146

فهم فهم

فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر

ژانرونه

نخلص من ذلك إلى أن المنهج الملائم للموقف التأويلي الذي يضم المفسر والنص هو المنهج الذي يضع المفسر في حالة انفتاح تسمح بأن يخاطبه التراث، إنها حالة توقع وتحسب وانتظار لشيء ما أن يحدث، يدرك المفسر في هذه الحالة أنه ليس عارفا يلتمس موضوعه ويمتلك زمامه ويقتنيه عن طريق اتباع منهج يطلعه على جلية النص ويكشف له ما يعنيه حقا ويهيب به أن يترك تحيزاته جانبا وينظر بعقل مفتوح نظرة موضوعية خالصة، لا، ليس هذا منهج جادامر في التأويل، فالتأويل عند جادامر هو أن يكبح المفسر رغبته في التسلط والتسيد على النص، وأن يضع نفسه في حالة تلقي «خبرة» لا معرفة، فاللقاء بالنص ليس استيعابا تصوريا لشيء ما، بل هو «حدث» فيه ينفتح عالم ما أمام المفسر، وحيث إن كل مفسر يقف في أفق جديد فالحدث الذي يجري، لغويا، في الخبرة الهرمنيوطيقية هو شيء جديد يبزغ، شيء لم يكن موجودا من قبل، في هذا الحدث القائم على الصبغة اللغوية، والمتاح من خلال اللقاء الجدلي بمعنى النص، تتحقق الخبرة الهرمنيوطيقية وتبلغ تمامها.

خاتمة

في «الحقيقة والمنهج» بلغ جادامر بالهرمنيوطيقا مستوى جديدا من الشمول والإحاطة، لقد جهد كل من دلتاي وإميليو بتي من أجل تأسيس هرمنيوطيقا عامة وشاملة للعلوم الإنسانية، فماذا عن العلوم الطبيعية؟ هل تتطلب فهما من نوع مختلف؟ لقد خلص الاثنان إلى أن تفسير نص منحدر إلينا تاريخيا يتطلب فعلا من الفهم التاريخي متميز تماما عن الفهم الذي يمارسه العالم الطبيعي، أما جادامر فقد رفض هذا التمييز لأنه لم يعد يتصور الهرمنيوطيقا كشيء مقصور لا على النص ولا على العلوم الإنسانية.

الفهم، عند جادامر، هو دائما حدث لغوي جدلي تاريخي، سواء كان ذلك في مجال العلوم أو في الإنسانيات أو في فن الطهي، والهرمنيوطيقا هي أنطولوجيا الفهم وفينومينولوجيا الفهم أيضا. الفهم ليس فعلا للذاتية الإنسانية، كما يفترض التصور التقليدي، بل هو الطريقة الأساسية لوجود الدازاين (الآنية) في العالم، أو أسلوبه في الوجود. الفهم ليس شيئا يفعله الإنسان بل هو شيء يكونه، ومفاتيح الفهم ليست التلاعب والسيطرة بل المشاركة والانفتاح، ليست المعرفة بل الخبرة، ليست الميثودولوجيا (المنهج) بل الديالكتيك (الجدل)، وليست غاية الهرمنيوطيقا عند جادامر أن تقدم قواعد للفهم «الصائب موضوعيا» بل أن تتصور الفهم نفسه بطريقة شاملة محيطة قدر المستطاع. لم يكن ما يشغل جادامر هو الفهم الأكثر صوابا (وبالتالي تقديم معايير للتأويل الصحيح) شأن ناقديه بتي وهيرش، بل الفهم الأكثر عمقا، الأكثر أصالة.

أخذ جادامر بتعريف هيدجر الأصلي الشامل للفهم، وتعمقه إلى مداه مقتفيا كتابات هيدجر المتأخرة، فأبرز الجانب الأنطولوجي واللغوي للفهم، وهو بهذا السعي وبمحاولته لتأسيس هرمنيوطيقا فلسفية منظمة فقد اقترب كثيرا من هيجل الذي يمثل قوة مؤثرة كبرى في الفلسفة الألمانية. إن الطابع الجدلي والنظري عند جادامر ليذكرنا بهيجل على الفور، وإن وجه الشبه بين فينومينولوجيا الفهم عند جادامر وبين فينومينولوجيا الروح عند هيجل هو أمر لا يمكن إغفاله.

لعل من الصواب أن تقول إن جادامر كان يميل إلى الوفاق مع هيجل بالقدر الذي يحيد به عن هيدجر، ومن الصواب من جهة أخرى أن نقول إن هرمنيوطيقا جادامر الجدلية هي، ببساطة، امتداد بفكر هيدجر نفسه وتصريح بمضمره. لقد أخذ نظرية هيدجر في الفهم والأنطولوجيا ونقد النزعة الذاتية الإنسانية الحديثة ونقد التكنولوجيا، وطور، بلا تناقض جذري مع هيدجر، هرمنيوطيقا نظرية ديالكتيكية أنطولوجية متمركزة على اللغة.

ولعل المسحة الهيجلية لهرمنيوطيقا جادامر الهيدجرية أساسا هي بمثابة تحسين لتصور هيدجر، يتجلى ذلك بوضوح عندما يلاحظ المرء ميل هيدجر في كتاباته المتأخرة إلى وصف الفهم في حدود سلبية: الفهم ليس فعلا للإنسان بل هو حدث فيه! حيث يبزغ خطر أن يتحول الإنسان إلى بقعة سلبية في تيار اللغة والتراث. إن جادامر لا يوغل في الطرف الآخر الذي يعد ذاتية الإنسان بمثابة نقطة البدء في كل تفكير عن الفهم، ولكنه يتخذ بالفعل موقفا يسمح بدرجة أكبر من التفاعل الدينامي عندما يتحدث عن «الخبرة» وعن «انصهار الآفاق»، ومن الجدير بالذكر، في هذا الصدد، أن النقد الحديث الذي وجهه جان-ماري دوميناك لبنيوية ليفي شتراوس وميشيل فوكو لا يطال جادامر بقدر ما يطال هيدجر: «ثمة توجه عام في فلسفة اليوم يريد أن يعكس نظام المصطلحات التي درجت عليها الفلسفة حتى الآن، وأن ينفي النشاط المستقل للوعي: أنا لا أفكر بل أفكر، لا أقول بل أقال، لا أتناول شيئا ما بل أتناول، إنه من اللغة يأتي كل شيء وإليها يعود ... إلخ، لقد صار النسق، في دعوى هؤلاء، سيدا على الإنسان، النسق

The System ، ذلك التفكير البارد غير الشخصي والمشيد على حساب كل ذاتية فردية أو جمعية، ينفي أخيرا إمكان وجود ذات قادرة على التعبير والفعل المستقل.»

ومن الإنصاف أن نقول إن المدخل الفينومينولوجي بريء من تلك الموضوعية المجردة للنسق الخالص التي لا تحسب للإنسان حسابا، ومن ثمن فمن الخلط والعبث أن نحشر هيدجر أو جادامر في زمر ة البنيويين، ولكن يبقى أن نحسب لجادامر مزية انفرد بها بفضل نزعته الهيجلية: إنه بقدر جدليته بالتحديد وحديثه عن الطبيعة الجدلية للخبرة كمبدأ أساسي في تأويليته، فهو يسمح بتصور الفهم كفعل شخصي وليس كمجرد «حدث يحدث». «الحقيقة والمنهج» إذن يفتح أفقا بأكمله من الاعتبارات في النظرية الهرمنيوطيقية، فاتحا، ربما، مرحلة جديدة مثمرة في التفكير الحديث حول التأويل، وبينما نقل هيدجر الهرمنيوطيقا إلى تصور حدث الفهم أنطولوجيا، فإن جادامر طور أنطولوجيا الفهم إلى هرمنيوطيقا جدلية تضع موضع التساؤل أرسخ بديهيات الاستطيقا الحديثة والتأويل التاريخي، وأمكنها أن تقدم الأساس الفلسفي لنقد جذري لتصورات التأويل السائدة في النقد الأدبي الحديث.

21

ناپیژندل شوی مخ