وأخيرا أخذ المؤلف على عاتقه في كلية برين نور
Bryn Nawr College
في سلسلة دروس تمهيدية تحت رعاية مؤسسة محاضرات ماري فلكستر الجديدة بأن يقدم صورة أوسع من الصور السابقة عن الموضوع كله، غير أنها لم تطبع قط مثلها في ذلك مثل محاضرات «مسنجر» في «كورنل». ويجد القارئ في هذا الكتاب بعض النتائج الأساسية المستخلصة من تلك المحاضرات وبعض متون محاضرات «مورس» نفسها بدون نص على الاقتباس. وإني مدين هنا بالشكر دينا عظيما للدكتور إديث ويليمز وير
Edith Williams Ware
لما قام به من المساعدة في ترتيب تلك المواد القديمة، وفي وضع التصميم الإيضاحي، وفي تحضير الفهرس وقراءة تجارب الطبع وغير ذلك.
وقد سجل المؤلف اعتقاده من زمن يرجع إلى عام 1912 في محاضرات «مورس» أن مجموعة من ورق البردي المصري ألفت في العهد الإقطاعي حوالي 2000ق.م، تدل محتوياتها على أنها أكثر من إنتاج أدبي مزخرف الألفاظ، مخالفا في ذلك الفكرة التي كانت سائدة عن تلك الأوراق عند جمهرة علماء الآثار حتى ذلك الوقت. ويرى المؤلف أن هذه المقالات تحوي في ثناياها آراء اجتماعية تعتبر أقدم بحوث معروفة في الاجتماع كتبها مؤلفوها الأقدمون لتكون حملة دعاية لأول جهاد مقدس في سبيل العدالة الاجتماعية؛ ولذلك يعد مؤلفوها أول المصلحين الاجتماعيين. وقد قضى المؤلف أكثر من عشرين عاما في تأمل هذه الوثائق، فلم يزده ذلك إلا تثبتا من صدق رأيه، وأن قبول هذا التفسير الاجتماعي للمصادر المذكورة إنما هو بالنسبة لنظرية تطور المدنية المصرية مثل العمل الذي قام به منذ عهد بعيد النقاد المؤرخون المستنيرون الذين يطلق عليهم نقاد دار الكتاب المقدس في سبيل تطور الحضارة العبرانية، مع فارق واحد هو أنه في خدمة قضية تطور الحضارة العبرانية كان النقد التاريخي يسير ببطء نحو فهم وقبول هذه التصوير والتفسير الاجتماعيين.
ولقد كان الحال كذلك في تصوير المؤلف للتطور الاجتماعي في الديانة والمبادئ الأخلاقية بمصر القديمة، وبخاصة ما كان أساسه أوراق بردي العهد الإقطاعي السالفة الذكر. وعلى كل حال فإن تفسير المؤلف لما تقدم قد وجد صدرا رحبا في فرنسا؛ إذ قبل هذا التفسير واستعمله صديقه المأسوف عليه «جورج بنديت» أمين متحف اللوفر وعضو معهد فرنسا، وكذلك سار على نهجه وأتقن التعقيب عليه «إسكندر موريه» خلف «مسبرو» في كلية فرنسا وخلف «بنديت» في معهد فرنسا. ومما لا يتطرق إليه الشك أن هذا التفسير الاجتماعي للمصادر المصرية وتصوير الديانة المصرية تصويرا اجتماعيا بجعلها أقدم مصدر عرف حتى الآن عن تطور الأخلاق والمثل الاجتماعية، سينال ذلك القبول العام الذي ناله نظيره في تفسير التاريخ العبري.
ومنذ إلقاء المحاضرات التي نوهنا عنها فيما سلف كشف عن وثائق أثرية جديدة (وخاصة في مصر) لم تزد فقط في معلوماتنا زيادة ملموسة، بل إنها أثبتت لنا كذلك أهمية أوراق البردي الاجتماعية التي ترجع إلى العهد الإقطاعي. وقد كان أعظم كشف جاوز حد المألوف في هذه الناحية هو أننا عرفنا أن حكمة «أمينموبي» التي حفظت لنا في ورقة مصرية بالمتحف البريطاني، قد ترجمت إلى العبرية في الأزمان الغابرة، وأنه بذيوعها في فلسطين صارت مصدرا استقى منه جزء بأكمله من كتاب الأمثال في التوراة.
فكم من قس حديث طلب إليه أن يعظ جماعة من رجال الأعمال قد قوى موعظته باقتباسه العبارة التالية من كتاب الأمثال: «هل ترى رجلا جادا في التجارة، إنه سيحظى بالمثول أمام الملوك؟» على أنه ليس من المحتمل أن أي قس من هؤلاء قد مهد لعظته بملاحظة تدل على أن ما اقتبسه قد نقله ناشر الأمثال العبرية عن كتاب مصري في الحكمة الخلقية أقدم من التوراة بكثير. لقد أضاف هذا الكشف أهمية بعيدة المدى إلى الحقيقة القائلة بأن التقدم الحضاري في الممالك التي تحيط بفلسطين كان أقدم بعدة آلاف من السنين من التقدم العبري، ولقد أصبح الآن من الواضح الجلي أن التقدم الاجتماعي والخلقي الناضج الذي أحرزه البشر في وادي النيل الذي يعد أقدم من التقدم العبري بثلاثة آلاف سنة، قد ساهم مساهمة فعلية في تكوين الأدب العبري الذي نسميه نحن «التوارة». وعلى ذلك فإن إرثنا الخلقي مشتق من ماض إنساني واسع المدى أقدم بدرجة عظيمة من ماضي العبرانيين، وأن هذا الإرث لم ينحدر إلينا من العبرانيين، بل جاء عن طريقهم. والواقع أن نهوض الإنسان إلى المثل الاجتماعية قد حدث قبل أن يبدأ ما يسميه رجال اللاهوت بعصر الوحي بزمن طويل، وأن هذا النهوض نتيجة للخبرة الاجتماعية التي مارسها الإنسان نفسه، ولم يزج إلى هذا العالم من الخارج.
إن الحقيقة القائلة بأن أفكار الإنسان الأول الخلقية أتت نتيجة لخبرته الاجتماعية الشخصية تعد من أعمق المعاني لرجال الفكر في عصرنا؛ فالإنسان قد نهض إلى مرئيات الأخلاق من وحشية عصر ما قبل التاريخ على أساس تجاربه الشخصية، فإن ذلك العمل العظيم الذي أوجد على كرتنا الأرضية تلك الحياة المستمرة الرقي، سواء أكان ذلك في حياة الإنسان أم في حياة الحيوان، كان عمل انتقال من عالم يجهل الأخلاق إلى دنيا ذات قيم باطنة تسمو على المادة؛ أي إلى دنيا تشعر لأول مرة بمثل تلك القيم، ولأول مرة تحس بالأخلاق وتسعى للوصول إليها. وبهذا العمل العظيم وصل الإنسان إلى الكشف عن مملكة جديدة لم يرد مجاهلها بعد. على أن الكشف عنها في حد ذاته كان أصعب منالا بالنسبة إلى ارتياد مجاهلها المقبل، ويعد هذا الكشف حادثا قريب العهد، أما ارتياد تلك المملكة فإن الإنسان لا يزال في بدايته. فهو إذن منهاج لم يتم قطع مراحله بعد، ويجب أن تستمر فيه على يد كل جيل مقبل.
ناپیژندل شوی مخ