فيتضح مما تقدم أن وادي النيل المعشب الواقع شرقي أرض الصحراء لم يجذب إلى داخل جدرانه الصخرية المنكمشة صيادي ما قبل التاريخ المشتتين على ساحل أفريقيا الشمالي فحسب، بل هيأ لهم مجتمعين التسلط على كل الموارد اللازمة للتقدم الإنساني في أحوال حسنة جدا، لدرجة جعلت الجماعات المحلية التي كانت تتألف منها البلاد تتوحد تدريجيا، حتى أصبحت أول مجتمع عظيم مؤلف من عدة ملايين يحكمهم ملك واحد وفي أيديهم كل الأسس الرئيسية اللازمة للحضارة. ففي القرون التي تقع بين 5000، 3500ق.م قامت أول دولة متحضرة كبيرة في وقت كانت فيه أوروبا ومعظم غربي آسيا لا تزال مسكونة بجماعات مشتتة من صيادي العصر الحجري.
والأرجح أن أول اندماج تألفت به أمة واحدة حدث في وقت لا يتجاوز سنة 4000ق.م، وقد كان من نتائجه أن بقيت البلاد متحدة مدة بضعة قرون أطلق أنا عليها الآن اسم «الاتحاد الأول». وكان من نتيجته تأسيس حكومة مركزية قوية تعد أقدم نظام إنساني معروف يضم عدة ملايين من الأنفس.
10
ولما تألف «الاتحاد الثاني» فيما بعد بدأ تطور قومي في شكل هائل في نظام الحكم ونواحي الاقتصاد والاجتماع والدين والعمارة والفن والأدب، أخذ يسير بخطى ثابتة مدة ألف سنة من القرن الخامس والثلاثين إلى القرن الخامس والعشرين ق.م. وهذا العصر البالغ ألف سنة هو مرحلة فريدة في حياة الإنسان على الأرض؛ لأنه يوضح لنا أن أول فصل في تقدم الحياة البشرية إنما هو عملية اجتماعية، تكشف لنا عن مبدأ ظهور العوامل الاجتماعية وتأثيرها في المجتمع الإنساني. ومن المهم أن نؤكد كلمة «فريدة» التي استعملناها في العبارة السابقة؛ لأنه لم يكن في هذا العصر البعيد نمو مطرد متعاقب في أية بقعة أخرى من بقاع العالم القديم، وإن مدة الألف السنة هذه هي التي وضعت مصر من الوجهة الخلقية والثقافية في مرتبة تفوق بكثير ما كان في بابل، حيث كانت الشحناء قائمة بين بعض المدن وبعضها الآخر؛ تلك المدن التي كانت تؤلف ممالك صغيرة تناضل عن شئون محلية ضئيلة، واستغرق نضالها مدة الألف السنة السابقة بعينها، بل بقي بعضها على هذا النحو بعد ذلك مدة طويلة. ولقد كان الاتجاه الرئيسي في معترك الحياة فيما قبل السنين الألف المذكورة التي تعد أساسية وهامة في التقدم الاجتماعي، هو العمل على تقدم الإنسان في التغلب على عالم المادة، وعلى ذلك يكون وادي النيل في نظرنا هو أول مسرح اجتماعي يمكننا أن نلاحظ فيه الإنسان خارجا منتصرا من كفاح طويل مع الطبيعة، وداخلا مسرح العوامل الاجتماعية الجديدة ليبدأ كفاحه الشاق بينه وبين نفسه، وهو كفاح لم يكد يتخطى بدايته حتى يومنا هذا.
وإنا معشر الأمريكيين على استعداد خاص لندرك ونقدر الانقلاب العجيب الذي جعل من الأرض القاحلة أرضا ذات مدن زاهرة ... فإن آباءنا الذين قامت مجهوداتهم بإنشاء مدن عظيمة ثرية على طول أراضينا الشاسعة، إنما تسلموا الفن والعمارة والصناعات والتجارة والتقاليد الحكومية والاجتماعية بطريق الوراثة عن أجدادنا الأوروبيين، ولكن في ذلك العصر السحيق الذي نحن بصدده بدأ الانتقال من الوحشية إلى المدنية بكل مظاهره الخارجية في الفن والعمارة من لا شيء. وليست أهمية ظهور المدنية في وادي النيل منحصرة في بهاء مبانيها فحسب، بل لأنه كان أيضا تطورا اجتماعيا مستمرا دون أي عائق أكثر من ألف سنة، أشرق لأول مرة على كرتنا الأرضية، مقدما لنا أول برهان على أن الإنسان الذي هو أرقى المخلوقات الفقرية التي ظهرت على وجه البسيطة أمكنه أن يخرج من الوحشية إلى المثل الاجتماعي الأعلى، ويظهر الحياة الإنسانية بمظهر لم ير الكون كله - على ما نعلم - أرقى منه.
وفي أيامنا يدخل السائح وادي النيل وكأنه دخل أرض العجائب، على أبوابها تلك الأهرام الضخمة التي طالما تخيل منظرها منذ نعومة أظفاره. وعندما يصعد في الوادي مع النهر يرى فيها وراء الشواطئ الي تحفها النخيل أسوار معابد واسعة توصل إليها من الشاطئ طرق مزينة بتماثيل أبي الهول، ويشرف عليها مسلات ضخمة شاهقة الارتفاع وقاعات وعمد فخمة، ولكن قلما يخطر ببال ذلك السائح أنه في أمريكا ووادي النيل سواء بسواء يسبق القفر كل ما يرى من فن وعمارة. فحيث تقوم الآن هذه الآثار الحجرية العظيمة كانت تمتد يوما ما تلك الغابات الكثيفة التي كانت تمتد في أودية النيل الضيقة، وكانت خالية من السبل آلافا من السنين، اللهم إلا مسالك الصيادين الضيقة التي كانت ترى ملتوية بين الأعشاب ومؤدية إلى حافة الماء. ولم يكن لسكان وادي النيل في عصر ما قبل التاريخ أجداد متحضرون يرثون منهم أية ثقافة، ولا بد أن تجد أن في خبرة هؤلاء القوم التي كانت آخذة في التعمق، وفي أفقهم الذي كان آخذا في الاتساع؛ ذلك السحر الذي حول هؤلاء الصيادين السذج ومساكنهم الصغيرة المصنوعة من الطين وأخصاص من الخوص إلى مجتمع عظيم يسيطر عليه رجال ذوو سلطان وخيال واسع وأصحاب آمال ضخمة، أحرار لم تغل أيديهم التقاليد فعمرت تلك البقاع التي كانت يوما غابة، ولم يكتفوا بنشر هذه الآثار فيها على طول النهر وعرضه، بل أدركوا كذلك المعنى السامي لقيم الأشياء الاجتماعية والأخلاق البعيدة عن الأنانية، مما لم ينبثق فجره على العالم من قبل. وإن الذي يعرف قصة تحول صيادي عصر ما قبل التاريخ في غابات النيل إلى ملوك ورجال سياسة وعمارة ومهندسين وصناع وحكماء وأنبياء اجتماعيين في جماعة منظمة عظيمة مشيدين تلك العجائب على ضفاف النيل في وقت كانت أوروبا لا تزال تعيش في همجية العصر الحجري، ولم يكن فيها من يعلمها مدنية الماضي؛ من يعرف كل هذا يعرف قصة ظهور أول مدينة على وجه الكرة تحمل في ثناياها صورا خلقية ذات بال.
فالمدنية في أعلى معانيها قد ولدت إذن في الركن الجنوبي الشرقي في البحر الأبيض المتوسط، ومع ذلك قد كان هناك منذ البداية تقدم هام نحو المدنية في غرب آسيا المجاورة؛ وبخاصة في بابل، حيث ظهرت في نهاية الأمر ثقافة ما تمتاز بتقدمها المطرد في الشئون العملية والتجارية والقضائية، وفي الوقت نفسه كان من عناصرها البارزة الاعتقاد بأن مصير الإنسان يمكن قراءته في النجوم، حتى إن حذقها المدهش لدرس الأجرام السماوية وضع مقدمة أصبحت في يد الإغريق أساسا لعلم الفلك، غير أن الحضارة البابلية كانت تسودها في جميع أدوارها روح الاقتصاد التجاري والكد في الحاجيات الآلية؛ مما حرم التطور الاجتماعي البابلي حتى من الأسس الأولية للتدرج نحو مراعاة الغير، والعمل على نفعهم، فكان الأساس الخلقي اللازم للعدالة بين الجميع معدوما كلية، حتى إن دستور قوانين «حمورابي» يقضي في العدالة حسب المركز الاجتماعي للمدعي أو المذنب. أما الانعدام التام للفوارق الاجتماعية أمام القانون الذي هو من أرقى مظاهر الحضارة المصرية فلم يكن معروفا في بابل، وكان نتيجة ذلك أن المبادئ الأخلاقية في بابل لم تساهم إلا بالنزر اليسير - إن لم تكن لم تساهم بشيء مطلقا - في الإرث الأخلاقي الذي ورثه العالم الغربي.
وقد أدى اندماج المدنيات القديمة في الشرق الأدنى إلى نشوء ما يمكن تسميته الثقافة المصرية البابلية، أو نواة ثقافة الشرق الأدنى، وظلت أمم الغرب لا تكاد تحس حتى جيلنا الحاضر بالحقيقة البالغة الأهمية، وهي أن كلا الحضارة المصرية والحضارة البابلية قد بلغت قمتها ثم أخذت في التدهور قبل قيام الحضارة العبرانية. كلنا نعلم أن الثقافة المصرية البابلية قد دفعت الحضارة الأوروبية نحو السير، ولكن ليس من بين أهل العصر الحديث إلا القليلون ممن يعرفون تلك الحقيقة البالغة الخطورة في تاريخ الأخلاق والدين، وهي أن كلا من الثقافة المصرية والبابلية قد غذت ودفعت الحضارة العبرانية إلى السير. ونجد فيما بعد تيارا من المؤثرات الشرقية القديمة التي تعد المسيحية من أظهرها مستمرا في المسير نحو أوروبا، وانتهى به الأمر أن قلب الدولة الرومانية في القسطنطينية إلى حكومة استبدادية شرقية بقي أثرها ظاهرا إلى ما بعد الحروب الصليبية بزمن بعيد .
ومثل هذه التأملات تميط لنا اللثام في الحال عن الوحدة العجيبة في تاريخ حياة الإنسان، فإن تاريخ الشرق الأدنى يقع وراء تاريخ أوروبا، كما أن تاريخ أوروبا يقع وراء تاريخ أمريكا. وبالرجوع إلى الوراء بالشرق الأدنى القديم خلف الأزمان التاريخية نصل إلى عصور تطور إنسان ما قبل التاريخ، فيطول بذلك مدى المراحل المكونة لحياة الإنسان المتصلة هكذا بأمريكا فأوروبا فالشرق الأدنى فإنسان ما قبل التاريخ فالأزمان الجيولوجية. وهذا التقسيم الحديث جدا الذي هو من وضع أحدث المؤرخين يكشف لنا لأول مرة أن حياة الإنسان وحدة لا تتجزأ ظلت تتطور تطورا متعاقبا من «البرت» (البلطة) الحجرية إلى شظايا قنبلة سنة 1914، وكلاهما مدفونتان جنبا لجنب في ميدان قتال السوم. لذلك فإن بحثا شاملا للشرق الأدنى القديم نقوم به بأعين مفتوحة وبأغراض أرقى من حذق الأرقام التاريخية التي كانت محببة منذ زمن طويل إلى قلوب زملائنا المؤرخين القدامى، تظهر لنا لأول مرة العصور التاريخية المعروفة في حياة الإنسان الأوروبي كمنظر مرتكز إلى لوحة عظيمة تتناول مئات الآلاف من السنين. وفي هذا المنظر الضخم الذي لا يمكن تصوره إلا بدرس تاريخ الشرق، تنكشف أمامنا صورة شاملة بهيجة كمجال حياة البشر في عصورها المتعاقبة مما لم يستطع أن يتصور مثله أي جيل سبق، هذا هو «الماضي الجديد».
ومهما يكن من أمر العلوم والفلسفة فإن التاريخ والأخلاق وعلم اللاهوت لم يكن لها شأن يذكر في هذا البحث الضخم؛ ففي تاريخ علم الأخلاق يكشف لنا «الماضي الجديد» فجأة تلك الحقيقة التي ظلت مجهولة منذ زمن بعيد؛ وهي أن المدنية العبرانية بكل ما اشتملت عليه من وثائق ذات تأثير عميق في المبادئ الدينية والخلقية، ليست إلا مرحلة من المراحل النهائية للرقي البشري القديم، ذلك الرقي الذي سبقته عصور تجريبية منتجة ومبدعة في الناحيتين الاجتماعية والخلقية على ضفاف النيل والفرات. ويجب علينا إذن أن نمهد أذهاننا إلى قبول الحقيقة القائلة بأن الإرث الخلقي الذي ورثه المجتمع المتمدين الحديث يرجع أصله إلى زمن أقدم بكثير جدا من زمن استيطان العبرانيين فلسطين، وإن ذلك الإرث قد وصل إلينا من عهد لم يكن فيه الأدب العبراني المدون في التوراة قد وجد بعد.
ناپیژندل شوی مخ