ولما انتقل الشعب المصري القديم إلى ألف السنة الأخيرة ق.م كان نمو الضمير الذي تتبعنا مجراه في نحو ألفي عام، قد وصل إلى نهايته بتحقيق هذا الانتقال العميق الهام، الذي كان يمهد لمجيئه من عدة قرون، فإن الوازع الباطني الذي نما في الأصل من المؤثرات الاجتماعية ثم زاد تطوره خلال قرون مضت في التفكير العميق، قد صار المتعبدون يعترفون الآن من غير تحفظ بأنه أمر الإله نفسه.
وقد رأينا أن هذه الفكرة كانت قد ظهرت قبل ذلك بنحو 500 سنة؛ أي في بداية عهد الإمبراطورية المصرية، ولكن في هذا العصر الذي هو عصر الورع الشخصي، صار الضمير هو صوت الإله بدون أدنى شك، وذلك ما لم يحدث من قبل مطلقا.
وإزاء ذلك لم يكن هناك بالطبع مجال لإخفاء الخطيئة أو إنكارها بعد وقوعها من المخطئ، وإذ كان المؤمن يشعر بأن كل أمره معلوم عند ربه فقد أصبح يضع نفسه - بدون أدنى تحفظ - في يد الله المرشد والمهيمن على كل حياته وحظوظه. ومع أن رضاء المجتمع كان لا يزال أمرا هاما، وضغط المؤثرات الاجتماعية محسوسا، فإن ذلك صار في المرتبة الثانية إزاء الإله العليم بكل شيء.
وهذا الموقف الجديد قد كشف لنا غطاؤه في رسالة عظيمة يمكننا أن نسميها «حكم «أمينموبي»»، وبرديتها محفوظة الآن بالمتحف البريطاني.
5
وكما كان يحدث كثيرا في مثل تلك النصائح التي كانت تصدر من رجال الحكمة المصريين القدماء، قد اعتبرت حكم «أمينموبي» أيضا ملقاة من هذا الحكيم على ابنه. وهي في نظمها ووضعها تعد أكثر ترتيبا من أية وثيقة أخرى من نوعها مما فحصناه من تلك الوثائق للآن، فقد قسمت بنظام إلى ثلاثين فصلا، وكل فصل منها خاص بموضوع معين، وتبدو مقسمة إلى مقطوعات كل منها يشتمل على أربعة أسطر أو ستة أو ثمانية، كما يوجد بعض مقطوعاتها مؤلفا من سطرين فقط. ويلاحظ أنه لم يبذل في تأليف تلك الحكم أي جهد لتنسيق فصولها أو ترتيبها ترتيبا منطقيا.
ولقد قال الأستاذ «لنج»
6
أحد أساتذة جامعة كوبنهاجن، وهو ممن لهم الفضل الأكبر في فهم ذلك المقال المدهش، عند تناوله الموازنة بين «أمينموبي» وغيره من أسلافه السابقين: «إن آراء «أمينموبي» الدينية أعمق بكثير من سابقاتها، كما أنها تنفذ إلى الأعماق بدرجة عظيمة تفوق فيها آراء أسلافه من الحكماء؛ إذ كانت التقوى في نظر أصحاب الحكمة الآخرين تعد فضيلة، وأن فكرة الموت والخلود الأبدي قوة دافعة للمرء على السلوك الفاضل، وأن الله وحده هو الذي يعطي الغنى والحظ، في حين أن الشعور بالإدانة لله وحده هو في نظر «أمينموبي» العامل الفاصل في كل تصوراته عن الحياة وسلوكه فيها.»
ولذلك كان «أمينموبي» يتمسك أمام ابنه دائما بهذه النظرة إلى الحياة الدنيا في المعاملات الشخصية والرسمية، مع الشعور التام بتلك المسئولية أمام الإله في كل حين. ومما يزيد في أهميته تلك النصائح ووصولها إلى هذه القمة من تقدير الضمير والإحساس برقابة الله، وذلك في تعاليم مفكر مصري في القرن العاشر ق.م، وقبل أن يكتب أي شيء من التوارة، أننا نعرف الآن أن حكم «أمينموبي» هذه قد ترجمت إلى العبرية وقرأها العبرانيون، وأن قسما هاما منها قد وجد سبيله إلى كتاب العهد القديم.
ناپیژندل شوی مخ