فهم فهم
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
ژانرونه
بل إن جادامر ليؤكد أن أحكامنا المسبقة لها أهميتها الخاصة في عملية التأويل: «إن التأويل الذاتي للفرد هو مجرد رجة في التيار المغلق للحياة التاريخية؛ لهذا السبب فإن الأحكام المسبقة للفرد هي أكثر من مجرد أحكام له، إنها الواقع التاريخي لوجوده.» وصفوة القول أن الأحكام المسبقة ليست مجرد شيء ينبغي، أو يمكن، أن نستغني عنه، إنما هي أساس قدرتنا على فهم التاريخ على الإطلاق.
وبوسعنا من الوجهة التأويلية أن نصوغ هذا المبدأ كما يلي: لا يمكن أن يكون هناك تأويل بدون فروض مسبقة، فلا النص الإنجيلي ولا الأدبي يتم تأويله بدون تصورات مسبقة، فما دام الفهم هو بنية أساسية متراكمة تاريخيا وعاملة تاريخيا فإنه يتبطن حتى التأويل العلمي، فمعنى التجربة التي نصفها لا يأتي من تفاعل العناصر في التجربة بل من التراث التأويلي الذي تقف فيه ومن الاحتمالات المستقبلية التي تفتحها، زمانية الماضي-الحاضر-المستقبل تنطبق إذن على كل من الفهم العلمي وغير العلمي، إنها عالمية شاملة، ولا يمكن أن يكون هناك فهم بلا فروض مسبقة سواء داخل العلوم أو خارجها.
من أين نحصل على فروضنا المسبقة؟
من التراث الذي نقف فيه، هذا التراث ليس شيئا يقف قبالة تفكيرنا كمضوع للفكر، بل هو نسيج العلاقات، الأفق، الذي فيه نقوم بتفكيرنا، ولأنه ليس «موضوعا»
Object
ولا يقبل الموضعة بصورة كاملة، فإن مناهج التفكير الموضوعي لا تسري عليه، وإنما يلزمنا نوع من التفكير الذي يمكنه التعامل مع الأشياء التي لا تقبل الموضعة، غير أننا لا نحصل على كل فروضنا المسبقة من التراث؛ إذ يجب أن نتذكر أن الفهم عملية جدلية من التفاعل المتبادل بين الفهم الذاتي للشخص (أفقه أو عالمه) وبين الشيء الذي يواجهه، فالفهم الذاتي ليس شيئا خابيا شفافا يملؤه الموقف الحاضر، إنه فهم قائم سلفا في التاريخ والتراث، ولا يمكنه أن يفهم الماضي إلا بتوسيع أفقه ليستوعب الشيء الذي يواجهه.
إذا صح أن من المحال وجود فهم بلا فروض مسبقة، وبعبارة أخرى إذا صح أن ما يقال له «العقل» هو بناء أو تشييد فلسفي وليس محكمة استئناف نهائية، فإنه يتوجب علينا من ثم أن نعيد فحص علاقتنا بموروثنا، علينا ألا ننظر إلى التراث وإلى السلطة على أنهما عدوان للعقل وللحرية العقلية كما كان ينظر إليهما في عصر التنوير وفي الحقبة الرومانسية وحتى يومنا هذا، فالتراث يقدم لنا تيار التصورات الذي نقف فيه، ومن واجبنا أن نعرف كيف نفرق بين الفروض المسبقة المثمرة والفروض المسبقة التي تسجننا وتمنعنا من التفكير والنظر، ليس هناك تناقض داخلي، على أية حال، بين دعاوى العقل ودعاوى التراث، فالعقل دائما يقف داخل التراث، بل إن التراث ليزود العقل بذلك الجانب من الواقع والتاريخ الذي سيعمل معه، يقول جادامر: إن إدراكنا لاستحالة وجود فهم بلا فروض مسبقة يترتب عليه أن نتخلى عن تفسير عصر «التنوير» للعقل، وأن يسترد التراث والسلطة منزلتهما التي حرما منها منذ ما قبل التنوير.
وإذا كان من المحال وجود تفسير بلا فروض مسبقة فإن فكرة وجود «تفسير صحيح» واحد بوصفه صحيحا في ذاته هي غاية حمقاء وأمر محال، فليس هناك تفسير منبث عن الحاضر، وليس هناك تفسير دائم وثابت، وكل نص ينحدر إلينا، وليكن الإنجيل أو مسرحية شكسبيرية، يتعين أن يفهم في الموقف التأويلي الذي يقفه، أي في علاقته بالحاضر، وليس يعني ذلك أن نأتي بمقاييس خارجية من الحاضر ونفرضها، كيفما اتفق، على الماضي؛ فنجد شكسبير أو الإنجيل غير ذي صلة بنا ، بل يعني على العكس أن «المعنى» ليس خاصية ثابتة لموضوع ما بل هو دائما «لنا»، كذلك التوكيد على ضرورة أن ننظر إلى النص داخل أفق تاريخيتنا، فهو لا يعني أن «المعنى» مختلف بالنسبة لنا عما كانه عند قرائه الأوائل، بل يعني أن المعنى هو شيء متعلق بالحاضر ونابع من الموقف التأويلي، وما دام العمل العظيم يكشف حقيقة عن الوجود فإن لنا أن نفترض أن الحقيقة «الجوهرية» تطابق ما دفع بهذا العمل إلى الوجود في الأصل، وذلك دون أن نقر بفكرة «الحقيقة في ذاتها»، أو فكرة وجود تأويل صحيح صحة دائمة.
مفهوم المسافة الزمنية
Temporal Distance
ناپیژندل شوی مخ