164

فهم فهم

فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر

ژانرونه

4

ويتجلى الارتباط بين وضعية القرن التاسع عشر والوضعية المحدثة في توجيه الفكر نحو الأمور الواقعة ورفع مكانة التجربة بحيث تصبح هي المعيار والفيصل في كل معرفة.

هكذا يرى ماركوز أن اسم الوضعية (الإيجابية) اسم سجالي، أي لا يمكن فهمه إلا في سياق خلافي واختلافي، أي لا يفهم إلا باستحضار الخصم الذي يحاربه، حينئذ يتبين للمرء أنه نحت للدلالة على ذاك التحول من نظرية فلسفية إلى نظرية تريد أن تكون علمية، فحلول الملاحظة محل التأمل في علم الاجتماع عند كونت يعني تأكيد النظام بدلا من أي خروج على النظام، وهو يعني سلطة القوانين الطبيعية بدلا من الفعل الحر، والتآزر بدلا من اختلاف النظام.

ينعت ماركوز الوضعية في موضع آخر بأنها فلسفة أحادية البعد، تعكس تطور المجتمع الأحادي البعد الجديد وأشكال الرقابة التكنوقراطية فيه، ثمة إذن طبع أيديولوجي ملازم لكل جنوح وضعي وتطرف علمي، فربط صدق الفكر والمعرفة باختبارهما الواقعي، وجعل العلوم الفيزيائية نموذج اليقين والدقة، والاعتقاد بأن تقدم المعرفة منوط بالاحتذاء بذلك النموذج، كلها علامات على انتصار معايير الواقع التكنولوجي حيث يتحول العالم إلى عالم أدوات ومنافع ومصالح؛ لذا فإن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة ويشهد على التقدم التقني هو الرفاه والفعالية وافتقاد الحرية الفردية، «وهل ثمة ما هو أكثر عقلانية من إلغاء الفردية عن طريق ميكنة الأعمال الضرورية اجتماعيا والشاقة رغم ذلك؟»

5

إن لغة الفعالية والإنتاجية هي لغة النظام التكنولوجي، وحتى الحقوق والحريات التي كانت عوامل أساسية في المراحل الأولى من المجتمع الصناعي تقل أهميتها وحيويتها في مرحلة أكثر تقدما، وتفرغ من مضمونها التقليدي: «فقد كانت حرية الفكر والكلام والضمير - شأنها شأن المشروع الحر الذي كانت تخدمه وتذود عنه - تهدف، وهي المكونة في جوهرها من أفكار نقدية، إلى ترك ثقافة مادية وفكرية بالية وتبني ثقافة أخرى أكثر فعالية وعقلانية، وعندما أخذت تلك الحريات والحقوق صفة المؤسسات، شاطرت المجتمع الذي أصبحت جزءا لا يتجزأ منه، مصيره، وبكلمة واحدة، إن الإنجاز يموه المقدمات.»

6

يصف ماركوز المجتمع الصناعي المعاصر بأنه مجتمع يضفي صفة العقلانية على اللاعقلانية، باعتباره مجتمعا تسنده حضارة منتجة، ناجعة، قادرة على زيادة الرفاه وعلى إضفاء صفة الحاجة على ما هو زائد على الحاجة، وتحويل ما هو كمالي إلى ضرورة، وما هو هدمي إلى بناء! وبمقدار ما تحول الحضارة القائمة عالم الشيء إلى بعد للجسم والروح الإنسانيين، يصبح مفهوم الاستلاب بالذات إشكاليا، فالناس يتعرفون على أنفسهم في بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم في سيارتهم وجهازهم التلفزيوني الدقيق الاستقبال، وفي بيتهم الأنيق وأدوات الطهي الحديثة، إن الآلية التي تربط الفرد بمجتمعه قد تبدلت هي نفسها، والرقابة الاجتماعية تحتل مكانها في قلب الحاجات الجديدة التي ولدتها.

7

فالأشكال السائدة من الرقابة الاجتماعية هي أشكال تكنولوجية بمعنى جديد، ومما لا شك فيه أن البنية التقنية وفعالية جهاز التدمير والإنتاج قد أسهما في إخضاع السكان لتقسيم العمل الحالي، ولكن الرقابة التقنية غدت اليوم تعبيرا عن العقل نفسه الذي أصبح خادما لكل الجماعات ولكل المصالح الاجتماعية، بحيث إن كل تناقض يبدو لا عقلانيا وكل معارضة تبدو مستحيلة، يخضع المرء في المجتمع التقني الجديد للون جديد من التبعية: تلك التي تخضع المرء ل «نظام أشياء موضوعي»، هو القوانين الاقتصادية وقوانين السوق وغيره ... ولئن كان «نظام الأشياء الموضوعي» هو أيضا من صنع السيطرة ونتائجها، فإن السيطرة تعتمد الآن على درجة أكبر من العقلانية، عقلانية مجتمع يدافع عن بنيته الهرمية، ويستغل في الوقت نفسه وبصفة أنجع الموارد الطبيعية والفكرية ويوزع على نطاق متعاظم باستمرار أرباح هذا الاستغلال.

ناپیژندل شوی مخ