القدماء من حضيض إلى حضيض أبعد منه غورا نحو الانحلال والجمود، حتى آل أمره إلى ما وجده عليه المؤرخ الإغريقي «هردوت» من مجرد شعائر ظاهرية جامدة وتقاليد كهنوتية لا حصر لها، كانت تؤدى بحذق ودقة، اشتهر المصريون بسببهما بأنهم أكثر شعوب العالم تمسكا بالدين. غير أن تلك الشعائر لم تعد بعد تعبر عن حياة باطنية نامية متطورة، كما كانت عليه الحال في تلك الأيام الخالية، وقبل أن تخمد الحيوية المبتكرة عند الجنس المصري.
هذا؛ وقد كنا نتتبع فيما تقدم على وجه عام نمو تلك الأفكار الخلقية عند ذلك الشعب المصري العظيم، الذي ظل يتطور خلال مدة تنوف على ثلاثة آلاف سنة تتنازعه فيها القوى الباطنة في ذلك الإنسان القديم مع العوامل المحيطة، حتى هيأت تصوره للقوى الإلهية وتكييفه لمقاييس السلوك البشري. فالإلهية كما كان يدركها الإنسان في كل مكان من العالم الشرقي القديم، هي من نتائج الخبرة البشرية، والآراء القديمة عن الإله ليست إلا تعبيرا عن أحسن ما أحس به الإنسان وتخيله ممثلا في أرقى كائن تصوره. والواقع على ما أظن أن ما قصده «روبرت ج. إنجرسول» عندما قال في سخرية لاذعة: «إن أسمى عمل قام به الإنسان هو صنعه لإله أمين» هو قول - بالرغم من كل ذلك - صادق حتى الأعماق؛ فقد رأينا كيف وصل المصريون القدماء في تطوراتهم البطيئة إلى «إيجادهم للإله الأمين»، ونحن
9
ناپیژندل شوی مخ