فهم فهم
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
ژانرونه
بصرف النظر عن تلك الشائبة من النزعة السيكولوجية في فكر «شلايرماخر» المتأخر، فإن إسهامه في الهرمنيوطيقا يمثل نقطة تحول في تاريخها؛ إذ لم يعد ينظر إلى الهرمنيوطيقا على أنها مادة تخصصية تتبع اللاهوت أو الأدب أو القانون، بل أصبحت هي فن الفهم؛ فهم أي قول لغوي على الإطلاق. ومن أقوال «شلايرماخر» المبكرة التي تلقي الضوء على طبيعة التأويل قوله «إن الهرمنيوطيقا هي بالضبط طريقة الطفل في فهم معنى كلمة جديدة»: إنه يسترشد ببنية الجملة وبسياق المعنى، وكذلك تفعل الهرمنيوطيقا العامة. تبدأ الهرمنيوطيقا في نظر شلايرماخر من أحكام الحوار، فهي «حوارية»
Dialogical
في طبيعتها، غير أنه للأسف لم يتفطن إلى المتضمنات الخلاقة لهذه الطبيعة الحوارية، وشغلته عن ذلك رغبته في استخلاص قوانين والحصول على تماسك منهجي، غير أن هذا التخلي بحد ذاته، من وجهة نظرنا الحالية، قد وجه الهرمنيوطيقا وجهة جديدة، وجهها إلى أن تصبح علما.
وقد اقتفى دلتاي أثر «شلايرماخر» وأكمل هذا المسار حين جعل بغيته ذلك «الصواب الموضوعي» في المعرفة، وحين افترض أن مهمة الهرمنيوطيقا هي اكتشاف قوانين الفهم ومبادئه، قد يعاني هذا الافتراض من قصور في الفهم التاريخي، من حيث إنه ينطوي على التسليم بأن بإمكان المرء أن يشغل نقطة فوق التاريخ أو خارج التاريخ يستطيع منها أن يظفر بقوانين لازمانية، إلا أن الاتجاه إلى جعل عملية الفهم هي نقطة البدء في الهرمنيوطيقا كان إسهاما مفيدا في نظرية التأويل، وسوف تمر سنوات طويلة قبل أن يدرك المفكرون أن قوانين الفهم التي رآها شلايرماخر من زاوية علمية يمكن النظر إليها بالأحرى من زاوية تاريخية، أي بالنظر إلى البنية التاريخية الصميمة للفهم، وبالنظر بصفة خاصة إلى أهمية «الفهم المسبق»
Dre-Understanding
في كل عمليات الفهم على الإطلاق، وقد أشار شلايرماخر، وأشار حتى سابقوه من منظري التأويل، إلى هذا التصور الأخير حين صرحوا بمبدأ دائرة التأويل التي تتم داخلها كل ضروب الفهم.
ومن العناصر الهامة في تأويلية شلايرماخر تصوره للفهم بوصفه منبثقا من الحياة ونابعا من علاقة بالحياة، وهو تصور سيكون ملهما لكل من دلتاي وهيدجر ومنطلقا لفكرهما التأويلي، لقد جعل دلتاي هدفه هو الفهم النابع «من الحياة ذاتها»، أما هيدجر، وقد اتخذ نفس الهدف، فقد حاول الوصول إليه بطريقة مختلفة، طريقة تاريخية قلبا وقالبا، فالفكرة أو المركب الفكري لن تستمد أهميتها من كونها مفتاحا لفهم عملية ذهنية عند مؤلفها، بل ستكون شائقة في ذاتها، وبوصفها خبرة نعيها بالإحالة إلى أفق خبرتنا نفسها، ولن نكون واقعين في النزعة السيكولوجية بالضرورة عندما نقول بأن الفهم لا يمكن أن نتصوره منبتا عن خبرتنا الخاصة وبمعزل عن صلاته الدالة بخبراتنا السابقة.
ويبقى المأخذ الأكبر على فكر «شلايرماخر» هو تسرب النزعة السيكولوجية إليه، لقد شغله غموض «الآخر» عن غموض «التاريخ» على حد تعبير جادامر، وشغلته سيكولوجية الحوار عن تاريخية التأويل، وحتى عن الأهمية المركزية للغة في التأويل، لقد جرفته هذه السيكولوجية الحوارية، بالإضافة إلى تسويته المغلوطة بين عملية الفهم وعملية «التقمص» و«إعادة بناء» ذهن المؤلف، وأفضت به إلى المزالق الفكرية التي وقع فيها في المراحل المتأخرة من تطوره الفكري.
5
ومهما يكن من شيء، فإن «شلايرماخر» يعد بحق أبا للتأويلية الحديثة، ويدين له بالفضل كل مفكري التأويل في القرن التاسع عشر بجميع فصائلهم وتخصصاتهم واتجاهاتهم الفكرية، وقد حملت بصمته جميع النظريات التأويلية العامة في ذلك العصر، وعلى رأسها جميعا نظرية «فيلهلم دلتاي».
ناپیژندل شوی مخ