إهداء
مقدمة
1 - طبيعة هرمس وطبيعة الهرمنيوطيقا
2 - الاستخدام القديم ودلالته الحديثة
3 - تعريفات حديثة للهرمنيوطيقا
4 - كلادينيوس: الهرمنيوطيقا في عصر التنوير
5 - شلايرماخر
6 - دلتاي
7 - هسرل: ما الفينومينولوجيا؟
8 - هيدجر
9 - جادامر
10 - معارك حول التأويل
11 - هابرماس: الهرمنيوطيقا النقدية
12 - مدرسة الارتياب
13 - بول ريكور
إهداء
مقدمة
1 - طبيعة هرمس وطبيعة الهرمنيوطيقا
2 - الاستخدام القديم ودلالته الحديثة
3 - تعريفات حديثة للهرمنيوطيقا
4 - كلادينيوس: الهرمنيوطيقا في عصر التنوير
5 - شلايرماخر
6 - دلتاي
7 - هسرل: ما الفينومينولوجيا؟
8 - هيدجر
9 - جادامر
10 - معارك حول التأويل
11 - هابرماس: الهرمنيوطيقا النقدية
12 - مدرسة الارتياب
13 - بول ريكور
فهم الفهم
فهم الفهم
مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
تأليف
عادل مصطفى
إهداء
إلى روح العقاد
ليس العقاد عندي كاتبا كغيره من الكتاب وإن فاقهم قامة وصعد.
إنه قدوتي المستحيلة، ووهمي العملي،
إنه أبي في التفكير والفعل والضمير،
إنه خاصتي!
وإذا كنت أفتقده افتقاد الأب فأنا أمتلكه امتلاك البنوة.
عادل مصطفى
مقدمة
ليست هناك حقائق، هناك فقط ... تأويلات.
نيتشه
الهرمونيوطيقا (نظرية التأويل) هي المبحث الخاص بدراسة عمليات الفهم، وبخاصة فيما يتعلق بتأويل النصوص،
1
وليس من قبيل المصادفة أن يصدر هذا الكتاب في هذا المنعطف الفاصل الذي نمر به، ونشهد فيه سقوط «العقل القديم»، ولما ينبت لنا «عقل جديد» نعيش به ونعيش فيه، يسقط «العقل القديم» لانتفاء الوظيفة، سقوطا طبيعيا صحيا، مثلما تسقط عن الطفل أسنانه اللبنية، وما نزال ننظر إلى كل «عقل جديد» بتوجس وريبة؛ لأننا نجهله، والمرء عدو ما يجهل، في هذه المرحلة التي نعيد فيها ترتيب أوراقنا وصياغة أنفسنا والبحث عن هويتنا الحقيقية، وإعادة قراءة هذه الهوية كنص عصي ملغز مستغلق؛ في هذه المرحلة البينية الرمادية تلح دراسة التأويل إلحاحا، وتكاد تكون ضرورة بقاء. •••
نحن نعيش في العالم: في التاريخ، في العيان، في «الشهادة»، ولسنا نعيش في كون آخر، وكل معنى إنما هو معنى متعلق بوجود تاريخي عيني محدد، معنى مرتبط ب «تاريخية» معينة، منسوب لها، محمول عليها، مسند إليها.
ويشتمل وجودنا ككائنات على موقفنا وموقعنا، وعلى أدوات في متناول أيدينا نتناول بها العالم ونفصح عنه، وعلى «فهمنا المسبق» للعالم.
ونحن نتشارك في العالم ونتقاسمه من خلال «رموز» عامة أو «علامات مشتركة»، ومن المتعذر أن نشارك أي شخص واقعه إلا من خلال «وساطة» عالمنا الرمزي - أي من خلال «نص» من صنف ما، ولكل «نص
Text » سياق
Context
أو سياقات في واقع الأمر، ومن جهة أخرى، وعلى حد قول جادامر في «الحقيقة والمنهج» فإنه «بفضل الطبيعة اللغوية لكل تفسير (تأويل) فإن كل تفسير ينطوي على إمكان نشوء علاقة مع الآخرين، فما من قول أو حديث إلا وهو يربط بين المخاطب والمخاطب»، عندما يفهم المرء شخصا آخر فإنه يتمثل قوله حتى ليصبح هذا القول قول المرء نفسه، ويعيش أطول أمد ممكن في سياقات المرء ورموزه.
وعالمنا الرمزي ليس منفصلا بأية حال عن وجودنا، وبخاصة عالمنا اللغوي: نحن لغة؛ بمعنى أن ما يميزنا كأشخاص هو أننا موجودات واعية بذاتها، أي إن بوسعها أن تعرف نفسها رمزيا وأن تنعكس على نفسها تأمليا، «اللغة تقول الإنسان» (هيدجر)، نحن لسنا موجودات تستخدم الرموز بل موجودات مشيدة بهذا الاستخدام مجبولة به، يترتب على ذلك أن كل خبرة هي قابلة للإفصاح من حيث المبدأ، قابلة للتجسد الرمزي، فهي تجلب لنا إلى الوجود من خلال تمثلها الرمزي، وكما لاحظ بول ريكور في «الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا» - ف«أن تجلب الخبرة إلى اللغة ليس تغييرا لها إلى شيء آخر، بل أنت بنطقها وإنمائها إنما تجعلها تصبح ذاتها.» ويترتب أيضا أن الوجود والمعنى، بالنسبة للموجودات البشرية، هما على نفس المكانة وبنفس المنزلة رغم أن الترميز (أو الدلالة) لا يستنفد الخبرة كلها، لا يقولها بأكملها.
ورغم أن الخبرة تمثل لنا من خلال «الدلالة»
Signification
فإن الخبرة ليست مجرد لغة أو مجرد أنساق دالة بصفة عامة، الخبرة سابقة على عملية الدلالة، وإن تكن الدلالة هي التي تأتي بالخبرة إلى حيز المعنى، وفي حين أن الدلالة تجعل الخبرة تصبح ذاتها فإن هناك فائضا من المعنى للوجود، إنه فائض يروغ من النطق ويفلت من شبكة اللغة، ومن ثم فهناك دائما شيء «بين السطور»، شيء «على طرف اللسان»، شيء لا يقال ويوشك أن يقال، وهناك دائما حاجة إلى «الاستعارة»
Metaphor
و«الصورة»
Image
و«السرد»
Narrative
و«الاشتراك اللفظي»
... إلخ، نحن «وجود في العالم»، على قول هيدجر، هذه ظاهرة معقدة متعددة الجوانب، غير أن العالم «يرجأ» دائما لا يستنفده ترميزه، ثمة دائما «فائض من المعنى» يهيب بك أن تطاله ... أن تقوله.
والوعي هو دائما «وعي ب»، الوعي «يقصد» ويتجه إلى شيء ما، ولديه «موضوع» ما، الوعي «متعد»
transitive ، إن صح التعبير، الوعي دائما «وعي بموضوع ما»، هذه «القصدية»
intentionality
هي في القلب من عملية المعرفة، نحن نعيش في المعنى.
نعيش «نحو» شيء ما، وفي توجه إلى الخبرة، ومن ثم فهناك بنية قصدية في النصية والتعبير، وفي معرفة الذات وفي معرفة الآخرين، هذه القصدية هي أيضا مسافة: الوعي ليس في هوية مع موضوعاته، بل هو يقصد إلى موضوعاته ويراودها.
وحيث إن الوعي بالذات، وكذلك الوعي بالآخر، أمر قصدي، فإن هذا يعني أن في قلب الوجود وصميمه ثمة مسافة: هذه المسافة قد يقال لها «الدلالة»
Signification ... تصنيع الخبرة.
الوعي الذاتي فعل ثقافي، والثقافة فعل شخصي، وفي هذا يقول ريكور: «من ناحية، يمر الفهم الذاتي خلال منعطف فهم العلامات الثقافية التي فيها توثق النفس ذاتها وتشكلها، ومن الناحية الأخرى فإن فهم النص ليس غاية في ذاته، إنه يتوسط علاقة المرء بذاته، المرء الذي لا يجد في دائرة التأمل المباشر معنى حياته الخاصة؛ لذا لا بد أن نقول بنفس القوة: إن التأمل ليس شيئا بدون وساطة العلامات والأعمال (الفنية، الأدبية ... إلخ) وأن التفسير ليس شيئا إذا لم يكن مندمجا كحالة وسطى في عملية الفهم الذاتي، وباختصار: في التأمل الهرمنيوطيقي - أو في الهرمنيوطيقا التأملية - فإن تشكيل «النفس» يكون متعاصرا مع تشكيل «المعنى»» (بول ريكور: ما هو النص).
وفي علاقة الثقافة بالنفس يقول جادامر: «بزمن طويل قبل أن نفهم أنفسنا من خلال عملية التفحص الذاتي، فإننا نفهم أنفسنا بطريقة بديهية في الأسرة والمجتمع والدولة التي نعيش فيها، إن بؤرة الذاتية هي مرآة غير أمينة، وإدراك المرء لذاته لا يعدو أن يكون بصيصا ضئيلا في الدوائر المغلقة للحياة الاجتماعية، هذا هو السبب في أن تحيزات الفرد تشكل الواقع التاريخي لوجوده.»
لكي «يفهم»
understand
المرء ينبغي أن «يفهم سلفا»
fore-understand
أن يكون لديه موقف، استباق، سياقية، هذا هو ما يعرف ب «دائرة الهرمنيوطيقا»: فالمرء لا يسعه أن يعرف إلا ما هو مؤهل لمعرفته، يمكن أن نعد دائرة الهرمنيوطيقا عملية تضييق فطري وتعمية ذاتية لا تسمح للمرء بأن يعرف إلا ما هو مؤهل لمعرفته، وبحسب النظرية التأويلية الفينومينولوجية فإن دائرة الهرمنيوطيقا ليست مغلقة بل مفتوحة، وذلك بفضل الطبيعة الرمزية والتأملية الذاتية لوجودنا.
في معرض تفسيره لهيدجر يتناول جادامر في «الحقيقة والمنهج» مسألة المعرفة المسبقة في مواجهتنا مع النصوص، فيقول بأننا لا يمكن أن نقرأ النص إلا بتوقعات معينة، أي بإسقاط مسبق، غير أن علينا أن نراجع إسقاطاتنا المسبقة باستمرار في ضوء ما يمثل هناك أمامنا، وبإمكان كل مراجعة لإسقاط مسبق أن تضع أمامها إسقاطا جديدا من المعنى، ومن الممكن أن تبزغ الإسقاطات المتنافسة جنبا إلى جنب إلى أن تغدو وحدة المعنى أكثر وضوحا، ويتبين كيف يمكن أن تترابط الرموز والعالم.
هذه العملية الدائمة المستمرة من الإسقاط الجديد هي حركة الفهم والتأويل، وعلى المؤول لكي يبلغ أقصى فهم ممكن ألا ينخرط فحسب في هذا الحوار مع النص، بل أن يفحص على نحو صريح منشأ المعنى المسبق الذي بداخله ومدى صحة هذا المعنى، يقول جادامر: «وإدراك أن كل فهم لا بد له من أن يشتمل على بعض «التحيز»
أي «المعنى المسبق»
Fore-meaning
هو ما يمنح مشكلة الهرمنيوطيقا زخمها الحقيقي.» وجدير بالذكر أن جادامر يعتبر سعي «التنوير» إلى التخلص من كل التحيزات هو نفسه تحيزا! (تحيزا ضد التحيز!) إنه تحيز يحجب عنا تاريخيتنا الجوهرية وتناهينا الصميم.
إن المرء لا يمكنه أن يعرف العالم إلا من خلال الفهم المسبق، غير أن العالم من حيث هو عيني ويتجاوز ترميزنا له، يحملنا على مراجعة أفهامنا المسبقة، والخبرة التأويلية، اللقاء بالآخر، الإصغاء إلى «صوت الآخر»، انصهار الآفاق، ذلك الانصهار السياقي التاريخي، رغم أنه انصهار لغوي، هو ما يتيح لنا الهروب من سجن اللغة.
يترتب على ذلك أن المرء إنما يقرأ، إذ يقرأ، بجمع حضوره، ذلك أن فهم المرء المسبق هو كل الحضور: القراءة ليست عملية «عقلية»
Rational ، بل استنفار لكامل نطاق الممارسات الخاصة بالمعنى، عندما يقرأ المرء فإنه يراجع مرارا وتكرارا فهمه المسبق وحسه بموقفه الخاص قبالة النص.
ثمة حد لعالمنا الخاص، لواقعنا المدرك، ليس بمقدورنا أن نتجاوزه، ثمة «أفق»
Horizon
ليس بوسعنا أن نرى وراءه، و«الأفق» هو مجال الرؤية الذي يشتمل على كل ما يمكننا رؤيته من منظورنا الخاص، هو مقولات الفهم المتاحة لنا، والتي نرى بها وبقدرها ولا نملك أن نرى أبعد منها. وللنص نفسه، بما هو بنية رمزية قصدية، أفقه الخاص، أي نطاق المعارف عن العالم التي كتب النص في ظلها، هذا الاختلاف في الآفاق سيكون محط اهتمام النظرية التأويلية الثقافية والتاريخية.
يلتقي أفق القارئ بأفق النص، القارئ يقرأ بفهمه وبأطره المرجعية، ولكن ما يقرؤه هو بناء له عناصره ودقائقه وعلاقاته التي تحكمها آفاق الزمن الذي كتب فيه، القراءة إذن موثوقة بالنص وتاريخيته، كل قراءة هي محض تأويل ... دخول تاريخية القارئ في تاريخية النص، ليست هناك قراءة دائمة، هناك فقط قراءة تاريخية، ليس هناك معنى دائم أو مثالي، هناك فقط معنى وجودي، أي المعنى كما يبزغ خلال فهم القارئ التاريخي للنص التاريخي، ونحن حين نستخدم كلمة «تاريخي» إنما نريد أن نذكر بأن النفس كيان ثقافي، وأن المعنى هو شيء ثقافي مشيد (وإن لم يكن مستنفدا) بالعلامات
signs ، وأن آفاق المرء يحددها الوجود الثقافي للمرء، وأن العالم بطبيعته متغير وقابل للتغيير.
يجسد النص «أسلوب» المؤلف، بصمته الشخصية وختمه الفردي، فهمه الشعوري واللاشعوري للعالم وتوجهه فيه، وتلك المنطقة التي تشغله والتي تعرف (بالمعنى الفينومينولوجي الأوسع) بالقصدية، ومن المحتم أن أسلوب المؤلف، ووجوده لذاته بالمعنى السارتري، سيكون أيضا أمرا ثقافيا، حيث إن الدلالة هي جلب ثقافي للخبرة وإبراز لها إلى حيز الوجود.
ووظيفة الشكل هي أن يفتح النص للحوار، فالشكل هو طريقة تشييد العالم الرمزي بحيث تكون هناك مشاركة، ينسحب ذلك أيضا على «الجنس الأدبي»
Genre
وعلى التيمات التراثية المحورية برموزها وعلاقاتها المميزة، وكما يقول فالديس
Valdes
في «الهرمنيوطيقا الفينومينولوجية ودراسة الأدب»، فإن النص يتكون من: الشكل، والتاريخ، وخبرة القراءة، والتأمل الذاتي للمؤول.
وقد أضاف يورجين هابرماس مسحة سياسية إلى مشكلة الفهم التاريخي، من حيث إن تجسد الفهم في النص قد ينطوي على تحريف مترسب، وتواصل مشوه تشويها منظما، إن آفاق المرء نفسه قد تشتمل على رواسب ثقيلة من الظلم لا يعرفها ولا يعترف بها.
يرى جادامر أن فكرة استعادة المعنى التاريخي هي خرافة قائمة على إغراق مثالي، لقد اقتطع النص من سياقه الأصلي وانغمد في سياق غريب عنه خلال فعل القراءة، ولا سبيل إلى استعادة المعنى الأول أو تعافي المعنى الأصلي؛ وذلك لتدخل المشكلات التالية:
أين يبدأ ما هو معاصر للنص وأين ينتهي؟
كيف يمكننا أن نفصل بين ذلك الشيء المكون للنص والذي هو تاريخي بالنسبة إليه (أي سابق على الموقف المعاصر للنص) وبين ذلك الشيء المعاصر للنص فحسب؟
كيف يمكننا أن نتيقن من معرفتنا في أية حالة؟
يبدو أن تعافي المعنى الأصلي هو، في كثير من الأحيان، وهم وضلال وغاية لا تدرك، فالمعنى الأصلي قد مضى «في ذمة نفسه!» ... تبدد فور انبثاقه ولم يبق منه إلا تأويله! إنه كذكر النحل الذي يموت فور الإخصاب، يموت فور التقائه بحقيقته، لا يحكم «الأصل» إلا يوما واحدا يخلع بعده ويصبح سبيا للحاكم الأبدي الفعلي، التأويل.
ليست هناك حقائق، كما يقول نيتشه، هناك فقط تأويلات، والإنسان هو ذلك «الحيوان التأويلي» الذي يفهم نفسه وفقا لتأويل ميراث وعالم مشترك تسلمه من الماضي، ميراث حاضر وناشط دائما في أفعاله وقراراته، غير أننا، بنزغ مثالي عتيد، نظن أننا نعيش في الحقائق، ويصر كل منا على أن عقله يحتكر الحقيقة، وعلى أن الحقيقة قد وقعت في غرام عقله بخاصة، وأقامت في «سياقه» بالذات، وقلما نتفطن إلى أننا نعيش في عالم من التأويلات التي تتضارب أمام أعيننا، فتثير غبارا حينا، وتسيل دماء في كثير من الأحيان.
ورغم أن «فهمنا المسبق»، كما أكد هيدجر وجادامر، هو أداتنا وعدتنا للفهم، فنحن نصادر به ولا نريد أن نصهر أفقنا بأفق النص، ولا نريد أن ندخل في حوار صادق مع النص، لا نريد أن نصغي إلى «صوت الآخر»، لا نريد أن نراجع إسقاطاتنا المسبقة في ضوء ما يبزغ أمامنا في عملية القراء، وبذلك نتصلب عند فهمنا المسبق لا نعدوه، ولا نقرأ النص قراءة حقيقية، بل نخرس النص ونفرض عليه ما ليس فيه، وتظل رواسب سوء الفهم تتراكم عبر السنين، بانتظار «هيدجر جديد» يعيد صقل الكلمات حتى يشع بريقها الأصلي من جديد، هكذا يفوتنا مغزى النص ورسالته وبلاغه، ويشيح عنا النص وقد وجدنا غير جديرين بهديته.
آفة المذاهب جميعا هي أنها تتحول على يد التابعين وتابعيهم إلى أصنام مفرغة من الروح، وقوالب صفيقة هجرتها معانيها الأصلية ومقاصدها الأولى، وسكنتها عناكب الجمود وأفاعي التعصب، بحيث لو عاد مؤسسوها إلى الحياة لجهلهم السدنة الجدد وما عرفوهم، ورأوهم ناشزين منشقين، وأعادوهم ثانية إلى الموت.
عادل مصطفى
الكويت في 15 / 4/ 2003م
الفصل الأول
طبيعة هرمس وطبيعة الهرمنيوطيقا
تأتي كلمة «هرمنيوطيقا» من الفعل اليوناني
Hermeneuein
ويعني «يفسر»، والاسم
Hermeneia
ويعني «تفسير»، ويبدو أن كليهما يتعلق لغويا بالإله «هرمس»
Hermes
رسول آلهة الأولمب الرشيق الخطو الذي كان بحكم وظيفته يتقن لغة الآلهة، ويفهم ما يجول بخاطر هذه الكائنات الخالدة، ثم يترجم مقاصدهم، وينقلها إلى أهل الفناء من بني البشر، ويذكر كل من اطلع على الإلياذة والأوديسا أن هرمس كان ينقل الرسائل من زيوس - كبير الآلهة - إلى كل من عداه وبخاصة من جنس الآلهة، وينزل بها أيضا إلى مستوى البشر، وهو إذ يفعل ذلك فقد كان عليه أن يعبر البون الفاصل بين تفكير الآلهة وتفكير البشر.
وتقول الأساطير: إن هرمس كان لديه خوذة سحرية (طاقية هاديس) تجعل خفيا عن الأعين، وتمكنه من أن يظهر فجأة وقتما يشاء، وكان لديه خفان مجنحان لكي يحملاه بسرعة عبر المسافات الطويلة، وعصا سحرية يمكنه أن ينيم بها من يشاء ويوقظ، فهو لا يعبر المسافات الفيزيائية والفجوات الأونطولوجية بين الآلهة والبشر فحسب ، بل إنه ليجتاز البون بين المرئي والمحجوب، وبين اليقظة والمنام، وبين الوعي واللاوعي، إنه الإله الزئبقي (عطارد الرومان) للخواطر الشاردة والإلهامات والبصائر المفاجئة، وهو أيضا لص، بل هو إله السرقة وقطع الطريق وضربات الحظ، وكان هرمس أيضا إله مفارق الطرق والتخوم حيث تتراكم الصخور
Herms
لإجلاله، ولم يكن يقام مذبحه في الأزمنة القديمة إلا في الطرق البعيدة والسبل المنقطعة، وهرمس هو مرشد الأرواح إلى العالم السفلي، ومن ثم، فهو يعبر الخط الفاصل بين عالم الأحياء وعالم الموتى، بين العالم الأرضي والعالم السفلي (هاديس)، إنه بحق إله الفواصل والفجوات، إله التخوم وأعتاب كل شيء.
ومهما تكن شكوكنا حول صحة الصلة الإتيمولوجية بين الهرمنيوطيقا وهرمس، فإن الصلة بين خصائص الهرمنيوطيقا وخصائص الإله هرمس هي صواب مؤكد ويقين لا شك فيه، فالهرمنيوطيقا «هرمسية» قلبا وقالبا، من حيث هي «فن الفهم وتأويل النصوص»، ورغم أن مفهوم الهرمنيوطيقا قد اتسع في القرن الثامن عشر والقرن العشرين ليشمل مناهج فهم النصوص الدينية والدنيوية على حد سواء، فإن اللفظة قد بقيت توحي بمعنى التفسير الذي يضطلع بكشف شيء ما خبيء ومستور وسري، شيء مضمر باطن في قلب النص يند عن الفهم العادي والقراءة المعهودة، لقد كانت النصوص القديمة غريبة على المحدثين غرابة مزدوجة: فهي قديمة تاريخيا، وهي في لغة مختلفة، ولم يكن خفيا على وعي المفسر وهو يستغرق في تأمل نص عبري أو يوناني أو لاتيني أنه يدلف إلى كيان معرفي مختلف، وأنه يقوم بوساطة بين دنياوين، ويقف جسرا بين عالمين: عالم غامض مستغلق معتم هو عالم النص، وعالم واضح المعالم محدد القسمات كثيف الإضاءة مبذول المعنى هو عالمنا القائم الذي نعيش فيه ونألف ملامحه ونجول في كنفه.
وهرمس هو بالضبط ذلك الوسيط: فهو المراسل فيما بين «زيوس» وبين البشر الفانين، يعبر هذه العقبات الأنطولوجية بسهولة ويسر، وهو، وفقا للأسطورة، لص شهير يعبر أيضا عتبة الشرعية دون تأنيب ضمير، وهو رب الأحلام ووسيط بين اليقظة والحلم، بين النهار والليل، تخفيه خوذته المسحورة وتظهره وقتما يشاء، وهو رب التأويب يتسربل بالليل، ورب الرقاد بيده النوم وبيده اليقظة، إنه دائما على الأعتاب، الأطراف، الهوامش، الحوافي، التخوم، المفارق، وحتى شهوته لم تكن موجهة للإخصاب أو لتأسيس أسرة، بل هو شهوة أفروديتية مختلسة مسترقة دون نظر في العواقب.
يبدو، في رأي الأنثروبولوجي «فيكتور تيرنر»، أن اتخاذ موقف هرمسي والنظر من المنطقة الحدودية هو ما يتيح لكبار الفنانين والكتاب ونقاد المجتمع رؤية تتجاوز الأشكال الاجتماعية، وتسمح لهم أن يشهدوا المجتمع من خارج وأن يبلغوه رسالة مما وراءه، هذا الموقف الحدي أو الحالة البينية، أو هذا المقام في «الصدع ما بين العوالم» على حد تعبير كارلوس كاستانيدا، هو مصدر لكل من الإبداع والنقد؛ نقد الصور السائدة من الفكر والوجود، وبتعبير آخر يمكننا القول بأن هذه القدرة على الانفصال عن الوسط الاجتماعي للحكم عليه، أو الانسلاخ عن «الثقافة» المحيطة لرؤيتها وجعلها «موضوعا» للنقد والتقويم، هي قدرة لا يتحلى بها إلا القلة من المبدعين والمصلحين، فالخروج من أقطار العالم الثقافي الذي نشأ المرء في كنفه، وانغمر في قلبه، هو رحلة شاقة وسفر طويل ومهمة «هرمسية» صميمة.
في كتابه «في الطريق إلى اللغة» يتناول هيدجر الصلة الوثيقة بين معنى الهرمنيوطيقا وبين شخصية هرمس، فيقول: إنه لمما يحمل أعمق المغزى وأبلغ الدلالة أن هرمس هو رسول الآلهة، وليس مجرد رسول بين البشر بعضهم وبعض، ذلك أن الرسالة التي يحملها هرمس ليست رسالة عادية، إنه يحمل الخبر الصاعق والنبأ الجلل. التأويل في أسمى معانيه هو أن تكون قادرا على فهم هذه الأنباء المقدورة، بل أن تفهم قدرية الأنباء، أن تؤول هو أن تستمع أولا، وعندئذ تصبح أنت نفسك رسول الآلهة، تماما مثلما يفعل الشعراء، كما يقول أفلاطون في محاورة أيون، من قدر الإنسان حقا أن يتخذ موقفا تأويليا من وجوده الخاص، ومن قدر البشر، بقدر ما يكونون بشرا حقيقيين، أن يستمعوا إلى الرسالة ... أن يصغوا إليها وينتموا إليها بوصفهم بشرا.
في هذه الفجوة، هذه الفاصلة، منطقة الإفضاء؛ يقف الإنسان فيتكشف له شيء ما، ويأتي نحوه حاملا الحضور والشيء الحاضر معا في آن. على الإنسان هنا ألا يفعل بل ينفعل، ألا يتكلم بل يصغي، ألا يفسر بل يفهم الشيء الذي أسفر عن نفسه، لا يصبح الإنسان «هرمسا» بحق، أي حامل رسالة، إلا لأنه أولا وقبل كل شيء فتح كيانه كله لعملية «التجلي»
Unconcealment
الإنسان هو حامل الرسالة التي ألقى بها إليه هذا التجلي المزدوج.
إن الشيء المثير والمهم في هذا الوصف الهيدجري للتأويل هو أنه يعود بنا وراء تكنيك التفسير إلى لحظة أكثر بداءة، لحظة سابقة على أشكال فكرنا الحاضرة؛ لكي نعي شيئا جوهريا، يحاول مثل هذا التأويل أن يدخل في حوار ودي وأساسي مع الجهود الكبرى السابقة لفهم معنى الوجود، هذا الإصغاء البدئي هو أيضا إصغاء تأويلي بمعنى آخر: إنه إصغاء إلى النصوص، فالرسالة التي يتعين على المرء أن يؤولها هي في حقيقة الأمر مذاهب أسلافه وتفكيرهم كما هو متجسد في النصوص الكبرى، «أن توجد» من الوجهة التأويلية ككائن إنساني هو أن توجد «بين النصوص»
Intertextually ، أن تساهم في سلسلة التأويل اللانهائية التي تشكل تاريخ فهم الوجود، «إن كل كائن إنساني في كل لحظة هو في حوار مع أسلافه، وربما أيضا في حوار أشد خفاء مع أخلافه الذين سيأتون من بعده.» يريد هيدجر أن يحث المفسر على التأمل في النصوص بحب فقيه اللغة للألفاظ، و«أن يعطي كل لفظة في كل موضع وزنها الكامل، والذي يكون في الأغلب خفيا مستورا».
وبوسعنا أيضا أن نفهم لماذا يفضل هيدجر لفظة
Hermeneutics
على بدائلها الأخرى من مثل
Interpretation ، عندما نتذكر أن مشروع هيدجر ينطوي على محاولة لاستعادة فهم الوجود واسترداد الوعي به، والذي يرى هيدجر أننا قد فقدناه في الأزمنة الحديثة، بل منذ زمن أفلاطون وأرسطو في حقيقة الأمر، فإذا تعين على المرء أن يبحث عن «الثقل الخفي» للألفاظ القديمة فلكي يمضي فيما وراء الوضوح الذاتي في التفكير الحديث. هذا الإصغاء الخاص والشديد الذي يدعو إليه هيدجر هو أمر ضروري من أجل الانفلات من حدود النظرة الحديثة للعالم، فالهرمنيوطيقا هي ذلك المجال المعني بفك رموز الأقوال التي تنتمي إلى أزمنة وأمكنة ولغات أخرى، دون أن يفرض عليها المرء مقولاته هو
Categories
أو تصنيفاته الذهنية (مشكلة الهرمنيوطيقا).
ومن الأمور الدالة أن هيدجر يحاول أن يشحذ تأملاته بحوار مع شخص ينتمي إلى عالم مختلف تماما؛ شخص ياباني، يمثل هذا الحوار محاولة لفهم أشد التصورات صعوبة واستغلاقا: الجمال، القول، اللغة، وتشيع في هذا الحوار رقة الياباني واستعداده للتفهم والتقبل، وبوسع المرء أن يفهم افتتان هيدجر بشعب يمثل فنه جهدا لترك الوجود يسفر عن وجهه كما هو.
لم يكن اتخاذ محاور ياباني هو المؤشر الوحيد على سعي هيدجر لتجاوز النظرة الغربية الحديثة للعالم، فهو يعلن بصريح العبارة أن على المستمع الجيد أن يضع موضع التساؤل تلك الأفكار الموجهة التي تقوم تحت أسماء «التعبير»، «الخبرة»، «الوعي»، بتحديد الفكر الحديث، إذا كانت هذه التصورات هي ما يشكل «عالم» المرء، فإن هيدجر يريد للهرمنيوطيقا أن تكون «مزلزلة للعالم»، أن تكون هي رسالة جليلة تزعزع أسس الفكر، لا يريد غير تأويل يتخطى التصورات السائدة، تأويل يقوم ب «تحويل للفكر»، ولسوء الحظ تفتقر لفظة
Interpretation
لتلك الدلالة على تناول شيء أجنبي مختلف، بينما تتحلى بذلك كلمة
Hermeneutics
لأنها تشير عادة إلى تفسير نصوص قديمة من لغة أخرى، ومن ثم فهي تؤدي بالضبط معنى الاتصال بشيء مغاير في صميمه ولكنه قابل للفهم رغم ذلك.
من طبيعة هرمس كما قلنا إنه لا ينتمي إلى موضع بعينه وليس له محل إقامة دائم، فهو دائما في الطريق بين هنا وهناك، وعندما يكون المرء في الطريق فهو عرضة لتقلبات الحظ، وحين يعثر المسافر أو التاجر على ثروة مباغتة غير مرتقبة ستكون تلك هبة من هرمس؛ لأنه إله الثراء المفاجئ وضربات الحظ؛ وهو لذلك أصلح من يكون إلها لتأويل النصوص، لأن حل مشكلة تفسيرية ما قد يأتي بتوفيق هرمسي: التأويل ومض مفاجئ، بصيرة مباغتة، والفهم بارقة، والقبض على المغزى حدث خاطف، وهو مثل هرمس، «محايد أخلاقيا»
Amoral ، فالفهم عملية عقلية خالصة لا دخل فيها للأخلاق، قد يكون الاستبصار المفاجئ إيقاظا سارا وقد يكون محبطا ومخيبا إذ يجرد المرء من وهم لذيذ، غير أن الفهم ذاته محايد دائما من الوجهة الأخلاقية.
وقد أشار ولتر أوتو
Walter Otto
إلى وجود تواز بين هرمس وإله الفيدا «بوشان» الذي ينقذ التائهين في الطرق، فهو مثل هرمس يعرف الطرق، وله طريقة خاصة في مساعدة البشر وفي منحهم الكنز، وذلك بأن يتيح لهم أن يعثروا عليه بأنفسهم، كذلك الحال على صعيد التأويل؛ فالمناهج التأويلية قد صممت لكي تمكن النص من أن يؤتي كنزه، غير أن المؤول يرشد القارئ إلى الكنز ثم ينسحب، إن المؤول مجرد موجه، وهو بوصفه موجها يبقى صورة هامشية، يبقى خارجيا، محرضا فحسب.
وصفوة القول: أن هرمس يظل إله الطرق والمفارق والعتبات وعابر الحدود، ويترأس جميع الصفقات التي تعقد على الحدود؛ ولذلك فهو إله الترجمة وإله جميع التعاملات بين العوالم، ويبدو أن ماهية الهرمنيوطيقا أن تكون حدية، أن تتوسط بين مجالات الوجود، سواء بين الله والبشر، الصحوة والنوم، الوعي واللاوعي، الحياة وما بعد الحياة، الجلي والخفي، النهار والليل، ويبدو أن أبعاد الإله الميثولوجي هرمس تومئ إلى عنصر محوري في معنى الهرمنيوطيقا: وهو أنها وساطة بين العوالم، وفي الحالات الشديدة تعد رسالة هرمس مزلزلة للعالم: فهي تحدث، كما يقول هيدجر: «تحولا في الفكر.»
الفصل الثاني
الاستخدام القديم ودلالته الحديثة
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث (يوسف، آية 101)
قلنا إن هرمس هو المراسل فيما بين الآلهة والبشر، وأن الأصل اليوناني للفظة «هرمنيوطيقا» يوحي بعملية «الإفهام» وبخاصة حين تشتمل هذه العملية على اللغة، فاللغة هي الوسيط الأساسي في هذه العملية بلا ريب، هذا الإفهام الذي تتوسطه اللغة هو العنصر المشترك في الاتجاهات الثلاثة الأساسية لمعنى لفظة
Hermeneuein
ولفظة
Hermeneia
في الاستخدام القديم، هذه الاتجاهات الثلاثة للفعل «يؤول» في اليونانية هي: (1)
يعبر بصوت عال في كلمات، أي: «يقول» أو «يتلو». (2)
يشرح، كما في حالة شرح موقف من المواقف. (3)
يترجم، كما في حالة ترجمة لغة أجنبية.
هذه المعاني الثلاثة جميعا قد يعبر عنها الفعل الإنجليزي
To Interpret ، غير أن كلا منها يمثل معنى مستقلا من معاني التأويل .
التأويل - إذن - يمكن أن يشير إلى ثلاثة أمور مختلفة نوعا ما سواء في الاستعمال اليوناني أو الإنجليزي: التلاوة الشفاهية، والشرح المعقول، والترجمة من لغة إلى أخرى، غير أن بمقدور المرء أن يلاحظ أن «العملية الهرمسية» قائمة في الحالات الثلاث جميعا، ثمة شيء بحاجة إلى العرض أو الشرح أو الترجمة يصبح، بطريقة ما، معقولا ومستوعبا، ثمة شيء ما قد تم «تأويله». (1) التأويل بمعنى «التلاوة»
ينشد الشعر جديدا كالصبا
وأنا ناظمه منذ سنين
وأبث فيه من صباه عجبا
فإذا قلت ارتجال لا تمين
1
العقاد
أول الاتجاهات الثلاثة الأساسية لمعنى الفعل «يؤول» هو: «يعبر»، أو «يدلي»، أو «يقول»، أو «يتلو»، وهو اتجاه يرتبط بالوظيفة «الإعلانية» لهرمس، وما يزال الفعل «يعبر» هنا يحمل معنى «القول» وإن يكن القول في هذه الحالة هو القول الذي يعد في ذاته تأويلا، من أجل ذلك يلتفت المرء إلى الطريقة التي يعبر بها عن الشيء، أي إلى «الأسلوب» الذي يتم به الأداء، ونحن نستخدم هذا الظل الدقيق لكلمة «تأويل» عندما نشير إلى تأويل مطرب لأغنية ما، أو تأويل قائد أوركسترا لسيمفونية ما، بهذا المعنى يكون التأويل شكلا من أشكال القول، وبالمثل يكون الإلقاء الشفاهي أو الغناء تأويلا، وقد كانت كلمة «تأويل»
Hermeneia
تشير أحيانا إلى التلاوة الشفهية، تلاوة قصيد ملحمي لهومر على سبيل المثال، وفي محاورة «أيون»
Ion
لأفلاطون نجد أيون ذلك المؤول الشاب يتلو هومر، ويقوم من خلال تجويده والتلاعب بطبقات صوته بتأويل الشاعر الكبير والتعبير عنه بل وتفسير دقائق معانيه، ويوصل إلى المستمعين أكثر مما يدركه أو يفهمه، وأيون بذلك يصبح، شأنه شأن هرمس، حاملا لرسالة هوم.
2
كان هومر نفسه، بطبيعة الحال، مبعوثا من الآلهة إلى الإنسان، كان مؤولا يبين للناس سبل الرب ويسوغها لهم (على حد تعبير ملتون)، كان هومر إذن مؤولا بمعنى أكثر بداءة؛ إذ لم تكن الكلمات قبله قد قيلت، (من الجلي أن الأساطير كانت موجودة قبل هومر، ومن ثم يمكننا القول بأنه قام بتأويلها والتصريح بها فحسب)، كان هومر نفسه يعتبر ملهما من قبل الآلهة ، كان هومر من خلال قوله مترجم الآلهة ومفسرهم.
ولعل مسألة القول أو التلاوة الشفاهية بوصفها «تأويلا» أن تذكر الأدباء ونقاد الأدب بمستوى دأب الكثيرون منهم على إهماله والانتقاص من شأنه أو ربما نسيانه كليا، غير أن الأدب يستمد الكثير من ديناميته من قوة الكلمة المنطوقة، فمنذ القدم والأعمال العظيمة في اللغة كان المقصود بها أن تتلى جهارا وتسمع، وينبغي أن تلفتنا قوة اللغة المنطوقة إلى ظاهرة مهمة، وهي ضعف اللغة المكتوبة! فاللغة المكتوبة تفتقر إلى «القوة التعبيرية» البدائية التي تتحلى بها الكلمة المنطوقة، صحيح أن التدوين يحفظ اللغة ويحميها من الاندثار (وأنه أساس التاريخ والأدبيات)، إلا أنه يضعفها في الوقت نفسه، وقد أكد أفلاطون على ضعف اللغة المكتوبة، وعجزها في «الرسالة السابعة» وفي «فايدروس»، وما من لغة مكتوبة، إلا تنادي، في صمت، بإعادة تحويلها إلى شكلها المنطوق لكي تسترد قوتها المفقودة، الكتابة «اغتراب للغة» عن قوتها الحية، وليس من قبيل الصدفة أن كلمة «اللغة» ونظيراتها في أغلب اللغات تشتق من «اللسان» ومن «النطق».
للكلمات الشفاهية ما يشبه القوة السحرية، غير أنها حين تصبح أشكالا مرئية تفقد الشيء الكثير من هذه القوة، وإذا كان الأدب يستخدم الكلمات لكي يرفع تأثيرها إلى ذروته فإن الكثير من هذه القوة يهدر عندما نستعيض عن السمع بالرؤية في عملية القراءة، نحن بطبيعة الحال لا نملك أن نعود إلى الوراء حيث كان الأدب نشاطا شفاهيا، ونحن - بطبيعة الحال - لا يليق بنا أن ننكر مزايا الكتابية والاتصال الكتابي، غير أن علينا ألا ننسى أن اللغة في الأصل هي كيان مسموع لا منظور، وأن ثمة أسبابا وجيهة تجعل اللغة الشفاهية أيسر «فهما» من اللغة المكتوبة.
انظر إلى فعل القراءة الجهرية، إن التعبير الشفاهي ليس استجابة سلبية للعلامات الماثلة على الصفحة (شأن الفونوغراف إذ يؤدي تسجيلا)، إنه عملية إبداعية، أداء، كالعملية التي يقوم بها عازف البيانو وهو «يؤول» مقطوعة موسيقية، سل أي عازف بيانو يجبك أن المقطوعة بحد ذاتها هي مجرد «قشرة»، وأن «معنى» الجمل الموسيقية لا بد من «فهمه» حتى يتسنى تأويل الموسيقى، وقل الشيء نفسه عن قراءة اللغة المكتوبة، إن المؤول الشفهي ليس أمامه من العمل الأصلي إلا قشرة: مخطط عام للأصوات لا إشارة فيه للنغمة، ولا للنبر والتشديد، ولا الوضع الجسماني، غير أن عليه أن «يعيد إنتاج» ذلك في صوت حي، هنا أيضا لا بد لمن يعيد الإنتاج من أن يعي معنى الكلمات لكي يعبر، ولن يكون بمقدوره أن يؤدي جملة واحدة ما لم يدرك معنى القول، والسؤال الآن هو: كيف تتم هذه العملية الغامضة، عملية فهم المعنى؟ تمثل هذه العملية مفارقة ملغزة: فأنت لكي تقرأ لا بد لك من أن تفهم مقدما ما سيقال، ولكن هذا الفهم ينبغي أن يأتي من القراءة! ها هنا تبدأ في البزوغ تلك العملية «الديالكتيكية» المعقدة التي يشتمل عليها كل فهم حين يقوم بإدراك معنى جملة من الجمل، وفي الاتجاه المقابل يقدم التشديد والوضع اللذين لا يكون للكلمة المكتوبة معنى بدونهما، للتأويل الشفهي إذن جانبان: فمن الضروري أن تفهم شيئا ما لكي تعبر عنه، إلا أن الفهم نفسه يأتي من القراءة المؤولة، من التعبير.
والآن، ماذا تحمل هذه المسألة من متضمنات أدبية ونقدية؟ ماذا تحمل بالنسبة للقائمين بمهنة «التفسير الأدبي» وبالأخص بالنسبة لمعلمي الأدب؟ إنها أولا تشير إلى الحاجة إلى إعادة النظر في مسألة الخلفية التاريخية والسيكولوجية وأهميتها في التفسير، أي إعادة النظر في دور المعطيات السياقية، التاريخية والنفسية، بالنسبة للفهم الأدبي، إن للنص «وجوده» الخاص في الكلمات نفسها، في ترتيبها وفي مقاصدها، وفي مقاصد العمل بوصفه موجودا من نوع معين، فإذا صح ذلك ألا يكون من شأن الناقد الذي لا يتسلط على النص، بل يستسلم لوجود العمل، أن يساعد على استعادة ما فقده النص حين تحول إلى كلمات مكتوبة؟ ألا يقوم الناقد حين يخرج أدواته التصورية (سواء كانت تتصل بالشكل أو المضمون) بتشييد سياق من المعنى (دائرة تأويلية) سوف ينبثق منه أداء شفاهي أكثر كفاءة، حتى لو تخفى ذلك في قراءة صامتة أكثر عمقا تأويليا؟ إن هذا التوجه لا يتناقض، بل ينسجم، مع ما يصبو إليه «النقد الجديد»
New Criticism
من صيانة الوجود الخاص بالنص نفسه وحمايته من عبث التقول عليه ومن «هرطقة إعادة الصياغة»، ذلك أن «النقد الجديد» يريد أن يمكن للنص أن يتحدث. لا شك أن النقد الجديد، في ضوء ذلك، سوف يتفق معنا على أن النقد المسعف حقا هو ذلك النقد الذي يهدف إلى قراءة شفهية أكثر كفاءة للنص نفسه، قراءة تسمح للنص أن يوجد مرة ثانية بوصفه حدثا شفاهيا ذا معنى يحدث في الزمان، وجودا يمكن لطبيعته وتكامله الحقيقي أن يتألق ويضيء.
من شأن التأويل الشفاهي أن يساعد النقد الأدبي على أن يستحضر في نفسه هدفه الخاص ومقصده الصميم عندما يتخذ، بطريقة واعية، تعريفا ل «وجود» العمل الأدبي، لا على أنه شيء تصوري سكوني، ولا على أنه «ماهية» لا زمانية تحولت إلى شيء على هيئة تصور متجسد في تعبير لفظي، بل على أنه كائن يحقق وجوده كحدث شفاهي في الزمان، يجب على الكلمة ألا تعود كلمة (أي شيئا بصريا وتصوريا) وأن تصبح «حدثا»، فوجود العمل الأدبي هو «حدث» لفظي يحدث كأداء شفاهي. إن النقد الأدبي الحق يتحرك في اتجاه التأويل الشفهي للعمل الذي ينصب عليه، وليس ثمة من تناقض بين «الوجود المستقل» للعمل الأدبي الذي ينادي به «النقد الجديد» وبين هذا المبدأ، فالوجود المستقل، هو، على العكس، ينسجم مع مبدأ التأويل الشفهي ويتفق معه تمام الاتفاق.
ولمبدأ التأويل الشفهي وقوة الكلمة المنطوقة أهميته أيضا في مجال النصوص المقدسة، ومن المأثور عن القديس «بولس» وعن «مارتن لوثر» قولهما: «إن الخلاص يأتي خلال الآذان.» لقد كتبت رسائل بولس لكي تقرأ قراءة جهرية لا قراءة صامتة، والحق أن علينا أن نذكر أنفسنا بأن القراءة الصامتة السريعة هي ظاهرة حديثة أتت بها الطباعة، بل إن عصرنا هذا المتعجل الملول قد جعل من «القراءة السريعة» فضيلة، وكم نبذل من جهد لكي نطمس القراءة نصف الجهرية التي يتعلم بها الطفل القراءة، رغم أن هذه الطريقة كانت طبيعية تماما في العصور القديمة، ويذكر القديس أوغسطين أن هذه هي الطريقة التي كان يقرأ بها.
3
وقد ينبغي على علم اللاهوت المسيحي أن يتذكر أن لاهوت «الكلمة» ليس لاهوت الكلمة المكتوبة بل الكلمة المنطوقة، إن النصوص المقدسة (وبخاصة في لاهوت بلتمان) هي
Kerygma
أي رسالة يجب أن تبلغ وتعلن، ومن شأن الجهود المبذولة لنشر الكتاب المقدس في أرجاء المعمورة أن تهزم نفسها إذا ما تم النظر إلى الكتاب المقدس على أنه عقد أو وثيقة قانونية أو تفسير عقلي تصوري للعالم؛ ذلك أن لغة الكتاب المقدس تعمل في وسط مختلف تمام الاختلاف عن كتيب إرشادي لبناء شيء ما أو عن نشرة معلومات، وكلمة «معلومات» هي كلمة ذات دلالة، فهي تشير إلى استخدام للغة مختلف عن الاستخدام الموجود في الكتاب المقدس، إنها تخاطب الملكة العقلية ولا تخاطب جماع الشخصية، بمقدورنا أن نقرأ المعلومات قراءة صامتة دون أن نخسر شيئا، فنحن لا يلزمنا أن نستحضر خبرتنا الشخصية أو نخاطر بأنفسنا لكي نفهم المعلومات، أما الكتاب المقدس فهو ليس معلومات، إنه ... رسالة، بلاغ، وقد قصد به أن يقرأ جهارا وأن يسمع، وما هو بمجموعة من المبادئ العلمية، إنه واقع من نوع مختلف عن واقع الحقيقة العلمية، واقع ينبغي فهمه على أنه قصة تاريخية ... حدث يجب أن يسمع، والمبدأ العلمي غير الحدث التأويلي، ومعقولية المبدأ غير معقولية الحدث، بهذا المعنى الأعمق لكلمة «تاريخي» ينبغي أن نفهم الأدب واللاهوت، إن العمليات التأويلية المناسبة للعلم لتختلف اختلافا بعيدا عن العمليات التأويلية الملائمة للأحداث التاريخية، أو الأحداث التي يحاول اللاهوت أو الأدب أن يفهمها.
هكذا، أفضى بنا الاتجاه الأول لمعنى كلمة «تأويل» في الاستخدام القديم (التأويل بوصفه تلاوة) إلى تقرير بعض المبادئ الأساسية للتأويل، سواء الأدبي أو الثيولوجي، لقد ردنا إلى الشكل والوظيفة البدائيين للكلمة بوصفها صوتا حيا ممتلئا بقوة العبارة المنطوقة ذات المعنى، فاللغة وهي تبزغ من العدم ليست علامات بل أصوات، وهي تفقد شيئا من قوتها التعبيرية (ومن ثم شيئا من معناها) عندما ترد إلى صور بصرية، أي عندما تنتقل من البعد الزماني للوجود وتقطن في بعده المكاني الصامت؛ لذا كان لزاما على التفسير اللاهوتي والأدبي أن يحول الكتابة إلى كلام، وإن مبادئ الفهم التي تمكننا من هذا التحويل تعد من الهموم الكبرى لنظرية التأويل الحديثة.
4 (2) التأويل بوصفه تفسيرا (أرسطو)
الاتجاه الثاني لمعنى «التأويل» في الاستخدام القديم هو «أن تشرح»، وهو اتجاه يؤكد البعد التفسيري للفهم وليس مجرد البعد التعبيري، فالكلمات، بعد كل شيء، لا «تقول» شيئا ما فحسب، بل تفسره أيضا وتشرحه وتوضحه، قد يعبر المرء عن موقف ما دون أن يشرحه، وإذا كان «التعبير» عن الموقف هو في ذاته تأويلا كما أسلفنا، فإن تفسيره أو شرحه هو أيضا شكل من أشكال التأويل، فلنتناول الآن بعض أبعاد هذا الشكل الثاني (والأكثر وضوحا) من أشكال التأويل، ونعرض لدلالاتها الحديثة.
انظر إلى الرسائل الملغزة التي كان يفضي بها وسيط الوحي في دلفي، لم تكن هذه الرسائل تفسر نصا موجودا سلفا، بل كانت «تأويلات» لموقف (وكانت الرسائل نفسها تتطلب تأويلا!) لقد كانت «تبوح» بشيء ما أو «تقوله» أو «تعبر عنه» (وهو البعد الأول والأكثر بداءة للمعنى)، غير أنها كانت في الوقت نفسه تفسيرا لشيء ما، شيء لم يكن مفسرا من قبل، كانت صياغة لفظية ل «معنى» الموقف، أو شرحا للموقف في كلمات (قد تخفي بقدر ما تكشف)، الكلمات هنا تقول شيئا ما عن الموقف أي عن الواقع، والمعنى هنا ليس مخبوءا في أسلوب القول أو طريقته، فليس هذا بالأمر المحوري في هذا البعد من التأويل، إنما هو تفسير بمعنى أنه يقول شيئا ما عن شيء آخر، إذن على حين أن رسائل الوحي كانت بمعنى أول «تقول» أو «تعلن»، فهي بوصفها تفسيرا كانت تتحرك تجاه لحظة ثانية للتأويل، كانت تفسر شيئا ما وتشرحه وتعلله.
في رسالته «عن التأويل»
يعرف أرسطو التأويل بأنه «إقرار» أو «إعلان»
Enunciation ، قد يومئ هذا التعريف إلى الاتجاه الأول للمعنى (يقول أو يعلن)، غير أن المتعمق في النص لن يخفى عليه الاتجاه الثاني أيضا، فالهرمينيا عند أرسطو تشير إلى العمل الذي يقوم به الذهن ؛ إذ يضع العبارات التي تتصل بصدق شيء ما أو بكذبه. التأويل بهذا المعنى هو العملية الأولية للفكر إذ يصوغ حكما صادقا عن شيء ما، وفقا لأرسطو، إذن، لا يعد الدعاء والطلب والسؤال عبارة، بل شيئا مشتقا من عبارة، أو هو شكل ثانوي من الجمل ينطبق على موقف يكون فيه الذهن قد أدركه سلفا في شكل عبارة (الفكر بطبيعته، عند أرسطو، يدرك المعنى كعبارة)، مثال ذلك أن العبارة الأصلية (أو التأويل) «الشجرة بنية اللون» تسبق أي جملة تعبر عن رغبة أو استخدام لها، «التأويلات» إذن ليست جملا تهدف إلى استخدام أو غرض أو نفع، كما هو الحال في الدعاء أو الطلب، بل هي عبارات حول شيء ما يتصف بأنه حق أو باطل (صادق أو كاذب)، ويعرفها أرسطو بأنها «الكلام الذي ينطوي على صدق أو كذب»، يترتب على هذا التعريف أن الخطابة والشعر يقعان خارج رسالته عن التأويل لأن كلا منهما يهدف إلى تحريك المستمع والتأثير فيه.
و«الإعلان» أو «الإقرار» (التأويل)
Enunciation
عند أرسطو ينبغي ألا يختلط بالمنطق، فالمنطق ينطلق من مقارنة العبارات المعلنة، أما الإعلان فهو صياغة العبارات ذاتها وليس عملية الاستدلال من الأشياء المعلومة إلى المجهولة، وبصفة عامة يقسم أرسطو العمليات الأساسية للفكر إلى: (1)
فهم الأشياء (الموضوعات) البسيطة. (2)
عمليات التجميع والتقسيم. (3)
عمليات الاستدلال من الأشياء المعلومة إلى الأشياء المجهولة.
يتناول «الإعلان»، وفقا لأرسطو، العمليات الثانية فحسب: أي عمليات البناء والتقسيم الخاصة بوضع العبارات التي تنطوي على صدق أو كذب، الإعلان إذن ليس بالمنطق ولا هو بالخطابة ولا الشعر، بل هو شيء أكثر أولية: إنه إقرار بصدق شيء ما (أو كذبه) بوصفه عبارة.
والآن، ما جدوى هذا التعريف الضيق (والمحدد رغم ذلك تحديدا مثمرا)؟
أولا: من الأهمية بمكان أن الإعلان ليس هو «فهم الأشياء البسيطة» بل يتناول العمليات التي تشتمل على بناء عبارة صادقة، إنه يعمل على مستوى اللغة، غير أنه ليس منطقا بعد، فالإعلان يصل إلى الصدق الخاص بشيء ما ويجسده كعبارة، والغاية من العملية ليست تحريك المشاعر (الشعر ) أو الحث على اجتراح فعل سياسي (الخطابة)، بل الغاية هي جلب الفهم إلى العبارة.
ينتمي «الإعلان»، من حيث هو تعبير عن صدق شيء ما كعبارة قضوية (أي تعبر عن قضية)، إلى العمليات العليا والخالصة للعقل، العمليات النظرية لا العملية، العمليات المنصبة على الصدق والكذب (الحق والباطل) وليس الفائدة أو المنفعة، ولكن أليس هذا هو الاتجاه الأول للمعنى، أي التعبير أو القول، وليس الاتجاه الثاني أي التفسير؟! ربما، ولكن ينبغي على المرء أن يلحظ أن الإعلان عند أرسطو ليس رسالة من السماء بل عملية للفكر العقلي، وهو بهذه الصفة يشرع في التحول غير الملحوظ إلى تفسير! فالمرء لكي يجد قيمة الصدق في عبارة ما يكون في الوقت نفسه بصدد التجميع والتقسيم، وحين يفكر في القول كعبارة يكون العنصر العقلي مفصحا عن نفسه، ويكون الصدق بصدد التحول إلى شيء سكوني ومعلوماتي، إنها عبارة حول شيء ما وتطابق ماهيته، فالصدق «تطابق»
Correspondence
والقول «عبارة»
Statement ، لقد تحول صدق «الواقعة» دون أن نلحظ إلى الصدق السكوني للمبادئ والعبارات.
على أن أرسطو كان محقا حين وضع لحظة التأويل في موضع سابق على عمليات التحليل المنطقي، وهو أمر يلفت انتباهنا لخطأ في الفكر الحديث؛ إذ يسارع بلصق التأويل تلقائيا بلحظة التحليل المنطقي، صحيح أن العمليات المنطقية هي أيضا تأويل ولكن علينا أن نتذكر «التأويل» الأساسي والأسبق. من دأب العالم مثلا أن يسمي تحليله للبيانات المعطاة تأويلا، ولكن من الصواب أيضا أن يسمي رؤيته للمعطيات تأويلا، بل إنه في اللحظة التي تصبح فيها البيانات عبارة يكون التأويل في حقيقة الأمر قد تم! كذلك الحال بالنسبة للناقد الأدبي، فهو يسمي تحليله للعمل تأويلا، ولكن من الصواب أيضا أن يطلق اسم «تأويل» على طريقته في رؤية العمل نفسه.
ولكن «الفهم»، الذي يعمل كأساس للتأويل، يقوم هو نفسه بتشكيل هذا التأويل سلفا وتكييفه، إنه تأويل مبدئي ولكنه قد يكون الفاصل والحاسم في كل ما سيأتي لأنه يهيئ المسرح للتأويل اللاحق، بل إن المفسر الأدبي حين يلتفت إلى القصيدة ولسان حاله يقول: «هذه قصيدة ، ولسوف أفهمها بأن أفعل كذا وكذا» يكون، في حقيقة الأمر، قد أتم مهمته وبالتالي يكون قد شكل رؤيته للقصيدة، لقد أتم سلفا، بمنهجه الذي وقع عليه اختياره، تشكيل معنى «الموضوع»
Object ، والحق أن المنهج
Method
والموضوع
Object
لا يمكن أن ينفصلا: لقد خطط لنا المنهج مقدما ما سوف نراه! لقد أنبأنا ماذا يكون الموضوع بوصفه موضوعا؛ لهذا السبب يعد كل منهج تأويلا بحد ذاته، غير أن أحد التأويلات فحسب، والموضوع الذي يرى بمنهج آخر سيكون موضوعا آخر.
إذن التفسير ينبغي أن ننظر إليه داخل سياق تأويل أكثر بداءة، هو ذلك التأويل الذي يحدث حتى في الطريقة التي نلتفت بها إلى الموضوع، من المؤكد بالطبع أن التفسير سوف يتوقف على أدوات التحليل الموضوعي التي لجأنا إليها، غير أن اختيار الأدوات المعنية هو في ذاته تأويل لمهمة الفهم، من ذلك يتبين أن التحليل في الحقيقة ليس هو التأويل الأساسي بل هو صورة مشتقة، ذلك أن هناك تمهيدا للمسرح قد تم بتأويل أساسي وأولي قبل أن يبدأ التحليل في تناول البيانات، وبينما الطبيعة الاشتقاقية للمنطق (لأنه يعتمد على القضايا) واضحة كل الوضوح، فإن الطبيعة الاشتقاقية للتفسير هي أقل وضوحا وإن لم تكن أقل واقعية.
ثمة استعمال لافت ودال لكلمة «تأويل»
Hermeneuein
ورد في «العهد الجديد»، لوقا 24: 25-27؛ إذ يظهر المسيح بعد أن قام من الأموات:
فقال لهما: أيها الغبيان والبطيئا القلوب (كذا) في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟ ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر (يؤول
Diermeneusen ) لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب.
لاحظ أن المسيح يهيب بملكاتهما العقلية: «أما كان ينبغي؟» ثم يكشف معنى النصوص بأن يضعها في سياق آلام الفداء التي كابدها، ويضع هذه الآلام في سياق نبوءات العهد القديم، ولاحظ أيضا أننا الآن لسنا بصدد مسألة استخدام العهد الجديد للعهد القديم على أهميتها الكبيرة بحد ذاتها، فلندع المشكلة الثيولوجية جانبا ونسأل ماذا يتضمن هذا المثال بالنسبة لمسألة التأويل بوصفه تفسيرا، إن الفقرة المقتبسة مثال واضح للتفسير؛ لأن يسوع كان يقوم بأكثر من مجرد تكرار النصوص القديمة أو إعادة سردها، لقد كان «يفسرها»، ويفسر نفسه في ضوئها، يتضمن التأويل هنا جلب عامل خارجي، هو المسيح؛ لكي يعزز به «معنى» النصوص القديمة، فالنصوص لا تصبح ذات معنى إلا في وجود هذا العامل، ومن الجهة الأخرى فإن المسيح مهتم بالمثل أن يبين أنه في ضوء النصوص فقط يكون لآلامه معنى بوصفها تحققا تاريخيا للنبوءة القديمة عن المسيح المنتظر.
ماذا يعني ذلك من الوجهة التأويلية؟
يعني ذلك أن «المعنى» هو مسألة «سياق»
Context ، فالإجراء التفسيري يقدم ساحة لكي يجري عليها الفهم، ولا يتحلى الحدث بالمعنى إلا في سياق معين، وفضلا عن ذلك فإن المسيح حين يربط بين موته وبين الآمال المتعلقة بالمسيح المخلص إنما يربط هذا الحدث التاريخي بآمال المستمعين ومقاصدهم الشخصية، عندئذ تصبح دلالته دلالة مخلص شخصي وتاريخي، فالدلالة هي علاقة بالمستمع: مشروعاته الخاصة ونواياه، والدلالة ليست شيئا يملكه يسوع في ذاته خارج التاريخ وخارج علاقته بمستمعيه، وبإمكاننا القول بأن الموضوع لا تكون له دلالة خارج علاقة ما بشخص ما، وبأن العلاقة تحدد الدلالة، فإن تتحدث عن موضوع ما بمعزل عن ذات مدركة هو خطأ تصوري ناجم عن مفهوم واقعي قاصر حول إدراك العالم، وحتى لو سلمنا بهذا المفهوم فهل يعقل أن نتحدث عن معنى ودلالة بمعزل عن ذوات مدركة؟ وإذا كان اللاهوتيون مغرمين بالتوكيد على الجانب العلائقي للمسيح بوصفه «لنا» أو «من أجلنا»
فإن بوسع المرء أيضا أن يؤكد أن كل تفسير، من حيث المبدأ، هو «لنا»، ذلك أن كل تأويل تفسيري يفترض مقاصد معينة لدى أولئك الذين يتوجه إليهم التفسير، وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن كل تأويل تفسيري يظهرنا على أن التفسير هو شيء سياقي، أو شيء «أفقي» (أي متعلق بأفق معين
Horizonal ) فلا بد للتفسير من أن يكون قائما داخل أفق من المعاني والمقاصد المسلم بها أصلا، وفي مجال الهرمنيوطيقا يطلق على هذه المنطقة من الفهم المفترض اسم «الفهم المسبق»
، ولعل من المفيد أن يسأل المرء ما هو الفهم المسبق اللازم لكي نفهم النص المعطى، لقد زود يسوع مستمعيه بالعنصر الضروري لفهم النصوص النبوئية، وكان هذا جزءا من التفسير الضروري، ولكن فوق ذلك فقد كان عليه أن يفترض وجود فهم مسبق لديهما لما تكونه النبوءة ولما يمكن أن تعني لهما قبل أن يمكنه أن يفسر نفسه لمستمعيه، وقد يسأل سائل ما هو أفق التأويل الذي يقطن فيه النص الأدبي العظيم، ثم كيف يرتبط به الأفق الخاص بعالم الشخص نفسه من آمال ومقاصد وتأويلات مسبقة، هذا الالتحام بين الأفقين ينبغي أن يعد عنصرا أساسيا في كل تأويل تفسيري.
وحتى ذلك الشكل من التأويل الأدبي الذي يهدف إلى أكمل تأويل شفاهي ممكن لن يسعه أن يهمل الأبعاد التفسيرية للتأويل، بل إن رسم الأفق الذي ينجم فيه الفهم هو أساس التأويل الشفاهي المؤثر بحق (يجب ألا ننسى أن التأويل الشفهي هو الشيء الذي نفعله جميعا عندما نقرأ نصا ونحاول أن نزوده بخفايا معانيه وظلالها الدقيقة، ولا يلزم هنا أن تكون قراءتنا على الملأ، ولا حتى أن تكون جهرية!) إن المؤول لكي «يؤدي» النص فلا بد له من أن «يفهم» النص: لا بد أن يفهم الموضوع والموقف سلفا قبل أن يتسنى له أن يدخل في أفق معانيه، وليس قبل أن يخطو في الدائرة السحرية لأفق النص يمكن للمؤول أن يفهم معناه، هذه هي «الدائرة التأويلية»
Hermeneutical Circle
الملغزة التي بدونها لا يمكن لمعنى النص أن يبزغ.
ولكن الأمر هنا ينطوي على تناقض:
فكيف يمكن للنص أن يفهم إذا كان الشرط اللازم لفهمه هو أن نكون على فهم أصلا بما يتحدث عنه؟!
والجواب أن فهما جزئيا، بطريقة ما وبعملية دياليكتيكية، يستخدم لفهم المزيد، تماما مثل استخدام قطع من لغز الصور التركيبية لاكتشاف ما هو ناقص منها، ولعل المشكلة الأساسية للتأويل هي كيف يمكن لأفق الشخص أن يتلاءم مع أفق العمل: من جهة لا بد من توافر قدر معين من الفهم المسبق للموضوع وإلا فلن يحدث تواصل على الإطلاق، ومن جهة أخرى ينبغي لهذا الفهم المسبق أن يتغير أو يتعدل في عملية الفهم، ووظيفة التأويل التفسيري في المجال الأدبي يمكن أن ترى، في هذا السياق، على أنها محاولة للارتكاز على الفهم المسبق من أجل فهم النص.
حين ننظر في الاتجاهين الأولين للتأويل (القول والتفسير) نجد تعقد العملية التأويلية والطريقة التي تتأسس بها في الفهم قد بدآ في الظهور، أما التأويل القولي فيذكرنا بالطبيعة الأدائية للقراءة، ولكن حتى الأداء الخاص بقراءة نص أدبي يتطلب أن يكون المؤدي «فاهما» للنص أصلا، وهذا يتضمن التفسير، ولكن هنا أيضا يتأسس التفسير على فهم مسبق، بحيث يتعين على المؤدي قبل أن يظفر بأي تفسير ذي معنى أن يدخل الأفق الخاص بالموضوع والموقف، يتعين عليه في فهمه الخاص أن يمسك بالنص وأن يمسك به النص، إن موقفه في هذا اللقاء، والفهم المسبق للمادة الذي يجب أن يجلبه معه إلى الموقف، أي المشكلة الكلية لدمج أفق فهمه بأفق الفهم الخاص بالنص؛ هذا هو التعقد الدينامي للتأويل، وهذه هي «المشكلة الهرمنيوطيقية»
The Hermeneutical problem .
والنظر في عناصر المشكلة التأويلية الآنفة الذكر لا يعني الارتداد إلى «النزعة السيكولوجية»
كما يمكن للبعض أن يظن؛ لأن المنظور الذي يمكن فيه لتهمة النزعة السيكولوجية (وللموقف المضاد للنزعة السيكولوجية وهو مفترض مسبقا في الاتهام) أن يكون لها أي معنى هو منظور يفترض منذ البداية انفصال الموضوع وعزلته ثم ينظر بازدراء إلى الاستجابة «الذاتية» كما هو الحال في المجال الغائم للمشاعر، غير أن العرض الذي قدمناه هنا لم يتناول المشاعر، بل تناول بنية الفهم وآلياته، والشروط التي في ظلها يمكن للمعنى أن يبزغ في التفاعل المتبادل بين القارئ والنص، وكيف أن كل تحليل يفترض مسبقا تعريفا للموقف مشكلا سلفا، في إطار مثل هذه الاعتبارات تتجلى لنا حقيقة الملاحظة المأثورة عن جورج جورفيتش: أن الموضوع والمنهج لا يمكن فصلهما على الإطلاق، وهي بطبيعة الحال حقيقة لم تألفها الطريقة الواقعية في النظر والتفكير.
5 (3) التأويل بوصفه ترجمة
لا يقل هذا البعد الثالث من معاني لفظة
Hermeneueim
عن سابقيه إيحاء ودلالة بالنسبة للهرمنيوطيقا ونظرية التأويل ، «أن تؤول»، في هذا البعد، يعني «أن تترجم».
حين يكون النص من لغة القارئ نفسها، فقد يدق الفارق بين عالم النص وعالم القارئ ويخفى على الملاحظة، أما حين يكون النص بلغة أجنبية فلن يخفى التعارض بينهما في المنظور وفي أفق الرؤية، غير أن مشكلات المترجمين من لغة إلى أخرى، كما سوف نرى، لا تختلف بنيتها عن مشكلات الناقد الأدبي الذي يعمل داخل حدود لغته الخاصة، وهي أقدر على أن تظهرنا على جلية الموقف القائم في أية عملية تأويل لأي نص من النصوص.
لا تعدو الترجمة أن تكون شكلا من أشكال التأويل، وصورة من صور الإفهام، فالعملية التأويلية الأساسية قائمة بتمامها في عملية الترجمة، فالمرء، في عملية التأويل، يأتي بشيء أجنبي أو غريب غير مفهوم ويسلكه في وسيط لغته الخاصة، والمترجم شأنه شأن الإله هرمس، يتوسط بين عالم وآخر، ليس فعل الترجمة مسألة آلية بسيطة من إيجاد مرادف، كما تفعل أجهزة الترجمة فلا تأتي نواتجها المضحكة إلا دليلا بينا على أن الترجمة ليست مرادفة آلية وما كان لها أن تكون؛ ذلك أن المترجم هو وسيط بين عالمين مختلفين لا عالمين متناظرين أو مترادفين، تظهرنا الترجمة على حقيقة كبرى هي أن اللغة ذاتها تنطوي على تأويل شامل للعالم، وعلى المترجم أن يكون حساسا لهذا التأويل الشامل حتى وهو يترجم التعبير الفرد، وليس كالترجمة شيء يخبرنا كيف تقوم الكلمات فعلا بتشكيل نظرتنا للعالم، بل في تشكيل إدراكنا ذاته، إنما اللغة مستودع للخبرة الثقافية، ونحن نوجد في هذا الوسيط وخلاله ... نحن نعيش في اللغة ونرى بعينيها!
ولنأخذ ترجمة الكتاب المقدس كمثال لمشكلات الترجمة بعامة، لقد انحدر إلينا الكتاب المقدس من عالم بعيد من حيث الزمان والمكان واللغة، عالم غريب ينبغي علينا أن نستجوبه (ويستجوبنا!) ينبغي على أفق فهمنا، بطريقة ما، أن يلتقي، ويلتحم، بأفق الفهم القائم في النص، فالتوسط هنا ليس مجرد توسط من خلال اللغة، بل من خلال التاريخ أيضا؛ إذ تفصلنا عن «العهد الجديد» فجوة زمنية من ألفي عام، وعلى «العهد الجديد » الآن أن يخاطبنا بكلمات من عالمنا، من وسيطنا الذي نرى به الأشياء، فكيف لنا أن نأمل في فهم أحداث جرت في سياق مختلف جذريا عن مجتمعنا المدني الحديث وما يعج به من صراعات دولية ووسائط اتصال وفضائيات وإنترنت وأسلحة ذرية وجرثومية ... إلخ؟ هل ينبغي علينا أن نحافظ على الأداء الحرفي للعهد الجديد، أو أن نعرض ما يمكن أن يناظره أو يكافئه في الأزمنة الحديثة؟ فإذا قال القديس بولس مثلا في إحدى رسائله «حيوا بعضكم بعضا بقبلة مقدسة» حيث كانت القبلة تحية مألوفة في ذلك الزمن، فهل ينبغي أن نترجمها في النسخة المعاصرة «حيوا بعضكم بعضا بمصافحة ودية بجمع اليدين»؟
غير أن هذا المثال يقدم مشكلة صغيرة بالقياس بالسؤال الأعمق عن الطريقة التي تختلف بها النظرة الكلية للعالم في زمن «العهد الجديد» عن النظرة العلمية الحديثة، هذه بالتحديد هي المسألة التي حاول اللاهوتي الألماني رودلف بلتمان
R. Bultman
أن يواجهها في مشروعه عن «نزع الطابع الأسطوري» في الكتاب المقدس،
Demythologizing
يشير بلتمان إلى أن رسالة الإنجيل تقوم في سياق التصور الكوزمولوجي للسماء من فوق والأرض في الوسط والعالم السفلي من تحت - أي عالم المستويات الثلاثة - ويذهب بلتمان، في حله لهذه المسألة، إلى أن رسالة «العهد الجديد» لا تعتمد على كوزمولوجيا العهد الجديد التي لا تشكل إلا السياق لرسالة عن الطاعة الشخصية والتحول إلى «إنسان جديد»، و«نزع الأسطورية» هو محاولة لفصل الرسالة الجوهرية عن الميثولوجيا الكوزمولوجية التي لا يمكن للإنسان الحديث أن يقبلها.
ولكن مهما تكن مزايا «نزع الأسطورية» كحل للمأزق التأويلي فإن المشروع نفسه يشير إلى مشكلة كبرى: كيف يتسنى لنا أن «نفهم» العهد الجديد؟ ما الذي نحاول أن نفهمه؟ إلى أي مدى ينبغي علينا أن ندخل في العالم التاريخي لفكر العهد الجديد وخبرته قبل أن يتسنى لنا أن نؤوله؟ هل بمكنتنا على الإطلاق أن نجد نظائر ومكافئات من أجل فهم العهد الجديد؟ أيكون من الجائز أن يتغير عالمنا خلال قرن من الزمن تغيرا هائلا بحيث لا يعود ممكنا لأحد أن يفهم العهد الجديد؟ إننا لنجد اليوم أن النشء الصغير في المجتمعات الحضرية يجد صعوبة أكثر مما نجد في فهم هوميروس؛ لأن المكونات البسيطة للحياة في زمن هومر (القوارب، الأحصنة، المحراث، الحراب، الفئوس، زقاق النبيذ ...) هي في أغلبها مفردات لم تعد ترى إلا في الكتب أو المتاحف، ليس معنى ذلك أن هومر سوف يبلى ويندثر وشيكا، بل إن الجهد اللازم لفهمه سيكون أكبر وأصعب كلما مضينا في ميكنة أسلوبنا في الحياة.
6
ومشكلة «نزع الطابع الأسطوري» ليست وقفا على اللاهوت، فهي قائمة، بشكل قد يقل إلحاحا ولكن لا يقل دلالة، في محاولة فهم أي عمل قديم عظيم: كيف نفهم مثلا أي مسرحية لسوفوكل ونحس لها أي معنى يخصنا إذا كانت آلهة الإغريق قد ماتت ولم تحل محلها وتقم بعملها علاقات بشرية بديلة، فنحن في زمن ماتت فيه الآلهة القديمة ولم يولد فيه الإله الجديد (العلاقات البشرية) بعد! أتكون المسرحية اليونانية نصبا لإله ميت أو مجموعة آلهة؟ أم تراها، على حد قول أحد النقاد عن «الفردوس المفقود» لملتون «نصبا لأفكار ميتة»؟ ما هي الطريقة التي ينبغي أن تترجم بها المسرحية الإغريقية إلى اللغة الحديثة؟ أو ما هي الطريقة التي ينبغي أن تفهم بها الألفاظ القديمة؟ كيف يمكن أن نحول دون أن تبدو الأعمال القديمة مجرد كوميديات للأخطاء؟ لعل الكثيرين من أساتذة الآداب القديمة كانوا في حقيقة الأمر «ينزعون الطابع الأسطوري» فيما كانوا يبررون أهمية العمل الأدبي لنا بالنظر إلى دلالته الإنسانية الدائمة التي لا تزول.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه «الدلالة الإنسانية» يجب تأويلها للأذن الحديثة (المرحلة التفسيرية للتأويل)، وفي سبيل ذلك علينا أن نكون أكثر وضوحا حول ما نعنيه بأن شيئا ما هو ذو «دلالة»، إن التناول النقدي الأدبي الذي يجعل همه حصر الصور البلاغية بأصنافها المختلفة، أو التركيز على «الشكل» في العمل الأدبي، أو تحليل الموضوع الرئيسي داخل عمل ما أو بين عدة أعمال، إنما هو تناول يغفل مسألة «الدلالة»، فالتناول الذي يرى العمل كموضوع بمعزل عن الذوات المدركة هو تناول يتجنب آليا السؤال عما يشكل الدلالة الإنسانية للعمل، وكل نقد يغفل السؤال عن الدلالة الإنسانية للعمل ويصرف كل طاقته في تمرينات معقدة حول تحليل الصور البيانية أو الشكل أو الموضوع الرئيسي، لن يعدو أن يكون نشاطا كسولا لحلقة مغلقة من أساتذة الأدب أو تزجية فراغ لثلة مغتربة من الأدباء المتعطلين، إن تحليلهم وتشريحهم الدقيق ليفقد جدواه إذا «مات الأدب»؛ مات لأن مفسريه مأخوذون بمعرفة بنيته الخاصة ونشاطه المكتفي بذاته عن كل دلالة إنسانية نابضة حية، فالأدب أيضا يمكن أن «يموت صبرا» إذا طال حرمانه من الصلة الحقيقية الواضحة بالقارئ، هكذا يتبين أن أمام التأويل اللاهوتي والأدبي أحد خيارين: إما أن يكون متصلا بنا ودالا بالنسبة لنا اليوم وإما أن يذوي ويموت.
على أساتذة الأدب ومعلميه أن يكونوا خبراء في «الترجمة» أكثر مما هم خبراء في «التحليل»، ذلك أن مهمتهم هي أن يحولوا ما هو غريب وملغز وغير مألوف إلى شيء مفهوم، شيء «منا»، شيء «يتحدث لغتنا»، ليس معنى ذلك أن يحقنوا الأعمال القديمة بمقويات حديثة أو أن يلبسوا «تشوسر» رداء من الإنجليزية المعاصرة، إنما يعني أن يدركوا مشكلة تضارب الآفاق المختلفة وصراعها، وأن يتخذوا خطوات ملموسة لمواجهتها، لا أن يضربوا عنها صفحا وينصرفوا إلى ألعابهم التحليلية، ثمة «رؤية للعالم»
World View
قابعة في صميم القصيدة ومفترضة مسبقا في أسطرها وداخلة من ثم في فهمها وتقديرها، ولا بد للناقد من أن يستل هذه النظرة ويأخذها مأخذ الجد وألا ينصرف عنها باعتبارها من أغاليط النقد التاريخي البائد.
7
من الشروط الأساسية مثلا لفهم «الأوديسة» أن ندرك منذ البداية أن الأشياء الطبيعية، في «رؤية العالم» القابعة في الأوديسا، هي أشياء حية قاصدة مريدة، وأن العالم هو مدى من الأرض والماء بقدر ما يمكن للمرء أن يرى، وأن كل عملية طبيعية هي من فعل كائن خارق للطبيعة، وأن الآلهة هي مجموعة من سراة الكائنات فوق البشرية التي لها كل ما للبشر من مواطن ضعف وإن تكن تعمل وفقا لصيغة عليا من الدستور الخلقي الخاص بالبطل اليوناني. ليس قبل أن نلج إلى هذا العالم الغريب عن عالمنا، يمكننا أن نلتفت إلى ذلك الرجل الحول القلب، ملاعب الموت وغازل الحكايا التي كاد يخدع بها راعيته «أثينا»، ذلك الباحث النهم عن المعرفة المغامرة؛ أوديسيوس، لا بد أن يعلم كل محلل للنصوص أن هناك «حسا بالواقع» يتبطن كل نص وأن «حس الواقع» هذا هو مفتاح فهم النص، ومن ثم فإن حس الواقع وطريقة «الوجود-في-العالم» الممثلة في العمل ينبغي أن تكون في بؤرة اهتمام أي تأويل أدبي يريد أن يكون مجديا، وأن تكون الأساس لكل قراءة للعمل تريد أن تفهم دلالته الإنسانية، وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن ميتافيزيقا العمل (تعريفه للواقع) وأنطولوجيا العمل (طبيعة الوجود-في-العالم) هما أمران أساسيان لأي تأويل يريد أن يجعل الفهم الحقيقي للعمل أمرا ممكنا.
8
الترجمة - إذن - تجعلنا على وعي بالتعارض القائم بين عالم فهمنا الخاص وبين عالم الفهم الذي يمضي فيه العمل، وإذا كان الحاجز اللغوي يبرز هذا التعارض ويجعل وجود هذين العالمين أكثر وضوحا، فإن وجودهما قائم في أي تأويل لعمل مكتوب بلغتنا نفسها، بل قائم، في حقيقة الأمر، في أي «حوار» أصيل وبخاصة إذا كان طرفا الحوار يفصلهما فاصل جغرافي، بل إننا في الأدب الإنجليزي لنجد فجوة المائة عام كافية لأن تخلق تحولا ما في اللغة بحيث يعيش كل من وردزورث وبوب وملتون وشكسبير وتشوسر في عالم تاريخي ولغوي مختلف.
إن فهم شاعر مثل «وردزورث» - على سبيل المثال - يتطلب جهدا من التخيل التاريخي ومن «الترجمة» لكي نطلع على عالم إنجلترا في زمنه، وهي على مشارف التصنيع (وإن تكن ريفية بعد في صميمها وجوهرها)، كذلك رؤية إيطاليا في زمن دانتي والولوج إلى عالمها في فهم «الكوميديا الإلهية»، فالأمر هنا ليس مجرد ترجمة لغوية (وإن كانت اللغة تنبئنا بالكثير)، إنه مسألة ترجمة تاريخية، وحتى مع أرقى ترجمة إنجليزية يمكن تصورها تبقى هناك مشكلة الفهم التي يتضمنها الالتقاء بأفق آخر مختلف من فهم الوجود الإنساني، وإذا كان «نزع الأسطورية» هو اعتراف أو إدراك لهذه المشكلة في مجال تأويل الإنجيل، فإنه، من حيث المبدأ، قائم في أي قراءة للوثائق التاريخية أو النصوص الأدبية، حتى لو لم يعمد هذا النوع إلى تجريد النص الأصلي من وقعه الدرامي المباشر، وصفوة القول أن استقصاء «نظرة العالم» المضمرة في اللغة نفسها ثم في استخدام اللغة في عمل أدبي هو تحد أساسي يواجه التأويل الأدبي.
والحق أن «الهرمنيوطيقا الحديثة» ستجد في الترجمة وفي نظرية الترجمة ذخرا كبيرا يفيدها في استكشاف «المشكلة التأويلية»، بل إن الهرمنيوطيقا في مراحلها التاريخية الأولى كانت دائما تشمل الترجمة اللغوية، سواء بوصفها تأويلا للفلسفة الكلاسيكية أو تأويلا للكتاب المقدس. إن ظاهرة الترجمة هي لب لباب الهرمنيوطيقا: في الترجمة يواجه المرء الموقف التأويلي الأساسي الخاص بتجميع معنى النص والتعامل بالوسائل النحوية والتاريخية وغيرها من أدوات فك رموز النص القديم، غير أن هذه الأدوات، كما قلنا آنفا، هي مجرد تجسيد أو تصريح بما هو متضمن في كل مواجهة لنص لغوي حتى في لغتنا ذاتها، فهناك دائما عالمان: عالم النص وعالم القارئ، وبالتالي فهناك حاجة دائما لهرمس لكي «يترجم» من أحد العالمين إلى الآخر.
وبعد، فلم يكن عبثا عرضنا المستفيض للأبعاد الثلاثة لمعنى الهرمنيوطيقا في الاستعمال القديم، فما تزال الدلالة الثرية للجذور اليونانية للفظة ترفد التعريفات الحديثة للهرمنيوطيقا، فتركز هذه التعريفات تارة على هذا الاتجاه وطورا على ذاك، وحسنا تفعل الهرمنيوطيقا حين تستلهم المعاني القديمة، وتعود مرارا وتكرارا إلى دلالة الاتجاهات الثلاثة لمعنى التأويل: التلاوة، والتفسير، والترجمة.
الفصل الثالث
تعريفات حديثة للهرمنيوطيقا
ثمة تعريفات عدة مختلفة للهرمنيوطيقا كما تطورت في الأزمنة الحديثة، منذ البداية كانت الكلمة تشير إلى علم التأويل وبخاصة مبادئ التفسير النصي القويم، غير أن حقل الهرمنيوطيقا قد تم تأويله (بترتيب زمني تقريبا) إلى:
نظرية تفسير الكتاب المقدس.
ميثودولوجيا فقه اللغة العام.
علم كل فهم لغوي.
الأساس المنهجي للعلوم الإنسانية (الروحية)
Geisteswis-Senschaften .
فينومينولوجيا الوجود والفهم الوجودي.
أنساق التأويل (سواء الاستجماعي أو التحطيمي) التي يستخدمها الإنسان للوصول إلى المعنى القابع وراء الأساطير والرموز.
يعد كل من هذه التعريفات أكثر من مجرد مرحلة تاريخية، فكل تعريف - هنا - يشير إلى «لحظة» هامة من لحظات التأويل أو مدخل إلى مشكلات التأويل، وبوسعنا أن نطلق عليها، بغير قليل من التجوز والحذر الواجب: «التأويل الإنجيلي»، والفقهي اللغوي، والعلمي، والإنساني، والوجودي، والثقافي، على الترتيب، يمثل كل تعريف وجهة يمكن منها النظر إلى الهرمنيوطيقا، ويسلط الضوء على جانب أو أكثر من فعل التأويل، وبخاصة تأويل النصوص، والحق أن محتوى التأويل نفسه يعتريه التغير بتغير هذه الوجهة من النظر، وفيما يلي نعرض للخطوط العامة لهذه اللحظات الست، وهو عرض يبرهن على تغير التأويل بتغير الوجهة، ويمثل مقدمة تاريخية موجزة لتعريف الهرمنيوطيقا. (1) الهرمنيوطيقا بوصفها نظرية تفسير الكتاب المقدس
يعد هذا التعريف للهرمنيوطيقا هو أقدم التعريفات، ولعله ما يزال أوسعها انتشارا، وثمة ما يبرر ذلك من الوجهة التاريخية؛ لأن اللفظة إنما دخلت في الاستعمال الحديث عندما ألحت الحاجة إلى مبحث جديد يقدم القواعد اللازمة للتفسير الصحيح للكتاب المقدس، تتميز «الهرمنيوطيقا»
Hermeneutics
عن «التفسير»
Exegesis
بأنها منهج هذا التفسير وأصوله وأحكامه، فإذا كان «التفسير» وقفا على الشرح أو التعليق الفعلي، فإن «الهرمنيوطيقا» هي قواعد هذا التفسير أو مناهجه أو النظرية التي تحكمه، وإذا كان هذا التعريف قد نشأ في حقل اللاهوت ونما بمقتضياته، فقد اتسع فيما بعد ليشمل الأدب ويشمل النصوص بمختلف أنواعها.
مع ظهور حركة الإصلاح البروتستانتي ظهرت الحاجة إلى تفسير الكتاب المقدس دون عون من سلطة الكنيسة، كان على الكهنة البروتستنت، وقد قطعوا صلتهم بسلطة الكنيسة الكاثوليكية، أن يتكئوا على أنفسهم في تفسير الكتاب المقدس تفسيرا لا يستند إلى سلطة الكنيسة، وبالنظر إلى تعدد التفسيرات الممكنة لأي نص إنجيلي فقد ألحت الحاجة إلى تأسيس مبادئ أو معايير للتفسير الصحيح، وبينما جرت مياه كثيرة منذ ذلك الحين واعترت المشروع الهرمنيوطيقي تبدلات واسعة من حيث المجال ومن حيث المحتوى، فقد بقي مفهوم الهرمنيوطيقا محتفظا بإشارته الأولى بوصفه فن التأويل وعلمه، و«حيثما نشأت قواعد وتفتقت أحكام واستوت أنظمة لشرح النصوص أو فهمها أو فك رموزها - فثم علم التأويل، أو «الهرمنيوطيقا»، وفيما بين عام 1720م وعام 1820م لم يكن يمضي عام دون أن يظهر دليل تأويلي جديد ليعين الكهنة البروتستنت في مهمتهم الملحة الجديدة». (2) الهرمنيوطيقا بوصفها المنهاج الفقهي اللغوي (الفيلولوجي)
كان لنشأة «المذهب العقلي»
Rationalism ، متزامنا معه ظهور فقه اللغة الكلاسيكي في القرن الثامن عشر، أثر عميق على تأويل الكتاب المقدس، حيث نشأ المنهج التاريخي النقدي في اللاهوت، وأكدت المدرسة اللغوية والمدرسة التاريخية في التفسير أن المناهج التأويلية السارية على الكتاب المقدس هي بعينها المناهج السارية على سواه من الكتب، وأن المعنى اللفظي في الكتاب المقدس يجب أن يتحدد بنفس الطريقة التي يتحدد بها في بقية الكتب، ومع ظهور المذهب العقلي أحس المفسرون أن من واجبهم بذل ما في وسعهم للتغلب على الأحكام المسبقة، يقول سبينوزا في «رسالة في اللاهوت والسياسة»: «ليس لتفسير الكتاب المقدس معيار آخر غير ضياء العقل الذي يعم كل شيء.» ويقول لسنج: «إن الحقائق العرضية للتاريخ لا يمكن أن تصبح براهين على الحقائق الضرورية للعقل.» هكذا يكون التحدي الذي يواجه التأويل هو أن يجعل الكتاب المقدس ذا صلة بالإنسان العقلاني المستنير.
أدى هذا التحدي، كما لاحظ البعض، إلى «عقلنة المقولات الإنجيلية»، وحيث إن حقائق التاريخ العرضية كانت تعد أدنى من «حقائق العقل»، فقد ذهب مفسرو الكتاب المقدس إلى أن حقائق الكتاب هي فوق الزمن وفوق التاريخ، وأن الإنجيل لا ينبئ الإنسان بأي حقيقة لن يسعه في نهاية المطاف أن يدركها من خلال استعمال العقل، كل ما في الأمر أنها حقيقة أخلاقية عقلية كشف عنها قبل أوانها، مهمة التفسير إذن هي أن يمضي عميقا في النص، مستخدما أدوات العقل الطبيعي، ويقف على تلك الحقائق الأخلاقية الكبرى التي كان كتاب العهد الجديد يقصدونها غير أنها متوارية داخل ألفاظ تاريخية مختلفة، ذهب هؤلاء المفسرون إلى ضرورة تأسيس فهم تاريخي يمكنه أن يدرك روح العمل ويترجمها إلى ألفاظ يقبلها العقل الحديث المستنير، ولنا أن نسمي ذلك شكلا تنويريا من «نزع الأسطورية»
Demythologizing
وإن كانت هذه اللفظة في القرن العشرين تعني تأويل العناصر الأسطورية في العهد الجديد لا مجرد إزاحتها والتخلص منها.
وعلى الرغم من اعتقاد «التنوير» في «الحقائق الأخلاقية» الذي أدى إلى ما يبدو الآن تحريفا لرسالة الإنجيل، فإن تأثير ذلك على الهرمنيوطيقا وعلى البحث الإنجيلي بصفة عامة كان صحيا، فقد طور التأويل الإنجيلي تقنيات للتحليل اللغوي بلغت مستوى رفيعا للغاية، وألزم المفسرون أنفسهم أكثر من أي وقت مضى بمعرفة السياق التاريخي لروايات الإنجيل، أصبح على المفسر أن يكون قادرا على الحديث عن موضوعات الكتاب المقدس الآن وفقا لمقتضيات التغير الزمني وبالطريقة التي تلائم أشخاصا غيرهم مختلفين في الأحوال وظروف المعيشة، لقد أصبحت المهمة الحقيقية للتأويل مهمة تاريخية.
مع هذه التطورات والمستجدات أصبحت مناهج تأويل الكتاب المقدس مرادفة جوهريا لنظرية دنيوية في التأويل - أي فقه اللغة الكلاسيكي - ومنذ عصر التنوير حتى العصر الحاضر أصبحت مناهج البحث في الكتاب المقدس متصلة بفقه اللغة ومرتبطة به بعرى لا تنفصم، وهكذا حل مصطلح «هرمنيوطيقا الكتاب المقدس» محل «الهرمنيوطيقا» في الإشارة إلى نظرية تفسير النص المقدس، أما «الهرمنيوطيقا» حين تقال مطلقة غير مقيدة فكانت مرادفة تقريبا للمنهج الفقهي اللغوي، وصفوة القول أن تصور الهرمنيوطيقا بوصفها إنجيلية تحديدا قد تحول تدريجيا إلى الهرمنيوطيقا بوصفها القواعد العامة للتفسير الفيلولوجي (الفقهي اللغوي) شاملة الكتاب المقدس كموضوع واحد بين موضوعات أخرى يمكن أن تظلها هذه القواعد. (3) الهرمنيوطيقا بوصفها علم الفهم اللغوي
يعزى إلى أشلايرماخر
Schleirmacher (1768-1834م) أنه أعاد تصور الهرمنيوطيقا على أنها «علم» الفهم أو «فن» الفهم، يتضمن مثل هذا المفهوم نقدا جذريا لوجهة النظر الفيلولوجية (الفقهية اللغوية)؛ لأنه يسعى إلى تجاوز مفهوم الهرمنيوطيقا على أنها مجموع قواعد وجعلها مترابطة نسقيا، أي جعلها علما يصف الشروط اللازمة للفهم في أي حوار كان، كانت ثمرة هذا السعي لا مجرد هرمنيوطيقا فيلولوجية بل «هرمنيوطيقا عامة» يمكن لمبادئها أن تقدم أساسا لتأويل النصوص بجميع أنواعها.
يعد مفهوم «الهرمنيوطيقا العامة» معلما على الطريق وأذانا ببداية الهرمنيوطيقا غير المتخصصة، ولأول مرة يتم تعريف الهرمنيوطيقا على أنها دراسة الفهم ذاته، ولعل من الجائز أن نقول إن الهرمنيوطيقا الخالصة هنا تنحدر من أبويها التاريخيين: إنها سليلة التفسير الإنجيلي وفقه اللغة الكلاسيكي. (4) الهرمنيوطيقا بوصفها الأساس المنهجي للعلوم الإنسانية
كان فيلهلم دلتاي
W. Dilthey (1833-1911م) كاتب سيرة شلايرماخر، واحدا من عظام الفكر الفلسفي في أواخر القرن التاسع عشر، رأى دلتاي في الهرمنيوطيقا ذلك المبحث المركزي الذي يمكن أن يقدم الأساس الذي تقوم عليه جميع العلوم الروحية (الإنسانية)
Geisteswissenschaften
أي جميع المباحث التي تنصب على فهم أفعال الإنسان وكتاباته وفنه.
لكي نؤول أي تعبير عظيم للحياة الإنسانية يلزمنا، في رأي دلتاي، فعل من الفهم التاريخي، وهي عملية تختلف جوهريا عن الفهم العلمي التكميمي للعالم الطبيعي، ذلك أن ما نقوم به في هذه العملية من الفهم التاريخي هو معرفة شخصية بما يعنيه كائن إنساني آخر، يكمن الفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الثقافية، في رأي دلتاي، في موضوع الدراسة من جهة وفي طريقة الدراسة أو منهجها من جهة أخرى، موضوع العلوم الطبيعية هو أشياء العالم بينما موضوع العلوم الثقافية هو الشخص الآخر أو الأشخاص الآخرون، أما الفارق في المنهج فقد أوجزه دلتاي في مقولتي: «التفسير»
Explanation . «الفهم»
Understanding .
تضطلع العلوم بتفسير الطبيعة بينما تنصرف الدراسات الإنسانية إلى فهم تعبيرات الحياة، العلوم الطبيعية تفسر موضوعها من خلال الروابط «السببية»
Causal : إنها «تعرف» موضوعها «من الخارج»، ويبقى موضوعها غريبا عن العالم الإنسان، أما «الفهم» فهو في المقابل «يعرف» موضوعه (كائن إنساني أو إنتاج إنساني) «من الداخل»: إن بمقدوري أن أعرف الحياة الباطنة لشخص آخر لأنني أيضا شخص، ليست هذه معرفة بالروابط السببية بل معرفة بشبكة من المعاني مماثلة لشبكة المعاني التي أفهم بها نفسي.
ذهب دلتاي إلى أن العلوم الإنسانية يلزمها «نقد» آخر للعقل يقدم للفهم التاريخي ما قدمه كانت في «نقد العقل الخالص» للعلوم الطبيعية؛ ذلك هو «نقد العقل التاريخي».
ففي مرحلة مبكرة من تطوره الفكري حاول دلتاي أن يؤسس نقده على صيغة محورة من علم النفس، ولما كان علم النفس مبحثا غير تاريخي فقد كانت محاولاته معوقة منذ البداية، انصرف دلتاي عن هذه المحاولة المبكرة، ووجد في الهرمنيوطيقا - بوصفها مبحثا معنيا بالتأويل، وبالتحديد تأويل موضوع تاريخي دائما وهو النص - وجد فيها الأساس الأكثر إنسانية وتاريخية لمحاولته الرامية إلى صياغة منهج إنساني حق للعلوم الروحية (الإنسانية/الثقافية)
Geisteswissenschaften . (5) الهرمنيوطيقا بوصفها فينومينولوجيا «الدازاين» وفينومينولوجيا الفهم الوجودي
في التحامه بالمشكلة الأنطولوجية التفت مارتن هيدجر
Martin Heidegger (1889-1976م) إلى المنهج الفينومينولوجي لأستاذه إدموند هسرل
E. Husserl ، وقدم دراسة فينومينولوجية للوجود اليومي للإنسان في العالم، ضمنها كتابه «الوجود والزمان»
Being and Time (1927م) الذي يعد اليوم تحفته الكبرى والمفتاح الحقيقي لفهم فكره الفلسفي، وقد أطلق هيدجر على التحليل الذي قدمه في «الوجود والزمان» اسم «هرمنيوطيقا الدازاين».
لا تشير الهرمنيوطيقا في هذا السياق إلى علم (أو قواعد) تأويل النصوص، ولا إلى منهج للعلوم الروحية (الإنسانية)، وإنما تشير إلى تبيان فينومينولوجي للوجود الإنساني ذاته. يشير تحليل «هيدجر» إلى أن «الفهم» و«التأويل» هما طريقتان، أو أسلوبان، لوجود الإنسان، ليس الفهم شيئا يفعله الإنسان بل هو شيء يكونه! ومن ثم يتكشف تأويل الدازاين عند هيدجر، وبخاصة بقدر ما يمثل أنطولوجيا الفهم، يتكشف أيضا عن أنه هرمنيوطيقا، لقد كان بحثه هرمنيوطيقيا في المحتوى وفي المنهج أيضا.
هكذا يعمق هيدجر مفهوم الهرمنيوطيقا والهرمنيوطيقي في «الوجود والزمان» فيمثل ذلك منعطفا هاما في تطور، وفي تعريف، كل من لفظة «هرمنيوطيقا» ومجالها، وبضربة واحدة أصبحت الهرمنيوطيقا موصولة بالأبعاد الأنطولوجية للفهم، ومتوحدة في الوقت نفسه بالصنف الخاص من الفينومينولوجيا الذي أتى به هيدجر.
ثم تكفل البروفسور «هانز جيورج جادامير»
Hans-Georg Gadamer (1900م-؟)، تلميذ «هيدجر» النابه، بتطوير متضمنا الهرمنيوطيقا الهيدجرية (سواء في «الوجود والزمان» أو في الأعمال اللاحقة) إلى عمل نسقي منظم في «الهرمنيوطيقا الفلسفية» ضمنها كتابه «الحقيقة والمنهج»
Truth and Method (1960م) الذي يعد أيضا تحفته الكبرى ويعد، شأنه شأن «الوجود والزمان» لهيدجر، من أهم الأعمال التي أنتجت في القرن العشرين.
يتعقب جادامر في كتابه «تطور الهرمنيوطيقا» بالتفصيل من شلاياماخر إلى دلتاي وهيدجر، مقدما بذلك أول وصف تاريخي تفصيلي للهرمنيوطيقا يشمل، ويعكس أيضا، الإسهام الثوري لهيدجر في هذا المجال، على أن «الحقيقة والمنهج» هو أكثر من مجرد تاريخ للهرمنيوطيقا، إنه محاولة لربط الهرمنيوطيقا بعلم الجمال وبفلسفة الفهم التاريخي، وهو يمثل اكتمالا لنقد هيدجر للهرمنيوطيقا في أسلوبها الأقدم عند دلتاي ، ويعكس شيئا من التفكير التأويلي عند هيجل بالإضافة إلى هيدجر، ويتمثل ذلك في مفهوم «الوعي التاريخي الحق»
Effective Historical consciousness
الذي يتفاعل جدليا مع التراث المنقول خلال النص ويدخل في حوار خلاق معه.
ويتقدم جادامر بالهرمنيوطيقا خطوة أخرى إلى الأمام، إلى المرحلة «اللغوية»، فيدفع بأطروحته التي تفيد أن «الوجود الذي يمكنه فهمه هو اللغة»! فالهرمونيوطيقا هي التقاء بالوجود من خلال اللغة، وينتهي المطاف بجادامر إلى أن يؤكد الصبغة اللغوية للواقع الإنساني نفسه، وتنغمر الهرمنيوطيقا في الأسئلة الفلسفية المحضة عن علاقة اللغة والفهم والتاريخ والواقع، هكذا تقف الهرمنيوطيقا في مركز المشكلات الفلسفية اليوم، فهي لا يمكن أن تتحاشى الأسئلة الإبستمولوجية أو الأنطولوجية، ما دام الفهم نفسه يعرف على أنه مسألة إبستمولوجية، وأنطولوجية الهرمنيوطيقا بوصفها نسقا للتأويل (استعادة المعنى كمقابل لتحطيم الأوثان).
في كتابه
De L’interpretation
1965م يتبنى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور
تعريفا للهرمنيوطيقا يعود إلى التركيز على تفسير النصوص
Exegesis
بوصفه العنصر المحوري المميز للهرمنيوطيقا، يقول ريكور إننا نعني بالهرمنيوطيقا نظرية القواعد التي تحكم التأويل، أي تأويل نص معين أو مجموعة من العلامات التي يجوز اعتبارها نصا، التحليل النفسي على سبيل المثال، وبخاصة تفسير الأحلام، هو شكل من الهرمنيوطيقا من غير شك، ذلك أن كل عناصر الموقف الهرمنيوطيقي تتوافر فيه: فالحلم هو نص ... نص مليء بالصور الرمزية، والمحلل النفسي يستخدم نسقا تأويليا لكي يقيض للحلم تفسيرا يخرج المعنى الكامن إلى السطح. الهرمنيوطيقا هي عملية فك الرموز التي تمضي من المحتوى الظاهر أو المعنى الظاهر إلى المعنى الكامن أو الخفي، أما موضوع التأويل، أي النص بمعناه العريض، فقد يكون رموزا في حلم، وقد يكون أساطير المجتمع والأدب ورموزهما.
تميز دراسة ريكور بين الرموز المحددة الأحادية المعنى
Univocal
والرموز الملتبسة المتعددة المعنى
Equivocal : أما الأولى فهي علامات تشير إلى معنى واحد، ومن أمثلتها الرموز في المنطق الرمزي، وأما الثانية فهي مجال الهرمنيوطيقا الحقيقي؛ لأن على الهرمنيوطيقا أن تتعامل مع النصوص الرمزية ذات المعاني المتعددة، مثل هذه النصوص قد تشكل وحدة سيمانتية (دلالية )، كما في الأساطير، لها معنى سطحي خارجي مترابط تماما ولها في الوقت نفسه دلالة باطنة أعمق، والهرمنيوطيقا هي النسق الذي به تنكشف الدلالة العميقة الكامنة تحت المحتوى الظاهر.
غير أن عملية البحث عن معنى خفي في الأحلام وفي زلات اللسان يبين، في حقيقة الأمر، عدم الثقة - أي الارتياب - في الواقع الخارجي أو الظاهر، ومن مآثر فرويد أنه جعلنا «نرتاب» في فهمنا الواعي لأنفسنا، وأنه يهيب بنا بعد أن نحطم خرافاتنا وأوهامنا، بل حاول فريد أن يثبت لنا، كما في «مستقبل وهم»، أن أعز اعتقاداتنا وأعمقها هي في حقيقتها أوهام طفلية، وظيفة الهرمنيوطيقا الفرويدية إذن هي «تحطيم الأوثان»
Iconoclasm .
هذا ما دفع «ريكور» إلى أن يقول بوجود نظامين من الهرمنيوطيقا في الأزمنة الحديثة مختلفين تمام الاختلاف: أما الهرمنيوطيقا الأولى فتمثلها فكرة بلتمان عن «نزع الطابع الأسطوري»
Demythologizing ، وهي تتعامل مع الرمز بمودة وحب في محاولة لاسترداد معنى خفي فيه، وأما الثانية فتعمد إلى تدمير الرمز بوصفه تمثيلا لواقع زائف، إنها تنزع الأقنعة وتحطم الأوهام في محاولة عقلية لا هوادة فيها لكشف الأستار وفضح التعمية والزيف
Demystification ، هذه هي «هرمنيوطيقا الارتياب»
Hermeneutics of Suspicion
التي يمثلها الارتيابيون الثلاثة العظام: ماركس ونيتشه وفرويد، كان كل واحد من هؤلاء يؤول الواقع السطحي الظاهر كزيف وكذب ويقدم نسقا من الفكر من شأنه أن يهدم هذا الواقع، كان ثلاثتهم مناوئين للعقيدة مناوأة شديدة، وكان ثلاثتهم يرون الفكر الحقيقي تمرسا في «الارتياب» والشك، ويقوضون ثقة الفرد الزائفة في الواقع وفي اعتقاداته ودوافعه، ويدعون إلى تحول في منظور الرؤية ونسق جديد لتأويل المحتوى الظاهر لعوالمنا، أي يدعون إلى هرمنيوطيقا جديدة.
ونتيجة لتضارب هذه المداخل إلى تأويل الرموز اليوم يرى ريكور أنه لا سبيل إلى قوانين عمومية للتفسير، فلدينا فقط نظريات متعارضة ومنفصلة تتعلق بقواعد التأويل، وبينما يعامل الطرف الأول (نازعو الأسطورة) الرمز أو النص على أنه نافذة إلى واقع مقدس، فإن الطرف الثاني (كاشفي الزيف) يعاملون الرموز نفسها (ولتكن نصوص الإنجيل) على أنها واقع زائف لا بد من تحطيمه.
أما تناول «ريكور» نفسه لفرويد فقد كان مرانا رائعا في النوع الأول من التأويل (نزع الأسطورية وصولا إلى الدلالة الحقة)، إنه «يسترد» أو «يستعيد» دلالة فرويد من جديد إلى اللحظة الحاضرة، ويحاول أن يجمع بين عقلانية الشك من جهة وبين الإيمان بالتأويل الاستردادي أو الاستعادي، ويضمها معا في فلسفة تأملية لا تنسحب إلى تجريدات محضة أو تتنكس إلى تدريب بسيط في الشك؛ فلسفة تقبل التحدي الهرمنيوطيقي في الأساطير والرموز وتجسد، من خلال التأمل، ذلك الواقع الكامن وراء اللغة والرمز والأسطورة، إن الفلسفة اليوم منكبة على اللغة أصلا، ومن ثم فهي، بمعنى ما، هرمنيوطيقا، والتحدي الحقيقي هو أن نجعلها هرمنيوطيقية على نحو مبدع خلاق.
1
الفصل الرابع
كلادينيوس: الهرمنيوطيقا في عصر التنوير
(1) العصر الوسيط
في العصر الوسيط ساد مفهوم المستويات الأربعة للمعنى في تفسير النصوص المقدسة:
المعنى الحرفي
Literal Meaning .
المعنى الرمزي (الاستعاري)
Allegorical (Metaphorical Meaning) .
المعنى الباطني (الروحي)
Anagogic (Spiritual Meaning) .
المعنى الخلقي
Topological (Moral) .
وقد كان السائد قبل القديس أوغسطين هو المبادئ الثلاثة أو المحاور الثلاثة التي يدور عليها تفسير النصوص المقدسة؛ وأولها: هو الالتزام بحرفية النص
Literal ، أي ظاهر اللفظ، والثاني: هو المغزى الخلقي
Moral
مبادئ السلوك المستقاة من النص، والثالث: هو الدلالة الروحية
Spiritual
أي الخاصة بالإيمان والراحة النفسية، وقد قام القديس أوغسطين بتعديل هذه المستويات الثلاثة فأصبحت: المعنى الحرفي، والمغزى الأخلاقي، والدلالة الرمزية، ثم التأويل الباطني
Anagogical
أو الروحي للنص المقدس، أي إنه عدل بعض الشيء في مفهوم القيمة الروحية للنص فجعله استشفافيا يقوم على ما توحي به الكلمات لا على ما تعنيه، وأضاف الدلالة الرمزية. (2) عصر التنوير
يعرف «عصر التنوير» بأنه تلك الفترة من الفكر الأوروبي التي اتسمت بروح جديدة من الثقة بالعقل والشك في كل سلطة تقليدية، وبزوغ تدريجي لأفكار الحرية والديمقراطية وفصل السلطات، والتعويل على المنهج والتجربة، والتفاؤل والإيمان بالتقدم التاريخي البشري من خلال التربية وباستعمال العقل والالتزام بالموضوعية العلمية. بدأت إرهاصات التنوير في إنجلترا في القرن السابع عشر مع كتابات فرنسيس بيكون وتوماس هوبس، وفي فرنسا أيضا مع كتابات ديكارت الذي أكد على قدرة العقل وحده، ودون عون من أي ملكة أخرى ، على الوصول إلى جميع الحقائق العسيرة المنال، غير أن التنوير بلغ أوجه في القرن الثامن عشر وبخاصة في فرنسا مع «الموسوعيين»، وفي اسكتلندا مع ديفيد هيوم وآدم سميث، وفي ألمانيا مع إمانويل كانت، ويعد «دستور الولايات المتحدة» بعامة هو التجسيد العيني الملموس لأفكار التنوير. (3) كلادينيوس
يعد «كلادينيوس»
Chladenius (1710-1759م) نموذجا يمثل خير تمثيل فكر التنوير حين ينصب على قضية التأويل، كان كلادينيوس ينادي بتأسيس مبحث منفصل للتأويل يتميز عن كل من فقه اللغة (الفيلولوجيا) ونقد النصوص، وكان السؤال الأساسي الذي يشغله هو: هل بالإمكان وضع قواعد أو أحكام لعملية التأويل؟ أما جوابه المبدئي الذي حاول جهده أن يبسطه ويتوسع فيه، فهو كما يتوقع كل من ألم بالروح السائدة في عصر التنوير: «نعم، فإذا ما اتبعنا مجموعة من القواعد السديدة فمن الممكن أن نصل إلى التفسير الصحيح والكامل.»
الهرمنيوطيقا عند كلادينيوس هي فن تقني ضروري للدراسات التي تعتمد على تأويل النصوص: التاريخ، والشعر، واللاهوت، والقانون، والإنسانيات باستثناء الفلسفة باعتبارها شكلا من الجدال المحض أو من الاختبار النقدي للأفكار.
يعتقد «كلادينيوس» حقا في إمكان الوصول إلى تفسيرات تامة وسديدة، ويقترح طريقة للظفر بفهم كامل لأي نص من النصوص، يقول كلادينيوس إن العمل المنطوق أو المكتوب، ما لم يصطنع الكذب والخداع، يرمي إلى هدف واحد وهو أن يفهم القارئ أو المستمع النص المقروء أو المنطوق فهما كاملا، والحكاية التي تقال أو تكتب لشخص ما تفترض دائما أن هذا الشخص سوف يستخدم معرفته عن الأحوال السائدة لكي يكون قرارا معقولا، ويمكن أيضا تعزيز هذا الهدف بفضل طبيعة الوصف ذاته وبفضل ما لدينا من حس مشترك، ومن ثم فإذا كان باستطاعتنا الحصول من الرواية على فكرة عن الظروف تسمح لنا بصنع القرار المناسب نكون عندئذ قد فهمنا الرواية فهما كاملا.
يعني ذلك أن على المرء أن يأخذ بالاعتبار:
الأحوال السائدة أو الظروف الغالبة.
غرض النص أو نيته.
الحس المشترك.
ويبدو أن فهم الأحوال السائدة يعني فهم حقائق الموضوع، ويضرب كلادينيوس في ذلك مثلا بقائد حربي يتسلم رسالة تحذره من احتمال وقوع هجوم على حصونه، مثل هذا القائد يجب أولا أن يعرف أن مرسل التحذير هو شخص يمكن أن يوثق به، وهذا اللون من المعرفة هو جزء من الأحوال السائدة، ويجب أن يعرف أن الرسالة تعني حقا ما تقول وتقصد التحذير بالفعل ولا تقصد شيئا آخر، وذلك حتى لو كانت الرسالة مكتوبة بطريقة غامضة ملتبسة، والآن إذا ما اتخذ هذا القائد قرارا بهذا الشأن يكون عندئذ قد «فهم» التحذير فهما كاملا.
ويرتبط بمسألة النية أو القصد، أن بعض النصوص تعني ما هو أكثر من تقرير حقائق، وتقدم ما هو أكثر من أخبار وقائعية، فهناك نصوص تقدم دروسا أخلاقية وبعض النصوص تعلم مفاهيم، فإذا ما تم لنا تعلم هذه المفاهيم وتلك الدروس نكون قد فهمنا النص فهما كاملا.
ومن الواضح أن مقصد النص يعتمد على مقصد المؤلف، فقد يقصد المؤلف من نصه أن يسلي القارئ أو يمتعه، فإذا حدث أني تسليت حقا في قراءة النص واستمتعت يكون هذا إذن هو فهم كامل؛ ومن ثم فأنا لكي أعي المعنى التام للنص فلا بد أن أعي نية المؤلف ومقصده، ولكي أفهم أمرا لا بد أن أدرك مشيئة الشخص الذي يصدر الأمر، وهو شيء يختلف عن فهم «قضية»
ما بحد ذاتها، إنما ينبغي على المرء أن يفهم القضية كما أرادها قائلها وما عنى بها. (4) إضاءة من اللغويات الحديثة، على ذكر تأويلية كلادينيوس (4-1) الإضمار الحواري
Conversational Implicature
حين ترد جملة ما في التداول الفعلي، فإننا نفسر دائما هذه الجملة النموذج ونؤولها وفقا للسياق ووفقا للظروف التي نطقت فيها، ونحن نسترشد في هذه التأويلات بالسيكولوجيا الشعبية، وبفهمنا لمعايير المحادثة وبأي معرفة عامة عن العالم تبدو مفيدة لنا في فهم ما يقال، ولنوضح بمثال ما نعنيه ب «معايير المحادثة»
Conversational Standards ، افترض أنني أسأل ضيفا لي: «هل لك في بعض القهوة؟» فيجيبني الضيف: «القهوة سوف تبقيني صاحيا.» إنني حينئذ سوف أؤول هذا القول كرفض للعرض الذي عرضته، لماذا؟ لأنني أفترض أن ضيفي يلتزم بمعيار تحادثي ذي صلة.
إن ما يقوله ضيفي لا يتضمن، وفق المعايير المنطقية الصارمة، أنه لا يريد قهوة، غير أنه يتضمن ذلك وفق المعايير الخاصة بإضمار المحادثة أو «الإضمار الحواري».
1 (4-2) معنى الكلمة/الجملة، والمعنى عند المتحدث
word/sentence meaning vs. speaker’s meaning
في الأحوال المثلى يكون ما أعنيه بالكلمة التي أستعملها هو بعينه ما تعنيه الكلمة، وما أقصد إليه بالجملة التي أستعملها هو بعينه ما تقوله الجملة، غير أن ما أعنيه (مقصدي الاتصالي) متميز من حيث المبدأ - وربما مختلف عمليا - عن المعاني القياسية للعناصر اللغوية التي يقع عليها اختياري، فقد أود أن أدل على النقطة العليا في حدث ما وأبحث من أجل ذلك عن كلمة مناسبة، فيقع اختياري على
Climacteric
أو على
Climatic ، وفي هذه الحالة فإن الكلمة التي اخترتها (أيا ما كان معناها) لن تقول ما أعنيه (أعني بالطبع كلمة
Climax ).
وقد أرى أيضا أن جملة «ماري ليست أكبر سنا من هاري» تعني أن ماري وهاري في نفس السن، إن اختلاف مقصد المتحدث عن معنى الكلمة أو الجملة يحمل إمكان إساءة الفهم وإساءة التأويل، على أن هذا ليس شيئا محتما لا مناص منه، فمعظم الناس لديهم القدرة (باستخدام السيكولوجيا الشعبية والمفاتيح الموقفية) على استشفاف ما يعنيه المتحدث في حقيقة الأمر حتى لو ابتعد ذلك عما قاله بالفعل.
2 (5) أهمية الحس المشترك في التأويل
يؤكد كلادينيوس على أن الحس المشترك له دوره الحيوي في عملية الفهم، فالمرء يفهم القول المنطوق أو المكتوب فهما تاما إذا ما أخذ بالاعتبار جميع الأفكار التي يمكن أن توقظها الكلمات فينا وفقا لأحكام القلب والعقل، ولا نعني هنا كل فكرة ممكنة بل الأفكار التي تتفق مع الحس المشترك، بالنظر إلى معرفتنا بالأحوال السائدة.
على أن ما يهم هنا ليس المحتوى السيكولوجي بل الغرض المقصود للنص، وكذلك قواعد الإنشاء التي يمليها هذا الغرض، أي أن المرء يفهم مقصد المؤلف لا من خلال فهم حالاته السيكولوجية بل من خلال فهمه للنص، ويفهم النص من خلال فهمه كيف يستخدم الناس النصوص استخداما مقبولا، نحن إذن نفسر ونتواصل مع بعضنا البعض وفق مجموعة من القواعد المعقولة.
ولكن هنا تبرز مشكلة: وهي أنه حتى مع افتراض أفضل النوايا والمقاصد، فإن الكلمات أحيانا ما تحيد عن نية المتكلم، والتعبير أحيانا ما يطيش عن الهدف الذي كان يرمي إليه القائل، هنالك تضيع فرصة الفهم الصحيح وتنقطع خيوط التواصل، يقول كلادينيوس: إن المرء لا يمكن أن يحيط بكل شيء أو يتوقعه، ومن ثم فإن كلماته وأحاديثه وكتاباته قد تعني شيئا لم يكن يعنيه. وعليه فنحن لكي نفهم هذه الكتابات فقد نفكر في شيء لم يدر بخلد الكاتب وما خطر بباله ولا جال بوعيه.
وقد يفشل المؤلف في وضع فكرته بتمامها في كلمات ملائمة أو صحيحة، الأمر الذي يفرض علينا، ويمنحنا صلاحية، النظر في نية المؤلف لا في مجرد النص، يقول كلادينيوس: إن العمل المنطوق أو المكتوب يكون مفهوما تماما إذا كان منشأ بحيث يمكن للمرء أن يفهم مقاصد المؤلف ونواياه فهما كاملا وفقا للقواعد السيكولوجية، أما إذا لم يستطع المرء أن يفهم كل شيء أراد المؤلف أن يقوله فإن الكتابة عندئذ لا تعود مفهومة، والكتب والأحاديث التي يصدرها الناس سيكون بها شيء ما يند عن الفهم، هذه القواعد السيكولوجية التي يشير إليها كلادينيوس ليست أكثر من «قواعد وأحكام القلب والعقل» التي تتعلق بالحس المشترك.
نخلص من ذلك إلى أن كلادينيوس لا يعتبر التأويل عملية استقرائية، بل عملية أقرب إلى الاستنباط، أي استنباط شيء من النص باستخدام مجموعة من القواعد:
فإذا كان المؤلف يستخدم اللفظة س،
وكانت س في الأحوال المعنية تشير إلى ص،
إذن فالمؤلف يعني ص.
ثمة مع ذلك هامش من الاحتمال، فإذا ما كان النص من الغموض بحيث يكون حمال أوجه، هنالك يستحيل الفهم الكامل، وعلى المؤول في هذه الحالة أن يلجأ إلى قواعد معينة تخص هذا الصنف من «التأويل القضائي» لأنه هو نفس اللون من التأويل الذي يحدث في ساحات القضاء ويكون على القاضي فيه أن يأخذ على عاتقه تأويل مادة غامضة أو متناقضة أو غير محددة. (6) الوجه التربوي للتأويل
وتتضمن الهرمنيوطيقا عند كلادينيوس جانبا بيداجوجيا (تربويا/تدريسيا) أساسيا، «فإن تؤول لا يعدو أن تعلم شخصا ما التصورات الضرورية لفهم عمل مكتوب أو منطوق»، وتتجلى الطبيعة التربوية للتأويل في دعوة كلادينيوس لأن يكون تفسير النص مكيفا بحسب جمهور المتلقين، بذلك يرتبط التأويل عنده بفن الخطابة وعلم التربية ارتباطا وثيقا.
ففي الأحوال العادية، حيث لا غموض في النص ولا التباس، وحيث مفاتيح فهم النص كاملة في يد المفسر، فإن التأويل عند كلادينيوس يصبح لونا من «التربية» أو «التدريس»، أي تعليم القارئ أو المستمع تصورات معينة ضرورية للفهم الكامل لهذا النص، في هذه الحالة يكون على المؤول أن يأخذ بعين الاعتبار درجة استبصار التلميذ ويراعي قصوره المعرفي حين يتخير الصياغة المناسبة، ولما كان هناك درجات من الاستبصار والمستوى المعرفي بعدد قراء النص أو مستمعيه، فإن هناك أيضا تأويلات صحيحة بعدد القراء أو المستمعين، وصفوة القول أن كل شخص تقريبا يلزمه تأويل معين، وأن التأويل منسوب إلى المتلقي بقدر ما هو منسوب إلى المؤول. (7) زاوية الرؤية
يفضي بنا هذا الحديث إلى واحد من أهم إسهامات كلادينيوس، وهو مفهوم «زاوية الرؤية» أو «وجهة الرأي» أو «المنظور»، إن كل شخص يدرك ما يحدث في العالم على نحو مختلف، بحيث إنه لو طلب من عدد كبير من الأشخاص وصف واقعة معينة فإن كل واحد منهم سوف ينتبه إلى شيء بعينه، هذا إذا قدر لهم أن يدركوا الموقف إدراكا صحيحا! يعود هذا الفارق أولا إلى اختلاف موقع الجسم ووضعه وهو يتفاوت بالضرورة من شخص إلى آخر، وثانيا إلى تفاوت الارتباطات حول الموضوع بين واحد وآخر، وثالثا إلى الفروق الفردية في انتقاء الموضوعات التي يلتفت إليها، فمن المسلم به أن الأغراض التي نضمرها لحظة الإدراك هي التي تتحكم في تحديد ما نختاره لكي ننتبه إليه، فأفعالنا هي دائما غرضية تتجه نحو هدف ما؛ ولذا فإنه عندما تكون للأفراد أغراض مختلفة فإنهم يدركون العالم على أنحاء مختلفة، بحيث يقر أحدهم أمورا معينة يتجاهلها غيره أو ينكرها، ذلك أن الاهتمام أو الموقف هو الذي يرشد الانتباه في اتجاهات ذات صلة، ويحجب في الوقت نفسه تلك المنبهات التي لا تتصل بغرضه، بل إن الموقف الفكري والأيديولوجي ليتحكم في طريقة الإصغاء إلى الأشياء وهيئتها المدركة، ويشحن الانتباه في اتجاهات معينة ويصرفه عن المضي في اتجاهات أخرى.
3
ويضرب «كلادينيوس» مثالا بميدان المعركة ليبين كيف تتحكم زاوية الرؤية في التأويل، فإذا ما وضع ملاحظون في مواقع مختلفة حول ميدان قتال كبير، فمن المتيقن أن كلا منهم سوف يقدم أوصافا مختلفة، أي تأويلات مختلفة، لما حدث، ويبقى السؤال الحقيقي الهام هو: كيف يحكم المرء بين هذه المنظورات المتعددة المختلفة ويفصل فيما بينها؟ والجواب عند كلادينيوس هو: باستخدام العقل، فحيث إن هناك حقيقة محددة للأمر المتعلق بما حدث بالفعل في ميدان المعركة، حتى لو كانت هذه الحقيقة قد شوهدت من زوايا مختلفة، فإن هذه المنظورات لا بد أن تكون متسقة مع الأحداث الفعلية كما وقعت، وهذا الاتساق يجب أن يصنعه العقل ويسبغه ويضفيه، ومن ثم يمكن الفصل فيما بين وجهات النظر المختلفة والمتباينة باستخدام العقل.
الفصل الخامس
شلايرماخر
كان «فريدريك شلايرماخر» لاهوتيا وفيلسوفا مثاليا ألمانيا، ولد عام 1768م، وأسس الجامعة في برلين مع همبولت فيما بين عامي 1798م و1810م حيث عمل بالتدريس فيها حتى وفاته عام 1834م، لم ينل شلايرماخر ما يستحق من شهرة في مراجع تاريخ الفلسفة المتداولة، فقد كان منصرفا إلى اللاهوت بشكل رئيسي، ومقلا بالتالي في نشر أعمال فلسفية، رغم أنه لم يتوقف عن تدريس الفلسفة بجميع أفرعها وإلقاء محاضرات متقنة العرض في الفلسفة اليونانية وتاريخ الفلسفة وفلسفة الأخلاق وعلم الجمال والهرمنيوطيقا والفلسفة السياسية وفلسفة التربية، ويعد شلايرماخر مؤسس الهرمنيوطيقا العامة وأبا الدراسات الثيولوجية والدينية الحديثة، وهو المترجم العمدة لأفلاطون إلى الألمانية.
1
في عبارة افتتاحية لمحاضراته في الهرمنيوطيقا يقول «شلايرماخر»: «الهرمنيوطيقا بوصفها فن الفهم لا ودود لها كمبحث عام، فليس هناك غير كثرة من الأفرع الهرمنيوطيقية المنفصلة.» وهو بذلك يعلن في جملة واحدة عن هدفه الأساسي: تأسيس هرمنيوطيقا عامة بوصفها فن الفهم.
يؤكد «شلايرماخر» أن هذا الفن هو فن واحد من حيث ماهيته، سواء كان النص نصا تشريعيا أو نصا دينيا أو عملا أدبيا، صحيح أن هناك فروقا مؤكدة بين هذه المجالات العديدة من النصوص مما يستدعي أن يطور كل مجال أدواته النظرية الملائمة لمشكلاته الخاصة، غير أنه من وراء هذه الاختلافات تكمن وحدة أصيلة، إن جميع هذه النصوص تمثل في جسد لغوي؛ ومن ثم فلا بد من استخدام النحو لكشف معنى العبارة، فالفكرة العامة تتفاعل مع البنية اللغوية لتكون المعنى، أيا ما كان صنف النص، فإذا أمكن صياغة مبادئ كل فهم لغوي فإن هذه المبادئ تشكل هرمنيوطيقا عامة، ويمكن لهذه الهرمنيوطيقا العامة أن تكون الأساس والجوهر لكل هرمنيوطيقا خاصة.
غير أن هذه الهرمنيوطيقا العامة، فيما يرى شلايرماخر، لم يكن لها من وجود، فلم تكن هناك غير أفرع هرمنيوطيقية متباينة، أهمها الهرمنيوطيقا الفيلولوجية (فقه اللغة)، واللاهوتية، والقانونية، وحتى داخل الهرمنيوطيقا الفيلولوجية لم يكن هناك ترابط منهجي، بل مجموعة من القواعد والإرشادات العملية المهيئة لمواجهة مشكلات لغوية وتاريخية جزئية بعينها تطرحها النصوص القديمة العبرية واليونانية واللاتينية. كان الشيء الغائب دائما هو التصدي للفعل الأساسي في كل تفكير، فعل الفهم، الفهم الذي يضطلع به كائن إنساني حي يشعر ويحدس.
وفي كل حوار يجري، فإن عملية صياغة قول ما وإصداره في كلمات هي شيء، وعملية تلقي هذا القول وفهمه هي شيء آخر مختلف ومتميز كليا، والهرمنيوطيقا في رأي شلايرماخر إنما تنصب على العملية الثانية وحدها، عملية الفهم، إنها باختصار شديد: فن الفهم، ومن ثم فقد جعل شلايرماخر نقطة بدايته هذا السؤال العام: كيف يتم على وجه الدقة فهم أي عبارة أو أي قول، سواء أكان قولا منطوقا أو مكتوبا؟ إن موقف الفهم هو موقف علاقة حوارية، وفي كل علاقة من هذا النوع ثمة طرفان: الطرف المتحدث وهو من يشيد جملة لكي يعبر عن المعنى الذي لديه، والطرف المستمع وهو من يتلقى سلسلة مكونة من كلمات ... من مجرد كلمات، ولكنه فجأة، ومن خلال عملية باطنة وسرية يمكنه أن يستشف معانيها، هذه العملية الباطنة الإشراقية هي عملية التأويل، إنها المجال الحقيقي للهرمنيوطيقا، فالهرمنيوطيقا هي فن الإصغاء.
والفهم عند شلايرماخر، بوصفه فهما، هو عملية إعادة معايشة للعمليات الذهنية لمؤلف النص، فهي عكس التأليف؛ لأنها تبدأ من تعبير ثابت ومكتمل وتعود القهقرى إلى الحياة الذهنية التي نبع منها التعبير، إن المتحدث أو المؤلف يبني جملة، وعلى المستمع أن ينفذ إلى داخل بناء الجملة وبناء الفكرة، وبذلك يتكون التأويل من لحظتين متفاعلتين: اللحظة اللغوية واللحظة السيكولوجية (بالمعنى العريض لكل ما تشتمل عليه الحياة النفسية للمؤلف)، أما المبدأ الذي تنهض عليه إعادة البناء هذه بشقيها اللغوي والسيكولوجي فهو مبدأ «الدائرة التأويلية»
Hermeneutical circle
دائرة التأويل.
الفهم عملية «إحالية» (إشارية)
Referential
بالأساس، فنحن نفهم الشيء بمقارنته بشيء آخر لدينا به معرفة، وما نفهمه يشكل نفسه في وحدات منظمة أو دوائر مكونة من أجزاء، والدائرة بوصفها كلا تحدد كل جزء مفرد فيها، والعكس أيضا صحيح، فالأجزاء المفردة تكون الدائرة الكلية وتحددها: الجملة على سبيل المثال هي وحدة كلية، ونحن نفهم معنى الكلمة المفردة داخل الجملة بإحالتها إلى الجملة الكلية، والجملة بدورها يعتمد معناها الكلي على معنى كلماتها المفردة، وتمتد هذه العلاقة التبادلية لتشمل المفاهيم الذهنية، فكل مفهوم مفرد يستمد معناه من السياق أو الأفق الذي ينسلك فيه، ومع ذلك فإن الأفق أو السياق إنما يتكون في حقيقة الأمر من العناصر نفسها التي يضفي عليها معناها، وخلال هذا التفاعل الجدلي بين الكل والجزء يمنح كل منهما الآخر معناه ومغزاه، الفهم إذن عملية دائرية، والمعنى في الحقيقة لا ينهض إلا داخل هذه «الدائرة»؛ ونحن لذلك نطلق عليها «دائرة التأويل».
من الواضح أن مفهوم «دائرة التأويل» ينطوي على تناقض منطقي (أو «مفارقة»
إن شئت الدقة): فإذا تعين علينا أن نفهم الكل لكي نفهم الأجزاء، فلن يتأتى لنا أن نفهم أي شيء، غير أننا قلنا إن الجزء يستمد معناه من الكل، ومن المؤكد من الجهة الأخرى أننا لا يمكن أن نبدأ من الكل غير المتميز إلى أجزاء! وإذا كان الأمر كذلك ألا يعد مفهوم دائرة الهرمنيوطيقا مفهوما ممتنعا ومستحيلا؟ بالطبع هو مفهوم ممتنع إذا كنا نفكر في الأمور تفكيرا خطيا مستقيما ، غير أن المنطق الخطي يعجز عن تقديم شرح مقنع لعمل الفهم، أما وجه الأمر فهو أن هناك «قفزة» تحدث إلى داخل دائرة التأويل، وأننا في الحقيقة نفهم الكل والأجزاء معا، فالفهم عملية إحالية مقارنة من جهة، وحدسية استشفافية من جهة أخرى، ولكي تعمل دائرة التأويل على الإطلاق فهي تفترض بالضرورة عنصرا حدسيا.
وقد أدرك المفكرون منذ القدم فكرة الاعتماد المتبادل بين الكل والجزء في عملية الفهم وما ينطوي عليه ذلك من مفارقة ظاهرة، وذهب أصحاب المذهب العقلي
Rationalists
إلى ضرورة وجود شيء من المعرفة الفطرية لكي تكون المعرفة ممكنة على الإطلاق؛ إذ يبدو من المعقول أن الإنسان يلزمه أن يكون عارفا بشيء ما لكي يتعلم شيئا آخر، بينما البدء من الصفر ثم تعلم كل شيء من التجربة هو أمر لا يسيغه العقل، وللغوي المعاصر نوام تشومسكي جهود لإثبات ذلك في مجال اللغة،
2
ومن المفارقات الشهيرة في الفلسفة ما يعرف باسم «مفارقة التعلم»
Learning
، وتعني أننا إذا كنا لا نفقه شيئا على الإطلاق فلن يمكننا أن نبدأ في تعلم هذا الشيء، ما دمنا لا نعرف ما يكفي لأن نعرف كيف نبدأ! وقد كان أفلا
Anamnesis
في محاورة «مينون»
Meno
كانت حله المقترح لهذه المفارقة (بالإضافة إلى استخدامها في محاولة إثبات خلود النفس)، في هذه المحاورة تعد عملية التعلم «تذكرا» لأشياء سبق تعلمها في حياة سابقة ثم نسيت، وفيها نجد سقراط يحاول إثبات ذلك عن طريق توجيه الأسئلة إلى صبي من عبيد مينون لم ينل أي قسط من التعليم، وينجح بطريقته السقراطية المعتمدة على مجرد توجيه أسئلة بسيطة في أن يستخلص من الصبي كيفية تكوين مربع تساوي مساحته ضعف مساحة مربع معلوم، كما نجد لهذه الأفكار المستغربة صيغة معاصرة في فلسفات اللغة التي تنظر إلى الطفل الرضيع بوصفه «لغويا صغيرا» عليه أن يترجم اللغة التي تكتنفه في مسقط رأسه إلى ذلك الوسيط الأصلي المفطور الذي لا يقل ثراء مفاهيميا عن اللغة التي يلقنونه إياها.
لا يسع المرء حين يأخذ هذه النظرية الأفلاطونية بمعناها الحرفي سوى أن يستنكرها ويستغرب مضمونها، غير أن بوسعه أيضا أن «يؤولها» ويفهمها بمعنى أقل حرفية على أنها تعني أن معرفة حقيقة جديدة يقتضينا أن نعيد تجميع ما نعرفه أصلا ونسلكه في هذا السياق الكلي.
ومن الحق أن دائرة الهرمنيوطيقا تومئ إلى منطقة من الفهم المشترك، فما دام كل تواصل هو علاقة حوارية فهو يفترض منذ البداية وجود معنى مشترك بين المتحدث والمستمع، قد ينطوي ذلك بدوره على تناقض آخر: فالشيء المطلوب فهمه لا بد أن يكون معروفا من الأصل! ولكن أليس هذا هو الحق؟! أليس من العبث أن تتحدث عن الحب إلى شخص لم يعرف الحب في حياته، أو تتحدث عن مباهج المعرفة إلى أولئك الذين يرفضونها؟ إن المرء لا بد أن يكون على معرفة بدائية ما بالموضوع الذي هو بصدد تعلمه، ولا بد أن يكون قد توفر على حد أدنى من المعرفة المسبقة الضرورية للفهم والتي بدونها يتعذر عليه أن يقفز إلى داخل الدائرة التأويلية، ولدينا مثال واضح على هذه الظاهرة فيما نجده من غموض واستغلاق لدى القراءة الأولى لكتاب عظام مثل: كيركجارد ونيتشه وهيدجر، فالمشكلة هنا هي أن فهم كتابات هؤلاء يتطلب إلماما بالاتجاه العام لفكر الكاتب، وبدون هذا الإلمام العام يتعذر فهم أقوالهم الجزئية، بل يتعذر استخلاص معنى واضح من أعمالهم الكاملة، ولا يعدم القارئ رغم ذلك لحظات عابرة يقع فيها على عبارة مفردة تضيء له كل ما كان مستغلقا عليه من قبل كأنها البارقة الخاطفة، ذلك أنها تومئ إلى ذلك «الشيء الكلي» الذي كان المؤلف يتحدث عنه.
لا يقتصر عمل دائرة الهرمنيوطيقا - إذن - على المستوى اللغوي، بل تعمل أيضا على مستوى «المادة» المقدمة أو المضمون الفكري، ولا بد لكل من المتحدث والمستمع أن يلتقيا على صعيد واحد ويشتركا في لغة القول وموضوعه أيضا، فمبدأ المعرفة المسبقة يعمل على كلا المستويين: لغة الحديث (أو وسيطه الحسي) ومادة الحديث أو موضوعه، في كل فعل من أفعال الفهم. (1) التأويل اللغوي والتأويل السيكولوجي
ثمة اتجاه متزايد في تفكير «شلايرماخر» المتأخر إلى الفصل بين مجال اللغة ومجال الفكر، أما اللغة فيختص بها التأويل اللغوي، وأما مجال الفكر فقد أسماه المجال التقني ثم أسماه المجال السيكولوجي فيما بعد، فالتأويل اللغوي يضطلع بتحديد المعنى وفقا لقوانين موضوعية وعامة، بينما يركز الجانب السيكولوجي من التأويل على ما هو ذاتي فردي، يقول «شلايرماخر»: «بالضبط كما أن لكل حديث علاقة مزدوجة باللغة كلل وبجماع تفكير المتحدث، كذلك هناك في كل فهم لحظتان: فهم للحديث بوصفه شيئا مستمدا من اللغة، وفهمه بوصفه «واقعة» في تفكير المتحدث.» تنتمي اللحظة اللغوية إلى التأويل اللغوي وتعد إجراء سلبيا وعاما يفرض حدودا ويقدم البنية التي يعمل الفكر في إطارها، وأما التأويل السيكولوجي فيرمي إلى فرادة المؤلف وعبقريته الخاصة، وهو من أجل ذلك يتطلب اندماجا وجدانيا بالمؤلف ولا يفرض حدودا ويعد الشق الإيجابي بحق في عملية التأويل.
لا شك أن كلا جانبي التأويل ضروري وهام وأنهما في تفاعل دائم في حقيقة الأمر، فالاستخدامات الفردية للغة تحدث تغييرات في اللغة ذاتها، غير أن المؤلف نفسه بإزاء لغة لا بد له من أن يضع بصمته الفردية عليها، وإذا كان المفسر يفهم الطابع الخاص للمؤلف بالإحالة إلى العام فهو أيضا يفهمه بطريقة إيجابية ومباشرة وحدسية، ومثلما أن دائرة الهرمنيوطيقا تتضمن الجزء والكل، كذلك التأويل اللغوي والسيكولوجي كوحدة واحدة يتضمن هو أيضا الخاص والعام، هذا الصنف من التأويل هو عام وواضع حدود وهو خاص وإيجابي في الوقت نفسه، يضطلع التأويل اللغوي بإيضاح العمل في علاقته باللغة، وذلك من حيث بناء عباراته وتفاعل أجزائه ومن حيث علاقته بالأعمال الأخرى التي تنتمي إلى نفس الجنس الأدبي، ووفقا لمبدأ الجزء والكل الذي أشرنا إليه آنفا، وينبغي بنفس الطريقة أن ننظر إلى فرادة المؤلف والعمل في سياق الحقائق الأكبر لحياته وبالمقارنة بحياة غيره وبأعمالهم، هكذا يتبين أن مبدأ التفاعل والإضاءة المتبادلة بين الجزء والكل هو مبدأ أساسي لشقي التأويل كليهما.
وهكذا يتجلى هدف التأويل كما يراه «شلايرماخر »، وهو إعادة بناء الخبرة الذهنية لمؤلف النص، لقد كان يصبو إلى إعادة معايشة ما عايشه المؤلف وألا ينظر في قول من الأقوال بمعزل عن قائله، ومن الجدير بالذكر رغم ذلك أن هذه المعايشة الثانية ليست بالضرورة «تحليلا نفسيا» للمؤلف، بل هي مجرد تذكير بأن الفهم هو فن إعادة بناء التفكير الخاص بشخص آخر، وبعبارة أخرى أن غايتنا ليست تحديد دوافع المؤلف السيكولوجية أو بواعث شعوره، بل إعادة تشييد الفكر نفسه الخاص بشخص آخر من خلال تأويل حديثه.
والحق أن إعادة بناء فردية المؤلف لا يمكن أن تتم بتحليل أسبابه ودوافعه، فهذا التحليل يظل عاما بدرجة محبطة، أما التأويل السيكولوجي فيتطلب معالجة حدسية بالدرجة الأساس، وإذا كان المدخل اللغوي يستخدم منهجا مقارنا ويتقدم من العام إلى خصوصيات النص، فإن المدخل السيكولوجي يستخدم كلا المنهجين: المقارن والاستشفافي
Divinatory ، والاستشفاف هو أن يضع المرء نفسه موضع الشخص الآخر كيما يفهم فرديته بشكل مباشر، لكأنما هو يخرج من ذاته ويتحول إلى المؤلف نفسه وبذلك يقف على العملية الذهنية لهذا الأخير بمباشرة تامة، على أن الغاية ليست في النهاية أن نفهم المؤلف من الوجهة السيكولوجية، بل أن نجد أقوم السبل، وننفذ أبلغ نفاذ، إلى ذلك الذي يعنيه النص ويقصده. (2) الفهم التأويلي بوصفه فهما للأسلوب
اللغة عنصر أساسي من بداية التأويل إلى نهايته، وحتى استشفاف فردانية المؤلف هو شيء متقوم باللغة ومستند إلى الأسلوب الخاص لهذا المؤلف، ولن يتم أي فهم لنفسية كاتب بمعزل عن لغته وأسلوبه، ومهما بلغت قدرة المرء على فهم الآخرين من بني البشر، فما لم تكن هذه القدرة مضفورة باستبصار لغوي يضيء بنية النص، وينفذ إلى نفسية الكاتب من خلال أسلوبه، فلن يتسنى له الفهم الكامل، إننا نعرف الإنسان في تمام فردانيته من خلال الأسلوب، وسيظل الفهم الوافي للأسلوب هو غاية علم التأويل التي لا غاية وراءها. (3) التأويل كعلم منظم
كانت جهود شلايرماخر التأويلية ترمي إلى تحويل الفهم إلى علم منظم، وذلك بتنظيم الملاحظات المتفرقة في وحدة متماسكة منهجيا، فالفهم في رأيه يجري وفقا لقوانين يمكن اكتشافها والتصريح بها، ولم يقتصر طموح شلايرماخر على وضع مجموعة من القواعد كما كان الحال في مبحث التأويل القديم، بل يرمي إلى كشف القوانين التي يعمل بها الفهم، وتحويل مبحث الفهم برمته إلى علم منهجي يمكن أن يرشدنا في عملية استخلاص المعنى من نص ما.
تطور فكر «شلايرماخر» من التمركز على اللغة إلى التمركز على الذاتية.
لم يكن تطور الفكر التأويلي عند شلايرماخر معروفا قبل عام 1959م، عندما أخذ هاينز كيميرلي يفتش بدأب عن وثائق شلايرماخر غير المنشورة في مكتبة برلين، ويجمع كتاباته التي كتبها بخط يده في تسلسل زمني منظم، هنالك تبين أن الفكر التأويلي عند «شلايرماخر» قد مر بمراحل وشهد تحولا حاسما.
3
في المراحل المبكرة من تطور شلايرماخر الفكري كان التأويل عنده متمركزا على اللغة، صحيح أنه كان منذ البداية يتلمس أهمية معرفة الكاتب نفسه، ويؤكد أن على المرء أن يفهم القائل نفسه حتى يفهم ما يقوله، غير أنه كان يؤكد أيضا أن المرء لن يفهم القائل في نهاية الأمر إلا من خلال اللغة، وجملة القول أنه في مجال التأويل لا شيء نبدأ منه غير اللغة ولا شيء ننتهي إليه غير اللغة، وما من شيء موضوعي أو ذاتي نبتغيه إلا هو كامن في اللغة وينبغي أن يلتمس في اللغة.
كان هذا هو الرأي المبكر عند «شلايرماخر»، ثم حدث تحول حاسم في فكره، فتخلى عن التصور الخاص بهوية الفكر واللغة، وكان سبب هذا التخلي فلسفيا في صميمه: لقد رأى أن مهمته هي التوسط بين «باطنية» الفلسفة التأملية الترنسندنتالية وبين «ظاهرية» العلم الإمبيريقي الوضعي، ورأى أن هناك اختلافا أو تفاوتا بين الماهية الداخلية المثالية وبين الظاهر الخارجي، بحيث يتعذر أن ننظر إلى النص على أنه التمثل المباشر لعملية ذهنية داخلية، بل ننظر إليه على أنه شيء ما قد أسلم إلى الضرورات الإمبيريقية للغة، مهمة الهرمنيوطيقا إذن هي أن تتجاوز اللغة لكي تقف على العملية الداخلية، ورغم أن هذا لا يتم إلا من خلال اللغة نفسها، فإن اللغة لم تعد الآن مرادفة للفكر كما كانت قناعة شلايرماخر لفترة طويلة سابقة، ومن هنا رأى كيميرلي وجادمر أنه قد ضل الطريق وتخلى عن جهوده المثمرة المتمركزة على اللغة من أجل نظرة ميتافيزيقية زائفة.
لقد كان «شلايرماخر» في فكره المبكر في موقف أقرب إلى التصور الحديث حين ذهب إلى أن تفكير الإنسان، بل وجوده كله، تحدده اللغة، وأن فهم الإنسان لنفسه وللعالم هو شيء تقدمه اللغة، غير أنه تخلى عن هذا الموقف المنهجي المتماسك الخصب واتخذ موقفا سيكولوجيا تحولت الهرمنيوطيقا بمقتضاه إلى فن إعادة بناء العملية الفكرية للمؤلف، وهي مهمة لم تعد لغوية في جوهرها، ورغم أن الأسلوب ما يزال في نظر شلايرماخر هو مفتاح لشخصية الكاتب، فإن الأسلوب أصبح يشير إلى شخصية غير لغوية، شخصية لا يعدو أسلوبها أن يكون مظهرا إمبيريقيا لها.
4 (4) أهمية مشروع شلايرماخر في الهرمنيوطيقا العامة
بصرف النظر عن تلك الشائبة من النزعة السيكولوجية في فكر «شلايرماخر» المتأخر، فإن إسهامه في الهرمنيوطيقا يمثل نقطة تحول في تاريخها؛ إذ لم يعد ينظر إلى الهرمنيوطيقا على أنها مادة تخصصية تتبع اللاهوت أو الأدب أو القانون، بل أصبحت هي فن الفهم؛ فهم أي قول لغوي على الإطلاق. ومن أقوال «شلايرماخر» المبكرة التي تلقي الضوء على طبيعة التأويل قوله «إن الهرمنيوطيقا هي بالضبط طريقة الطفل في فهم معنى كلمة جديدة»: إنه يسترشد ببنية الجملة وبسياق المعنى، وكذلك تفعل الهرمنيوطيقا العامة. تبدأ الهرمنيوطيقا في نظر شلايرماخر من أحكام الحوار، فهي «حوارية»
Dialogical
في طبيعتها، غير أنه للأسف لم يتفطن إلى المتضمنات الخلاقة لهذه الطبيعة الحوارية، وشغلته عن ذلك رغبته في استخلاص قوانين والحصول على تماسك منهجي، غير أن هذا التخلي بحد ذاته، من وجهة نظرنا الحالية، قد وجه الهرمنيوطيقا وجهة جديدة، وجهها إلى أن تصبح علما.
وقد اقتفى دلتاي أثر «شلايرماخر» وأكمل هذا المسار حين جعل بغيته ذلك «الصواب الموضوعي» في المعرفة، وحين افترض أن مهمة الهرمنيوطيقا هي اكتشاف قوانين الفهم ومبادئه، قد يعاني هذا الافتراض من قصور في الفهم التاريخي، من حيث إنه ينطوي على التسليم بأن بإمكان المرء أن يشغل نقطة فوق التاريخ أو خارج التاريخ يستطيع منها أن يظفر بقوانين لازمانية، إلا أن الاتجاه إلى جعل عملية الفهم هي نقطة البدء في الهرمنيوطيقا كان إسهاما مفيدا في نظرية التأويل، وسوف تمر سنوات طويلة قبل أن يدرك المفكرون أن قوانين الفهم التي رآها شلايرماخر من زاوية علمية يمكن النظر إليها بالأحرى من زاوية تاريخية، أي بالنظر إلى البنية التاريخية الصميمة للفهم، وبالنظر بصفة خاصة إلى أهمية «الفهم المسبق»
Dre-Understanding
في كل عمليات الفهم على الإطلاق، وقد أشار شلايرماخر، وأشار حتى سابقوه من منظري التأويل، إلى هذا التصور الأخير حين صرحوا بمبدأ دائرة التأويل التي تتم داخلها كل ضروب الفهم.
ومن العناصر الهامة في تأويلية شلايرماخر تصوره للفهم بوصفه منبثقا من الحياة ونابعا من علاقة بالحياة، وهو تصور سيكون ملهما لكل من دلتاي وهيدجر ومنطلقا لفكرهما التأويلي، لقد جعل دلتاي هدفه هو الفهم النابع «من الحياة ذاتها»، أما هيدجر، وقد اتخذ نفس الهدف، فقد حاول الوصول إليه بطريقة مختلفة، طريقة تاريخية قلبا وقالبا، فالفكرة أو المركب الفكري لن تستمد أهميتها من كونها مفتاحا لفهم عملية ذهنية عند مؤلفها، بل ستكون شائقة في ذاتها، وبوصفها خبرة نعيها بالإحالة إلى أفق خبرتنا نفسها، ولن نكون واقعين في النزعة السيكولوجية بالضرورة عندما نقول بأن الفهم لا يمكن أن نتصوره منبتا عن خبرتنا الخاصة وبمعزل عن صلاته الدالة بخبراتنا السابقة.
ويبقى المأخذ الأكبر على فكر «شلايرماخر» هو تسرب النزعة السيكولوجية إليه، لقد شغله غموض «الآخر» عن غموض «التاريخ» على حد تعبير جادامر، وشغلته سيكولوجية الحوار عن تاريخية التأويل، وحتى عن الأهمية المركزية للغة في التأويل، لقد جرفته هذه السيكولوجية الحوارية، بالإضافة إلى تسويته المغلوطة بين عملية الفهم وعملية «التقمص» و«إعادة بناء» ذهن المؤلف، وأفضت به إلى المزالق الفكرية التي وقع فيها في المراحل المتأخرة من تطوره الفكري.
5
ومهما يكن من شيء، فإن «شلايرماخر» يعد بحق أبا للتأويلية الحديثة، ويدين له بالفضل كل مفكري التأويل في القرن التاسع عشر بجميع فصائلهم وتخصصاتهم واتجاهاتهم الفكرية، وقد حملت بصمته جميع النظريات التأويلية العامة في ذلك العصر، وعلى رأسها جميعا نظرية «فيلهلم دلتاي».
الفصل السادس
دلتاي
قدر العلوم الإنسانية أنها اختصت بدراسة آثار كائن حر مريد، تقف القوانين السببية عنده مستأذنة، وتتحدد نتائجه بيقين الحتمية مضروبا في «لا يقين» الحرية.
إنه المخلوق الخالق، الذي يوجد خارج واقعه وخارج ماهيته.
إنه الكائن الذي يدخل «الوعي» في نسيج العالم.
ويجلب «القيمة» إلى باحة الخليقة.
ويسبغ المعنى على صمت الكون.
ويفرز «عدما» من حوله (على قول سارتر) في قلب الوجود الشيئي المكتمل.
إنه الدودة في التفاحة:
أرق في سبات الضرورة.
صدع بين «الأشياء».
مملكة داخل المملكة
Imperium in Imperio (على قول سبينوزا).
ولا حيلة للعلم في التنبؤ بمآله.
وليس يجدي بإزائه إلا «الفهم» لا «التفسير» ... «التأويل» لا «التنبؤ».
بعد وفاة «شلايرماخر» عام 1834م تراجع مشروع الهرمنيوطيقا العامة، وحدثت ردة في الفكر التأويلي وعودة إلى حدود الأفرع التخصصية لتصبح الهرمنيوطيقا مرة أخرى تأويلا فيلولوجيا أو قانونيا أو تاريخيا بدلا من أن تكون هرمنيوطيقا عامة بوصفها فن الفهم كما أراد لها شلايرماخر.
غير أنه في أواخر القرن التاسع عشر بدأ الفيلسوف النابغ ومؤرخ الأدب «فيلهلم دلتاي»
W. Dilthey (1833-1911م) يرى في الهرمنيوطيقا أساسا لكل «العلوم الروحية»
Geisteswissens-Chaften
أي الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية، أي كل تلك الأفرع البحثية التي تضطلع بتفسير تعبيرات الحياة الداخلية للإنسان سواء كانت هذه التعبيرات إيماءات أو أفعالا تاريخية أو قانونا مدونا أو أعمالا فنية أو أدبية.
كان هدف «دلتاي» هو تشييد مناهج للوصول إلى تأويلات «صائبة موضوعيا» ل «تعبيرات الحياة الداخلية»، وكان رد فعله حادا تجاه ميل الدراسات الإنسانية إلى تبني طرق التفكير الخاصة بالعلوم الطبيعية وتطبيقها في دراسة الإنسان، ولم تكن الاتجاهات المثالية في نظر دلتاي بديلا أقوم، فقد ذهب تحت تأثير كونت إلى أن الخبرة العيانية وليس التأمل النظري هي ما ينبغي أن يكون نقطة البدء لأي نظرية في «العلوم الروحية»، الخبرة المعاشة التاريخية الملموسة هي نقطة البدء وهي الختام في علوم الروح، الحياة نفسها هي ما يجب أن ينبع منه تفكيرنا وما يجب أن يتجه إليه تساؤلنا اتجاها مباشرا، علينا ألا نذهب وراء الحياة إلى عالم من الأفكار: «فوراء الحياة نفسها لا يمكن لتفكيرنا أن يمضي.»
ثمة مسحة رومانسية
1
في هذا التوكيد على العودة إلى الحياة نفسها، وليس من المستغرب أن دلتاي أصدر دراسات حول نوفاليس وجوته وشلايرماخر، لقد كان مغمورا في الإرث الرومانسي إذن بحيث تبدى له بوضوح شديد عجزت الوضعية والواقعية بجميع صورهما عن الإمساك بالخبرة الحية ذاتها في امتلائها ومباشرتها وتعدد ألوانها، إننا نلمس في دلتاي شيئا من ذلك التوتر الأساسي الذي يسم تفكير القرن التاسع عشر: تلك الرغبة الرومانسية في المباشرة والكلية حتى عندما نكون بصدد البحث عن معطيات يفترض أن تكون «صائبة صوابا موضوعيا»، لقد كان عقله الدءوب يناضل ضد النزعة التاريخية والسيكولوجية، وقد تجاوزهما بعض الشيء؛ إذ نجد في فكره فهما للتاريخ أعمق من فهم المدرسة التاريخية في ألمانيا، ونجد تجاوزا للنزعة السيكولوجية عند شلايرماخر في التأويل، والحق أننا نجد في دلتاي التقاء لتيارين فلسفيين كبيرين لم يلتقيا من قبل: التيار الواقعي والوضعي الإنجليزي والفرنسي من جهة، وتيار المثالية الألمانية وفلسفة الحياة من جهة أخرى، لقد حاول دلتاي أن يصوغ أساسا إبستمولوجيا للعلوم الروحية فكانت محاولته نقطة التقاء لنظريتين مصطرعتين حول المنهج الصحيح لدراسة الإنسان.
2 (1) البحث عن أساس منهجي للعلوم الروحية
كان مشروع دلتاي هو صياغة منهج ملائم للعلوم المختصة بفهم التعبير الإنساني الاجتماعي والفني، وكان على وعي واضح بعجز المنظور الرديء والآلي للعلوم الطبيعية عن الإيفاء بهذه المهمة والإمساك بجمع الظاهرة الإنسانية، ومن هنا فقد نظر إلى هذه المهمة على أنها مشكلة إبستمولوجية من جهة، وأنها تتطلب تعميق تصورنا للوعي التاريخي من جهة ثانية، وأنها تعكس حاجة إلى فهم التعبيرات التي تنبع من «الحياة ذاتها» من جهة ثالثة، وعندما يتم لنا فهم هذه العوامل الثلاثة سيتضح لنا الفارق بين طريقة معالجة العلوم الروحية وطريقة معالجة العلوم الطبيعية.
يرفض «دلتاي» ابتداء أية نظرة ميتافيزيقية في وصف ما يحدث عندما نقوم بفهم ظاهرة من صنع الإنسان، فالمشكلة عنده هي: أي صنف من الفهم ذلك الذي يلائم تفسير الظواهر الإنسانية، المشكلة عنده، باختصار، مشكلة إبستمولوجية وليست مشكلة ميتافيزيقية.
كان «دلتاي» بمعنى ما امتدادا للمثالية النقدية عند كانت، وإن لم يكن من الكانتيين الجدد بل من فلاسفة الحياة، لقد كتب كانت «نقد العقل الخالص» الذي قدم الأسس الإبستمولوجية للعلوم، بينما شرع دلتاي عن قصد في كتابة «نقد العقل التاريخي» لكي يضع الأسس الإبستمولوجية للدراسات الإنسانية. لم يناقش دلتاي المقولات الكانتية ولم يشكك في كفايتها بالنسبة للعلوم الطبيعية، غير أنه رأى الأطر الكانتية، مثل المكان والزمان والعدد ... إلخ، لا تكفي لفهم الحياة الباطنة للإنسان، كذلك لم يجد مقولة «الشعور» وافية لفهم الطابع التاريخي الداخلي للذات الإنسانية، يقول دلتاي: «إنها مسألة تطوير الاتجاه الكانتي النقدي كله، ولكن في مقولة «التأويل الذاتي» بدلا من نظرية المعرفة ... إنه نقد للعقل التاريخي بدلا من العقل الخالص.»
يقول دلتاي: «ليس من خلال «الاستبطان»
Introspection ، بل من خلال التاريخ وحده يتأتى لنا أن نفهم أنفسنا.» إن مشكلة فهم الإنسان هي مشكلة استعادة ذلك الوعي ب «تاريخية» وجودنا الخاص والذي ضاع في المقولات السكونية للعلم، إننا نخبر الحياة لا في المقولات الآلية السببية بل في لحظات فردة معقدة من «المعنى»، من خبرة مباشرة بالحياة في كليتها وفي فهم محب للأشياء الجزئية، هذه الوحدات من المعنى تتطلب سياقا يضم الماضي ويضم أفق التوقعات المستقبلية، إنها زمانية في صميمها ومتناهية، ولا يتم فهمها إلا في ضوء هذه الأبعاد، أي لا يتم فهمها إلا تاريخيا.
وقد ينبغي أن نأخذ اهتمام «دلتاي» بصياغة نظرية في العلوم الإنسانية في سياق «فلسفة الحياة» الخاصة به، ارتبطت فلسفة الحياة بصفة خاصة بثلاثة من فلاسفة أواخر القرن التاسع عشر هم نيتشه و«دلتاي» و«برجسون»، ويمكن تعقب هذا الاتجاه العام في الفلسفة إلى القرن الثامن عشر حيث علت بعض الاحتجاجات ضد النزعة الصورية والعقلية المحضة وضد أي فكر مجرد يغفل الفرد ككل ويعمى عن الشخصية الحية الشاعرة المريدة ، بذلك يعد روسو وجاكوبي وهردر وفخته وشيلنج وغيرهم من مفكري القرن الثامن عشر مرهصين بفلسفة الحياة في محاولاتهم إدراك الوجود الإنساني في العالم من حيث هو امتلاء خبروي، في مثل هؤلاء المفكرين يمكننا أن نلمس جهد فيلسوف الحياة من أجل الوصول إلى واقع غير مزيف بالعوارض الخارجية وبالثقافة. كانت كلمة «الحياة» حتى في ذلك الحين هي صرخة احتجاج ضد ثبوت التراث الفكري وتحديداته، تشير كلمة «الحياة» إلى قوى الإنسان الداخلية مجتمعة ملتئمة كمقابل للقوة السائدة للفهم العقلي، واعتبر فريدريك شليجل فلسفة الحياة هي الحضور الحي للوعي الإنساني والعيش الإنساني في مقابل التأملات المجردة وغير المفهومة ل «الفلسفة المدرسية»، أما فخته فقد اعتبر أساس كل فلسفته هو التناقض بين ثبوتية الكينونة والتدفق العارم للحياة.
وبوسعنا أن نجد قائمة المفكرين ذوي التوجه الشبيه بفلسفة الحياة لتشمل شخصيات مثل وليم جيمس وماركس وديوي وشيلر وأورتيجا جاسيت، في جميع هؤلاء ثمة ميل عام إلى العودة إلى امتلاء الخبرة المعاشة، وهو ميل يعبر في معظمه عن رفض للتجريد والآلية والصورية التي تسم الحضارة التكنولوجية، لقد برزت لدى هؤلاء قوى «العقل» و«الوجود» لتتحدى قوى التصلب والموات، وكانت قوى الحياة
Leben
هي المعين الذي لا ينضب لجميع صور الإبداع والمعنى.
أما عند دلتاي فقد أفصح هذا الاتجاه المضاد عن نفسه في صورة رفض لأشكال الفكر ذي التوجه السببي
Causality Oriented
والنزعة الطبيعية
Naturalistic
عندما يستخدم بهدف فهم الحياة الباطنة والخبرة الداخلية للإنسان، ذهب دلتاي إلى أن ديناميت الحياة الداخلية للإنسان هي مركب من المعرفة والشعور والإرادة، وهذه أمور لا يمكن إخضاعها لمعايير العلية وتصلب التفكير الكمي الالي، ورأى دلتاي أن جلب مقولات فكرية من «نقد العقل الخالص» لكي تستخدم في فهم الإنسان هو في حقيقة الأمر إقحام لمجموعة من المقولات المجردة من خارج الحياة وغير مستمدة من الحياة، إنها مقولات سكونية، لا زمانية، مجردة، أي نقيض الحياة ذاتها.
إن موضوع العلوم الإنسانية هو الحياة الإنسانية، وفهم الحياة الإنسانية ينبغي ألا يقوم على مقولات خارجة عن الحياة، بل على مقولات من صميم الحياة ومستقاة من الحياة، فهم الحياة يجب أن يتم من خبرة الحياة ذاتها، يقول دلتاي: إن «الذات العارفة» التي شيدها لوك وهيوم وكانت «لا يجري في عروقها دم حقيقي»، ذلك أن هؤلاء يضيقون نطاق المعرفة ويقصرونها على ملكة الإدراك بانفصال عن الشعور والإرادة، وفضلا عن ذلك فإنهم كثيرا ما يتحدثون عن الإدراك كما لو أن بالإمكان عزله عن السياق التاريخي الصميم لحياة الإنسان الباطنة، في حين أننا في حقيقة الأمر ندرك ونفكر ونفهم في ضوء الماضي والحاضر والمستقبل ووفقا لمشاعرنا ومطالبنا والتزاماتنا الأخلاقية. من الواضح إذن أننا لا بد أن نعود إلى الخبرة المعاشة، وإلى الوحدات ذات المعنى كما هي موجودة في الخبرة المعاشة.
والعودة إلى «الحياة» لا تعني عند دلتاي العودة إلى أرضية صوفية أو مصدر سري لكل حياة إنسانية وغير إنسانية، أو لعودة لنوع ما من الطاقة النفسية الأساسية، بل هو يرى الحياة من حيث «المعنى»، فالحياة هي «الخبرة الإنسانية؛ إذ تعرف من الداخل» و«ليس بوسع الفكر أن يمضي فيما وراء الحياة»، ومقولات الحياة ليست نابعة من واقع مفارق، بل من واقع الخبرة المعاشة، لقد أفصح هيجل من قبل عن نيته في أن يفهم الحياة من الحياة ذاتها، فجاء دلتاي ليضع هذا المقصد في سياق غير ميتافيزيقي (مضاد للميتافيزيقا)، سياق ليس بالواقعي ولا بالمثالي بل سياق فينومينولوجي، لقد ذهب مثل هيجل إلى أن الحياة هي واقع «تاريخي»، غير أن التاريخ عنده ليس غاية مطلقة أو تجليا لروح مطلق بل هو تعبير عن الحياة، فالحياة نسبية، وهي تعبر عن نفسها في أشكال عديدة، والحياة في الخبرة البشرية ليست «مطلقا» بأي معنى من المعاني. (2) العلوم الإنسانية كمقابل للعلوم الطبيعية
ماذا يعني الطرح الذي قلناه بالنسبة لمناهج دراسة الإنسان؟ يؤكد دلتاي أن على «الدراسات الإنسانية» أو «العلوم الروحية»
Geisteswissenschaften
أن تصوغ لها نماذج جديدة لتأويل الظواهر الإنسانية، هذه النماذج ينبغي أن تكون مستمدة من طبيعة الخبرة المعاشة ذاتها، وأن تكون قائمة على مقولات «المعنى»
Meaning
بدلا من «القوة»
، قائمة على التاريخ بدلا من الرياضيات، لقد كان دلتاي يرى فارقا جوهريا بين الدراسات الإنسانية والعلوم الطبيعية.
فالدراسات الإنسانية تتناول وقائع وظواهر ليست منبتة عن الإنسان، بل لا يكون لها معنى إلا بقدر ما تسلط الضوء على العمليات الداخلية في الإنسان، على «خبرته الداخلية»، إن المناهج الملائمة للموضوعات الطبيعية لا تكفي لفهم الظواهر الإنسانية إلا في حالتها من حيث هي موضوعات طبيعية، ومع ذلك فالدراسات الإنسانية متاح لها شيء غير متاح في العلوم الطبيعية، وهو إمكانية فهم الخبرة الداخلية لشخص آخر من خلال عملية انتقال ذهني باطنة وخفية، يقول دلتاي: «بالضبط لأن هناك انتقالا حقيقيا يمكن أن يحدث (عندما يفهم إنسان إنسانا)، ولأن تقارب الفكر وعموميته يمكن أن يمتدا ويشكلا عالما اجتماعيا تاريخيا، يمكن للأحداث والعمليات الداخلية في الإنسان أن تتميز عن تلك الأحداث والعمليات الخاصة بالحيوان، وبفضل هذا «الانتقال الحقيقي» الذي يمكن حدوثه من خلال الموضوعات التي تجسد خبرة داخلية يستطيع الإنسان أن يبلغ درجة من الفهم وعمقا فيه يتعذر بلوغه بالنسبة لأي نوع آخر من الموضوعات، ومن الواضح أن مثل هذا الانتقال ما كان ليحدث لولا وجود تشابه بين وقائع خبرتنا الذهنية الخاصة وبين تلك الحقائق الخاصة بشخص آخر، هذه الظاهرة تحمل معها إمكانية أن نجد في الشخص الآخر أعمق أعماق خبرتنا نحن، وأن نكتشف من التقائنا به عالما داخليا أكثر امتلاء.»
من الجدير بالذكر أن «دلتاي» قد أخذ بتعاليم المفكر النابوليتاني «جيامباتيستا فيكو»
G. Vico
حول دراسة الطبيعة البشرية كظاهرة طارئة (حادثة)
Contingent
تاريخيا، كان فيكو هو الخصم الأول لمنظور ديكارت للعلم والنصير الأساسي لعلم تاريخي متميز، في كتابه «العلم الجديد» يسلم فيكو بتميز الطبيعة البشرية والتاريخ البشري، ويخلص من ذلك إلى استحالة تطبيق نماذج العلم الطبيعي على الطبيعة الإنسانية، ويعلن أن الدراسة العلمية للطبيعة الإنسانية لا بد لها أن تقوم على أساس صيغة إنسانية بحتة من التفاعل والتفاهم.
يرى «فيكو» أن هناك هوة لا يمكن اجتيازها بين البشري والطبيعي، بين ما شيده البشر وما هو معطى في الطبيعة، لم يصنع الإنسان الأعمال الفنية والقوانين وحسب، وإنما صنع التاريخ كذلك، حتى هذه النقطة لا يوجد اختلاف بين فيكو وبين ديكارت، يبدأ الاختلاف الجذري بين فيكو وبين ديكارت وخلفائه الذين كانوا يبتغون علما موحدا يقوم على غرار العلوم الطبيعية حين يذهب فيكو إلى أن منتجات العمل البشري، كالفن والقانون والتاريخ نفسه، وبالضبط لأنها من صنع الإنسان، يمكن فهمها فهما أفضل من فهم العالم الطبيعي، حيث إن هذا العالم الطبيعي هو عالم «مغاير» لنا بشكل لا حيلة فيه وغير قابل لأن نعرف حقيقته النهائية. إن أية محاولة لدراسة البشر على أنهم كيانات طبيعية صرف، شأنهم شأن الأنهار والنباتات والأحجار، هي عمل يقوم على خطأ أساسي، ونحن البشر - فيما يتعلق بأنفسنا ملاحظين - نتمتع بامتياز خاص هو الرؤية من الداخل (الرؤية الباطنة)، ويعد تجاهل ذلك سعيا وراء مثال من العلم الموحد لكل ما هو موجود وطريقة عالمية مفردة للبحث، يعد إصرارا على الجهل وتعمدا له.
ذهب «فيكو» إلى أن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تفهم إلا من خلال تحليل تاريخي للغة والأسطورة والطقوس، كان فيكو يؤمن بأن «علمه الجديد» يمكن أن يؤدي إلى مجموعة عالمية من المبادئ الخاصة بالطبيعة الإنسانية، ذلك أنه حتى المجتمعات التي لا يوجد بينها أي اتصال تواجه نفس المشاكل الوجودية.
3
أخذ «دلتاي» بتعاليم «فيكو» كما أسلفنا وذهب إلى أن الدراسات الإنسانية متاح لها شيء غير متاح للعلوم الطبيعية، وهو إمكان فهم الخبرة الداخلية لشخص آخر من خلال عملية انتقال ذهني ملغزة وسرية، يرى دلتاي، مقتفيا في ذلك أثر شلايرماخر، هذا الانتقال بوصفه إعادة تشييد أو إعادة معايشة لعالم الخبرة الداخلية لشخص آخر، غير أن اهتمامنا لا ينصب على الشخص الآخر بل على العالم نفسه، وهو عالم ننظر إليه كعالم «اجتماعي- تاريخي»، إنه عالم الأوامر الأخلاقية الداخلية، عالم مشترك من المشاعر والاستجابات ومن الخبرة المشتركة بالجمال، وإن لدينا القدرة على النفاذ إلى هذا العالم الإنساني الداخلي، «لا من خلال «الاستبطان»
Introspection
بل من خلال التأويل، أي فهم تعبيرات الحياة وقراءة بصمة الإنسان على الظواهر وفك رموزها.»
الفرق إذن بين الدراسات الإنسانية والعلوم الطبيعية لا يكمن بالضرورة في صنف مختلف من الموضوعات في حالة الدراسات الإنسانية أو في صنف مختلف من الإدراك، إنما يكمن الفرق في السياق الذي يتم فيه فهم الموضوع المدرك، فقد تستخدم الدراسات الإنسانية في بعض الأحيان نفس الموضوعات أو «الوقائع»
Facts
التي تستخدمها العلوم الطبيعية، ولكن في سياق مختلف من العلاقات، وهو سياق يتضمن الخبرة الداخلية أو يشير إليها، هذه الإحالة إلى الخبرة الإنسانية أو الحياة الباطنة للإنسان هي الشيء الغائب في العلوم الطبيعية والموجود بالضرورة في الدراسات الإنسانية، يقول دلتاي بناء على ذلك: «إن الفرق بين العلوم الطبيعية والإنسانية لا يتحدد بالضرورة وفقا لطريقة معينة من المعرفة بل هو فارق في المضمون، فقد يشتمل الموضوع نفسه والواقعة نفسها على أنساق مختلفة من العلاقات، ومن المتعين على الدراسات الإنسانية أن تتناول الموضوع أو الواقعة وتستخدمها في ضوء «مقولات»
Categories
غير علمية مستمدة من الحياة نفسها، مثال ذلك أننا قد نفسر موضوعا معينا وفقا لمقولات سببية خالصة (أي بطريقة علمية)، أو نفسره بالنظر إلى ما ينبئنا به عن الحياة الباطنة للإنسان، أو - بتعبير أكثر موضوعية - عن العالم الاجتماعي التاريخي للإنسان والذي هو مادة الخبرة الداخلية ومظهرها معا، لا يمكن للعلوم الطبيعية أن تستخدم وقائع عقلية وتظل بعد ذلك علوما طبيعية، بينما يمكن للدراسات الإنسانية أن تستخدم وقائع فيزيائية، غير أنها إذاك لا تتعامل مع العالم الخارجي إلا في علاقته بالبشر ذوي الشعور والإرادة، ولا تعنيها الوقائع الفيزيائية إلا بقدر ما تؤثر على السلوك وتساعد أو تعوق الغايات والأغراض البشرية.»
والكلمة المفتاحية في الدراسات الإنسانية، كما يراها دلتاي، هي كلمة «الفهم»
Understanding ، فإذا كان «التفسير»
Explanation
هو غاية العلوم، فإن المدخل الصحيح إلى الظواهر التي تضم الداخل والخارج هو «الفهم»، و«إذا كانت مهمة العلوم أن «تفسر»
Explain
الطبيعة فإن مهمة الدراسات الإنسانية هي أن «تفهم»
Understand
تعبيرات الحياة.» بوسع الفهم أن يحيط بالكيان المفرد بينما يتعين على العلم دائما ألا ينظر إلى «الفردي»
Individual
إلا كوسيلة لبلوغ «الكلي» أو الوصول إلى «النمط»
Type ، ونحن في مجال الفنون بصفة خاصة نقدر «الجزئي» لذاته، ونتلبث بحب في تفهم الظاهرة في فردانيتها ، هذا الشغف المستغرق في الحياة الداخلية الفردية يقف على نقيض أساسي من موقف العلوم الطبيعية وإجراءاتها، وعلى الدراسات الإنسانية، كما يؤكد دلتاي، أن تحاول صياغة منهج للفهم يتجاوز الموضوعية الردية
Reductionist Objectivity
للعلوم، وأن تعود إلى امتلاء «الحياة»، امتلاء الخبرة الإنسانية.
هذه هي الخطوط الرئيسية لتصور «دلتاي» عن العلوم الإنسانية، فهل يمكن تبرير هذا الفصل الصارم بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية؟ الحق أن أغلب المفكرين، بما فيهم بعض من أشد المؤيدين لدلتاي، يرون غير ذلك، من ذلك أن جورج ميرش قد أدرك منذ البداية أن التوفيق المثمر بين المنهجين هو أمر ممكن ومطلوب، كما لاحظ بولنو بحق أنه إذا كان هذا الفصل مفيدا في الفهم النظري لهذين الفرعين الكبيرين من المعرفة، فمن المفيد بنفس الدرجة أن نسلم بأن «الفهم» ليس مقصورا على الدراسات الإنسانية ولا «التفسير» السببي مقصورا على العلوم الطبيعية، بل إن كليهما يعمل متآزرا مع الآخر بدرجات مختلفة في كل فعل حقيقي من أفعال المعرفة، ومن المفارقات الساخرة أن بإمكاننا من موقعنا الحالي أن نرى إلى أي مدى تسللت التصورات العلمية وحتى النزعة التاريخية (التي جهد «دلتاي» للتغلب عليها) إلى تصوره عن الدراسات الإنسانية، ذلك أن بحثه عن «المعرفة الصائبة موضوعيا» كان بحد ذاته تعبيرا عن المثل الأعلى في العلوم وهو البحث عن المعطيات الواضحة الخالصة، وقد أدى ذلك من حيث لا يدري إلى توجيه فكره نحو استعارات وصور مكانية لا زمانية للحياة العقلية، وهي صور تلائم التفكير العلمي، ومن جهة أخرى فقد أدت به تعاليم شلايرماخر إلى تصور للفهم على أنه إعادة بناء وإلى شيء من النزعة السيكولوجية لم يتخلص منها إلا بجهد جهيد، وذلك عندما تحول إلى تأسيس نظريته على الهرمنيوطيقا بدلا من تأسيسها على صنف جديد من السيكولوجيا.
ومهما يكن من شيء، فإن مشروع دلتاي لفهم الحياة وتعميق الجانب التاريخي للفهم ونقده الحاد للنزعة العلمية المتطرفة التي تسللت إلى الدراسات الإنسانية؛ كل أولئك قد لعب دورا كبيرا في الهرمنيوطيقا منذ دلتاي، ونحن نرى فكر دلتاي استباقا لبعض الأهداف الأساسية للتأويل وافتتاحا لبعض المشكلات الجوهرية للهرمنيوطيقا بوصفها مشكلات، وقد قدر لهيدجر أن يؤسس على هذه الأهداف، ومن الجلي أنه رجع إلى دلتاي في محاولته لتجاوز الميول العلمية الراسخة في أستاذه إدموند هسرل.
4 (3) الصيغة التأويلية عند دلتاي: «الخبرة، التعبير، الفهم»
نحن نفسر الطبيعة، أما الإنسان فإن علينا أن نفهمه.
دلتاي
يقول دلتاي: «لا ينتمي علم ما إلى الدراسات الإنسانية ما لم يصبح موضوعه متاحا لنا من خلال إجراء قائم على العلاقة المنهجية بين الحياة والتعبير والفهم.» هذه الصيغة «الخبرة-التعبير-الفهم» ليست واضحة بذاتها لأن كل حد من حدودها له معنى محدد في فلسفة دلتاي، ويستحق منا وقفة استكشافية منفصلة. (3-1) الخبرة
Experience
يستخدم دلتاي لفظة ألمانية هي
Erlebnis (الخبرة المعاشة)
5
لم تكن تستخدم من قبله كاسم مفرد، وقد استخدمها بمعنى شديد الخصوصية والتحديد، ويعني بها وحدة متقومة بمعنى مشترك يجعل منها كلا مدمجا، يقول دلتاي: «ذلك الذي في مجرى الزمان يشكل وحدة في الحاضر بفضل حيازته لمعنى موحد هو الكيان الأصغر الذي يمكن أن نسميه «خبرة»، فإذا مضينا أبعد من ذلك فإن بوسع المرء أن يطلق على كل وحدة جامعة مكونة من أجزاء حياتية مدمجة معا بفضل معنى مشترك لمسار الحياة اسم «خبرة»، حتى لو كانت هذه الأجزاء العديدة منفصلة بعضها عن بعض ب «أحداث اعتراضية».»
وبتعبير آخر يمكننا القول بأن الخبرة الدالة للوحة فنية على سبيل المثال قد تشتمل على مشاهدات كثيرة للوحة منفصلة زمنيا، وتظل رغم ذلك تسمى «خبرة»
Erlebnis ، وخبرة الحب الرومانسي مثلا هي خبرة لا تقوم على لقاء واحد بل تضم أحداثا مختلفة في الزمن والمكان والنوع، غير أن وحدتها المعنوية كخبرة ترفعها خارج تيار الحياة وتضمها معا في وحدة من المعنى، أي في «خبرة».
بم تتسم هذه الوحدة من المعنى؟ يجيب دلتاي عن هذا السؤال بإسهاب كبير، ويعد فهم ذلك الشيء المسمى «الخبرة» وفهم مكوناته أمرا أساسيا لفهم تأويلية دلتاي، أولا يجب ألا نفهم الخبرة على أنها «محتوى» فعل انعكاسي (تأملي) للوعي؛ لأنها عندئذ ستغدو شيئا نحن على وعي به، بل هي الفعل ذاته، إنها شيء نحيا فيه وخلاله، إنها الموقف نفسه الذي نتخذه تجاه الحياة ونعيش فيه، إنها الخبرة بما هي كذلك، الخبرة كما هي معطاة في المعنى قبل أي تأمل انعكاسي، وبوسع الخبرة أن تصبح فيما بعد موضوعا للتأمل، ولكنها عندئذ لا تعود خبرة مباشرة، بل موضوعا لفعل آخر من أفعال المواجهة، الخبرة إذن ليست موضوعا للوعي بقدر ما هي فعل للوعي، وينبغي ألا نتصورها كشيء يقف الوعي بإزائه ويعيه.
يعني ذلك أن الخبرة لا تدرك، ولا يمكن أن تدرك، نفسها بشكل مباشر؛ لأنها عندئذ ستكون فعلا انعكاسيا للوعي، والخبرة ليست «معطى» من معطيات الوعي، لأنها عندئذ ستكون واقفة بإزاء «ذات» بوصفها «موضوعا» مقدما إليها، الخبرة إذن توجد قبل انفصال «الذات-الموضوع»، ذلك الانفصال الذي يعد هو نفسه نموذجا يستخدمه الفكر الانعكاسي (التأملي)، الخبرة في حقيقة الأمر ليست متميزة عن الإدراك أو الفهم نفسه، وكلمة
Erlebnis
تمثل ذلك الاتصال المباشر بالحياة الذي يمكن أن نسميه «الخبرة المعاشة المباشرة».
من المتعين أن يكون التحليل الوصفي لهذا العالم الرواغ السابق على الفكر الانعكاسي هو الأساس لكل من الدراسات الإنسانية والعلوم الطبيعية، غير أنه مهم بصورة خاصة للدراسات الإنسانية؛ ذلك أن مقولات الفهم الإنساني والتأويلي نفسها يجب أن تستمد منه، هذا العالم من الوعي قبل الانعكاسي هو بالضبط ما سيدخر لكي تظفر به فينومينولوجيا هسرل وهيدجر، فبينما كان دلتاي يسعى لإنجاز مشروعه المنهجي بانسجام شديد مع فلسفة الحياة عنده، وفيما كان يفصل فصلا واضحا بين مجرد «التفكير» وبين «الحياة» (أو الخبرة) «كان في الحقيقة يؤسس القواعد لفينومينولوجيا القرن العشرين».
على أنه من الخطأ الفادح أن نتصور أن الخبرة تشير إلى ضرب من الواقع الذاتي لا أكثر؛ لأن الخبرة هي بالتحديد ذلك الواقع الذي يتمثل لي قبل أن تغدو الخبرة موضوعية (وتفترض من ثم انفصالا عن الذاتي)، هذه الوحدة الأولى هي ما يريد دلتاي أن يصوغ منه مقولات يرجى لها أن تضم (لا أن تفصل) الشعور والمعرفة والإرادة (وهي العناصر الملتئمة معا في الخبرة)، مقولات من قبيل «القيمة»، «المعنى»، «العلاقة» ... وقد لاقى دلتاي صعوبات كبيرة في صياغة هذه المقولات، غير أن المهمة بحد ذاتها هي على أعلى درجة من الأهمية، كان اختيار دلتاي محكوما بهدفه في بلوغ «معرفة ذات صواب موضوعي»، وهذا الهدف بالتحديد هو ما فرض على تفكيره حدودا وقيودا لا داعي لها، غير أننا لا يسعنا إلا الإعجاب بسعيه الدءوب من أجل مقولات تعبر عن «حرية الحياة وحرية التاريخ»، إن استبصاره المثمر إنما يكمن في رؤية الخبرة كمجال سابق على الذات والموضوع، مجال يقدم لنا العالم وخبرتنا بالعالم معا في آن، لقد رأى بوضوح فقر نموذج «الذات-الموضوع» كنموذج لالتقاء الإنسان بالعالم، وعاين بوضوح سطحية الفصل بين المشاعر والموضوعات، والفصل بين الإحساسات والفعل الكلي للفهم، يقول دلتاي بتهكم وازدراء: «نحن نعيش ونتحرك لا في عالم من الإحساسات بل في عالم من الموضوعات التي تقدم نفسها إلينا، لا في عالم من المشاعر بل في عالم من القيم والمعاني.» ومن الممتنع وغير المعقول أن نفصل إحساسات المرء ومشاعره عن السياق الكلي للعلاقات المتضامة معا في وحدة الخبرة.
ثمة استبصار خصب آخر «لدلتاي» وهو توكيده على الطبيعة الزمانية لسياق العلاقات المعطاة في الخبرة، فالخبرة ليست شيئا سكونيا، بل هي على العكس تميل في وحدة معناها إلى الامتداد لتضم تحت جناحها كلا من إعادة معايشة الماضي وتوقع المستقبل في السياق الكلي للمعنى، فنحن لا يمكن أن نتخيل المعنى إلا في ضوء ما نتوقع من المستقبل أن يكون، ولا بإمكان المعنى أن يتحرر من الاعتماد على المادة التي يقدمها الماضي، الماضي والمستقبل إذن يشكلان وحدة بنائية مع حاضر كل خبرة، وهذا السياق الزماني هو الأفق الذي لا مهرب منه والذي يتم داخله تأويل أي إدراك يحدث في الحاضر.
وقد أفاض «دلتاي» في إثبات أن زمانية الخبرة ليست شيئا يفرضه الوعي بطريقة انعكاسية (كما هو موقف الكانتيين، فالعقل لديهم هو الكيان النشط الذي يفرض وحدة على الإدراك)، وإنما الزمانية عند دلتاي هي شيء كامن في الخبرة ذاتها كما هي معطاة لنا، في هذا الصدد يمكن أن يسمى دلتاي «واقعيا» لا «مثاليا»: زمانية الخبرة عند دلتاي، كما ستكون عند هيدجر، مساوية في أوليتها للخبرة ذاتها، إنها ليست شيئا مضافا إلى الخبرة، إذا حاول المرء، على سبيل المثال، أن يستوعب مسار حياته الخاصة في فعل انعكاسي تأملي للوعي، فها هنا في هذه الممارسة الخاصة وحدة مرشدة لنا فيما نريد أن نبينه، فهي تكاد تكون صورة طبق الأصل للطريقة الفعلية التي تتمثل بها هذه الوحدة في الوعي على مستوى سابق على التأمل، يقول دلتاي واصفا محاولته الخاصة في هذا السبيل: «ماذا يحدث عندما تصبح «الخبرة» هي موضوع تأملي؟ إنني، على سبيل المثال، أرقد صاحيا بالليل، يؤرقني احتمال ألا أكمل في شيخوختي العمل الذي كنت بدأته، وأفكر ماذا أفعل، ثمة في هذه «الخبرة» مجموعة بنائية من العلاقات: يشكل الفهم الموضوعي للموقف أساسا لها، وفوق هذا الأساس يقوم توجه هو القلق حول الواقعة المدركة موضوعيا والسعي إلى تجاوز هذه الواقعة، كل ذلك يتمثل لي في السياق البنائي للواقعة، لقد قمت الآن بطبيعة الحال بتقديم الموقف للوعي الفاحص والمميز، وأبرزت العلاقات البنائية بوضوح وجلاء؛ لقد قمت ب «عزل» الموقف، غير أن كل ما قمت بطرحه هنا في حقيقة الأمر كامن سلفا في الخبرة ذاتها، وما فعلت غير أن سلطت عليه الضوء في هذا الفعل التأملي.»
إن «معنى» واقعة مدركة موضوعيا هو معطى مع الواقعة نفسها، والمعنى أمر زماني في صميمه؛ إذ يعرف في السياق الحياتي للمرء، يقول دلتاي إكمالا للفقرة السابقة إن هذا يعني شيئا ذ أهمية أساسية لكل دراسة للواقع الإنساني: «فالأجزاء المكونة لما يشكل رأينا في مسار حياتنا هي جميعا محتواة معا في الحياة ذاتها.» يمكننا أن نسمي ذلك بالزمانية أو التاريخية الداخلية، وهي غير مقحمة على الحياة بل هي باطنة فيها، يقرر دلتاي حقيقة عظيمة الأهمية للهرمنيوطيقا: وهي أن الخبرة «زمانية» في صميمها (أي تاريخية بأعمق معاني الكلمة)، ومن ثم فإن فهم الخبرة ينبغي أيضا أن يتم في مقولات فكرية زمانية (تاريخية) بنفس الدرجة.
بذلك يكون «دلتاي»، بتوكيده على زمانية الخبرة، قد وضع الأساس لكل المحاولات التي ستأتي بعده لتأكيد «تاريخية» الوجود في العالم، و«التاريخية» لا تعني التركيز على الماضي ولا تعني ضربا من السلفية الذهنية التي تجعل المرء مستعبدا لأفكار قديمة ميتة، فالتاريخية هي جوهريا إثبات زمانية الخبرة البشرية كما بينا لتونا، إنها تعني أننا لا نفهم الحاضر في حقيقة الأمر إلا في أفق الماضي والمستقبل، وهذه مسألة لا تعتمد على جهد واع، بل هي متأصلة في بنية الخبرة ذاتها، على أن إبراز هذه التاريخية وإخراجها إلى النور له نتائج تأويلية مؤكدة، فلم يعد بوسعنا أن نفترض لاتاريخية التأويل ونقنع بتحليل مصوغ في مقولات غريبة تماما عن تاريخية الخبرة الإنسانية، إنها تكشف بوضوح قاس أن الخبرة لا ينبغي فهمها في مقولات علمية، وأن مهمتنا واضحة جلية: إيجاد مقولات «تاريخية» تلائم طبيعة الخبرة المعاشة.
6 (3-2) التعبير
Expression
وهو الحد الثاني في صيغة دلتاي التأويلية «الخبرة-التعبير-الفهم»، ومن الضروري الانتباه إلى أن استخدام دلتاي لهذا المصطلح ينبغي ألا يلحقه آليا بالنظريات التعبيرية في الفن، ذلك أن هذه النظريات مصوغة في حدود نموذج الذات-الموضوع، فنحن مثلا نصل لفظة «تعبير» بشكل شبه آلي «بالمشاعر»: نحن «نعبر» عن مشاعرنا، ونظرية التعبير في الفن ترى العمل الفني على أنه تمثيل رمزي للمشاعر، وشاعر مثل وردزورث (وهو من دعاة نظرية التعبير في الخلق الشعري) ينظر إلى القصيدة على أنها تدفق تلقائي لمشاعر عارمة.
أما «دلتاي»، فهو حين يستخدم لفظة «تعبير»
Ausdruck
فهو لا يشير إلى تدفق ولا شعور، بل إلى شيء أعم وأشمل بكثير، التعبير عند دلتاي لس بالدرجة الأولى تجسيدا لمشاعر شخص واحد بل هو «تعبير عن الحياة»، يمكن للتعبير أن يشير إلى فكرة، قانون، شكل اجتماعي، لغة، أي إلى أي شيء يعكس بصمة الحياة الداخلية للإنسان، التعبير إذن ليس مجرد رمز للشعور.
وربما أمكننا ترجمة لفظة
Ausdruck
لا إلى «تعبير»، بل إلى «موضعة»
Objectification
العقل الإنساني (المعرفة، والشعور، والإرادة)، أما الدلالة التأويلية للموضعة فهي أن بفضلها يمكن للفهم أن يركز على تعبير «موضوعي» ثابت للخبرة المعاشة بدلا من محاولة الإحاطة به من خلال الاستبطان، فالاستبطان
Introspection
لا يمكن أن ينهض كأساس للدراسات الإنسانية، فقد أدرك دلتاي أن التأمل المباشر في الخبرة يؤدي إما إلى: (1) حدس لا يمكن إيصاله، وإما إلى (2) تصور هو ذاته تعبير عن الحياة الداخلية، الاستبطان إذن طريقة غير مأمونة لا إلى معرفة النفس ولا إلى معرفة الإنسان في الدراسات الإنسانية، فالدراسات الإنسانية ينبغي بالضرورة أن تنصب على «تعبيرات الحياة»
Expressions of Life
فهذه الدراسات؛ إذ تنصب على موضعة الحياة هي دراسات تأويلية في صميمها، ولكن على أية أنواع من الموضوعات يمكن للدراسات الإنسانية أن تنصب؟ لقد كان دلتاي محددا تماما في مسألة مجال الدراسات الإنسانية ونطاقها: «أيما شيء موضعت فيه روح الإنسان فهو يقع في نطاق العلوم الروحية.» إن محيط هذه الدراسات واسع بقدر سعة الفهم، والفهم يجد موضوعه الحقيقي في موضعة الحياة ذاتها.
7 (أ) العمل الفني بوصفه موضعة للخبرة المعاشة
إذا كان نطاق الدراسات الإنسانية بهذا الاتساع، فأين يقع فهمنا للعمل الفني، ولا سيما العمل الفني الأدبي؟
يصنف دلتاي المظاهر المختلفة للحياة أو الخبرة الداخلية للإنسان (الحياة عند دلتاي ليست شيئا ميتافيزيقيا، ليست مصدرا عميقا وراء الخبرة المعاشة نفسها، فالخبرة الإنسانية هي ذلك الشيء الذي وراءه لا يصح ولا ينبغي للتأمل أن يمضي) إلى ثلاثة أصناف كبرى: (1) الأفكار
Ideas (أي المفاهيم والأحكام، والصور الكبرى للفكر) «مجرد مضمون فكري» وهي مستقلة عن الشخص والمكان والزمان الذي يظهر فيه؛ وهي لذلك على درجة من الدقة وسهولة الإيصال. (2) الأفعال
Actions
وهي أصعب في التأويل؛ لأن في كل فعل هناك غرض محدد، ولكن ليس بغير صعوبة كبيرة يمكننا تحديد العوامل التي أثرت في القرار الذي أدى إلى الفعل، القانون على سبيل المثال هو فعل عمومي يشمل المجتمع كله، ولكن تسري عليه نفس الصعوبة، فليس بالإمكان مثلا معرفة ما كان يراد من القانون أن يضبط عندما تم وضعه. (3) وهناك أخيرا «تعبيرات عن الخبرة المعاشة»
Expressions of Lived Experience ، وهي تمتد من التعبيرات التلقائية عن الحياة الباطنة كالهتاف والإيماء إلى التعبيرات التي تمليها الروية والتحكم الواعي والمتجسدة في «الأعمال الفنية».
يشير «دلتاي» - بصفة عامة - إلى التصنيفين الأولين، الأفكار والأفعال، على أنهما «مظاهر الحياة»، أما الثالث فقد كان أميل إلى أن يدخر لها المصطلح الأكثر تخصيصا «تعبيرات الخبرة المعاشة»، في هذه الفئة الثالثة تجد الخبرة الإنسانية الداخلية أكمل تعبير، وفيها يواجه الفهم أكبر تحد، يقول دلتاي: «تختلف تعبيرات الخبرة المعاشة اختلافا تاما عن الأفكار والأفعال، ثمة علاقة خاصة بينها كتعبير عن الحياة ذاتها وبين الفهم الذي يحدثها ويأتي بها، بوسع التعبير أن يتضمن من سياق الحياة الباطنة أكثر مما يمكن لأي استبطان أن يدرك، ذلك أن التعبير ينبع من أعماق لا يضيئها الوعي على الإطلاق.»
العمل الفني - بطبيعة الحال - يتخطى في مرونته ووثوقه مجرد الإيماء أو الهتاف بما لا يقاس، فالإيماءات يمكن تزييفها، أما الفن فهو يشير إلى الخبرة ذاتها أو يعبر عنها ولذلك فهو بمأمن من التزييف: «في الأعمال الفنية العظيمة تنبت رؤية ما عن خالقها (الشاعر أو الفنان أو الكاتب) فنرتحل إلى عالم ليس فيه خداع ممن يعبر، ليس هناك عمل فني حقيقي يحاول أن يعكس واقعا مخالفا للمحتوى الباطن لمؤلفه، وحقيقة الأمر أن العمل الفني لا يريد أن يقول أي شيء على الإطلاق عن مؤلفه، بل يقف هناك: حقا في ذاته، ثابتا، مرئيا، باقيا.»
لم يعد مكان لمشكلة التزييف الموجودة في الإيماءات وفي أي فعل بشري أو موقف بشري تصطرع فيه المصالح، «ذلك أن العمل الفني لا يشير إلى مؤلفه على الإطلاق بل إلى الحياة ذاتها.» ولهذا السبب بالتحديد فإن العمل الفني هو أكثر موضوعات الدراسات الإنسانية وثوقا وثباتا وخصوبة، بهذا الوضع الثابت والموضوعي يصبح الفهم الفني الوثيق للتعبير أمرا ممكنا، «هكذا تبزغ في الحدود القائمة بين المعرفة والفعل حلقة أو عالم تفصح فيه الحياة عن نفسها بعمق غير متاح في الملاحظة أو التأمل أو النظرية.»
ولعل الأعمال الفنية المتجسدة في اللغة (الأدب) هي بين جميع الأعمال الفنية أعظمها قدرة على كشف الحياة الباطنة للإنسان، وبسبب وجود هذه الموضوعات الثابتة الباقية (الأعمال الأدبية في هذه الحالة) فقد ظهر بالفعل حشد من النظريات حول تفسير النصوص هو الهرمنيوطيقا، يؤكد «دلتاي» أن مبادئ الهرمنيوطيقا يمكن أن تهدي إلى نظرية عامة في الفهم، ذلك أنه «فوق كل شيء فإن فهم بنية الحياة الباطنة يقوم على تفسير الأعمال، الأعمال التي تعبر عن نسيج الحياة الباطنة تعبيرا كاملا.» هكذا تأخذ الهرمنيوطيقا عند دلتاي دلالة جديدة أكبر مما أخذته في السابق؛ إذ تصبح نظرية غير مقتصرة على مجرد تفسير النصوص، بل نظرية في كيف تكشف الحياة عن ذاتها وتعبر عن نفسها في الأعمال.
غير أن التعبير في هذه الحالة ليس تعبيرا عن واقع فردي وشخصي محض؛ لأنه عندئذ يتعذر فهمه من جانب شخص آخر، عندما يأخذ التعبير شكل الكتابة فإنه يستعمل اللغة، وهي وسيط مشترك بين الكاتب والمتلقي، وبالمثل فإن الخبرة هي شيء مشترك بين القائل والمستمع، فالفهم يأتي في حقيقة الأمر بفضل تماثل الخبرة، هكذا يمكننا أن نفترض وجود بناءات عمومية يحدث الفهم الموضوعي فيها ومن خلالها، التعبير إذن ليس تعبيرا عن شخص على الإطلاق كما تذهب النزعة السيكولوجية، بل عن واقع اجتماعي-تاريخي يكشف عن نفسه في الخبرة، ذلك هو الواقع الاجتماعي-التاريخي للخبرة ذاتها.
8 (3-3) الفهم
Understanding
لكلمة «الفهم»، شأنها شأن الكلمتين المفتاحين الآخرين في صيغة دلتاي «الخبرة-التعبير-الفهم»، معنى خاص يختلف عن معناها في الاستعمال الدارج، فهي لا تشير إلى فهم تصور عقلي مثل مسألة رياضية مثلا، بل يدخر دلتاي كلمة «فهم» لكي يسمي بها تلك العملية التي فيها يقوم العقل بفهم عقل شخص آخر، إنها ليست عملية معرفية خالصة على الإطلاق، بل هي تلك اللحظة الخاصة حيث الحياة تفهم الحياة، «إننا نفسر
Explain
بواسطة عمليات فكرية محضة، ولكننا نفهم
Understand
بواسطة النشاط المشترك لجميع القوى الذهنية في الإدراك.» ويعبر دلتاي عن هذه الكفرة في عبارته المحكمة الشهيرة: «نحن نفسر الطبيعة، أما الإنسان فينبغي علينا أن نفهمه.» الفهم إذن هو العملية الذهنية التي يتم لنا بواسطتها إدراك الإنسانية الحية، إنها الفعل الذي يشكل أفضل اتصال لنا بالحياة ذاتها، وللفهم
Understanding ، شأنه شأن الخبرة المعاشة
Erlebnis ، امتلاء معين يند عن التنظير العقلي.
يفتح لنا الفهم عالم الأشخاص الفرديين، وهو بذلك يفتح لنا أيضا الاحتمالات الكامنة في طبيعتنا نحن، ليس الفهم مجرد فعل فكري، وإنما هو انتقال وإعادة معايشة العالم كما يجده شخص آخر في الخبرة المعاشة، وليس الفهم عملية مقارنة واعية تأملية، بل عملية تفكير صامت يتم فيها انتقال المرء بطريقة سابقة على التأمل إلى دخيلة الشخص الآخر، إن المرء ليعيد اكتشاف نفسه في الشخص الآخر.
ثمة حقيقة أخرى تبرز الطريقة التي يختلف بها الفهم عن مجرد التفسير العلمي، وهي أن للفهم قيمة في ذاته بمعزل عن أي اعتبارات عملية، فالفهم ليس بالضرورة وسيلة لشيء آخر، بل هو خير بحد ذاته، فمن خلال الفهم وحده نلتقي بالجوانب الشخصية وغير التصورية من الواقع: «إن لغز «الشخص» ليجذبنا من أجل ذاته فحسب إلى محاولات للفهم تزداد جدة وعمقا على الدوام.» وفي مثل هذا الفهم يبزغ عالم الفرد، ذلك العالم الذي يشتمل على الإنسان وإبداعاته، ها هنا تكمن وظيفة الفهم الملائمة للدراسات الإنسانية على أتم وجه، ويؤكد دلتاي، مثلما أكد سلفه شلايرماخر من قبل، أن الدراسات الإنسانية تتريث بحب عند «الجزئي» من أجل ذاته، أما التفسيرات العلمية، فهي قلما تقدر في ذاتها، بل تقدر من أجل شيء آخر، وحين تكون بعض الرسائل العلمية ممتعة لنا بحد ذاتها (كما هو الحال مع رسالة لوكريتس «في طبيعة الأشياء») فنحن إنما نراها على أنها مفاتيح لفهم الطبيعة الداخلية للإنسان؛ إننا، بمعنى أصح، نلج إلى داخل الدراسات الإنسانية ومقولات الفهم وليس إلى مجرد التفسير. (4) معنى «التاريخية» في هرمنيوطيقا دلتاي
ولو طار جبريل بقية عمره
عن الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر
المعري
ألح دلتاي مرارا على أن الإنسان «كائن تاريخي»
a Historical Being
ولكن ماذا تعني كلمة «تاريخي» في هذا المقام؟ الجواب هنا على جانب كبير من الأهمية، ليس من أجل فهم هرمنيوطيقا دلتاي فحسب، بل أيضا بسبب التأثير الذي سيمارسه مفهوم «التاريخية» على النظرية التأويلية اللاحقة.
التاريخ في تصور «دلتاي» ليس شيئا ماضيا يقف بإزائنا بصفته موضوعا، ولا «التاريخية» عنده تشير إلى تلك الحقيقة الواضحة موضوعيا للجميع وهي أن الإنسان يولد ويعيش ويموت في مسار الزمن، إنها لا تشير إلى زوال الوجود الإنساني وقصر عمره، والذي هو موضوع للشعر، التاريخية عند «دلتاي» تعني أمرين:
وفيما يتولى الإنسان على الدوام امتلاك التعبيرات المصوغة التي تشكل إرثه وتركته فهو يصبح «تاريخيا» بطريقة إبداعية، فهذا الفهم للماضي ليس شكلا من العبودية، بل من الحرية، حرية الفهم الذاتي المتنامي على الدوام والوعي بقدرته على أن يريد ما سيكونه، وما دام بقدرة الإنسان أن يغير ماهيته ذاتها، فمن الممكن القول بأن لديه القدرة على أن يغير الحياة ذاتها، إن لديه قوى حقيقية وجذرية على الخلق.
إن من شأن ذلك أن يدعم ما قلناه آنفا عن الزمانية الصميمة للفهم: فالمعنى دائما يقف في «سياق/أفق» يمتد في الماضي، ويمتد في المستقبل، وشيئا فشيئا تصبح هذه الزمانية جزءا لا يتجزأ من مفهوم «التاريخية»، بحيث «لا يقتصر لفظ «التاريخية» على الإشارة إلى اعتماد الإنسان على التاريخ في فهم ذاته وتأويلها، وإلى تناهيه الإبداعي في تحديد ماهيته تاريخيا، بل يشير أيضا إلى استحالة الفكاك من التاريخ، وإلى الزمانية الصميمة لكل فهم.»
والنتائج التأويلية لهذه «التاريخية» واضحة في كل كتابات دلتاي بحيث يصح أن نقول مع بولنو إن مفهوم التاريخية، إلى جانب مفهوم وحدة الحياة والتعبير، هو مفهوم محوري لفهم فلسفة دلتاي، فإذا اختلف «دلتاي» عن سواه من فلاسفة الحياة فإن هذه «التاريخية» بالتحديد هي ما يفرقه عن «برجسون» وغيره، لقد كان دلتاي هو من أعطى الدفعة الحقيقية للاهتمام الحديث بالتاريخية، وكما لاحظ بولنو بحق فإن «جميع المحاولات الحديثة لفهم تاريخية الإنسان تجد في دلتاي بدايتها الحاسمة والمؤكدة».
9
إنه باختصار أبو التصورات الحديثة للتاريخية، فلا تأويلية دلتاي نفسها، ولا تأويلية هيدجر وجادامر ، يمكن تصورها إلا في ضوء التاريخية، وبخاصة تاريخية الفهم، فالنظرية التأويلية ترى إلى الإنسان بوصفه معتمدا على تأويل دائم للماضي، ومن هنا أمكن القول بأن الإنسان هو ذلك «الحيوان التأويلي» الذي يفهم نفسه وفقا لتأويل ميراث وعالم مشترك تسلمه من الماضي، ميراث حاضر وناشط دائما في أفعاله وقراراته، وصفوة القول أنه في التاريخية تجد الهرمنيوطيقا الحديثة أسسها النظرية. (5) الدائرة التأويلية والفهم
يرى «دلتاي» أن عمليات الفهم تحدث في إطار مبدأ «الدائرة التأويلية»
Hermeneutical Circle
الذي صرح به آست وشلايرماخر من قبل، ومفاده أن «الكل» يأخذ دلالته ومعناه من «الأجزاء»، و«الأجزاء» في الوقت نفسه لا يمكن فهمها إلا بالإحالة إلى «كل»، والكلمة المحورية هنا هي كلمة «المعنى»
Meaning
فالمعنى هو ذلك الذي يظفر به الفهم في عملية التفاعل الجوهري المتبادل بين الكل والأجزاء.
وكما أشرنا من قبل، فإن «الجملة» اللغوية تقدم لنا مثالا واضحا على التفاعل المتبادل بين الكل والأجزاء وعلى أهمية الطرفين في عملية الفهم: فنحن من معنى الأجزاء نظفر بفهم لمعنى الكل الذي يغير بدوره حالة اللاتحديد في الكلمات المفردة إلى نمط ثابت وذي معنى، يورد دلتاي هذا المثال ثم يصرح بأن العلاقة نفسها توجد بين الكل والأجزاء في حياة المرء، فمعنى الكل مستمد من معنى الأجزاء، ومن الممكن لحدث أو خبرة أن تغير حياتنا بحيث يصبح ما كان ذا معنى من قبل شيئا لا معنى له، وبحيث تأخذ خبرة ماضية هينة معنى عظيما بأثر رجعي، إن معنى الكل يحدد معنى الأجزاء ووظيفتها، والمعنى هو شيء تاريخي، إنه علاقة كل بأجزاء، ونحن نرى هذه العلاقة من وجهة نظر معينة في زمن معين بالنسبة لتجمع بعينه من الأجزاء، إنها ليست شيئا عاليا على التاريخ أو خارجا عنه بل جزء من دائرة تأويلية محددة تاريخيا بصفة دائمة.
المعنى إذن أمر «سياقي»
Contextual ، إنه جزء من الموقف، من ذلك أن معنى عبارة «جئت لأسلم على مليكي وسيدي» أو «جئت لأقول لمليكي ومولاي»: (1)
الخادم القديم في «بستان الكرز». (2)
التابع الخاص في «فاوست». (3)
سمردياكوف في «الإخوة كرامازوف ». (4)
كنت في «الملك لير».
ولننظر - الآن - بإيجاز إلى معنى هذه الجملة في سياقها، في المشهد الأخير من مسرحية «الملك لير»، بعد أن انتهت المعركة وبعد أن سقط إدموند وجعل يلهث محتضرا، يدخل المخلص كنت، ويعبر عن ولائه العظيم بكلمات استئذان بسيطة ومؤثرة، فأي عالم من المعنى تفصح عنه كلمة «سيد» (مولى)
Master
هنا! إننا لا نسمع فيها علاقة كنت بلير فحسب، بل نسمع، برجع الصدى، تيمة الولاء البسيط في النظام التراتبي للأشياء، بالطبع هذه الكلمات تتجاوز مجرد التعبير عن كنت وعلاقته بلير، إن لها دلالة عملية فاعلة؛ لأن هذه الجملة البسيطة متبوعة مباشرة بالسؤال «أليس هو هنا؟» الذي يفجر النهاية المأساوية للمسرحية، ويتركز الانتباه على الفور إلى الغياب المشئوم لليروكورديليا، والذي يدفع إدموند إلى أن يخبرهم بأنه قد أمر بالقضاء على حياتهما، وأن يقوم بمحاولة غير مجدية لإلغاء الأمر، هنالك يدخل «السيد» العجوز، سيدا الآن على نفسه وليس سيدا على الأحداث التي جرها فشله في السيادة الحقيقية، يدخل حاملا على ذراعيه الكنز الذي ازدراه يوما ما وألقاه عنه على أنه هباء (كورديليا)، فما أهول التغير الذي اعترى معنى «الحب» و«الولاء» عند لير خلال المسرحية! وشد ما غيرت الأحداث معنى قراره بتقسيم مملكته!
10
المعنى شيء تاريخي، لقد تغير الزمن، إنه مسألة علاقة، فهو دائما مرتبط بمنظور ترى منه الأحداث، المعنى ليس شيئا ثابتا صلبا، حتى «معنى» الملك لير كمسرحية يتغير، فمعناها عندنا بعد زوال العالم الطبقي الربوبي وفي سياق اجتماعي مغاير تماما لا بد أنه مختلف عما كان عليه لدى معاصري شكسبير، إن تاريخ التفسيرات المسرحية لشكسبير لتظهر لنا أن هناك شكسبير للقرن السابع عشر، وشكسبير للقرن الثامن عشر وآخر للتاسع عشر، ورابعا للقرن العشرين، تماما مثلما أن هناك صيغة أرسطية لأفلاطون وهناك أفلاطون المسيحية المبكرة وأفلاطون العصر الوسيط وأفلاطون القرن السادس عشر وحتى أفلاطون القرن العشرين، فالتفسير دائما يقف في الموقف نفسه الذي يقف فيه المفسر نفسه، إن المعنى يتوقف على ذلك مهما بلغ اكتفاؤه الذاتي الظاهري داخل مسرحية أو قصيدة أو حوار.
هكذا يتجلى صواب دلتاي حين ذهب إلى أن المعنى قد يكون له أنماط مختلفة غير أنه دائما نمط من التماسك أو العلاقة أو القوة الرابطة، إنه ورغم أن المعنى هو مسألة علاقة وسياق، فإن هذا لا يعني أنه «معلق في فراغ» مثل تكوين فني عائم طليق! إنه ليس شيئا مكتفيا بذاته يقف قبالتنا كموضوع، إنه ذلك الشيء غير الموضوعي الذي نموضعه حين نستظهر معنى ما، يقول دلتاي: «ينمو المعنى أساسيا من علاقة الجزء بالكل، تلك العلاقة المتأصلة في طبيعة الخبرة المعاشة.» وبعبارة أخرى فالمعنى داخل في نسيج الحياة، أي في مشاركتنا في الخبرة المعاشة، إنه «المقولة الأساسية الجامعة التي تصبح تحتها الحياة قابلة للفهم»، والحياة، كما قلنا آنفا، ليست شيئا ميتافيزيقيا بل «خبرة معاشة»، في هذه الحقيقة الأساسية، يقول دلتاي قوله المأثور:
الحياة هي العنصر أو الحقيقة الأساسية التي يجب أن تشكل نقطة البداية للفلسفة، إنها تعرف من الداخل، إنها ذلك الشيء الذي وراءه لا يمكن أن نمضي، الحياة لا يمكن أن يزج بها إلى محكمة العقل.
إن منفذنا إلى فهم الحياة هو في موقع أعمق من العقل، فالحياة تصبح قابلة للفهم من خلال موضعتها، ها هنا في مجال الموضوعات يمكن أن يشيد عالم من العلاقات الحقيقية التي يفهمها الأفراد في معرض الخبرة المعاشة، المعنى ليس شيئا ذاتيا، ليس إسقاطا للفكر على الشيء (الموضوع
Object )، بل هو إدراك لعلاقة حقيقية داخل رابطة سابقة على انفصال الذات-الموضوع في الفكر، فأن نفهم معنى هو أمر يتضمن أن ندخل في علاقة حقيقية، وليس علاقة خيالية، مع صور «الروح» المموضعة المنبثة حولنا، إنه مسألة تفاعل متبادل بين الشخص الفرد وبين الروح الموضوعي داخل دائرة تأويلية تفترض مسبقا تفاعل الاثنين معا، المعنى هو الاسم الذي يطلق على مختلف ضروب العلاقات في هذا التفاعل المتبادل.
ولدائرية المعنى نتيجة أخرى بالغة الأهمية للهرمنيوطيقا: فليس هناك، في واقع الأمر، نقطة بدء حقيقية للفهم، ما دام كل جزء يفترض الأجزاء الأخرى مسبقا، يعني ذلك استحالة الفهم «بلا فروض مسبقة»
فكل فعل للفهم يتم في سياق أفق معطى، وحتى في مجال العلوم فإن المرء لا يفسر شيئا إلا «بالنسبة إلى» أو «وفقا ل» إطار مرجعي ما، وفي الدراسات الإنسانية فإن الفهم يتخذ «الخبرة المعاشة» كسياق له، والفهم الذي لا يتعلق بالخبرة المعاشة ولا ينتسب إليها ليس فهما ملائما للدراسات الإنسانية (العلوم الروحية
Geisteswissenschaften ) وإنه لمما يبعث على السخرية أن يدعي «الموضوعية» أي تأويل يغفل تاريخية الخبرة المعاشة ويطبق مقولات لا زمانية على موضوعات تاريخية، ذلك أن مثل هذا التأويل قد قام بتحريف الظاهرة منذ البداية.
وحيث إننا نفهم دائما داخل أفقنا الخاص الذي هو جزء من الدائرة التأويلية، فإن من المتعذر وجود أي فهم غير موقفي لأي شيء من الأشياء، فنحن نفهم بواسطة الإحالة الدائمة لخبرتنا، من ذلك يتبين أن المهمة المنهجية التي يتعين على المفسر أن يضطلع بها هي ألا يغمر نفسه كليا في موضوعه (وهو أمر مستحيل على كل حال)، بل أن يجد طرقا ممكنة عمليا للتفاعل المتبادل بين أفقه الخاص وبين أفق النص، وهذه، كما سوف نبين فيما بعد، هي المسألة التي أولاها جادامر انتباها كبيرا: كيف يمكننا أن نحقق، داخل أفقنا الخاص الذي لا مناص من استخدامه، انفتاحا معينا على النص لا يقحم مقدما مقولاتنا الخاصة عليه؟
خلاصة
أهمية «دلتاي» لفلسفة التأويل
أسهم «دلتاي» إسهاما كبيرا في توسيع نطاق الهرمنيوطيقا، وذلك بأن وضعها في سياق التأويل في الدراسات الإنسانية، وقد كان تفكيره التأويلي المبكر قريبا جدا من النزعة السيكولوجية عند شلايرماخر، ولم يتخلص من هذه النزعة إلا بعد جهد وعبر تطور فكري تدريجي؛ لكي يصل إلى تصور للتأويل على أنه منصب على التعبير عن «الخبرة المعاشة» ودون إحالة إلى مؤلفه، غير أنه منذ أن وصل إلى ذلك أصبحت الهرمنيوطيقا، وليس علم النفس، هي أساس الدراسات الإنسانية، وقد حقق دلتاي بذلك هدفين من أهم أهدافه الكبرى: فهذا التصور أولا قد ركز مشكلة التأويل على شيء له وضع ثابت ودائم وموضوعي، وبذلك أمكن للدراسات الإنسانية أن تأمل في بلوغ معرفة ذات صواب موضوعي، ما دام موضوعها ثابتا في ذاته إلى حد ما، ومن الواضح ثانيا أن هذا الموضوع يدعو إلى طرق للفهم «تاريخية» لا علمية؛ إذ يتعذر أن يفهم إلا من خلال الإحالة إلى الحياة ذاتها بكل ما تتصف به من تاريخية وزمانية، ومن المحال النفاذ، بعمق متزايد على الدوام، إلى معنى تعبيرات الحياة، إلا من خلال الفهم التاريخي.
يترتب على ذلك نتائج تتعلق بنظرية الأدب: فقد عاد بمقدور المرء أن يتحدث، بحق ومعقولية، عن «الصدق»
Truth
في عمل أدبي ما، وأن ينظر إلى «الشكل» لا على أنه عنصر منفصل في حد ذاته، بل على أنه رمز لحقائق داخلية، الفن عند دلتاي هو أنقى تعبير عن الحياة، والأدب العظيم متجذر في الخبرة المعاشة لأسرار الحياة: لماذا نولد ونموت ونفرح ونحزن ونحب ونكره، ما سر قوة الإنسان وضعفه، ومكانه الغامض الملتبس في الطبيعة، وقد أصاب بولنو حين قال: «إذا المرء قدر الفن لأنه حقق التعبير عن الحياة، فإنه إذن يغفل أنه إنما يقدر الفن لأجل ذاته فحسب.» فرغم أن العمل الفني هو خير في ذاته، ورؤيته ليست وسيلة لأي غاية أخرى، فإن العمل ليس صامتا تجاه الإنسان بل هو يخاطب طبيعته الداخلية، وهو مرتبط لشيء ما يتخطى ذاته. الفن، بتعبير آخر، ليس مجرد لعب حر بالأشكال كما يفترض بعض الجماليين المتطرفين
Aestheticians ، بل الفن ضرب من الغذاء الروحي الذي يعبر عن الينابيع الثرة للحياة التي نضطرب فيها، وفي مستهل كتابه «الحقب الثلاث للاستطيقا الحديثة ومهمتها الحاضرة» (1892م) يضع دلتاي كشعار له قول شيلر: «عسى أن نكف عن طلب الجمال ونستبدل به طلب الحقيقة.» الحق (الصدق)
Truth
هنا، بطبيعة الحال، لا يستخدم بمعنى ميتافيزيقي، بل يشير إلى التمثيل الأمين للحقيقة الداخلية.
هكذا يضع دلتاي تأويل العمل الفني الأدبي في سياق تاريخية الفهم الذاتي للإنسان، إنه تاريخي ليس فقط لأنه يتعين عليه أن يفسر موضوعا (شيئا) موروثا تاريخيا، بل لأن المرء يجب أن يفهم الموضوع في أفق زمانيته هو ومن موقعه هو في التاريخ (أي زمانية المرء وموقع المرء)، ولأن العمل المعبر يتضمن فهم الإنسان لنفسه، فهو يفتح واقعا لا هو «ذاتي» ولا هو «موضوعي» حقا (أي منفصل عن أفق فهمنا لأنفسنا)، ومن الوجهة الميثودولوجية، فإن هذا يجبه التأويل بمشكلة فهم معنى خارج - بطريقة ما - عن قسمة «الذات-الموضوع» التي تميز التفكير العلمي.
لقد جرت مياه كثيرة في الهرمنيوطيقا منذ دلتاي وتغيرت أمور كثيرة، وبوسعنا أن نلاحظ من موقعنا الحالي أنه لم ينجح تمام النجاح في التخلص من النزعة العملية والموضوعية للمدرسة التاريخية التي أخذ على نفسه أن يتجاوزها، إننا نرى اليوم بوضوح أكثر أن طلب «المعرفة الصائبة موضوعيا» كانت هي نفسها انعكاسا لمثل علمية مناقضة تماما لتاريخية فهمنا الذاتي، وربما أمكننا أن نصرح بأن «الحياة» هي نفسها مقولة قريبة بشكل مريب ل «الروح الموضوعي»
Objective Spirit
عند هيجل رغم اعتراض دلتاي ومناوأته للمثالية المطلقة ومحاولته تأسيس الهرمنيوطيقا على وقائع إمبيريقية خالية من أي عنصر ميتافيزيقي، وقد نأخذ على دلتاي كذلك أنه نظر إلى الفهم - كما فعل شلايرماخر - على أنه إعادة معايشة وإعادة بناء لخبرة المؤلف، وأنه من ثم مماثل لفعل الإبداع؛ ذلك لأن عملية فهم السمفونية التاسعة لبيتهوفن هي بالطبع مختلفة غاية الاختلاف عن عملية إبداع بيتهوفن لها، إن العمل ليخاطبنا في تأثيره الكلي، فعمليات خلقه تقتضي معرفة لا يلزمنا امتلاكها لكي «نفهم» ما «يقال» في العمل.
على أن دلتاي قد جدد مشروع الهرمنيوطيقا العامة وخطا بها خطوات كبيرة إلى الأمام، لقد وضعها في أفق «التاريخية» الذي أحرزت فيه تطورا هاما فيما بعد، لقد أرسى الأسس لتفكير هيدجر في زمانية الفهم الذاتي، ومن الممكن أن نعد دلتاي بحق أبا «الإشكالية» التأويلية المعاصرة.
الفصل السابع
هسرل: ما الفينومينولوجيا؟
(1) الفينومينولوجيا الخالصة (البحتة)
المحاضرة الافتتاحية في فرايبورج 1917م
سيداتي، سادتي، زملائي الأجلاء، أصدقائي الأعزاء (1)
إن الحقبة التي قدر لنا أن نعيش فيها، لتعج بالأحداث المذهلة في شتى مجالات الحياة الروحية للجنس البشري، فما من شيء أنشأته جهود الأجيال السابقة في كل حقل من حقول الثقافة، وتعهدته إلى أن صار نسقا كليا مؤتلفا، وما من أسلوب راسخ تأسس واستتب بوصفه منهجا أو معيارا، إلا اعتراه التغير في هذه الآونة وطفق يبحث عن أشكال جديدة يتسنى بها للعقل، الذي لم يهدأ له جنب، أن ينمو بحرية أكبر: في الحياة السياسية والاقتصادية، في التقنية، في الفنون الجميلة، وليس بأقلها على الإطلاق في العلوم، وحتى العلوم الطبيعية الرياضية التي كانت قديما نموذجا للكمال النظري، قد غيرت أسلوبها تغييرا كليا خلال بضعة عقود من إعادة البناء. (2)
ولا تشذ الفلسفة في شيء عن هذه الصورة، ففي مجال الفلسفة كانت الفلسفات التي استنفدت طاقاتها في الفترة التي أعقبت الإطاحة بالفلسفة الهيجلية هي فلسفات النهضة بالدرجة الأساس، لقد كانت هذه الفلسفات بمثابة إعادة إنتاج لفلسفات الماضي، وكانت مناهجها وشطر من محتواها الجوهري تعود إلى مفكري الماضي العظام. (3)
لقد عادت الحاجة تلح إلى فلسفة جديدة تماما، فلسفة لا تعيد إنتاج النهضة، بل تعيد استجلاء المشكلة الفلسفية بشكل جذري مسلطة الضوء من جديد على معانيها وأفكارها الرئيسية؛ لكي تنفذ بذلك إلى الأرضية الأولى التي يجب أن تصاغ على أساسها المشكلات إن كان لها أن تعثر على حل علمي أصيل. (4)
ها هو علم أساسي جديد ينشأ داخل مجال الفلسفة، إنه «الفينومينولوجيا الخالصة (البحتة)»، إنه علم ذو نمط جديد تماما ومجال عريض لا نهاية له، ولا يقل صرامة منهجية عن أي من العلوم الحديثة. على هذه الفينومينولوجيا الخالصة تتأسس جميع أفرع الفلسفة، ومن خلال نموها تستمد هذه الأفرع قوتها، عن هذه الفينومينولوجيا الخالصة أريد أن أتحدث: عن منهجها وموضوعها الذي تعجز المذاهب الطبيعية عن رؤيته وإدراك كنهه. (5)
تدعي الفينومينولوجيا الخالصة أنها هي العلم الخاص بالظواهر المحضة، وهذا التصور عن «الظاهرة»، والذي نشأ تحت أسماء عديدة منذ القرن الثامن عشر دون أن يسلط عليه الضوء، هو ما ينبغي أن نعرض له قبل أي شيء آخر. (6)
سنعرض أولا للارتباط الضروري بين «الموضوع»
Object
و«الصدق»
Truth ، والمعرفة، مستخدمين هذه الكلمات بأوسع معانيها، فكل موضوع تناظره منظومة مغلقة من «الحقائق» التي تصدق عليه ، وله من جهة أخرى منظومة مثالية من العمليات التي يمكن بفضلها أن يقدم الموضوع والحقائق إلى أي ذات عارفة.
إذا أنعمنا النظر في هذه العمليات فسنجد في المستوى المعرفي الأدنى أنها عمليات تجربة أو خبرة، أو بمعنى أعم، عمليات حدس (عيان/معاينة) تقوم بإدراك الشيء في نسخته الأصلية. (7)
من الواضح أن شيئا شبيها بذلك يحدث في كل أنواع الحدوس وفي جميع العمليات الأخرى التي تقصد موضوعا ما حتى لو كانت مجرد إعادة تمثيل (مثل تذكر معاينات صورية، ومثل عمليات تأمل موضوع رمزي)، أي حتى لو كانت لا تدرك الشيء بوصفه حاضرا أمامها بشخصه بل تعيه بوصفه متذكرا أو معادا تمثيله بالصورة أو بطريق الإشارات الرمزية وما إليها، أو حتى عندما يكون الحكم على واقعية الشيء المدرك أمرا غير محدد لسبب أو لآخر.
ومن ثم فحتى الحدوس (العيانات) الخيالية هي معاينة موضوعات، ولها كل ما للظواهر الأخرى من خصائص مع إضافة خاصية تمييز «موضوعها» كشيء غير متحقق.
ولكي يمكن للمعرفة النظرية العليا أن تبدأ على الإطلاق فلا بد من أن تسبقها معاينة للموضوعات التي تنتمي لمجالها، فلا بد مثلا من أن نخبر الموضوعات الطبيعية أولا حتى يمكننا القيام بأي تنظير عنها، و«أن نخبر» معناه أن نعاين شيئا ما في وعينا وأن نحكم بأنه واقعي حقيقي، أي الوعي بالموضوع الأصلي بوصفه حاضرا بشخصه، وبتعبير آخر يمكننا القول بأن «الموضوعات» أو «الأشياء» قمينة بأن تكون لا شيء على الإطلاق بالنسبة للذات العارفة ما لم «تظهر» لهذه الذات، أي ما لم تحز هذه الذات على «ظاهرة» لهذه الأشياء، ومن هنا فإن كلمة «ظاهرة»
في هذه الحالة تشير إلى محتوى معين يقطن داخل الوعي الذي يعاينه ويكون أساسا للحكم بواقعيته. (8)
ولا يختلف الأمر عن ذلك إذا انتقلنا إلى عملية متابعة موضوع ما في سلسلة من العيانات التي تشيد معا وحدة مؤلفة من وعي واحد مستمر بموضوع واحد بعينه، إن الطريقة التي يقدم بها الموضوع داخل كل حدس من حدوس هذا الوعي المستمر قد تختلف باستمرار؛ فتتغير العيانات مع كل لفتة وكل تحول ومع تغير زاوية النظر من اليمين إلى اليسار ومن الأعلى إلى الأسفل ويظل مظهر الشيء يتحدد مع كل نقلة من إدراك حسي إلى آخر بلا انقطاع، ورغم ذلك فإن وعينا، «وبسبب من مسلك هذه الإدراكات الحسية المتعاقبة وطريقة تتابع صورها ومسار تغيرها»، يظل معاينا لنفس الموضوع كموضوع واحد بعينه لا ككثرة متغيرة من الموضوعات، وبتعبير آخر يمكننا القول بأنه في باطن هذا الوعي وفي صميمه ثمة ظاهرة واحدة مفردة تتخلل جميع التمثلات الظاهرية العديدة. (9)
ويمتد هذا المفهوم أكثر فأكثر حين ننعم النظر في الوظائف المعرفية الأعلى: في الأنشطة والترابطات المتعددة للإدراك النظري التصوري التركيبي الإشاري، فكل عملية مفردة من أي من هذه الأصناف هي في صميمها عملية وعي بالموضوع الخاص بها، غير أن الموضوع هنا هو عملية تفكير من نوع معين، ومن ثم يدرك هذا الموضوع كطرف في رابطة، كمتعلق في علاقة، إلخ، من جهة أخرى تتحد العمليات المعرفية المفردة في الوعي الواحد الذي يشكل داخله موضوعية تأليفية واحدة أو حالة حملية واحدة مثلا أو سياقا نظريا واحدا، إننا هنا بإزاء موضوع كالذي نعبر عنه في جمل من قبيل: «الموضوع متعلق بهذه الطريقة أو تلك ...» «إنه كل مكون من هذه الأجزاء أو تلك»، «العلاقة ب تلزم عن العلاقة أ» ... إلخ. (10)
هذا الوعي الخاص بمثل هذه التكوينات التأليفية يحدث خلال هذه الأفعال المتعددة والتي تتحد لتكون وحدات عليا من الوعي، ويحدث بواسطة ظواهر تتشكل داخليا (محايثة) وتعمل في الوقت نفسه كأساس لمختلف عمليات الحكم: مثل الصدق اليقيني، الاحتمال، الإمكان ... إلخ. (11)
يمتد مفهوم «الظاهرة» أكثر لينسحب على الأحوال المتغيرة (الوضوح والغموض، الجلاء والخفاء ...) لكون المرء على وعي بشيء ما، والتي يمكن فيها أن تقدم للوعي علاقة أو صلة واحدة بعينها، أو تعطى له نفس الحالة أو نفس الترابط المنطقي، وهكذا. (12)
وصفوة القول: أن المفهوم الأول والأكثر بداءة للظاهرة يشير إلى النطاق المحدود من تلك الوقائع المعطاة للحس، والذي من خلاله تظهر الطبيعة وتتبدى في عملية الإدراك. (13)
ثم امتد المفهوم تلقائيا ليشمل كل صنف من الأشياء التي يقصدها الحس أو يموضعها، ثم امتد ليشمل أيضا نطاق تلك الموضوعات التركيبية التي تعطي للوعي خلال تراكيب إشارية وترابطية، وبذلك يكون المفهوم قد شمل جميع الأحوال التي تقدم فيها الأشياء إلى الوعي، وقد رأينا في النهاية أنه يشمل كل مجال الوعي وكل الطرائق التي يتم بها الوعي بشيء ما وكل المكونات التي تندرج تحت هذه الطرائق، وما دمنا نقول إن مفهوم الظاهرة يشمل جميع الطرق التي يكون بها المرء على وعي بشيء ما فإن ذلك يعني أنه يشمل أيضا كل صنف من أصناف المشاعر والرغبة والإرادة وما ينطوي عليه من نزوع أو سلوك. (14)
وبميسورنا أن نفهم هذا التوسع في المفهوم إذا ما تذكرنا أن هناك فئات هائلة من الموضوعات - شاملة جميع الموضوعات الثقافية وجميع القيم والفضائل والأعمال - لا يمكننا أن نخبرها ونفهمها وندركها موضوعيا بما هي كذلك ما لم نشرك الوعي العاطفي والإرادي، ليس هناك موضوع من فئة «الأعمال الفنية» مثلا يمكن أن يموضع لأي كائن خلو من الحساسية الاستطيقية (الجمالية)، أو كائن متصف بالعمى الاستطيقي إن صح التعبير. (15)
حصلنا من خلال هذا العرض لمفهوم «الظاهرة» على تصور مبدئي لعلم ظاهريات عام، أي علم الظواهر الموضوعية بجميع أنواعها، أو علم بكل نوع من الموضوعات، على أن يؤخذ مصطلح «موضوع» فقط بمعنى أيما شيء لديه تلك التحديدات التي يقدم بها نفسه للوعي، وهو يقدم نفسه خلال تلك الأحوال المتغيرة التي يتبدى فيها؛ ومن ثم تكون مهمة الفينومينولوجيا هي أن تبحث في كيف يتراءى شيء مدرك أو متذكر أو متخيل بالشكل الذي يتراءى به، أو كيف يبدو بفضل ما يضفيه الحس أو تضفيه تلك الخصائص الباطنة للمدرك أو المتذكر أو المتخيل نفسه، ومن الواضح أن على الفينومينولوجيا أن تبحث بنفس الطريقة كيف يبدو ما يجمع أو كيف يتراءى في عملية جمعه، وكيف يبدو ما يفرق إذ يفرق، وكيف يبدو ما ينتج إذ ينتج، وبالمثل في كل فعل من أفعال التفكير كيف يحوز هذا الفكر «ظاهريا» على ما يفكر فيه، كيف يبدو العمل الفني في عملية التذوق الفني على ما يبدو عليه، كيف يبدو الشيء المشكل، في عملية التشكيل، على ما يبدو عليه، إلخ، ما تريده الفينومينولوجيا في جميع هذه البحوث هو أن تبرهن على كل ما تراه متضمنا في النظرية بافتراض الصواب الكلي للنظرية، غير أنها إذ تفعل ذلك سيكون عليها أن تشير في بحوثها إلى الطبيعة الداخلية للإدراك نفسه، للتذكر (أو أي طريقة أخرى للتمثيل) نفسه، للتفكير والتقييم والإرادة والفعل، مع أخذ هذه الأفعال كما تتبدى في التأمل الحدسي الباطني، وبتعبير ديكارتي يمكننا القول بأن البحث سيكون منصبا على «الكوجيتو»
Cogito (الأنا أفكر) بحد ذاته بالإضافة إلى «المفكر به بوصفه مفكرا به»
Cogitatum Qua Ccogitatum ، وكما أن الاثنين مرتبطان ارتباطا لا انفصام له في الوجود، فمن المتعقل أن يكونا مرتبطين في البحث أيضا. (16)
إذا كانت هذه هي الموضوعات الرئيسية للفينومينولوجيا، فمن الممكن أيضا أن نطلق عليها «علم الوعي»
Science of Consciousness ، على أن نأخذ الوعي هنا بمعناه الخالص، الوعي «بما هو كذلك». (17)
ولكي نحدد هذا العلم بشكل أكثر دقة، فسوف ندخل تمييزا بسيطا بين «الظواهر»
والموضوعات
Objects
بالمعنى العريض للكلمة، فبلغة المنطق الشائعة يعد أي «موضوع»
Subject ، بغض النظر عن صدق محمولاته، هو «موضوع»
Object ،
1
بهذا المعنى إذن تعد كل ظاهرة هي أيضا موضوع، بهذا المفهوم الأعرض للموضوع وبهذا المفهوم للموضوع الفردي على وجه الخصوص، تقف الموضوعات من جهة والظواهر من جهة أخرى على طرفي نقيض، إن الموضوعات، جميع الموضوعات الطبيعية مثلا، هي موضوعات غريبة عن الوعي، فالوعي يموضعها حقا ويضعها كحقائق واقعة، إلا أن من عجائب الوعي الذي يخبرها ويعيها أنه يضفي على ظواهره الخاصة حسا بأنها مظاهر لموضوعات غريبة عنه ويعرف هذه الموضوعات الخارجية خلال عمليات تلم بهذا الحس وتطلع عليه، هذه الموضوعات التي ليست عمليات واعية ولا مكونات محايثة لعمليات واعية سنسميها لذلك «موضوعات»
Objects
بالمعنى العريض للكلمة. (18)
يفضي بنا هذا إلى علمين منفصلين بينهما تفاوت كأشد ما يكون التفاوت: الفينومينولوجيا من جهة، أي علم كما هو في ذاته، والعلوم «الموضوعية» بعامة من جهة أخرى. (19)
إن الموضوعات الخاصة بهذين العلمين المتقابلين (وهي موضوعات بينها ارتباط واضح) يناظرها نوعان مختلفان جوهريا من الخبرة ومن الحدس بصفة عامة: الخبرة المحايثة (المباطنة)
Immanent
والخبرة الموضوعية (وتسمى أيضا الخبرة الخارجية أو الخبرة «المفارقة»)
Transcendent ، تتألف الخبرة المحايثة من مجرد الرؤية التي تحدث في التأمل والتي يتم بها فهم الوعي وذلك الذي يعيه الوعي، مثال ذلك أن حبا أو رغبة ما أقوم بها الآن تدخل إلى خبرتي عن طريق مجرد نظرة استعادة، وبواسطة هذه النظرة تقدم لي هذه الرغبة بشكل مطلق، وبمقدرونا أن ندرك ما يعنيه تعبير «بشكل مطلق» من خلال المقارنة: فليس بمقدورنا أن نخبر أي شيء خارجي إلا بقدر ما يقدم نفسه له حسيا من خلال هذه الإشارة أو تلك، أما الحب فليس له تمثيلات متغيرة وليس له منظورات أو إطلالات متبدلة؛ فأنظر إليه مثلا من فوق أو من تحت أو من قريب أو من بعيد، إنه ليس شيئا غريبا بأية حال عن الوعي بحيث يقدم نفسه إلى الوعي خلال وساطة ظواهر مختلفة عن الحب نفسه، ف«أن أحب» هو في الصميم «أن أعي». (20)
يشتبك هذا مع حقيقة أن ما هو معطى للتأمل المحايث هو شيء لا شك في وجوده ولا يمكن أن يرقى إليه الشك، في حين أن ما نخبره من خلال التجربة الخارجية فإنه يقبل دائما احتمال أن يتكشف، في سياق الخبرات التالية، أنه موضوع متوهم. (21)
على أن الخبرتين المحايثة والمفارقة هما رغم ذلك مرتبطان بشكل وثيق: فبوسعنا الانتقال من الواحدة إلى الأخرى بمجرد نقلة في الموقف أو تغيير في الاتجاه. (22)
أما في الموقف الطبيعي
Natural Attitude
فنحن نخبر (بين أشياء أخرى) عمليات في الطبيعة، نحن نلتفت إليها، نلاحظها، نصفها، ندرجها تحت مفاهيم أو تصورات، وفيما نحن نقوم بذلك تحدث في وعينا الاختباري والنظري عمليات شعورية متعددة الشكل ذات مكونات محايثة متغيرة على الدوام، فالأشياء التي ندركها تقدم نفسها عبر جوانب في تجدد مستمر، أشكالها مظللة بطرق محددة حسب المنظور، ويجري تأويل معطيات الحواس المختلفة بطرق محددة، كألوان مثلا للأشكال المدركة أو كحرارة منبعثة منها، وتعزى الكيفيات الحسية التي يتم تأويلها إلى أحوال واقعية، إلخ، تقدم كل من هذه الحواس معطياتها الإدراكية ويتم كل ذلك في الوعي بفضل سلسلة محددة من العمليات الواعية المتجددة، غير أن الشخص في الموقف الطبيعي لا يدري بشيء من ذلك، فهو ينفذ أفعال الخبرة والإسناد والتجميع ولكنه فيما يقوم بذلك لا ينظر (إلى الداخل) تجاه هذه الأفعال بل ينظر (إلى الخارج) تجاه الموضوعات التي يشملها بوعيه. (23)
بمقدور المرء من جهة أخرى أن يحول بؤرة انتباهه الطبيعية إلى بؤرة تأملية (انعكاسية) فينومينولوجية، فيجعل وعيه الحالي المتدفق، وبالتالي يجعل الظواهر المتعددة الأشكال بلا نهاية، محط ملاحظاته وأوصافه واستقصاءاته النظرية، تلك الاستقصاءات التي نسميها باختصار «فينومينولوجية». (24)
إلا أنه عند هذه النقطة تبرز أسئلة يمكن في الموقف الراهن أن نسميها الأسئلة الأشد حسما: أليس هذا الذي وصفناه لتونا بأنه تأمل محايث، هو هو الخبرة السيكولوجية الداخلية؟ ألا يكون علم النفس هو المكان الصحيح لدراسة الوعي بجميع ظواهره؟ ومهما يكن من تعاميه عن جميع المشكلات الجذرية المتعلقة بالأوضاع التي تجري في الوعي المحايث، أليس من الواضح أن مثل هذه البحوث ينبغي أن تنتمي إلى علم النفس بل أن تكون أساسية فيه؟ (25)
ولكي نبدأ فإننا نطرح هذه القضية: الفينومينولوجيا الخالصة هي علم الوعي الخالص (الشعور المحض)، وهذا يعني أن الفينومينولوجيا الخالصة تعتمد على التأمل الخالص وحده، والتأمل الخالص يستبعد، بوصفه تأملا خالصا، كل نوع من الخبرة الخارجية، ومن ثم فهو يحظر إدخال أي موضوعات غريبة على الوعي، أما علم النفس فهو علم «الطبيعة» النفسية، وهو من ثم علم الوعي بوصفه «طبيعة» أو بوصفه حدثا واقعيا يجري في العالم المكاني الزماني، ينصب علم النفس على عملية الخبرة النفسية، وهي عملية إدراك ذاتي تصل التأمل المحايث (المباطن/الجواني/الداخلي) بالخبرة الخارجية، البرانية، كما أنه في الخبرة السيكولوجية يكون الحدث النفسي معطى بوصفه حدثا داخل لحمة الطبيعة، يتميز علم النفس بأنه، بوصفه علما طبيعيا بالحياة النفسية ، يعتبر عمليات الوعي عمليات واعية لكائن حي، أي أنه ينظر إليها كملحقات سببية حقيقية لأجسام حية، وعلى عالم السيكولوجيا أن يلجأ إلى التأمل لكي يضع يده على العمليات الواعية المعطاة خبرويا، غير أن هذا التأمل لا يظل ملتزما بالتأمل الخالص؛ لأنه ما دام منتميا فعليا للجسم الحي المعني فهو موصول بتجربة الأشياء الخارجية، ومن ثم فإن الوعي بالخبرة السيكولوجية لا يعود وعيا خالصا، فحين نؤوله موضوعيا بهذه الطريقة يصبح الوعي نفسه شيئا مفارقا (برانيا)، يصبح حدثا في العالم المكاني الذي يبدو، بفضل الوعي، شيئا مفارقا. (26)
الحقيقة الجوهرية هي أن هناك صنفا من الحدس (العيان) هو - بعكس الخبرة السيكولوجية - يبقى داخل التأمل الخالص: فالتأمل الخالص يستبعد كل ما هو معطى في الموقف الطبيعي، ويستبعد من ثم كل ما هو «طبيعة». (27)
نتجه إذن إلى الوعي كما هو في صميمه وبمكوناته الداخلية الخاصة، ولا ندخل في بحثنا أي شيء يتجاوز الوعي. (28)
لن ندخل في بحثنا إلا ما هو معطى للتأمل الخالص، بكل دقائقه الجوهرية المحايثة تماما كما هي معطاة للتأمل الخالص. (29)
منذ زمن بعيد اقترب ديكارت من اكتشاف المجال الفينومينولوجي المحض، وذلك في تأمله الشهير والأساسي (والذي لم يؤت ثمارا تذكر رغم ذلك) الذي أفضى إلى عبارته المأثورة «أنا أفكر، أنا موجود.» وبمقدورنا أن نتوصل إلى ما يسمى «الرد الفينومينولوجي»
بتحوير منهج ديكارت، وذلك باقتفائه بدقة واستبصار بنتائجه، مع إغفال كل ما كان يهدف إليه ديكارت من هذا المنهج.
الرد الفينومينولوجي هو المنهج الكفيل بتنقية المجال الفينومينولوجي للوعي تنقية تامة من كل تطفل من جانب الوقائع الموضوعية وإبقائه خالصا منها، تأمل ما يلي: الطبيعة (العالم الموضوعي المكاني الزماني) معطاة لنا بصفة دائمة، فهي في الموقف الطبيعي تشكل مجال بحثنا في العلوم الطبيعية ومجال أغراضنا العلمية، ومع ذلك فليس هناك ما يمنعنا من أن نوقف - إن صح التعبير - أي اعتقاد في واقعيتها، رغم أن هذا الاعتقاد دائم الحدوث طوال الوقت في عملياتنا الذهنية. فليس هناك اعتقاد على أية حال ولا اقتناع، مهما بلغ من وضوح، يستبعد بطبيعته إمكانية تحييدها بشكل ما أو تجريدها من سطوتها، يمكننا أن ندرك ذلك حين نتأمل أي حالة نقوم فيها بتمحيص رأي من آرائنا، لنرد على الاعتراضات الموجهة إليه مثلا أو لنعيد البرهنة عليه على أساس جديد، في هذه الحالة قد نكون في الحقيقة على يقين تام من هذا الاعتقاد ولا تساورنا فيه أي شكوك، غير أننا طوال مسار البحث نقوم بتغيير مسلكنا تجاه هذا الاعتقاد، وبدون أدنى تخل عن هذا الاعتقاد فنحن نتوقف عن الأخذ به وننكر على أنفسنا قبول ما ينص ببساطة على أنه حقيقة، وفيما البحث ماض في سبيله فإن هذه الحقيقة تظل موضع بحث، موضع نظر، تظل معلقة. (30)
في حالتنا هذه، حالة التأمل الفينومينولوجي الخالص، ليست غايتنا هي بحث أو اختبار اعتقادنا في وقائع غريبة عن الوعي، غير أن بإمكاننا القيام بتحييد ذلك الوعي بالواقع الذي يجعلنا نرى الطبيعة موجودة ومعطاة لنا، وبإمكاننا أن نفعل ذلك وفق مشيئتنا تماما، إن غايتنا الوحيدة هي بلوغ ميدان الوعي الخالص وإبقائه خالصا، وفي سبيل هذه الغاية فنحن نتعهد بعدم قبول اعتقادات تتعلق بالخبرة الموضوعية، ونتعهد أيضا بالامتناع عن استخدام أي استنتاج مستمد من الخبرة الموضوعية. (31)
سنتوقف - إذن - عن الحكم على وجود الطبيعة المادية، ووجود كل ما هو جسم، بما فيه وجود جسمي، أي جسم الذات المدركة. (32)
يترتب على ذلك أننا سنتوقف - أيضا - عن الحكم على كل خبرة سيكولوجية، فما دمنا قد امتنعنا تماما عن اعتبار الطبيعة والأشياء الجسمية كحقائق معطاة، فإن افتراض أي عملية شعورية من أي نوع كشيء له صلة جسمية أو كحدث يحدث في الطبيعة هو افتراض يزول من تلقاء نفسه. (33) «ماذا يتبقى لنا؟»
ما الذي يبقى بعد أن يتم هذا الاستبعاد المنهجي لكل الوقائع الموضوعية؟ الجواب واضح، فبعد أن أقصينا كل واقع اختباري وحيدناه وضربنا عنه صفحا، فما يزال لدينا، وبدون أدنى شك، كل ظواهر الخبرة، ويصدق هذا أيضا على العالم الموضوعي برمته، لقد امتنعنا عن الحكم على وجود العالم الموضوعي، كما لو أننا قد «وضعناه بين قوسين»، فالذي يبقى لنا هو جميع ظواهر العالم، تلك الظواهر التي تدرك بالتأمل كما هي في ذاتها على نحو مطلق، ذلك أن كل مكونات الوعي هذه تظل في صميمها كما هي، وإنما من مكونات الوعي هذه يتم تشييد العالم. (34)
حين يكون اهتمامنا منصبا على المحتوى الظاهري للأشياء، فلن يضيرها البتة أن نعلق الحكم على وجودها الموضوعي، ولن ينال التأمل أي تأثير حين ينصب على رؤية الظواهر كما توجد وكما تتمثل في الوعي، بل عندها فقط في حقيقة الأمر يصبح التأمل نقيا وخالصا، وحتى الاعتقاد نفسه في الأشياء الموضوعية، وهو ما يميز الخبرة الساذجة والفكر الإمبيريقية، لن يضيع علينا، بل سيقى لنا كما هو في صميمه ووفقا للمعنى الكامن فيه، سنحلل خواصه المحايثة (المباطنة)، ونتعقب ترابطاته الممكنة، وبخاصة ما يتعلق بالأسس، وندرس بالتأمل المحض مراحل تكون الاستبصار، ما يبقى من المعنى المقصود خلال هذه المراحل، وما يضفيه اكتمال الحدس على هذا المعنى، وما تضفيه ما تسمى البنية من تغيير وإثراء، وأيما تقدم يحرز بواسطة ما يسمى في هذا المقام «بلوغ الحقيقة الموضوعية من خلال الاستبصار».
باتباع هذه الطريقة من الرد الفينومينولوجي (التوقف عن الاعتقاد في الأشياء الخارجية)، يمكن لأي نوع من الوعي النظري أو القيمي أو العملي أن يصبح موضوعا للبحث، ويمكن لجميع الحقائق الموضوعية التي ينطوي عليها أن تستكشف، وسوف ينظر البحث إلى هذه الحقائق الموضوعية باعتبارها، ببساطة، متلازمات
Correlates
للوعي، وسوف يكون التساؤل مقصورا على الظواهر (ما هي؟ وكيف هي؟) التي يمكن استخلاصها من العمليات الشعورية والترابطات المعنية، بهذه الطريقة يصبح كل شيء موضوعا للبحث الفينومينولوجي: الأشياء في الطبيعة، الأشخاص، الجماعات، الأشكال الاجتماعية، التكوينات الاجتماعية، التكوينات الشعرية والتشكيلية، وكل صنف من الأعمال الثقافية، ستخضع جميعا للبحث الفينومينولوجي، لا بوصفها حقائق موضوعية كما تعامل في العلوم الموضوعية المقابلة، بل بالنظر إلى الوعي الذي يشيد (من خلال توسط عدد مذهل من بنيات الوعي) هذه الحقائق الموضوعية للذات الواعية.
الوعي وما يعيه.
ها هو ما يتبقى - إذن - كمجال للتأمل الخالص فور قيامنا بعملية الرد الفينومينولوجي: التنوع اللانهائي لطرائق الوعي من جهة، وما لا نهاية له من المتلازمات القصدية من جهة أخرى ، إن ما يعصمنا من تجاوز هذا المجال هو الدليل الإرشادي الذي، بفضل منهج الرد الفينومينولوجي، يحصله كل اعتقاد موضوعي بمجرد بزوغه في الوعي، يهيب بنا هذا الدليل: ألا نشارك في هذا الاعتقاد، وألا ننزلق إلى الموقف العلمي الموضوعي، وأن نتمسك بالظاهرة الخالصة، ومن الجلي أن الدليل شامل من حيث المجال الذي نتوقف فيه عن قبول العلوم الموضوعية نفسها وعلم النفس واحد منها، وأن الدليل يستبدل بجميع العلوم ظواهر العلم، وهي في هذا الوضع الجديد تعد من بين الموضوعات الكبرى للفينومينولوجيا. (35)
ورغم ذلك، فما أن ندعي صدق أن قضية عن الأشياء الموضوعية، أي قضية على الإطلاق بما فيها الوقائع التي لا تقبل الشك، حتى نكون قد غادرنا أرض الفينومينولوجيا الخالصة؛ لأننا عندئذ نكون قد وقفنا على أرض موضوعية ما ونمارس السيكولوجيا أو أي علم موضوعي آخر بدلا من الفينومينولوجيا. (36)
والحق أن التوقف التام عن الحكم على الطبيعة يتعارض مع أرسخ عاداتنا الخبروية والفكرية وأعمقها جذورا، إلا أن هذا السبب هو بالتحديد ما يدعونا إلى توخي اليقظة الكاملة والوعي الذاتي التام أثناء القيام بالرد الفينومينولوجي، إذا كان لنا أن نستكشف الوعي بطريقة منهجية في دخيلته المحضة. (37)
ولكن تظل تحفظات أخرى تراود الذهن؛ فهل الفينومينولوجيا الخالصة ممكنة حقا كعلم؟ وإن صح ذلك فكيف؟ فما إن يصبح تعليق الحكم نافذ المفعول حتى نكون بإزاء الوعي المحض، غير أن ما نجده في الوعي المحض هو تيار مضطرب من الظواهر العابرة التي لا تتكرر أبدا مهما بلغت درجة اليقين الذي تقدم به في الشعور المحض، إن الخبرة بحد ذاتها ليست علما، وما دامت الذات المتأملة والعارفة لا تملك بحق غير تيار الظواهر الخاص بها، وما دامت كل ذات عارفة أخرى - جسمها وبالتالي وعيها أيضا - تقع تحت طائلة الاستبعاد، فكيف يمكن قيام أي علم تجريبي بعد ذلك؟ فالعلم لا يمكن أن يكون «أناوحديا»
Solipsistic ، بل يجب أن يكون صوابا بالنسبة لكل ذات مجربة. (38)
إننا لنكون في موقف عصيب حقا لو أن العلم التجريبي كان هو الصنف الوحيد من العلم، هكذا تفضي بنا إجابة السؤال الذي طرحناه إلى المشكلات الفلسفية الأشد عمقا التي لم تجد حلا لها حتى الآن، ومهما يكن من أمر فإن الفينومينولوجيا الخالصة لم تنشأ لكي تكون علما إمبيريقيا، وإن ما تسميه خلوصا فيها ليس هو خلوص التأمل فحسب، بل هو في الوقت نفسه ذلك الصنف من الخلوص الذي يختلف كل الاختلاف عما نصادف في أسماء العلوم الأخرى؛ إذ تسمى علوما خالصة أو بحتة. (39)
كثيرا ما نتحدث، بطريقة عامة ومفهومة، عن الرياضيات الخالصة أو البحتة، والحساب البحت، والهندسة البحتة، وعلم الحركة البحت ... إلخ، ونحن نضع هذه العلوم، بوصفها علوما قبلية
a priori (سابقة على التجربة)، في طرف مقابل للعلوم القائمة على التجربة والاستقراء كالعلوم الطبيعية، والعلوم الخالصة (البحتة) بهذا المعنى، أي العلوم القبلية، هي علوم خالصة من أي تقرير أو حكم
Assertion
عن الواقع التجريبي، فهي تزعم أنها معنية بالممكن عقليا وبقوانينه الخالصة وليس بالوقائع الكائنة والحقائق الموجودة، أما العلوم التجريبية فهي على العكس من ذلك علوم بالواقع الفعلي القائم والمعطى كما هو من خلال التجربة. (40)
وكما يصدف التحليل الخالص عن تناول الأشياء الواقعية ومقاديرها الفعلية لكي يبحث في القوانين الضرورية المتعلقة بماهية أي مقدار ممكن، وكما تصدف الهندسة البحتة عن الأشكال الملاحظة في التجربة الفعلية لكي تبحث في الأشكال الممكنة وتحولاتها، والمشكلة بحرية في الخيال الهندسي المحض، ولكي تؤسس قوانينها الضرورية؛ كذلك تسعى الفينومينولوجيا الخالصة إلى دراسة عالم الوعي الخالص وظواهره لا بوصفه واقعا فعليا بل بوصفه ممكنات محضة ذات قوانين محضة، والحق أن المرء حين يألف التأمل الخالص لا يسعه إلا الأخذ بأن الممكنات أيضا خاضعة لقوانين عقلية في عالم الوعي المحض، مثال ذلك أن الظواهر المحضة لموضوع مكاني ممكن والتي يقدم بها نفسه إلى الوعي لديها نسقها المحدد القبلي من التكوينات الضرورية، والذي يفرض نفسه على كل وعي مدرك إذا كان له القدرة على حدس الواقع المكاني ... من ذلك يتبين أن تعبير «قبلي»
A Priori
ليس قناعا نغطي به شطحا أيديولوجيا معينا بل هو ذو دلالة لا تختلف عن دلالة «الخلوص» في التحليل الرياضي الخالص أو في الهندسة الخالصة. (41)
من الواضح أنني لا أستطيع هنا أن أقدم أكثر من هذا الأنالوجي المفيد: فبدون ممارسة حقيقية وعمل مضن لا يمكن لأحد أن يحصل على فكرة كاملة عينية عما تكونه الرياضيات البحتة أو عن غزارة الاستبصارات التي تقدمها الرياضيات البحتة، كذلك يلزم المرء نفس الصنف من العمل الذكي الذي لا يغني عنه أي توصيف عام إذا شاء أن يفهم علم الفينومينولوجيا على الحقيقة، أما عن أهمية العمل فهو ظاهر للعين يدل عليه الموقع الفريد الذي تحتله الفينومينولوجيا بالنسبة للفلسفة من جهة وعلم النفس من جهة أخرى، إن الأهمية القصوى للفينومينولوجيا الخالصة في تأسيس السيكولوجيا على أرض صلبة هي شيء واضح منذ البداية، فإذا كان كل شعور خاضعا لقوانين ضرورية بنفس الطريقة التي يخضع بها الواقع المكاني لقوانين الرياضيات، فإن هذه القوانين الضرورية ستكون بالغة الأهمية في دراسة حقائق الحياة الشعورية للكائنات البشرية وللحيوانات العجماء. (42)
أما عن أهمية الفينومينولوجيا الخالصة بالنسبة للفلسفة فيكفي أن نشير إلى أن جميع المشكلات النظرية الخالصة، تلك المشكلات التي يشملها ما يسمى «نقد العقل»، العقل النظري والعقل العملي وملكة الحكم، هي مشكلات متعلقة تماما بالترابط الضروري القائم بين الموضوعات النظرية والعملية والقيمية من جهة والوعي الذي تحايثه وتتأسس في باطنه من جهة أخرى، وبميسورنا أن نبرهن على أن المشكلات النظرية الخالصة لا يمكن أن تصاغ بصرامة علمية ثم تحل في ترابطها المنهجي إلا على صعيد الوعي الخالص فينومينولوجيا وداخل إطار فينومينولوجيا خالصة.
فإن كان لنقد العقل ولجميع المشكلات الخاصة به أن توضع على طريق العلم الدقيق، فإنما يكون ذلك بنوع من البحث يعتمد حدسيا على ما هو معطى فينومينولوجيا، وليس على تفكير من النوع الذي يؤلف مفاهيم قيمية، وهي لعبة يلعبها ببناءات منبتة تماما عن الحدس. (43)
إن الفلاسفة، كما يبدو الأمر في هذه الأيام، مولعون غاية الولع بتقديم النقد من فوق بدلا من دراسة الأشياء وفهمها من الداخل، وكثيرا ما يقفون من الفينومينولوجيا نفس الموقف الذي وقفه باركلي
Berkeley (الذي لا ننكر عبقريته كفيلسوف وعالم نفس) منذ قرنين من الزمان تجاه «حساب اللامتناهي»
Infinite Calculus
الذي كان علما ناشئا آنذاك، لقد ظن باركلي أنه استطاع أن يثبت، بنقده المنطقي الحاد والسطحي رغم ذلك، أن هذا النوع من التحليل الرياضي هو شطح لا أساس له على الإطلاق، ولعب فارغ بتجريدات جوفاء، وليس هناك أدنى شك في أن علم الفينومينولوجيا، ذلك العلم الجديد الشديد الخصوبة، سوف يتغلب على كل عناد وكل بلادة، وسوف ينمو نموا هائلا، كما فعل حساب اللامتناهي الذي كان غريبا على أهل عصره، وكما فعل علم الفيزياء الدقيق، في مواجهة الفلسفة الطبيعية الرائعة الغموض لعصر النهضة، منذ ظهور جاليليو.
إدموند هسرل
المحاضرة الافتتاحية في فرايبورج 1917م
ولد إدموند هسرل
Edmund Husserl (1859-1938م) في قرية بروسنيتز في مورافيا وكانت في ذلك الوقت جزءا من الإمبراطورية النمساوية، درس الرياضيات في جامعتي ليبزج وبرلين وحصل على الدكتوراه في الرياضيات عام 1881م، وفي جامعة ليبزج حضر المحاضرات الفلسفية لفيلهلم فونت، قرر هسرل أن يهب نفسه كليا للفلسفة، فارتحل إلى فينا حيث تلقى محاضرات فلسفية لفرانز برنتانو (1838-1917م)، ومن عام 1916م حتى عام 1929م قام بالتدريس في فرايبورج حيث قضى بقية عمره.
كانت المهمة الرئيسية التي نذر لها نفسه هي أن يجعل الفلسفة «علما دقيقا»، علما صارما عاما شاملا، الفلسفة عند هسرل إذن يجب أن تكون علما يبدأ بداية صحيحة ويتحرى الصواب منذ البداية، فلا يأخذ شيئا على علاته ولا يسلم بشيء، أي إن الفلسفة يجب أن تكون علم العلوم ... «علما بلا فروض مسبقة»
، يعتمد كل استدلال استنباطي أو استقرائي في صحته على الفهم الحدسي المباشر لحقائق ليس لها، ولا يلزمها، تبرير أبعد منها، إنها حقائق ضرورية صدقها واضح بذاته ولا تتطلب أسسا أخرى، مثل هذه الحقائق الضرورية لا بد من وجودها إذا شئنا ألا نقع في «نكوص لانهائي»
Infinite Regress
للتبرير، وعلى هذه الحقائق البينة بذاتها تتأسس الحقائق البينة بغيرها ويتأسس العلم كله، بهذا المعنى يعد مشروع هسرل في تأسيس المعرفة كلها على أساس يقيني موحد نظيرا لمشروع ديكارت وامتدادا له. (2) حملته على النزعة السيكولوجية
كان هسرل في أول أعماله الكبرى «فلسفة الرياضيات» واقعا في «النزعة السيكولوجية»
يفسر منشأ التصورات الرياضية، كالعدد والدوال والحقائق الحسابية ... إلخ، تفسيرا مشوبا بمسحة سيكولوجية، فيفسر امتلاكنا مثلا لتصور العدد على أنه مشتق من حدوس عقلنا بالتجمعات بما هي كذلك، غير أنه، تحت تأثير فريجه
G. Frege (1824-1925م) الذي انتقده في ذلك انتقادا عنيفا، تخلى عن هذا المنحى وتحول من نصير للنزعة السيكولوجية إلى واحد من أشد مناوئيها وأبعدهم أثرا، وكان من المترتبات المباشرة لرفضه للمذهب السيكولوجي تأسيسه للفلسفة الفينومينولوجية.
2
ارتبط ظهور الفلسفة الفينومينولوجية بأزمة العلوم الإنسانية في مطلع القرن العشرين، فقد أدى ترقي البحوث السيكولوجية والاجتماعية والتاريخية إلى تحول كل علم منها إلى «نزعة»
Ism
تريدنا أن نرى كل شيء بمنظارها ونرد كل شيء إلى مقولاتها، فالسيكولوجيون يردون كل شيء إلى علم النفس حتى قوانين المنطق، والاجتماعيون يفسرون كل شيء تفسيرا اجتماعيا حتى التذوق الفني! والتاريخيون يرون منطق التاريخ مهيمنا على كل الأشياء بما فيها صانع التاريخ نفسه؛ الإنسان!
تريد «النزعة السيكولوجية» (المذهب السيكولوجي)
أن تجعل المنطق مجرد فرع من فروع علم النفس، وكأن الماهية الذهنية لأي قضية من القضايا المنطقية يمكن أن ترتد إلى البواعث الذاتية التي صاحبتها، أو كأن معنى أي عبارة من العبارات لا يملك أي استقلال عن مجرى الشعور الذي اقترن به، ترى النزعة السيكولوجية أن تبرير «الاستدلال الاستنباطي»
Deductive Inference
والحقائق المنطقية أو الرياضية من قبيل 2 + 2 = 4 يستند إلى أنها تمثل حقائق أساسية معينة عن الطريقة التي نفكر بها، غير أن هذا الموقف ينطوي على مغالطة، فمثل هذه النظرة تتعامى عن الضرورة المطلقة للحقائق المنطقية من جهة، وتصادر على المطلوب من جهة أخرى، فلو كانت الحقائق المنطقية تعتمد على أي صنف من الوقائع حتى الوقائع الصادقة عالميا عن طريقة البشر في التفكير لكانت قائمة على أشياء كان من الجائز أن تكون على غير ما هي عليه، ما دامت هذه الوقائع هي دائما «عرضية»
Contingent (غير «ضرورية»
Necessary Apodictic )، إذا أخذنا مثلا الاستدلال الاستنباطي المتضمن لقضيتين ق، ك والقائل: «ق تلزم عنها ك، ق صادقة، إذن ك صادقة.» قد ينزلق المرء إلى أن يعتبر هذه القضة تستمد تبريرها كاستدلال صحيح من وصفها لواقعة سيكولوجية عن الطريقة التي لا بد أن يفكر بها الناس: إذا رأى شخص ما أن «ق تلزم عنها ك»، ورأى أن هناك ق، فمن المتعين أن يرى أن ك تترتب على ذلك، غير أنه يخلط إذاك بين الشعور القهري السببي الواقعي (وهو أمر عرضي حتى لو كان عالميا) وبين الاستدلال المنطقي وهو أمر ضروري بغض النظر عما إذا كان أي شخص في الحقيقة يقوم بالاستدلال أم لا، قد يكون الاستدلال واصفا للطريقة التي يفكر بها جميع الناس (وإن كنا نشك في ذلك)، غير أن هذا ليس هو الأساس الذي يستند إليه صواب الاستدلال، فصواب الاستدلال لا يعتمد على أي حقائق عامة عن عمليات سيكولوجية، والحق أن مما يعد تفنيدا لكل النزعات الطبيعية
Naturalism
أن حقائق المنطق لا تعتمد على أية وقائع على الإطلاق، فالمنطق «معياري»
لا «وصفي»
Descriptive .
ومن جهة أخرى فإن كل محاولة طبيعية
Naturalistic
لتبرير المنطق تبريرا سيكولوجيا تنطوي على «دور»،
3
Vicious circle
ذلك أن جميع الاستدلالات، بما فيها تلك المطلوبة لممارسة السيكولوجيا وإنتاج الحجج في السيكولوجيا، تفترض سلفا صواب القواعد المنطقية للاستدلال، أي إن العلوم الطبيعية تفترض مسبقا صواب القواعد المنطقية، ومن ثم فإن الحجج التي تستخدم قضايا العلم الطبيعي لا يمكن أن تستخدم لتبرير قواعد المنطق.
من شأن هذه النزعة الطبيعية أن تشجع شتى ألوان النسبية، فإذا كانت القواعد المنطقية تعكس قوانين سيكولوجية للفكر، لكان من الجائز لهذه القوانين، بالنسبة لنا أو لغيرنا من الكائنات، في مكان آخر أو زمان آخر، أن تختلف وتتبدل، إن الروابط في علم المنطق بين المقدمات والنتائج ليست آلية أو «سببية»
Causal
بل هي «تصورية»
Conceptual
ومتعلقة بالمعاني، وفي كتابه «أبحاث منطقية» يرفض هسرل النزعة السيكولوجية وكل تعميم للنزعة الطبيعية وإساءة استخدام التفسير الطبيعي ووضعه في غير موضعه.
بوسع المرء إذن أن يعتبر فلسفة هسرل رد فعل ضد النزعة العلمية (المتطرفة)
Scientism
التي تقوم على الاعتقاد بأن كل شيء قابل للشرح والتفسير في ضوء العلم الطبيعي، لم يكن هسرل معاديا للعلم، وإنما كان يريد أن يكشف مواطن قصور العلم ويبين حدوده، فالعلم يقوم على «افتراضات مسبقة»
عن طبيعة الواقع يسلم بها تسليما ولا يضعها موضع التساؤل، ومن ثم فهو لا يملك تقديم تفسيرات أولية بالمعنى الذي يصلح أن يكون نقطة انطلاق قصوى، أو ركيزة أولى، لأي تفسير عقلاني للعالم، ولا بد للفلسفة إن شاءت أن تكون علما دقيقا من أن تعود إلى ما هو معطى في التجربة في عموميته وقبل أن يناله أي تنظير أو تفسير، ولا بد لها من أن تقارب ما هو معطى وتتجه إليه بلا تصورات مسبقة أو فروض مسبقة ظاهرة كانت أم خفية، فالفلسفة ينبغي أن تنشد الحقائق اليقينية الضرورية المبرأة من الفروض المسبقة، وأن تلتمس ما يبقى لنا وتتبين ضرورته بوضوح ذاتي بمجرد أن نطرح ما هو عرضي غير ضروري، سيبقى لنا ذلك الذي لا بد من افتراضه والبدء منه في كل شكل من أشكال البحث العقلي.
ويتحدث «هسرل» عن «أزمة الإنسان الأوروبي»، ومفادها أن العجز عن تأسيس العقلانية على أسس وطيدة قد أدى إلى النزعة اللاعقلية وإلى البربرية، ولكن الخطأ هنا ليس في العقلانية بل في تصور أن العقلانية والمذهب الطبيعي هما شيء واحد وأن المذهب الطبيعي العلمي لديه تفسيرات عقلانية نهائية، الخطأ هو في هذا التصور الذي متى تبين فشله صارت العقلانية نفسها مهددة بالنبذ، بينما مساواة العقلانية بالمذهب الطبيعي هو الذي يجب أن ينبذ، فعجز العلم الطبيعي عن تقديم حقائق يقينية نهائية عن العالم ينبغي ألا يعد فشلا للمشروع العقلاني ذاته. (3) القصدية
Intentionality
تبدأ قصة فينومينولوجيا «هسرل» من «فرانتس برنتانو» الذي تتلمذ عليه هسرل وأخذ عنه كثيرا من الأفكار الخصبة وجعلها نقطة انطلاقه في فلسفته، كان برنتانو يعتقد أنه اكتشف ماهية «الذهني»
The Mental
أو ماهية «الوعي»
Consciousness (الشعور) فالقاسم المشترك بين كل ما هو ذهني أو شعوري هو «القصدية»
Intentionality ، فخاصية كل شعور هي أن يكون شعورا بشيء، وكل ما هو فعل ذهني أو موقف عقلي هو موجه نحو موضوع؛ «موضوع قصدي»
Int Tentional Object ، وجميع حالات الوعي (من تفكير واعتقاد ورغبة وحب وكراهية وتذكر ... إلخ) لها دائما موضوع أو محتوى، تختلف الطرق التي يرتبط بها الموضوع القصدي بالوعي المقابل ولكن في جميع الحالات لا اختلاف في أن الوعي هو وعي بشيء ما، الوعي دائما له موضوع، والوعي دائما موجه نحو موضوع؛ فهو يقصد هذا الموضوع ويعنيه ويراوده، والموضوع القصدي هو موضوع انتباه المرء في كل فعل ذهني.
والخاصية الأخرى التي تتحلى بها قصدية الوعي هي أنها تتجه نحو موضوعها وتعنيه بصرف النظر عما إذا كان هذا الموضوع موجودا بالفعل أم غير موجود. إن الأفعال القصدية هي بعينها تلك الأفعال التي يمكنها تناول أشياء غير موجودة، فقد «يعتقد» طفل أو «يتمنى» أن يتحفه بابا نويل بالهدايا، وإن يكن بابا نويل كائنا غير موجود، هذا ما يعبر عنه أحيانا بأن موضوعات الأفعال القصدية يمكن أن يكون لها «لا وجود قصدي»
Intention Al Inexistence .
4
من الحق الذي لا يقبل الشك أن للأفعال الذهنية دائما موضوعا ما، وأن ما يربط الوعي وأفعال الوعي بموضوعاتها القصدية ليس رباطا عرضيا، بل الموضوعات القصدية جزء لا يتجزأ من الفعل الذهني سواء تبين وجود الموضوع أو عدم وجوده، الموضوع القصدي «حال» أو «مباطن» أو «محايث»
Immanent
للفعل الذهني، وعلى العكس من ذلك نجد أن أي فعل جسمي (غير ذهني) يتطلب دائما موضوعا موجودا لكي يؤدي عليه الفعل، مثال ذلك أن أركل كرسيا بقدمي، فهو فعل يستلزم أن يكون ثمة كرسي لكي أركله، بينما «أن أفكر» في كرسي هو فعل لا يتطلب وجود أي كرسي، وحتى الشعور أو المزاج العام من قبيل القلق أو الانشراح، وإن بدا خلوا من أي موضوع قصدي بعينه، لا يشذ في رأي برنتانو عن القاعدة العامة وهي أن القصدية هي ماهية الذهني، فها هنا يكون المزاج نفسه هو الموضوع القصدي، هو «موضوع ذاته».
كل شعور هو شعور بشيء، وبهذه المثابة يمكن وصفه مباشرة، والشعور بشيء هو التضايف المتواصل بين أفعال القصد بجميع أنواعها وبين الموضوع المقصود، من هنا تعد فكرة القصدية بوصفها ماهية الذهني مناوئة لنظرة ديكارت الثنائية إلى العقل باعتباره جوهرا مستقلا قد يوجد بمعزل عن كل موضوع شعوري، ذلك أنه وفقا لدعوى القصدية يعد الفكر (الكوجيتو)
Cogito
وموضوعات الفكر (المفكر فيه)
Cogitatum
وحدة لا انفصام لها.
تقبل هسرل عن أستاذه فكرة القصدية وجعل يستخلص منها نتائج باهرة، منها أن فكرة القصدية تكشف مواطن القصور في المذهب الطبيعي السببي، ذلك أن مجال الشعور وموضوعاته القصدية يقدم حقلا لا يتسنى فيه فهم الارتباطات إلا في ضوء المعنى والتبرير العقلي، وهو ما لا يقبل الرد إلى مجرد تفسيرات سببية أو تفسيرات سيكولوجية ترابطية
Associationist ، إن فهم سلاسل الأفعال الذهنية وموضوعاتها بوصفها معاني (اعتقاد س بسبب اعتقاد ص) يتطلب أن نصف الروابط بينها في حدود التصورات و«المبررات العقلية»
Reasons
والأغراض، وليس في حدود الروابط «السببية»
Causal
أو الآلية للأفعال الذهنية، فالسؤال «ما الذي يبرر اعتقادي اليقيني في أن 1574 = 926846266؟» أو السؤال «لماذا تكره الرجل الذي باعك السيارة؟» يتطلب لا إجابات أو تفسيرات «سببية»
Causal
بل «مبررات عقلية»
Reasons
أو «أدلة»
Evidence ، أي تبريرا عقليا أو منطقيا، صحيح أن هناك مواقف يعتقد فيها المرء شيئا أو يستنبط نتيجة لا تترتب منطقيا وذلك لدواع سيكولوجية سببية، ومواقف أخرى يعتنق فيها الناس، مدفوعين بأسباب سيكولوجية، اعتقادا غير صائب عقليا أو يستخلصون نتيجة لا تترتب منطقيا، غير أن هذا يثبت أن السؤال عن الظروف السببية التي جعلت المرء يعتقد بالفعل اعتقادا معينا هو سؤال مختلف عن السؤال عما إذا كان هناك مبرر عقلي أو منطقي لهذا الاعتقاد.
والحق أن هسرل لم يكن شديد الحرص على إثبات أن القصدية هي السمة المميزة للذهني، ذلك أن ما كان يهمه هو أن عالم الموضوعات القصدية أو المعاني يقيض للفلسفة موضوعا مستقلا للدراسة بمعزل عن، ولا يرد إلى، أي افتراضات سببية طبيعية أوسع حول طبيعة هذه الموضوعات أو وجودها، فنحن في أي حال لدينا موضوعات أو معان نحن على وعي بها ما دام لنا وعي على الإطلاق، ومهما يكن صنف الافتراضات التي نكونها عن طبيعة الواقع فإن من المتيقن أن أفعالنا الذهنية ستكون مسكونة بمحتوى معين أو موضوع مقصود، وأن الأشياء تتبدى لنا على نحو معين، يتضمن الذهني دائما «إحالة» (إشارة)
Reference
إلى موضوع أو محتوى ليس من المشترط أن يكون موجودا بأي معنى عدا كونه الموضوع المقصود في فعلنا الذهني، وموضوع الفينومينولوجيا هو الطبيعة الماهوية لهذه المحتويات منظورا إليها باعتبارها موضوعات قصدية صرفا للأفعال الذهنية، ومن الجدير بالملاحظة أن «موضوعات الوعي» ليست مقصورة على الموضوعات الحسية للخبرة التجريبية، فأيما شيء يمكن أن يقع في الوعي: الألوان، الموضوعات الفيزيائية، المعادلات الرياضية، الحب، الزمن، الصداقة ... إلخ هو موضوع ممكن للدراسة الفينومينولوجية، إذ تمكن دراسته كما هو بوصفه ظاهرة.
ترتكز الفينومينولوجيا على فكرة أننا حين نأتي لرؤية الموضوعات بما هي ظواهر في الوعي، يمكننا أن نرى حقائق يقينية وضرورية تتعلق بالملامح الماهوية لهذه الموضوعات؛ لأن بإمكاننا عندئذ أن نرى تلك الملامح التي لا يسعنا التغاضي عنها دون الوقوع في تناقض ذاتي بخصوص ما تكونه هذه الموضوعات، بذلك نفهم الموضوعات كما هي في ذاتها وبدون أية فروض مسبقة أو أية تفسيرات مقحمة عليها، وبين الملامح العديدة للأشياء ثمة ملامح «ماهوية»، وهي تلك الملامح التي، إن ظهرت لنا على الإطلاق، لا يمكننا أن نطرحها جانبا إن كان لهذه الموضوعات أن تظهر لنا بوصفها ذلك الصنف من الأشياء، إن الطريقة التي لا بد أن تكونها الأشياء إن كان لها أن تظهر لنا على الإطلاق بوصفها تلك الأشياء هي ما يشكل «ماهيتها».
تشتق كلمة «فينومينولوجيا» من الكلمة اليونانية
وتعني «مظهر»، وكلمة
Logos
وتعني علم، قانون، عقل، الظواهر هي الموضوعات النهائية لعلم بلا فروض مسبقة، وتشير كلمة «ظاهرة» إلى ذلك الذي هو ما يبدو عليه، ومن ثم فهو شيء ما يرى كما هو في ذاته، والفينومينولوجيا في الحقيقة هي علم الموضوعات القصدية للوعي، ويتألف هذا العلم من قوانين قائمة على المعاني التي تصف الملامح الضرورية، البنائية والصورية، لشتى أصناف المظاهر. في حالة الموضوعات الظاهرية يمتنع التمييز بين المظهر والحقيقة، الموضوعات الظاهرية هي ما تظهر عليه؛ وذلك لأنها لا تعنينا إلا كما تظهر، وغني عن الذكر أن الأشياء «تظهر» لنا بطريقة معينة، وما دام المرء متمسكا بظواهر الأشياء لا يتجاوزها فسيكون لديه نطاق من الموضوعات يمكنه أن يكون عنها حقائق وصفية ضرورية ويقينية، تتخذ الفينومينولوجيا شعارا لها «إلى الأشياء ذاتها» بمعنى أننا ينبغي أن نواجه الأشياء بالضبط كما نخبرها في الوعي، وبمعزل عن أي فروض مسبقة نظرية أو ميتافيزيقية - لا أن نواجهها كأشياء بأي معنى آخر - كأشياء فيزيقية مثلا، ينبغي أن نعود إلى الخبرة ذاتها، إلى عالم الشعور المحض أو الذاتية الخالصة، ويطلق هسرل على حقيقة وجود ذاتية أو وعي صريح لقب «أعجوبة الأعاجيب جميعا»، ليست تكمن المعجزة في الوجود نفسه بل في وجود موجود يدري بهذا الوجود. (4) أزمة الأسس
لو أنعمنا النظر في بناء العلوم الطبيعية المختلفة وفي نظرة الحس المشترك إلى العالم لوجدناهما قائمين على مسلمات غير مستمدة من الظواهر، ثمة تحت نظرة الحس وتحت العلوم الطبيعية شبكة من الفروض المسبقة عن طبيعة الواقع، وهي فروض تتخطى الظواهر
Trans-Phenomenal
أو «مفارقة»
Transcendent ، إننا نضع افتراضات عن الأشياء تتجاوز ما هي عليه الأشياء بوصفها ظواهر، ويطلق هسرل على النظرة «قبل-الفلسفية» إلى العالم اسم «الموقف الطبيعي»
Natural Attitude .
وحتى المنطق والرياضيات لم يسلما من المسلمات! ولم يحققا مطلب «الخلو من الفروض المسبقة»
؛ لأنهما، داخل مجاليهما، لم ينتقدا جميع الأسس التي تقوم عليها المفاهيم الأساسية وقواعد الاستدلال ولم يضعا الأسس نفسها موضع تساؤل، ولم ينصرم القرن التاسع عشر حتى كان واضحا للجميع أن من الممكن تشييد عدة أنساق صورية متناقضة فيما بينها وإن تحلت جميعا بالاتساق الذاتي بدرجة متساوية، هناك على سبيل المثال هندسات عديدة مختلفة فيما بينها رغم اتساقها الذاتي وترابطها الداخلي. (5) الرد الفينومينولوجي
لتحقيق حد أدنى من الوعي بنقاوة الأسس وخلوها من الفروض المسبقة، وهو متطلب أساسي للموقف الفلسفي الحقيقي، يقدم هسرل منهجا يطلق عليه «الرد الفينومينولوجي»
، أو «الوضع بين أقواس» (التقويس)
Bracketing ، أو «الإبوخيه»
Epoche (وهي من الكلمة اليونانية
Epoche
التي تعني «تعليق أو توقف»
Suspension
أي ، في هذا المقام، تعليق الاعتقاد أو التوقف عن الحكم)، والإبوخيه هو قلب المنهج الفينومينولوجي، فالذي يبقى لنا بعد إطراح كل الفروض المسبقة عن الأشياء هو وحده اليقيني والضروري عن هذه الأشياء، وحقيقة الأمر أن الرد الفينومينولوجي يمر بمرحلتين: (1)
تعليق الحكم على وجود أو عدم وجود موضوعات الوعي، وبه يتسنى لنا التركيز عليها كظواهر خالصة، أي التركيز عليها كما تتراءى وتتبدى في الوعي. (2)
أن ننظر إلى هذه الموضوعات (التي تم ردها إلى ظواهر محضة) لا في جزئيتها وعرضيتها، بل في كليتها وماهيتها، بمعنى ألا نتعلق من الظواهر إلا بما هو كلي ماهوي وألا تشغلنا الظواهر إلا بوصفها عينات أو نماذج لأنماط من الظواهر، بذلك نضرب صفحا عن الجزئيات العرضية للظواهر ونضعها بين أقواس لكيما نخلص إلى الماهيات التي بها يكون الشيء ما هو وبدونها يكون أي شيء آخر، ويطلق على هذه الخطوة «الرد الماهوي» (أو الصوري)
Eidetic Reduction
لأنه يرد الظواهر إلى الخلاصة المتبقية التي تجعلها ذلك النمط بالذات أو الصنف دون غيره من الظواهر، وتشتق كلمة
Eidetic
من الكلمة اليونانية
Eidos
وتعني «صورة» أو «شكل»، وهي تلمع إلى «الصور الأفلاطونية» التي هي «ماهيات».
لكي يتسنى لنا أن نركز على الأشياء كما هي معطاة للوعي فحسب، فإن علينا أن نضع جانبا تلك المسلمات التي نسلم بها دون سؤال سواء الخاصة بنظرة الحس المشترك أو بنظرة العلم الطبيعي إلى العالم؛ لكي نخلص الوجهة إلى محتويات الوعي المحض وندرسها بحيدة ونزاهة، وما نزال معلقين الحكم على أي أفكار سالفة لنا عن محتويات الوعي، سواء تلك المتعلقة بأسبابها أو بوجودها أو بطبيعتها أو بتمثيلها (أو عدم تمثيلها) للعالم الخارجي، وبمعزل عن كل هذه الفروض المسبقة يمكننا أن ندرس كل ما يعن للذهن بوصفه موضوعا فينومينولوجيا خالصا، أي ندرسه كما يتبدى للوعي فحسب.
5
والإبوخيه لا يعني إنكار وجود العالم الخارجي (ولا إثباته )، فنحن لا نحذف الواقع الخارجي أو نقصيه أو نلغيه، وإنما نحن، ببساطة، نحيده ونضعه جانبا ونضرب عنه صفحا، وبهذه الطريقة يتمكن المرء من بلوغ الموقف الفلسفي القويم .
والفلسفة؛ إذ تبلغ هذا الموقف الفينومينولجي تجاه موضوعات الوعي، لا تشغلها هذه الموضوعات من حيث هي محتويات ذهنية معينة، بل تشغلها من حيث هي دلالات أو معان، فالإبوخيه يسلخ موضوعات الوعي الظاهرية الخالصة من وجودها أو عدم وجودها ومن كل ما هو غير جوهري لها لكي تكون ما هي، عندئذ نراها كما هي في ذاتها، كما يتعين أن تكون من أي زاوية ومن أي وجهة رأي إن كان لها أن تكون ذلك الصنف من الأشياء الذي تكونه، وهو ما نعنيه حين نقول إننا عندئذ «نرى ماهيتها»، والحق أن الفينومينولوجيا، بل كل فلسفة حقة، لتأبى إلا أن تكون «علما للماهيات»
Science of Essences
أو «علما للصور»
Eidetic Science .
هذه الماهيات مستقلة عن أي وعي فردي، وموضوعية بصفة مطلقة، وصائبة صوابا عاما شاملا، ذلك أنها تكشف لنا، في حالة مثول موضوع معين للوعي، ما يتعين أن يكون جزءا من وعي هذا الموضوع، والحق أن معرفة الماهيات هي شأن مستقل تماما عن كل أسئلة أو معرفة عن الوجود أو الواقع، فماهية أي موضوع هي أمر لا شأن له بما إذا كانت توجد بالفعل أي أمثلة لهذا الموضوع.
وهذه الماهيات «تدرك بالحدس»
Intuited
أو العيان، أي بالرؤية العقلية المباشرة، وعندما يمثل موضوع معين للوعي، فهو يمثل دائما بوصفه ذلك المظهر بالذات وليس مجرد مظهر، أي إن له «دلالة»
Significance
أو «معنى»
Meaning ، هذه الدلالة أو هذا المعنى هو ما تحصره الماهية وتقبض عليه، وبدون هذه الماهيات أو هذه الدلالات فإن الأشياء لن تعني لنا أي شيء على الإطلاق، إن الماهيات تسبغ المعنى والدلالة على الأشياء وعلى خبرة الأشياء، وهذه الماهيات، بما تسبغه من دلالات، هي الظواهر القصوى للوعي، ويؤكد هسرل، بطريقة ديكارتية، أن ماهية الشيء هي تلك الخصائص التي يحوزها الشيء يقينا لا يقبل الشك؛ إذ بدون هذه الخصائص الماهوية لن يعود الشيء ماثلا بوصفه ذلك النمط من الأشياء على الإطلاق، إن هذا المعنى العام هو القاسم المشترك الثابت بين جميع تمثلاتنا المختلفة للشيء الواحد (عندما نطوف حول الشيء على سبيل المثال ) والذي يوحد هذه التمثلات المتباينة في إشارتها إلى الموضوع نفسه، هكذا يكون وعينا ب «منزل» مثلا لا يعني منزلا إلا بفضل احتوائه على ماهية المنزل، وبهذه الطريقة تتعالق الأفعال الشعورية المتفاوتة وتتوجه نحو «منزل» لا نحو أي شيء آخر.
6 (6) معنى الشيء غير وجوده
تعزى إلى فريجه الفكرة القائلة بأن التعبيرات قد تحمل معنى أو مفادا حتى لو لم يكن هناك شيء أو «مشار إليه» (مرجع)
Referent
ينطبق عليه هذا المعنى، المعنى إذن مستقل عما إذا كان هناك أي شيء يفي بهذا المعنى، أو، بتعبير آخر، المعنى هو شأن منفصل عما إذا كان الموضوع المعني أو المقصود موجودا أو غير موجود، وفضلا عن ذلك فمن الجائز لتعبيرات مختلفة أو أوصاف مختلفة أن تشير إلى نفس الشيء؛ وذلك إما لأنها تحمل معنى واحدا، أو لأنها تحمل معاني مختلفة تمثل أحوال تواجد نفس الموضوع الواحد، من ذلك مثلا: «نجم الصباح» و«نجم المساء»؛ إذ تعين كوكب الزهرة، أو «1 + 1» و«5 − 3»؛ إذ تعين العدد 2، ولو كان معنى التعبير هو هو مرجعه (أي الشيء الذي يشير إليه) لأمكنني إذا فهمت تعبيرين أن أعرف إن كانا يشيران إلى شيء واحد أم إلى شيئين مختلفين، ولو كان فهم معنى تعبير ما هو أن أعرف مرجعه، لكان من المحال علي لو فهمت المقصود ب «نجم الصباح» و«نجم المساء» أن أخطئ في إدراك أنهما يشيران إلى الشيء نفسه، وهو كوكب الزهرة، ما دام فهم معنى التعبيرين يتضمن في كل حالة معرفتي بمرجعهما المشترك، من الواضح أن مثل هذه النتيجة زائفة، ومن البين أن عبارة «نجم الصباح هو هو نجم المساء» هو كشف معرفي لعلم الفلك وليس مكافئا للعبارة المنطقية النافلة «أ = أ»، وصفوة القول أنه من الواضح أن من الممكن وجود تعبيرات لها معنى وليس لها مرجع
Referent (مشار إليه)؛ ومن ثم فإن علينا ألا نوحد بين المعاني وبين مراجعها، وأن نعرف أن المعاني مستقلة عن مراجعها، ولسنا بحاجة بعد إلى افتراض «وجود» بيجاسوس حتى يكون لتعبير «بيجاسوس» مفاد معين ومن ثم يكون ذا معنى.
7 (7) قدرتنا الأصلية عن معاينة الماهية
يسلم هسرل بأننا نحتاج إلى أن نخبر حالات فردية للأبيض لكي نفهم ماهية «البياض»، غير أن المرء إذن يعي مباشرة ماهية البياض ما دام يرى الشيء كشيء أبيض، فرؤية شيء ما بوصفه شيئا أبيض يتضمن أن المرء يفهم أصلا ما هو البياض، فالأشياء إنما تدرك بدلالة معينة، ومن الخطأ أن نظن أن فهمنا لماهية البياض أو تصور البياض مستمد باستقراء سلسلة من الأشياء البيضاء واستخلاص الخاصية المشتركة بينها؛ ذلك لأن هذه العملية تتضمن سلفا قدرتنا على تمييز الأشياء البيضاء، فنحن هنا نتخير بالفعل بعض الأشياء كأشياء بيضاء وننبذ الأخرى، ووجه الأمر أننا إذ نرى شيئا ما كشيء أبيض فنحن في هذا الفعل الذهني عينه نعاين ماهية الأبيض ونراها بالحدس، إن لدينا قدرة أصيلة على تمييز الأشياء البيضاء، والفينومينولوجيا تصدع بهذا الوعي بالماهية الكامن في هذه القدرة، وشبيه بذلك تلك الطريقة التي نستطيع بها أن نتعرف مثلا على الرجل الذي سطا على البنك (سوف أعرفه لو رأيته، وهو أساس عملية استعراض المشتبه بهم للتعرف على الجاني) وإن كنا عاجزين تماما عن الإدلاء بأي وصف محدد للرجل، وتهدف الفينومينولوجيا إلى بلوغ حالة ذهنية يمكن بها مثل هذا الإفصاح الوصفي الحدسي عن الماهية، وذلك باطراح كل ما هو غير ضروري ولا كاف للموضوع الظاهري لكي يكون هو ما هو، هنالك تبقى لنا بقية ماهوية، خلاصة ماهوية، من الخصائص الضرورية والكافية التي سوف تمنحنا حقائق يقينية وضرورية.
وقد نستخدم موضوعات معينة للوعي كأمثلة لكي نتعرف على الماهيات، غير أننا نفعل ذلك بنفس الطريقة التي قد نستخدم بها رسما معينا لمثلث كي نستظهر نظرية هندسية ما مثل نظرية فيثاغوراس، إننا نرسم المثلث الخاص كمثال للتوضيح، غير أن الحقيقة المتعلقة بطبيعة الماهية لا تعتمد بحال على وجود هذا المثلث الخاص ولا على غيره، ونحن في استخدامنا للأمثلة إنما نصف ما أسماه هسرل «أفق» الشيء، وباللعب الحر للمخيلة، و«التنويع الحر»
Free Variation ، نحدد الحدود التي يمكن داخلها للشيء أن يختلف فيما يبقى نفس النمط من الأشياء، هكذا نحول خبرتنا بكيان مفرد إلى خبرة بالماهية، ويكون لدينا عندئذ عيان غير حسي بالماهية، أو رؤية حدسية للماهية
Eidetic Intuition .
من خلال الحدوس (العيانات) يمكننا أن نصف البنية الجوهرية لخبراتنا باعتبارها ظواهر خالصة، تشتمل الظواهر آليا على أفعال ذهنية وعلى الموضوعات الظاهرية لهذه الأفعال، على الفكر وموضوع الفكر، الفينومنيولوجيا، ومن ثم الفلسفة، هي أساس أي علم كان لأن أي وعي معقول بالعالم على الإطلاق لا بد له من أن يبدأ بهذا الفهم الأساسي للماهيات، إذ بدون هذه الماهيات لن يكون للعالم أي دلالة لنا على الإطلاق، بهذا المعنى يعتبر هسرل أن الفينومينولوجيا مبحث «قبلي»
a priori ؛ لأن فهم المعاني والدلالات والماهيات الأساسية مقدمة منطقيا على كل تنظير ومستقلة عن أي وقائع عرضية.
تضطلع الفينومينولوجيا بتلك الخصائص المرتبطة بأصناف الظواهر ارتباطا ضروريا، وتهدف الفينومينولوجيا إلى بلوغ حقائق ضرورية وموضوعية وذات يقين مطلق، من حيث هي لا تنتسب إلى منظور معرفي أو مكاني أو زماني، بهذا المعنى تكون هذه الحقائق حقائق مطلقة
Categorical ، فهي تعاين مباشرة من الخبرة ولا تعتمد في قبولها على قبول أي حقائق أخرى، مثل هذه الحقائق الأساسية المتصلة ببنية الأشياء الظاهرية يتعين أن ترى مباشرة أو لا ترى أبدا.
لو أن الظواهر كانت محايدة تماما وخلوا من أي دلالة أو معنى، لما كان هناك أي أمل في قيام أي علم على الإطلاق؛ لأن غياب المعاني والدلالات الأساسية لموضوعات الوعي كفيل بأن ينفي أي إمكانية لقيام علم يربط مفردات خبرتنا معا في أي هيئة قابلة للتكرار والفهم، وغاية الفينومينولوجيا هي العودة إلى الدلالات الأصلية النهائية للخبرات، مبرأة من ركام الدلالات البالية المدمجة في النظريات العلمية والافتراضات الدارجة، هنالك نرى العالم بدهشة ونضارة، أو نتعلم رؤية العالم من جديد. (8) الأنا الترانسندنتالية (الشارطة)
تتضمن فلسفة هسرل تطبيقا جذريا آخر لمنهج الإبوخيه ، لقد قلنا إن الرد الفينومينولوجي يضع بين أقواس كلا من العالم الخارجي الطبيعي والافتراضات المرتبطة بالاعتقاد في مثل هذا العالم، غير أن هناك شيئا آخر يظل عرضة للإبوخيه، ذلك هو الأنا الفردي أو الوعي، فكل فعل للوعي يفترض ذاتا أو «أنا»
Ego
افتراضا مسبقا، غير أن ما يهم ليس هو هذه الأنا الخاصة بل ما هو «ماهوي» بالنسبة للأنا، هذه الأنا الفردية هي أيضا يجب أن توضع بين أقواس من أجل أن نعاين ماهية الفرد المفكر نفسه، ومثلما هو الحال في جميع الماهيات، فإن وجود أي أنا معينة هو أمر غير ذي صلة بتحديد الماهية الكلية للأنا بصفة عامة، ألا وهي «القصدية المحضة»، إن ذلك الذي ينخرط في عملية «تقويس»
Bracketing
العالم الطبيعي بما فيه الأنا التجريبية نفسها لا بد أن يكون شيئا ما، وهسرل يسمي هذا الشيء «الأنا الترانسندنتالية»
Transcendental Ego
التي تقف «خارج العالم»، إن ماهية هذه الأنا الترانسندنتالية هي أنها تقف كشرط سابق لأي فعل ذهني أو لأي خبرة على الإطلاق بما فيها جميع أفعال الرد الفينومينولوجي. إننا الآن بإزاء بنية ثلاثية للوعي: أنا-أفكر-بموضوع فكري
Ego-Cogito-Cogitatum ، هذه هي العناصر الثلاثة المتصلة منطقيا ل: الأنا الخالصة (الأنا التي تفكر)، والفعل الذهني (الفكر)، والمحتوى (موضوع الفكر).
يقدم لنا هذا التصور فينومينولوجيا ترنسندنتالية كاملة، موضوعاتها النهائية هي مجموعة هائلة من أصناف المعنى أو الدلالة (نوئيما
Noema )، ترتبط بأفعال الفهم (نوئزيس
Noeasis ) الخاصة بالأنا الترنسندنتالية، والأنا الترنسندنتالية هي المطلق الوحيد؛ لأنها تبقى بعد كل تقويس
Bracketing ، إنها مفترضة سلفا في كل فعل للوعي أو الخبرة أيا كان هذا الفعل، حتى فعل التقويس نفسه، والأنا الترانسندنتالية هي الشرط المسبق لكل معنى، إنها الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يطرحه الفكر لأنها مفترضة سلفا في كل تفكير.
وقد نزع «هسرل» في المراحل المتأخرة من فلسفته إلى إسداء دور نشط للأنا الترانسندتالية، وخلص إلى أن الأنا الترنسندنتالية، وليس الأنا الفردية، تشكل أو تشيد بطريقة نشطة معنى موضوعات الوعي، الأنا الخالصة تمنح الموضوعات معناها الذي يجعلها موضوعات للوعي، ولكن هذا بحد ذاته لا يفضي إلى المثالية (المذهب القائل بأن الواقع معتمد على الوعي)، فلعل الأنا الترانسندنتالية لا تفعل أكثر من أن تدرج عالما مستقلا وجوديا في مقولات مفهومة أو تصورات معقولة وبذلك تجعله موضوعا للوعي.
غير أنه إذا كان الواقع الوحيد الذي يمكن أن يعترف به لموضوع ما هو تلك الدلالة التي تسبغها عليه، بشكل نشط، تلك الأنا الترانسندنتالية، وهذه «مثالية»
Idealism ، وإذا كان أي عالم بدون دلالة للوعي هو عالم غير ممكن وجوديا، وكانت كل دلالة هي نتاج الأنا الترنسندنتالية، لترتب على ذلك أن العالم معتمد وجوديا على الأنا الترنسندنتالية، ويوحي ذلك أيضا بأن الأنا الترنسندنتالية هي «المطلق» الوحيد، ما دام كل شيء معتمدا وجوديا عليها وهي غير معتمدة وجوديا على أي شيء آخر.
تومئ نظرة «هسرل» إلى شكل من أشكال المثالية الذاتية (الواقع معتمد وجوديا على الذات) حيث الوجود كله مرتهن للمعنى الذي تسبغه الذات الترنسندنتالية (أو الذات بما هي كذلك) على الأشياء، ولكن يظل بالإمكان أيضا الرد بأن مثل هذه الدلالات أو الماهيات هي موضوعية من حيث إنها مستقلة عن وجود أي وعي بعينه وإنها عامة مشتركة تشمل كل وعي بما هو وعي، وقد مالت آراء هسرل المتأخرة تجاه المثالية؛ لأنه ذهب إلى أن الحديث عن الوجود الحقيقي للعالم بمعزل عن مقولات الدلالة التي تعتمد على الوعي الخالص هو حديث ممتنع ولا معنى له، ولكن مرة أخرى يظل بالإمكان القول بأن العالم قد يستمر في الوجود بمعزل عن الوعي المحض، إذا صح ذلك، فمن الممكن عندئذ الرد بأن العالم الذي يتسم بذلك سيكون بلا معنى بنفس الطريقة التي ستكون بها جملة مكتوبة هي غير ذات دلالة إذا لم يكن ثمة عقول لتعي معناها، إنه ليكون عالما غير قابل للتصور فعلا.
ينتقل «هسرل» إذن من فكرة أنه لا يمكن أن «يتصور» أي شيء إلا كموضوع للوعي إلى فكرة أنه لا يمكن أن «يوجد» أي شيء إلا كموضوع للوعي، وكان جوابه على النزعة الشكية حول الطبيعة ووجود العالم الخارجي هو أن يقول بأن العالم الذي يبدو ذا معنى هو فقط العالم الحقيقي، وأن افتراض عالم غير ذلك يمكن أن يوجد أو لا يوجد هو لغو أو هراء. (9) مجمل لإدموند هسرل
اتفق هسرل مع «ديكارت» في أن هناك شيئا واحدا لا يرقى إليه الشك بالنسبة لكل واحد منا، ذلك الشيء هو وعينا الخاص، ومن ثم فإذا شئنا أن نشيد تصورنا للواقع على أسس وطيدة، فهذه هي الصخرة التي نبدأ منها ونقيم عليها الصرح، غير أنه يتفق أيضا مع هيوم في أنني إذ أنظر إلى مائدة مثلا فإن وعيي يكون وعيا بالمائدة وليس وعيا بنفسي حائزا على خبرة النظر إلى المائدة، يأخذ الوعي دائما، في الظروف العادية، هذه الصيغة: أنا على وعي مباشر بالأشياء لا على وعي بنفسي كموضوع، ولكن كل محاولة لإثبات أن هذه الموضوعات توجد بمعزل عن وعيي ودرايتي هي محاولة مصيرها الفشل، وقد تبين دائما استحالة إثبات وجود العالم الخارجي نفسه.
ها هنا يقدم «هسرل» طرحا وجيها بارعا: فلنتجنب التورط في مشكلات لا حل لها عن الوجود المستقل لموضوعات الوعي، فمن المتيقن ومما لا يقبل الشك أنها موجودة بالنسبة لنا بوصفها «موضوعات للوعي» بغض النظر عن أي وضع وجودي آخر قد تحوزه أو لا تحوزه، فلندرس إذن هذه الموضوعات على أنها موضوعات وعي ونحن على يقين مطلق بوجودها بهذه الصفة، ودون أن نضع عنها أي فروض أخرى، فهي، كموضوعات وعي، قابلة مباشرة للبحث والدراسة بقدر ما يمكن لأي شيء آخر أن يقبل البحث والدراسة، فلننصرف إذن عن الأسئلة التي لا سبيل إلى حلها، ولنضرب عنها صفحا ونضعها جانبا (بين أقواس إن شئت)، ونعول على ما نحن مؤهلون جيدا لبحثه.
8
كانت فينومينولوجيا هسرل «منهجا» قبل أن تصبح مذهبا صريحا، بدأ هسرل بنقد الرياضيات قاصدا من ذلك أن يكتشف أولا طريقة تجعل في إمكاننا اكتساب حقائق أساسية وإثباتها بالبرهان، ومن ثم جعل قاعدته الجوهرية من البداية هي أن يتوجه «إلى الأشياء ذاتها»، لكي يتلقى منها ما يعرفنا بها، وبالتالي أن يستبعد أساسا كل حكم سابق وكل نظرية سبق تصورها عن الواقع، هناك إذن مبدآن تتضمنهما نقطة البداية هذه: مبدأ سلبي، وهو يتألف من رفض كل ما ليس ثابتا بالبرهان ، أي مبرهنا عليه بحيث يبدو من المحال تصور نقيضه، ومبدأ إيجابي يتألف من الرجوع إلى الحدس المباشر في إدراك الأشياء، من حيث إن هذا الحدس، وهذا الحدس وحده، هو الذي يمكن أن يكون المنبع الأول لكل يقين، «التوقف» و«الحدس»: هذان هما المبدآن الرئيسيان في المنهج الفينومينولوجي.
ومع ذلك، ينبغي ألا تضلنا لفظة «الأشياء» وتوقعنا في الخطأ، فبفضل التوقف (أو وضع كل ما ليس له مبرر جلي بذاته، وفقا لهسرل، بين قوسين) تكون الأشياء الوحيدة المعطاة لنا حقيقة هي «الظواهر»
، وليس الوجود (أو الشيء في ذاته) بالأمر البين بذاته على الإطلاق، وهكذا يتكون مجال الحدس الفينومينولوجي من كافة الظواهر المعطاة للشعور، أي من كل ما يظهر على نحو ما وعلى أي أساس كان، وبالتالي مع استبعاد كل المجال غير البين للوجود في ذاته الذي لا يظهر، ولا يقبل الظهور. وتنحصر مهمة الفينومينولوجيا في الكشف عن عالم الظواهر كله، ووصفه وصفا محكما، ومحاولة إدراك العلاقات التي تربط بين هذه الظواهر في الوقت نفسه، مما يعني بوضوح تجاوز الوصف الخالص إلى تفسير الظواهر، أو تحديد معناها، يقول هسرل في كتابه «التأملات الديكارتية»: «إن التفسير الفينومينولوجي يوضح ما هو متضمن في معنى «المدرك بالفكر»
Cogitatum
دون أن يكون معطى عن طريق الحدس بأن يتمثل للإدراكات الحسية التي هي «بالقوة»
والتي تجعل غير الظاهر ظاهرا»، ومن وجهة النظر هذه فإن كل نمط من أنماط الظواهر يتيح اصطناع مناهج خاصة للبحث والوصف والتأويل.
بوسعنا إذن أن نقول إن الفينومينولوجيا بوصفها منهجا تبدو لأول وهلة أنها ضرب من «الوضعية»
ولكن هذا لا يعني بحال أنها تستبعد الفلسفة أو الميتافيزيقا، فالحق أن الاتجاه الفينومينولوجي لم يتوان عن أن يصبح اتجاها ميتافيزيقيا حقيقيا، ومن جهة أخرى فإن المنهج في حد ذاته يتضمن «مذهبا»! وتأويل ذلك أنه لما كانت «الإبوخيه» عبارة عن وضع مجال الوجود كله بين قوسين، وكانت لا تترك أمام العقل سوى الظاهرة الخالصة، فإن فينومينولوجية هسرل تتضمن نوعا من المثالية، وتحيل الكون إلى أفكار، وإلى المضمون الباطني للوعي، ولا تعترف بنمط من المعرفة اليقينية سوى «مشاهدة الماهيات» أو «معاينة الماهيات»، والحق أن هسرل يتجه أكثر فأكثر نحو مثالية متطرفة.
ولو نحن أردنا بحسب رأيه أن نصل حقا إلى ما هو بين بذاته من حيث درجة اليقين، فإننا لا بد أن نطبق منهج الإبوخيه لا على وقائع «العالم» فحسب بل على «الأنا» الطبيعية وأفعالها أيضا، أو بعبارة أخرى فإن «الكوجيتو» الديكارتي يقف دون وجه حق عند «أنا جوهرية»
Substantial I
ليست بما هي كذلك سوى شيء من أشياء العالم، وهي ليست الظاهرة الخالصة التي يعالجها المنهج الفينومينولوجي، وخطأ ديكارت (كما يحدده هيدجر، ومن قبله دلتاي) هو أنه تصور عبارة «أنا موجود»
Sum
في الكوجيتو وفقا لنمط وجود «الأشياء»
Res
مفترضا خطأ أن المعقولية واحدة الدلالة
Univocal
والحقيقة أن الأمر يتطلب «إبوخيه» أعمق من ذلك، يتطلب إبوخيه تنال «الذات التجريبية» وأفعالها الذاتية لإحالتهما إلى حالة الظواهر الخالصة، وبهذا وحده نصل إلى مجال الوعي الخالص الترانسندنتالي الذي لا تبقى فيه سوى الظواهر الخالصة الترانسندنتالية إلى جانب الأنا الترانسندنتالية التي هي في نهاية الأمر «الوجود» الأول اليقيني البين بنفسه الذي ينتهي إليه الارتداد الفينومينولوجي.
9 (10) المتضمنات التأويلية لفينومينولوجيا هسرل
تفترض فينومينولوجيا «هسرل»، شأنها شأن الهرمنيوطيقا الرومانسية عند «شلايرماخر» و«دلتاي»، أننا لكي نصل إلى تأويل سديد للموضوع يلزمنا سياق صحيح أو إطار ذهني، غير أنها لا تحفل بالأطر الخارجية التاريخية والثقافية، وترى أن النص يعكس إطاره الذهني الخاص، وحين يرفع هسرل شعار «إلى الأشياء ذاتها» فإنما يفعل ذلك لأنه يعتبر الموضوعات أشياء تامة في ذاتها. أن تفسر، إذن، يعني أن تعزل النص منهجيا عن كل ما هو دخيل عليه، بما في ذلك تحيزات الذات، وأن تتيح للنص أن يوصل معناه إلى الذات، فهدف الفينومينولوجيا هو أن تقبض على حقيقة النص كما هي، دون أي تلوين من الذات أو إسقاط من القارئ؛ ف «التأويل من الوجهة الفينومينولوجية ليس شيئا «يفعله» القارئ بل هو شيء «يحدث له».» وبقدر ما يضرب صفحا عن السياق التاريخي والثقافي الصارم الذي تلتزم به التأويلية الرومانسية فإنه يولي انتباها شديدا لعملية «تقويس»
Bracketing
التحيزات، وعملية التمعن الدقيق والوصف المفصل والتأمل العميق للنص، من أجل الوقوف على حقيقة النص كما هي.
الفصل الثامن
هيدجر
(1) بين هسرل و«هيدجر» (1-1) نوعان من الفينومينولوجيا
مثلما كان «دلتاي» ينظر إلى الهرمنيوطيقا في أفق مشروعه الخاص بإيجاد نظرية ذات توجه تاريخي لمنهج العلوم الاجتماعية، كذلك كان «هيدجر» يستخدم لفظة «هرمنيوطيقا» في السياق الأكبر لبحثه عن أنطولوجيا أكثر «أساسية»، لقد كان «هيدجر»، شأنه في ذلك شأن «دلتاي»، يبحث عن منهج من شأنه أن يكشف الحياة في ضوء الحياة ذاتها، وفي كتابه «الوجود والزمان» اقتبس «هيدجر»، مؤيدا ومعضدا، هدف دلتاي في فهم الحياة من خلال الحياة ذاتها، ومنذ البداية شرع «هيدجر» في البحث عن منهج يتخطى التصورات الغربية عن الوجود ويستقصيها إلى جذورها، شرع «هيدجر» في البحث عن «هرمنيوطيقا» تمكنه من أن يكشف اللثام عن الفروض المسبقة التي تتأسس عليها هذه التصورات، وقد أراد، مثل نيتشه من قبله، أن يضع التراث الميتافيزيقي الغربي كله موضع التساؤل.
وجد «هيدجر» في فينومينولوجيا إدموند هسرل أدوات تصورية لم تكن متاحة لدلتاي أو نيتشه، ووجد فيها منهجا يمكن أن يسلط الضوء على كينونة الوجود الإنساني بطريقة يمكن للمرء بها أن يكشف النقاب عن الوجود ذاته لا عن مجرد أهوائه وتحيزاته وأيديولوجيته، ذلك أن الفينومينولوجيا قد فتحت عالما جديدا وأتاحت فهم الظواهر فهما سابقا على التصورات الذهنية، على أن هذا العالم الجديد كانت له عند «هيدجر» دلالة مختلفة عن تلك التي كانت عند هسرل، فبينما كان «هسرل» يقارب هذا العالم بغرض كشف عمل الوعي بوصفه ذاتية ترانسندنتالية، فقد رأى فيه «هيدجر» الوسط الحيوي للوجود الإنساني التاريخي في العالم، ورأى في تاريخيته وزمانيته مفاتيح لفهم طبيعة الوجود، فالوجود كما يكشف عن نفسه في الخبرة المعاشة يند عن التصور العقلي وعن المقولات اللازمانية للتفكير الذهني المتمركز على الأفكار وحدها. إن الوجود هو السجين المحجوب والمنسي للمقولات السكونية الغربية، والذي كان «هيدجر» يأمل في إطلاق سراحه، فهل نجحت الفينومينولوجيا كنظرية ومنهج في أن تقدم له الوسيلة المناسبة؟
لقد نجحت جزئيا، غير أن تأثر «هيدجر» بدلتاي ونيتشه، وكذلك طبيعة نقده للميتافيزيقا الغربية وبخاصة الأنطولوجيا، قد جعلاه متوجسا غاية التوجس من رغبة «هسرل» في رد كل الظواهر إلى الوعي الإنساني، أي إلى الذات الترانسندنتالية، لقد آمن «هيدجر» بأن حقيقة الوجود سابقة على الوعي والمعرفة الإنسانية وأكثر منهما بداءة وأساسية، بينما كان هسرل يميل إلى اعتبار كل شيء حتى حقيقة الوجود كمعطى من معطيات الوعي، لم يكن مثل هذا الموقف القائم على الذاتية ليقدم الإطار المناسب للنقد الذي كان يدور بخاطر «هيدجر»، ورغم نجاح فينومينولوجيا هسرل في تحقيق مراجعة تنقيحية طموح للإبستمولوجيا ما تزال ثمارها ملموسة اليوم في مجالات كثيرة، فهي لم تكن بحد ذاتها الأداة التي يمكن أن يستخدمها «هيدجر» في طرحه الجديد لقضية الوجود.
ومما يحمل دلالة كبيرة لتعريف الهرمنيوطيقا أن ذلك الصنف من الفينومينولوجيا الذي أنشأه «هيدجر» في كتابه «الوجود والزمان» يطلق عليه أحيانا اسم «الفينومينولوجيا التأويلية»
Hermeneutic Phenomenology ، وهو أكثر من مجرد بحث فرعي داخل الحقل الذي أسسه هسرل وألم به، فهو يشير إلى صنفين منفصلين تماما من الفينومينولوجيا، صحيح أن «هيدجر» قد أخذ الكثير عن هسرل، وأن كثرة مدهشة من تصوراته المبكرة تعود إلى أستاذه، غير أنه وضع هذه التصورات في سياق جديد وفي خدمة غرض مختلف، هكذا يكون من الخطأ أن ننظر إلى «المنهج الفينومينولوجي» على أنه مذهب صاغه هسرل واستخدمه «هيدجر» لغاية أخرى، فالحق أن «هيدجر» قد أعاد النظر في مفهوم الفينومينولوجيا ذاته، بحيث أخذت الفينومينولوجيا والمنهج الفينومينولوجي عنده طابعا مختلفا اختلافا جذريا.
يتمثل هذا الفرق بإيجاز في كلمة «هرمنيوطيقا» نفسها، فلم يسبق قط لهسرل أن استخدم هذه اللفظة في الإشارة إلى عمله، بينما صرح «هيدجر» في «الوجود والزمان» بأن الأبعاد الأصيلة لأي منهج فينومينولوجي تجعله هرمنيوطيقيا بالضرورة، لقد كان مشروعه في «الوجود والزمان» هو «تأويل للدازاين (الآنية)»
a Hermeneutic of Dasein ،
1
إن اختيار «هيدجر» لكلمة «هرمنيوطيقا» (وهي كلمة مشحونة بالدلالات، من جذورها اليونانية إلى استعمالها الحديث في فقه اللغة واللاهوت) لتومئ إلى التحيز ضد العلم والذي يقف على النقيض الواضح من موقف هسرل، وتنسحب الخصلة نفسها على «الهرمنيوطيقا الفلسفية» لهانز جيورج جادامر وتضفي على اللفظة نفسها نبرة عالية من العداء للنزعة العلمية (المتطرفة/التعالمية)
Antiscientism .
هذان الموقفان المتضادان تجاه العلم يمكن أن يكشفا الفروق بين هسرل و«هيدجر»، تلك الفروق التي ترتبت فيما يبدو على التنشئة الرياضية للأول والتنشئة اللاهوتية للثاني، أراد هسرل للفلسفة أن تكون «علما صارما»؛ تجريبية عليا، أما «هيدجر» فكان يرى أن كل ما بالوجود من صرامة لا يمكن أن يجعل من المعرفة العلمية غاية نهائية، لقد تجلت الميول العلمية لهسرل في سعيه إلى «معرفة ضرورية»
Apodictic Knowledge ، وفي ضروب «الرد»
Reduction
التي قال بها، وفي رغبة في استقصاء كل مرئي وكل متصور من خلال «الرد الماهوي»
Eidetic Reduction
أما «هيدجر» فلم يأت في كتاباته أي ذكر للمعرفة الضرورية أو الردود الترانسندنتالية أو بنية الأنا، وازداد بعد «الوجود والزمان» اتجاهه إلى إعادة تفسير الفلاسفة السابقين - كانت، نيتشه، هيجل - وإعادة تفسير شعر ريلكه وتراكل وهلدرلين، لقد صار تفكيره أكثر «تأويلية» بالمعنى التقليدي، أي مرتكزا على تأويل النصوص، وبينما ظل هسرل علميا بالدرجة الأساس (وهو ما ينعكس في الأهمية التي يحظى بها في علوم اليوم) فقد أصبحت الفلسفة عند «هيدجر» تاريخية، إعادة اكتشاف مبدعة للماضي، شكلا من التأويل، وحتى لو لم ينعت «هيدجر» تحليله للدازاين باسم «هرمنيوطيقا»، فإن اتجاهاته الأخيرة تجعله جديرا بلقب «فيلسوف تأويلي» بلا جدال.
وتتجلى الفروق بين هذين الصنفين من الفينومينولوجيا في مسألة أخرى، هي «التاريخية»
Historicality ، لقد ألمح «هسرل» إلى تاريخية الوعي وقدم وصفا فينومينولوجيا للوعي الداخلي بالزمن، إلا أن توقه إلى «المعرفة الضرورية» قد أدى به إلى أن يترجم «الزمانية» مرة أخرى إلى المصطلحات السكونية المثولية للعلم، وهو في صميمه إنكار لزمانية الوجود نفسه وإثبات لعالم الأفكار ورفعه فوق تيار التغير، هذا ما جعل «هيدجر» يصرح عام 1962م بأن فينومينولوجيا هسرل قد «طورت نمطا وضعه ديكارت وكانت وفخته، وموقفا تبقى تاريخية الفكر غريبة عليه كل الغرابة»، كان «هيدجر» يحس في نفس الوقت بأن تحليله في «الوجود والزمان» كان متمسكا بشدة وعن حق بمبدأ الفينومينولوجيا، غير أن الفينومينولوجيا لا يجب أن تؤول للوعي، فمن الممكن أيضا أن تكون وسيلة لكشف الوجود بكل وقائعيته
Facticity
وتاريخيته.
2 (1-2) الفينومينولوجيا بوصفها تأويلا
في القسم الخاص من «الوجود والزمان» الموسوم باسم «المنهج الفينومينولوجي» في البحث يشير «هيدجر» صراحة إلى منهجه على أنه «هرمنيوطيقا»، وإذا جاز للسائل أن يسأل «ماذا يقدم ذلك للفينومينولوجيا؟» فإن هناك سؤالا آخر على نفس الدرجة من الأهمية لدراستنا الحالية: «ماذا يقدم ذلك للهرمنيوطيقا؟» غير أنه من الضروري قبل أن نتناول هذا السؤال أن نعرض لتعريف (أو إعادة تعريف) «هيدجر» للفينومينولوجيا.
يعود «هيدجر» إلى الجذرين اليونانيين للكلمة:
Logos, Phainomenon ، فيقول إن
تعني «ذلك الذي يظهر نفسه، الظاهر، المنكشف»، وإن
pha
شبيهة بكلمة
اليونانية التي تعني الضوء، التألق، ذلك الذي فيه يمكن لشيء ما أن يظهر، أن يصبح مرئيا، «فينومينا»
إذن تعني: «مجموع ما هو عرضة لضوء النهار، أو يمكن أن يسلط عليه الضوء، ذلك الذي جعله اليونانيون مكافئا ببساطة لما هو كائن.»
غير أن هذا الانكشاف أو هذا الصنف من إظهار الشيء «كما هو» يجب ألا نفهمه على أنه شكل ثانوي من الإشارة، مثلما يحدث عندما «يبدو شيء ما على أنه شيء آخر»، ولا هو شبيه بعرض لشيء ما، أي يشير إلى ظاهرة أخرى أكثر أولية، بل هو إظهار لشيء ما كما هو، في ظاهره، في تجليه.
وأما اللاحقة
Ology
فتعود بالطبع إلى الكلمة اليونانية «لوجوس»
Logos ، واللوجوس، كما يخبرنا «هيدجر»، هو ذلك الذي يتم توصيله في فعل الكلام، من ذلك يتبين أن المعنى الأعمق لكلمة لوجوس هو «ترك الشيء يظهر»، ومن ثم فإن للوجوس وظيفة كشفية، فهو يشير إلى الظواهر، ويدع الشيء يظهر على أنه ذلك الشيء.
غير أن هذه الوظيفة ليست وظيفة حرة بل هي مسألة كشف أو إماطة لثام، فهي تخرج من التحجب إلى وضح النهار، العقل لا يسقط معنى على الظاهرة، وإنما وجه الأمر أن ما يظهر هو تجل أنطولوجي للشيء نفسه، صحيح أننا من خلال النزعة الدوجماطيقية يمكننا أن نفرض على الشيء أن يرى على الوجه المرغوب فحسب، ولكن ترك الشيء يظهر على ما هو عليه يغدو مسألة تعلم، علينا أن نتعلم كيف نتيح للشيء أن يفعل ذلك، واللوجوس (الكلام) في الحقيقة ليس قوة يمنحها لغة مستخدم اللغة، بل قوة تمنحها له اللغة، وسيلة للرضوخ لما انكشف وظهر من خلال اللغة.
نخلص من ذلك إلى أن المركب «فينومينولوجيا» يعني: «أن نترك الأشياء تظهر على ما هي عليه دون أن نقحم عليها مقولاتنا الخاصة»، الاتجاه هنا هو عكس الاتجاه الذي اعتدنا عليه: ليس نحن من يشير إلى الأشياء، بل الأشياء هي التي تكشف لنا عن نفسها، ولسنا نومئ بذلك إلى شيء من النزعة الإحيائية
Anrmism
3
البدائية، بل نهيب بالقارئ أن يتبين أن ماهية الفهم الحقيقي هي الاسترشاد بقوة الشيء على أن يظهر نفسه، وهذا بالضبط ما كان يقصد إليه هسرل حين نادى بالعودة «إلى الأشياء ذاتها»، الفينومينولوجيا هي وسيلة للاسترشاد بالظواهر من خلال منفذ ينتمي إليها بشكل صادق أصيل.
مثل هذا المنهج هو ذو أهمية كبرى للنظرية التأويلية، حيث إنه يتضمن أن التأويل لا يتأسس على الوعي الإنساني والمقولات الإنسانية بل على انكشاف الشيء الذي نقابله، الواقع الذي يصادفنا، غير أن اهتمام «هيدجر» كان منصبا على الميتافيزيقا وعلى مسألة الوجود، فهل بإمكان مثل هذا المنهج أن يضع نهاية للذاتية وللطابع التأملي النظري للميتافيزيقا؟ هل يمكن أن يطبق على مسألة الوجود؟ هذه مهمة صعبة بلا ريب، ويزيدها تعقيدا حقيقة أن الوجود ليس ظاهرة على الإطلاق بل هو شيء أكثر إحاطة وشمولا وروغانا، ومن المحال أن يصبح «موضوعا» لنا؛ إذ نحن أنفسنا «وجود» في الفعل نفسه الذي نشكل به أي موضوع بوصفه موضوعا.
غير أن «هيدجر» في «الوجود والزمان» يعثر على نوع من المنفذ في حقيقة أن المرء لديه مع وجوده فهم معين لما يكونه امتلاء الوجود، إنه ليس فهما ثابتا بل فهم يتكون تاريخيا، متراكما في خبرة مواجهة الظواهر، بذلك ربما يمكن للوجود أن يستنطق بواسطة تحليل للطريقة التي يحدث بها الظهور، الأنطولوجيا ينبغي أن تصبح فينومينولوجيا، يجب أن تلتفت الأنطولوجيا إلى عمليات الفهم والتأويل التي تظهر من خلالها الأشياء، يجب أن تخرج إلى النور تلك البنية الخفية للوجود في العالم.
4 (2) طبيعة الفهم (2-1) هيدجر يتجاوز دلتاي «الفهم»
Verstehen
عند «هيدجر» مصطلح خاص يعني غير ما تعنيه الكلمة الإنجليزية
Understanding
في الاستعمال الدارج، ويعني غير ما يعنيه المصطلح نفسه عند دلتاي، فالكلمة الإنجليزية
Understanding
توحي بالتعاطف، أي القدرة على الشعور بشيء مما يشعر به شخص آخر، ونحن حين نتحدث عن «نظرة متفهمة» فإنما نعني أكثر من مجرد النظرة الموضوعية، نعني شيئا أشبه بالمشاركة في الأمر الذي نفهمه، وليس ما يمنع أن يكون لفلان معرفة واسعة وتفهم ضئيل، ذلك أن الفهم فيما يبدو يبلغ ما هو جوهري في الشيء ويلمسه، وفي بعض الاستعمالات يبلغ ما هو شخصي، لقد كان الفهم عند شلايرماخر يرتكز على مبدئه عن تماثل العوالم الداخلية بحيث إن المرء ليهتز في تجاوب مع المتحدث عندما يفهمه، فالفهم يتضمن كلا اللحظتين: المقارنة والاستشفافية، أما عند دلتاي فالفهم يسير إلى ذلك المستوى الأعمق من الإدراك والذي يتم عندما نفهم لوحة أو قصيدة أو حقيقة (اجتماعية أو اقتصادية أو سيكولوجية) كشيء أكثر من مجرد معلومة من المعلومات أو بيان من البيانات، عندما نفهمها ك«تعبير» عن «الوقائع الباطنة»، أو تعبير عن «الحياة» ذاتها في نهاية المطاف.
أما الفهم عند «هيدجر»، فهو تصور بعيد كل البعد عن التصورات السابقة، الفهم عند «هيدجر» هو قدرة المرء على إدراك ممكنات وجوده ضمن سياق العالم الحياتي الذي وجد فيه. الفهم ليس موهبة خاصة أو قدرة معينة على الشعور بموقف شخص آخر، ولا هو القدرة على إدراك معنى أحد تعبيرات الحياة على مستوى أعمق. «الفهم ليس شيئا نمتلكه بل هو شيء «نكونه»!» الفهم شكل من أشكال «الوجود في العالم»، أو عنصر مكون من عناصر «الوجود في العالم»، الفهم هو الأساس لكل تفسير، وهو متأصل ومصاحب لوجود المرء وقائم في كل فعل من أفعال التأويل.
الفهم إذن أمر أساسي من الوجهة الأنطولوجية وسابق على كل فعل من أفعال الوجود، وللفهم جانب ثان يتمثل في حقيقة أن الفهم دائما يتعلق بالمستقبل، وهذه هي السمة الإسقاطية للفهم، على أن الإسقاط يجب أن يقوم على أساس، كما أن الفهم يرتبط بموقف المرء، غير أن ماهية الفهم تكمن لا في مجرد فهم موقف المرء بل في كشف الإمكانيات الملموسة للوجود داخل الأفق الخاص بموقع المرء في العالم، ويطلق «هيدجر» على هذا الجانب من الفهم مصطلح
Existentiality (Existenzialitat) .
وللفهم، كما يراه «هيدجر»، سمة هامة أخرى، هي أنه يعمل دائما داخل مجموعة من العلاقات المؤولة من الأصل، داخل «كل علائقي»
Bewandtnisganzheit
ولهذه الملاحظة متضمنات واسعة النطاق بالنسبة للهرمنيوطيقا، وبخاصة حين نصلها بأنطولوجيا «هيدجر»، لقد سبق لدلتاي أن أكد أن المعنى هو دائما مسألة إشارة إلى سياق من العلاقات، وهو مثال للمبدأ المعروف القائل بأن الفهم دائما يعمل داخل «دائرة تأويلية»
Hermeneutic Circle
وليس بالتقدم المنتظم من أجزاء بسيطة ومكتفية بذاتها إلى «الكل» المكون من هذه الأجزاء، غير أن هرمنيوطيقا «هيدجر» الفينومينولوجية تتقدم خطوة أبعد؛ فتستكشف متضمنات «الدائرة التأويلية» بالنسبة لبنية كل فهم وتأويل وجودي إنساني، وعلينا بالطبع ألا نتصور الفهم كشيء ميتافيزيقي يتجاوز الوجود الحاس للإنسان، بل كشيء غير منفصل عنه. إن «هيدجر» لا ينفي وجهة نظر دلتاي ذات التوجه الخبروي بقدر ما يضعها في سياق أنطولوجي، ويتجلى ذلك في حقيقة أن الفهم لا ينفصل عن المزاج، وأن الفهم لا يمكن تخيله بدون «عالم» أو «معنى»، والنقطة المحورية هنا هي أن «الفهم عند «هيدجر» أصبح أنطولوجيا»، ولعل نظرة فاحصة إلى مفهوم «العالم» عند «هيدجر» أن توضح ذلك، وهو ما سنحاوله في قسم لاحق، بعد أن نعرض لمفهوم «هيدجر» الثوري الإبداعي عن انتفاء ثنائية الذات والموضوع. (2-2) انتفاء ثنائية الذات/الموضوع
كيف تخرج «الذات» من عالمها الباطن لكي تصل إلى «الموضوع» الموجود في الخارج؟ يبدو أن «هيدجر » لا يحاول فك خيوط هذه العقدة الأزلية، ولا يتردد في إزاحتها بضربة قاضية (مثلما قطع الإسكندر عقدة جورديان) يعلن بها أن مشكلة وجود الواقع الخارجي وإثباته وعلاقة الذات به هي مشكلة زائفة لا تستحق عناء لحظة واحدة من التفكير! لماذا؟ لأن «الآنية» باعتبارها «وجودا في العالم» موجودة دائما في الخارج، أي في العالم المألوف، لنستمع إلى «هيدجر» وهو يقول في «الوجود والزمان»: «إن الآنية، في اتجاهها إلى الموجودات وإدراكها لها، لا تحتاج إلى مغادرة مجالها الداخلي الذي نتصورها حبيسة فيه، وإنما هي بحسب طبيعة وجودها الأولية موجودة دائما «في الخارج»، بالقرب من الموجود الذي تلتقي به في عالم تم اكتشافه بالفعل ... ثم إن إدراك الشيء المعروف ليس بمثابة رجوع بالفريسة التي غنمناها من الإدراك الخارجي إلى «بيت» الوعي والشعور، وإنما تظل الآنية العارفة، في أفعال الإدراك والاحتفاظ بما تدركه والإبقاء عليه، دائما في الخارج بوصفها آنية.» إنها إذن ليست بحاجة لما نسميه ب «العلو»، أو التخطي والتجاوز، إلى العالم؛ لأنها على الدوام «بالخارج» مع الموجودات التي تصادفها في هذا العالم، كما أنها دائما «بالداخل» باعتبارها «وجودا في العالم» يهتم بالأشياء وينشغل بأمرها، وصفوة القول أن المعرفة ليست هي التي تمكننا من إقامة العلاقة التي تربطنا بالعالم، بل إنها تفترض هذه العلاقة من قبل، بحيث لا تعدو أن تكون «تحولا» لهذه العلاقة نفسها: «في فعل المعرفة تكتسب الآنية موقف وجود جديد من العالم الذي سبق اكتشافه في الآنية»، كما أن المعرفة لا تخلق علاقة «تبادل» بين الذات والعالم، ولا هذه العلاقة تنشأ من تأثير العالم على الذات. إن المعرفة حال من أحوال الآنية يقوم على أساس الوجود في العالم، ولا جدال في أن هذا أسلوب جديد في التفكير، ولسنا مبالغين إذا استعرنا لغة كانت وقلنا إنها ثورة كوبرنيقية أذهلت بعض معاصري «هيدجر» وملأت صدور البعض الآخر بالنشوة والحماس.
5 (3) العالم وعلاقتنا بالأشياء الموجودة في العالم
يعوزنا فوات لندرك
وغياب لنرى.
إذا غاب الشيء برز حجمه، وتجلت قيمته، مما يجعل الطرح أيسر طريقة لقياس قدر الأشياء، اخلع هذا الشيء من مستقره وانظر حجم الفجوة التي كان يملؤها، امح، في الخاطر، عمل هذا الفنان أو ذاك، وانظر كم يعاني التراث الفني بافتقاده ، اطرح هذا الشخص في الظن أو في الحقيقة، وانظر كم يعتري المجلس في غيابه من وهن الفاقة أو من ذبول الشوق.
من الأهمية بمكان أن نلتفت إلى أن مصطلح «العالم» عند «هيدجر» لا يعني البيئة التي نعيش فيها بالمعنى الموضوع للبيئة، أي العالم كما يبدو للنظرة العلمية، بل هو أقرب إلى ما يمكن أن نسميه عالمنا الشخصي، فالعالم عند «هيدجر» ليس جملة جميع الموجودات بل تلك الجملة من الموجودات التي يجد الكائن الإنساني نفسه دائما مغمورا بها منغمسا فيها من الأصل ومحاطا بظاهرها كما ينكشف خلال فهم مسبق دائما وشامل ومحيط.
إن تصور العالم كشيء منفصل عن النفس، لهو تصور مناقض تماما لتصور «هيدجر»؛ لأن مثل هذا التصور يسلم منذ البداية بذلك الانفصال عينه بين الذات/الموضوع الذي ينشأ هو نفسه داخل السياق العلائقي المسمى بالعالم، إن العالم سابق على أي انفصال بين النفس والعالم بالمعنى الموضوعي، إنه سابق على كل «موضوعية»، كل تنظير، وهو من ثم سابق أيضا على الذاتية ما دام كل من الموضوعية والذاتية متصورا داخل مخطط الذات/الموضوع.
من المحال أن نصف العالم عن طريق تعداد الكائنات بداخله، فمن شأن هذه العملية أن تجعل العالم يفلت منا، ذلك أن العالم هو بالضبط ذلك الذي نفترضه مسبقا في كل فعل من أفعال معرفة الكائنات، فكل كيان (كائن) في العالم إنما يفهم بوصفه كيانا في ضوء «عالم»، عالم هو دائما هناك بالفعل، هناك من الأصل، والكيانات التي تشكل العالم المادي للإنسان ليست عالما بحد ذاتها بل في عالم. «وحده الإنسان من لديه عالم.» والعالم هو شيء شامل محيط وقريب لصيق بالإنسان في الوقت نفسه بحيث يند عن الملاحظة، إنه غير مرئي بحد ذاته، غير أن المرء لا يمكن أن يرى أي شيء حق رؤيته بدونه! فالعالم حاضر على الدوام، إنه محيط خفي يسلم به المرء ويفترضه مسبقا في كل أمر، غير أنه «شفاف» يفلت من كل محاولة لفهمه كموضوع أو شيء.
هكذا يكون مجال، عالم، جديد قد انفتح للاستكشاف، إن مقاربته لن تكون سهلة، فلا الوصف الإمبيريقي للكيانات بداخله ولا حتى التفسير الأنطولوجي لوجودها الفردي بحد ذاته سوف يقابل ظاهرة العالم، العالم هو شيء يحس بجانب الكائنات التي تظهر في العالم، غير أن الفهم يجب أن يكون خلال العالم، فالعالم أساس كل فهم، العالم والفهم أجزاء لا انفصام لها من البنية الأنطولوجية لوجود الآنية (الدازاين).
ويناظر شفافية العالم شفافية أشياء معينة في العالم يرتبط بها وجود المرء في حياته اليومية، فالأدوات التي يستعملها كل يوم، وحركات جسمه التي يؤديها دون تفكير، كل هذه تغدو شفافة لا يتلفت إليها المرء ولا يلحظها إلا إذا حدث تصدع ما أو تعطل. عند نقطة التعطل يمكننا أن نلاحظ حقيقة هامة: هي أن ««معنى» هذه الأشياء يكمن في علاقتها ببناء كلي من المعاني والمقاصد المتعالقة.» إبان التعطل، وللحظة وجيزة فقط، يضاء معنى الأشياء ويبزغ من العالم بشكل مباشر.
إن الفرق كبير والبون جد بعيد بين مثل هذا الفهم لشيء من الأشياء وبين الفهم الذهني المجرد! ويضرب «هيدجر» في «الوجود والزمان» مثلا قريبا وهو المطرقة (الشاكوش)، فالمطرقة الموجودة التي لا تتحلى بأكثر من الحضور هي شيء يمكن وزنه وتمكن كتابة بيان بخصائصه، وتمكن مقارنته بغيره من المطارق، إلا أن المطرقة المكسورة هي التي تكشف للتو واللحظة ماذا تكونه المطرقة، وإن هذه الخبرة لتومئ إلى مبدأ هرمنيوطيقي: هو أن وجود شيء من الأشياء ينكشف لا للنظرة التحليلية التأملية بل في اللحظة التي يميط فيها اللثام عن نفسه فجأة في السياق الوظيفي الكامل للعالم، وبنفس الطريقة فإن طبيعة الفهم يمكن إدراكها على أفضل نحو، لا من خلال بيان تحليلي بمواصفاته ولا في فورة أدائه الوظيفي الصحيح، بل حين يتعطل ويصطدم بحائط منيع، «ربما عند افتقاد الشيء يتعين على الفهم أن يحوزه».
ويضرب «هيدجر» مثالا آخر وهو يقدم لنا في هذا المثال تحليلا لأداة معينة هي العلامة (مثل علامات المرور أو لافتات الطرق أو الأعلام ... إلخ)، وأهم ما يميز العلامة هو أنها توضح النسق الكلي للأداة توضيحا تاما، فعلامة المرور مثلا توضح النسق الكلي الذي يربط سلوك المارة وراكبي السيارات وعساكر المرور ... إلخ، فإذا كانت الأداة العادية (كالقلم مثلا) غير لافتة للأنظار، نتيجة انصراف الكاتب مثلا إلى الغرض الذي يستخدم القلم من أجله لا إلى طبيعة هذا القلم كأداة، فإن «أداة العلامة» على العكس من ذلك تشد الانتباه إلى طابع الإحالة الذي توضحه أشد التوضيح، إن العلامات المحددة تحيل إلى «العالم المحيط» الذي تنتمي إليه وتيسر الانفتاح عليه، وأهم خاصية تحدد الأداة هي صلاحيتها أو قابليتها للاستخدام، والعلامة تجسد هذا الاستخدام بتوضيح السياق (أو النسق الكلي المترابط) الذي توجد فيه العلامة، بل إنها لتزيد على هذا فتوضح العالم المحيط الذي يوجد به النسق أو السياق الأداتي المترابط.
هل عرفنا الآن ما هو العالم؟ هل توصلنا إلى الطابع النوعي الذي يميزه؟ حين نحدد الأداة عن طريق الإحالة فإنما نريد بهذا أن نعين الحالة التي استقرت عليها، الغرض الذي جعلت له، ونحن لا ننظر إلى «الموجود في متناول اليد» إلا من جهة هذه الحالة التي جعل لها ودخلت في صميم تركيبه، فليست هناك أداة قائمة بمفردها مستقلة بذاتها، إنها موجودة على الدوام في إطار نسق أو سياق أداتي كلي، ويكفي أن ننظر إلى الأداة في شمولها لنعرف لأي شيء جعلت، وعلى أي وضع استقرت (مثال ذلك: الآلة-الورشة)، وهذا بدوره يحيلنا إلى الآنية؛ لأن حال الأداة يعبر عما تريده لها الآنية أو تريد بها، أي إن الغرض الذي جعلت له الأداة أصلا هو إرادة الآنية بها.
6
أشرنا - آنفا إلى أن افتقاد الشيء يوقعه في الفهم! هذه الظاهرة، ظاهرة العطل التي تضيء لحظيا وجود الأداة بما هي أداة، تشير كما شهدنا الآن إلى غموض «العالم» الذي نعيش فيه وتخفيه، هذا العالم هو أكثر من مجرد مجال العمليات العقلية الإدراكية قبل الشعورية، إنه المجال الذي نصادف فيه المقاومات والممكنات الحقيقية في بنية الوجود، فتقوم هذه المقاومات والممكنات بتشكيل فهمنا، وهو المجال الذي تتأصل فيه زمانية الوجود وتاريخيته، والمكان الذي يترجم فيه الوجود نفسه إلى معنى وفهم وتفسير، إنه، باختصار، مجال عملية التأويل، أي العملية التي يتحول فيها الوجود إلى موضوع لغوي.
وكما ذكرنا آنفا فإن الفهم يعمل في نسيج من العلاقات، وقد نحت «هيدجر» مصطلح «معنى» (أو بالأحرى التحلي بالمعنى)
Meaningfulness (Bedeutsamkeit)
كاسم للأساس الأنطولوجي اللازم لفهم هذا النسيج من العلاقات، فالمعنى، بما هو كذلك، يقدم الإمكان الأنطولوجي بأن تحتمل الكلمات دلالة معينة، وبذلك يقدم الأساس الذي تقوم عليه اللغة، إن النقطة التي يطرحها «هيدجر» هنا هي أن المعنى هو شيء أعمق من النسق المنطقي للغة، إنه قائم على شيء سابق على اللغة ومطمور في العالم - ذلك هو الكل العلائقي - فمهما تكن كثرة الكلمات التي تشكل المعنى أو تصوغه فإن الكلمات تشير إلى ما يتجاوز نسقها الخاص، إلى معنى كامن أصلا في الكل العلائقي للعالم، المعنى إذن ليس شيئا يمنحه شخص ما لموضوع ما، بل هو ما يمنحه الموضوع للشخص من خلال إمداده بالإمكان الأنطولوجي للكلمات واللغة.
يجب أن ننظر إلى الفهم كشيء مدمج في هذا السياق وإلى التأويل على أنه، ببساطة، إظهار الفهم والتصريح به، التأويل إذن ليس مسألة إلصاق قيمة بموضوع عار؛ لأن ما نواجهه ينشأ كشيء نراه أصلا في علاقة معينة، وحتى في عملية الفهم فإن الأشياء في العالم ينظر إليها «على أنها» هذا الشيء أو ذاك، وما التأويل سوى التصريح بتعبيرة «على أنها» هذه، إن أساس الفهم سابق على كل عبارة تتحدث عن موضوع، يعبر «هيدجر» عن ذلك بشكل محكم في قوله: «كل رؤية بسيطة قبل-حملية (سابقة على أي إسناد)
للعالم المحجوب لما هو «في متناول اليد» هي بحد ذاتها رؤية فاهمة مؤولة من الأصل.»
عندما يصبح الفهم صريحا كتأويل، كلغة، فإن ثمة عاملا إضافيا خارجا عن الذات يعمل عمله ويمارس تأثيره، ذلك أن «اللغة تضمر داخلها منذ البداية منحى من الفكر كاملا مكتملا»، وتنطوي على «طريقة في النظر إلى الأشياء تامة التكوين مكتملة المعالم.» إن الفهم والمعنى كليهما هما أساس اللغة والتأويل. وفي أعماله المتأخرة يؤكد «هيدجر » بدرجة أكبر تلك الصلة بين اللغة والوجود، حتى ليصبح الوجود ذاته لغويا: في كتابه «مدخل إلى الميتافيزيقا»، على سبيل المثال، يقول «هيدجر»: «إن الكلمات واللغة ليست لفائف تعبأ بها الأشياء لكي يتبادلها أولئك الذين يكتبون أو يتحدثون، إنما في الكلمات واللغة تدخل الأشياء إلى الوجود للمرة الأولى وتوجد وتكون.» هذا هو المعنى الذي ينبغي أن نفهم عليه قول «هيدجر» المأثور «اللغة هي بيت الوجود»
The Language is The House of Being .
7
هكذا يتبين أن للفهم «بنية مسبقة»
pre-structure
معينة تفعل فعلها في كل تأويل، ويتجلى هذا بوضوح شديد في تحليل «هيدجر» للبنى المسبقة الثلاث للفهم. (3-1) استحالة التأويل بدون فروض مسبقة
بهذا التوكيد على البنية المسبقة للفهم يتجاوز «هيدجر» النموذج القديم للموقف التفسيري - نموذج الذات والموضوع - ويثير في الحقيقة تساؤلات وشكوكا خطيرة حول صواب هذا النموذج الذي يصف التأويل وفقا لعلاقة الذات-الموضوع، كذلك يلقي ظلالا من الشك حول ما يمكن أن يعنيه «التأويل الموضوعي» أو التأويل «بدون فروض مسبقة»، يطرح «هيدجر» هذه المسألة بوضوح ويقول بصريح العبارة: «التأويل ليس على الإطلاق فهما بلا فروض مسبقة لشيء ما معطى مقدما.»
إن محاولة الوصول إلى تأويل مبرأ من أي تحيز أو فرض مسبق هي محاولة عابثة لأنها تمضي في حقيقة الأمر ضد الطريقة التي يتم بها الفهم، إن ما يظهر من «الشيء» أو «الموضوع»
Object
هو ما يسمح له المرء أن يظهر، وهو أمر يتوقف على فروضه المسبقة ومنظومته اللغوية، ومن السذاجة أن نفترض أن ما هو «هناك حقا» هو أمر «واضح بذاته»، بل إن تعريف ما نفترض وضوحه الذاتي هو نفسه شيء يقوم على حشد غير مرئي من الفروض المسبقة، تلك الفروض الحاضرة العتيدة في كل بناء تأويلي يشيده المؤول الذي يظن نفسه «موضوعيا» وبريئا من الفروض المسبقة، لقد أماط «هيدجر» اللثام عن هذا الحشد من الفروض المسبقة القائمة والمندسة في كل تأويل ممكن، وذلك في تحليله لعملية الفهم.
يعني ذلك في التفسير الأدبي مثلا أن أنزه المفسرين لنص من الشعر الغنائي يطوي جوانحه، في حقيقة الأمر، على فروض مسبقة بدئية، بل إنه في مقارنته لنص من النصوص يكون قد سلم تسليما بأنه صنف معين من النصوص، صنف غنائي مثلا، ويكون قد هيأ نفسه في الوضع الذي يراه ملائما لمقاربة مثل هذا النص. إن لقاءه بالعمل ليس لقاء قائما في سياق ما خارج الزمان والمكان، وخارج أفقه الخاص من الخبرات والاهتمامات، بل هو لقاء في زمان معين ومكان محدد، هناك مثلا سبب وراء التفاته إلى هذا النص دون غيره، هكذا يتبين أن مقاربته للنص محفوفة بالتساؤلات والريب وليست انفتاحا محضا قائما في فراغ.
من الواجب إذن أن نتذكر أن البنية المسبقة للفهم ليست صفة تخص الوعي في مواجهة عالم معطى من الأصل؛ ولذا فإن هذه الطريقة من النظر من شأنها أن ترتد بنا إلى نفس النموذج الثنائي في التأويل - نموذج «الذات/الموضوع» - الذي تجاوزه تحليل «هيدجر» وتخطاه، بل إن البنية المسبقة تقوم في سياق العالم، ذلك العالم الذي يشمل الذات والموضوع بداءة، إن وصف «هيدجر» للفهم والتأويل هو وصف يضع الفهم والتأويل في موضع سابق على قسمة الذات والموضوع، فهو يشرح كيف تظهر الأشياء ذاتها وتتكشف من خلال المعنى والفهم والتأويل، وهو يشرح ما يمكن أن نسميه البناء الأنطولوجي للفهم.
يترتب على ذلك أن الهرمنيوطيقا بوصفها نظرية الفهم هي في حقيقة الأمر نظرية في التكشف الأنطولوجي، وما دام الوجود الإنساني هو نفسه عملية تكشف أنطولوجي فإن «هيدجر» يأبى علينا أن ننظر إلى مشكلة التأويل بمعزل عن الوجود الإنساني، الهرمنيوطيقا عند «هيدجر» إذن هي نظرية أساسية في كيف يبزغ الفهم في الوجود الإنساني، وإن تحليله ليربط بين الهرمنيوطيقا والأنطولوجيا الوجودية، وبين الهرمنيوطيقا والفينومينولوجيا، ويرمي إلى تأسيس الهرمنيوطيقا لا على الذاتية بل على «وقائعية» العالم وعلى «تاريخية» الفهم. (3-2) الطبيعة الاشتقاقية للعبارات
ثمة نتيجة أخرى لما نحن نصدده، وهي نتيجة ذات أهمية هرمنيوطيقية، تتجلى في تناول «هيدجر» للعبارات التقريرية المنطقية، وبالتالي للمنطق نفسه، العبارة
Statement (Aussage)
عند «هيدجر» ليست شكلا أساسيا للتفسير، وإنما هي ترتكز على عمليات فهم وتأويل أكثر أساسية قائمة في «الفهم المسبق »
وبدون هذه العمليات فإن العبارات لن يكون لها معنى.
يقدم «هيدجر» مثالا: «المطرقة (تكون) ثقيلة»
The Hammer is heavy ، ويقول إنه في العبارة نفسها ثمة طريقة مرسومة سلفا تعمل عملها - تلك هي الطريقة المنطقية - فمن قبل أي تأويل أو تحليل ظاهر فإن الموقف قد تم تشييده في حدود منطقية لكي يلائم بنية عبارة، لقد تم بالفعل تأويل المطرقة على أنها شيء ذو خصائص (الثقل في حالتنا هذه)، إن بناء جملة العبارة، بما فيها من فاعل
Subject ، ورابطة
Copulative ، ونعت إسنادي
، قد وضعت المطرقة بالفعل قبالة المرء على أنها موضوع
Object ، على أنها شيء معين يمتلك خصائص.
غير أن العمليات الأساسية لتأويل العالم لا تقوم في تقريرات منطقية وعبارات نظرية، فالكلمات في الأغلب تكون غائبة، كما هو الحال عندما يجرب المرء مطرقة ثم يتركها جانبا دون كلام، فهذا فعل تأويل ولكنه ليس عبارة، يقول «هيدجر» إن المطرقة في الأصل هي أداة «في متناول اليد»، وعندما تصبح موضوعا لعبارة فإن تشييد العبارة نفسه يحمل معه تحولا في الحالة الأصلية، تحولا من «بالمطرقة» إلى «عن المطرقة»، تحولا من الاندماج والاستعمال إلى الإسناد والإشارة، وهكذا يبرز الحضور الشيئي وتختفي الحقيقة والماهية.
إن إبراز المطرقة كشيء هو في الوقت نفسه إخفاء لها كأداة، فنحن في السياق الوجودي الأصلي نقارب المطرقة لا بوصفها موضوعا بل بوصفها أداة، فتختفي «المطرقة-الشيء» في طي وظيفة «المطرقة-الأداة»، ذلك هو المعنى الهرمنيوطيقي الوجودي للمطرقة، أما عندما نعزل المطرقة عن وظيفتها، عن السياق العلائقي الكلي المعاش، هنالك نكون قد انتقلنا من موقف الفهم المسبق إلى موقف الإشارة الموضوعية، نكون قد نفينا المطرقة من عالم المعنى ونطاق «تناول اليد» ووضعنا ظاهرة المطرقة أمامنا كمجرد شيء ننظر إليه ونتملاه.
يدعونا «هيدجر» إلى التمسك باللحظة الوجودية الهرمنيوطية وعدم التخلي عنها لمصلحة التنظير الخالص والأحكام المحضة الراكدة عند المستوى الضحل للوقائع الحاضرة الموضوعية ، تهيب بنا هذه اللحظة الوجودية الهرمنيوطيقية أن ندرك ونميز أن جميع العبارات هي في حقيقة الأمر متشقة من، ومتجذرة في، المستوى الأكثر بداءة للتأويل، وأن العبارات لا يمكن أن تحمل معنى بمعزل عن جذورها في الوجود.
ولعلنا ندرك أهمية هذا التمييز إذا نظرنا إلى الطريقة التي تعالج بها اللغة اليوم في «علوم» اللغة، فهناك قصور في جميع تعريفات اللغة التي تبقى عند مستوى العبارات والمنطق ولا تتجاوزه، أو التي تنظر إلى اللغة على أنها مجرد تناول واع للعبارات والأفكار، ذلك أن الأساس الحقيقي للغة هو ظاهرة الكلام-النطق، حيث يجلب شيء ما إلى النور، هذه هي الوظيفة الهرمنيوطيقية للغة، وحين يبدأ المرء من الكلام يكون قد عاد إلى الحدث الذي تقوم فيه الكلمة بوظيفة الكلمة، يكون قد عاد إلى السياق الحي للغة، يقول جيرهارد إيبلنج مرددا وجهة نظر «هيدجر»: «إن للكلمة نفسها وظيفة هرمنيوطيقية.» والحق أن الوظيفة الهرمنيوطيقية الأولية للغة تأخذ موقعا مركزيا في فكر «هيدجر» المتأخر وفي التأويل الثيولوجي الجديد، تعني هذه النظرة إلى اللغة أن الفهم - على حد تعبير «إبيلنج» - ليس فهما للغة، بل فهما من خلال «اللغة»، وهي نظرة ذات أهمية ثيولوجية هائلة؛ لأنها تلفت انتباهنا مرة ثانية إلى الكلام المنطوق وتؤكد على وظيفة النطق.
إن اللغة بوصفها نطقا لا تعود حشدا موضوعيا من الكلمات التي يتناولها المرء على أنها أشياء، بل تأخذ مكانها في عالم ما هو «في متناول اليد»، وبوسع اللغة، بطبيعة الحال أن تنتقل إلى النطاق الموضوعي وتصبح مجرد شيء ماثل أمام المرء، إلا أن اللغة من الوجهة الجوهرية هي شيء يجده الإنسان «في متناول يده»، شفافا، سياقيا.
على أن اللغة بوصفها كلاما منطوقا ليست تعبيرا عن «واقع داخلي» ما، ولا ينبغي أن نأخذها هذا المأخذ، بل هي موقف يأتي إلى العلن في كلمات، حتى الحديث الشعري ليس نقلا لواقع داخلي محض بل مشاركة في عالم، وهو بوصفه كشفا لا للمتحدث بل للوجود في العالم، فهو ليس ظاهرة ذاتية ولا ظاهرة موضوعية، بل هو الاثنان معا، ذلك أن العالم سابق عليهما ومحيط بهما. (4) إسهامات «هيدجر» المتأخرة في نظرية التأويل
بكتابه «الوجود والزمان» ترك «هيدجر» أثرا حاسما على نظرية التأويل، ونقل الهرمنيوطيقا نقلة كبرى ووضع مسألة الفهم في سياق جديد تماما، ولو لم يكتب «هيدجر» شيئا بعد «الوجود والزمان» لما اختلفت مكانته ولا تأثرت أهميته في مجال التأويل، لقد صارت الهرمنيوطيقا عند «هيدجر» طريقة وجود وتخطت الحدود التي فرضها عليها دلتاي حين تصورها على أنها الشكل التاريخي للفهم كمقابل للشكل العلمي، لقد مضى «هيدجر» قدما ليعلن أن كل فهم هو فهم زماني، قصدي، تاريخي، وأن الفهم ليس عملية عقلية بل عملية وجودية، ليس دراسة عمليات شعورية ولا شعورية، بل هو انكشاف الحقيقة للإنسان وانبلاجها وتجليها، لقد كان المرء في السابق يفترض ببساطة تعريفا مسبقا لما هو حق وواقع ثم يتساءل كيف أتت عمليات الذهن بهذا الواقع إلى النور، ثم جاء «هيدجر» ليسبر الفهم إلى عمق أبعد ويشير إلى فعل تأسيس الواقع، كشف الواقع، ذلك الفعل الذي صنع التعريف المسبق وحققه، من الهموم الكبرى ل «هيدجر» المتأخر محاولة العودة إلى ما وراء هذا الحدث - تأسيس الواقع - الذي يقوم عليه اليوم الوجود نفسه ويصاغ ويتجسد.
يقول «هيدجر» إن «كل شاعر عظيم يكتب قصيدة واحدة ثم يتوسع فيها وينوع عليها ويأخذ منها»، وما دام الفكر الأصيل شعريا بالضرورة فإن كل مفكر عظيم يصدع بفكرة واحدة ثم يبقى طيلة عمره يستقصيها دون أن يستنفدها، وهذا المبدأ ينسحب على «هيدجر» نفسه، لقد كتب «الوجود والزمان» ثم طفق يستقصيه وينوع عليه، إن جميع أعمال «هيدجر» المتأخرة هي إضافات وشروح وهوامش ملحقة ب «الوجود والزمان»، وإكمال لنفس المسعى إلى الوجود، وتعميق وتجذير لتلك الاستبصارات الخصبة التي انطوت عليها رائعته الكبرى، لقد أصبح «هيدجر»، ربما، أكثر الفلاسفة شاعرية وتأويلية منذ أفلاطون، غير أن اللحن الأساسي في تفكيره لم يتغير قط بل توسع وتنوع وامتد، ونحن حين نلتفت إلى تركيز «هيدجر» على الفهم كمحور لفلسفته، يمكننا أن ندرك لماذا صار منشغلا في كتاباته المتأخرة بموضوع «التفكير»، ولماذا يعرف التفكير بوصفه استجابية لا بوصفه تلاعبا بالأفكار، وقد كان من الشائع تمييز «تحول» أو «منعطف» في فكر «هيدجر»، غير أننا حين نستعرض فكره بمنظور اليوم نجده متجانسا لا تحول فيه ولا انقلاب، ويظل كتاب «الوجود والزمان» هو التربة التي نما فيها فكره اللاحق، لقد كان «هيدجر» منذ البداية إلى النهاية معنيا بالعملية التأويلية التي يمكن للوجود بواسطتها أن يخرج إلى النور، وقد كان مدخله إلى ذلك في «الوجود والزمان» هو فينومينولوجيا الآنية (الدازاين)، وفي الأعمال اللاحقة صار مدخله استكشاف العدم، ولفظة «الوجود» نفسها، والمفاهيم اليونانية والحديثة للوجود والحقيقة، والتفكير، واللغة، صحيح أنه صار أكثر شاعرية وغموضا ونبوئية في كتاباته المتأخرة، إلا أن كشف الوجود وإظهاره بقي هو موضوعه الدائم.
في كتابات «هيدجر» المتأخرة أخذ الطابع التأويلي لتفكيره أبعادا جديدة، غير أنه صار أكثر تأويلية لا أقل، بل صار تأويليا بمعنى الاهتمام بتأويل النصوص، وفيما ظلت تيمته الرئيسية هي كيف تم نسيان الوجود وتم فهمه والتعبير عنه في حدود سكونية وماهوية، فإن موضوع التأويل قد تحول من وصف عام للحياة اليومية للإنسان في اتصاله بالوجود إلى الميتافيزيقيا والشعر، وتزايد اهتمام «هيدجر» بتأويل النصوص وبخاصة الشذور القديمة بحيث جعل التأويل جزءا من طريقته في التفلسف، ونحن قلما نجد في تاريخ الفلسفة الغربية من يضارعه في ذلك، وحتى لو لم يكن «هيدجر» قد قدم في «الوجود والزمان» إسهامه الفلسفي الحاسم في نظرية الفهم، لبقي رغم ذلك هو الأكثر تأويلية في تاريخ الفلسفة الغربية.
ولعل السبب وراء هذا التطور هو الطبيعة الهرمنيوطيقية الصميمة لكل محاولة للتعامل مع «الوجود»، إذا تم ذلك في سياق عملية الفهم التي تخرج بها الأشياء إلى النور، وتغدو المحاولة أكثر هرمنيوطيقة إذا شئنا أن نمضي وراء «نص» الفكر الغربي إلى الأسئلة التي أنتجت ذلك التراث، ثم تأتي محاولة استخلاص المعنى الخفي للنص وعدم القناعة باستكشاف النسق الكلي وفقا لادعاءاته الخاصة، هذا ما يحاول «هيدجر» أن يفعله فيما هو يقدم في الوقت نفسه وجهة نظره الخاصة في الموقف الهرمنيوطيقي الصحيح للإنسان بالنسبة للوجود وبالنسبة للتراث. (5) نقد «هيدجر» لفكر «الحضور»، ومذهب الذات، والتقنية
في كتابه «الوجود والزمان» كان «هيدجر» قد ألمح إلى اتجاه نقده اللاحق لفكر «الحضور»، وذلك في شرحه للطبيعة الاشتقاقية للعبارات؛ إذ تنزع إلى عرض الأشياء بطريقة لا تهدف إلا لجعلها محط الأنظار لا أكثر، وقد أوضح «هيدجر» إذاك كيف أن تصور الشيء، داخل البنية المسبقة للفهم، كان يميل على نحو خفي إلى الخضوع لمتطلبات الفكر المنطقي والتصوري، وكيف أن المطرقة مثلا قد انتزعت من سياقها الحي ووضعت في العالم التجريدي للتفكير الحضوري، وفي كتاباته المتأخرة يقوم «هيدجر» بمراجعة الفكر الغربي ويبين كيف انتهى المطاف بهذا الفكر إلى أن يعرف التفكير، والوجود، والحقيقة، في حدود «حضورية» صميمة.
في معرض تناوله ل «مذهب أفلاطون في الحقيقة» يلتفت «هيدجر» إلى أسطورة الكهف الشهيرة: تومئ الأسطورة ككل إلى أن الحقيقة هي الانكشاف أو اللاتحجب؛ لأن ثمة شخصا يتسلق خارجا من الكهف إلى النور ثم يعود ثانية إلى الكهف، إلا أن مفهوم الحقيقة على أنها «تطابق»
Correspondence
يعود فيطغى على تصورها الدينامي كانكشاف أو لا تحجب، لتصبح الحقيقة هي الرؤية الصحيحة ويصبح التفكير هو مسألة وضع فكرة أمام عين العقل، أي يصبح التفكير هو التناول الصحيح للأفكار.
بهذه النظرة إلى التفكير وإلى الحقيقة أعد المسرح لتطور كل الميتافيزيقا الغربية، لمقاربة الحياة مقاربة نظرية-أيديولوجية، في ضوء الأفكار وفي حدود الأفكار. وبخضوع كل شيء لتصور الأفكار وبخاصة فكرة «العقل»، فقد أسدل النسيان على المفهوم المبكر للحقيقة بوصفها تكشفا أو «لا تحجب» (أليثيا)، ولم يعد الإنسان الغربي يحس بالوجود كشيء متدفق أبدا ما ينفك ينبثق وينسرب من قبضته، بل يحسه على هيئة حضور سكوني لفكرة ما، وأصبح «الصدق»
Truth
هو صحة إدراك أو صحة عبارة، يعني ذلك أن التفكير الهادف إلى الحقيقة قد تأسس لا على الوجود بل على إدراك فكرة، والوجود قد تم تصوره لا كخبرة حية بل كفكرة، كحضور دائم لازماني.
8
على هذه الصخرة أقام الغرب ميتافيزيقاه ولاهوته، ومنذ زمن مبكر، وفي محاضراته غير المنشورة عن «أوغسطين والأفلاطونية الجديدة» عام 1921م، تتبع «هيدجر» الصراع الواضح في «الاعترافات» الكتاب العاشر، بين المسيحية النابعة من الخبرة المعاشة والتي تتحقق لا في «معرفة» الله بل «الحياة في الله»، وبين المسيحية المغتبطة بالله بوصفه الخير الأسمى (فكرة
Fruitio Dei ) وهذا التصور الأخير الأكثر سكونية وحضورية للوجود والخبرة بالله يعود بشكل مباشر إلى مذهب الأفلاطونية الجديدة، وحين تختزل الخبرة بالله إلى غبطة وسعادة به بوصفه «السلام» الذي ينهي حيرة القلب ويسكن اضطرابه فإنه يخرج بذلك من تدفق الحياة التاريخية الوقائعية وتخمد حيويته كإله للخبرة المعاشة، يخرج من عالم الحياة والزمان والمتناول، يصبح مجرد حضور للتأمل والغبطة، يصبح وجودا أزليا خارج الزمان والمكان والتاريخ.
وفي محاضرة ألقاها سنة 1938م بعنوان «تأسيس الصورة الحديثة عن العالم من خلال الميتافيزيقا» يتعقب «هيدجر» تأثير هذا التناول العام للحقيقة والتفكير حين اتحد بالنظرة الديكارتية، ذلك أنه مع ديكارت اتخذ التفكير الغربي منعطفا فاصلا آخر، فالحقيقة عند ديكارت هي أكثر من مجرد التوافق بين العارف والمعروف، إنها «اليقين العقلي للذات بهذا التوافق.» ترتب على ذلك أن الذات الإنسانية صارت هي النقطة المرجعية النهائية لتقرير وضع كل شيء يرى، يعني ذلك أن كل موجود هو ما هو وفقا لثنائية «الذات/الموضوع» أو الوعي وموضوعات الوعي، لم يعد ينظر للشيء المعروف ككيان مستقل أنطولوجيا يكشف نفسه كما هو، أي «ينكشف» و«يسفر» لنا عن وجهه على حقيقته الخاصة ووجوده الخاص، بل أصبح الشيء المعروف يرى على أنه «موضوع»
object ، أي على أنه شيء ما تقدمه الذات الواعية لنفسها، هكذا صار وضع العالم مربوطا بالذاتية الإنسانية ربطا محكما، صار متمركزا على الذات الإنسانية، وصارت الفلسفة متمركزة على الوعي الإنساني، وقد أطلق «هيدجر» على هذه الحالة اسم «مذهب الذات الحديث»
Modern Subjectism Subjekutat .
و«مذهب الذات»
Subjectism
مصطلح أوسع نطاقا من «الذاتية»
Subjectivity ؛ لأنه يعني أن العالم يقاس وفقا لتقدير الإنسان، والعالم بحسب هذه الوجهة من الرأي لا يتحلى بالمعنى إلا بالنسبة للإنسان، ذلك الكائن الذي مهمته أن يسود العالم ويسيطر عليه، ولمذهب الذات نتائج كثيرة وعواقب جمة، أولها أنه يضفي على العلوم أهمية قصوى، فالعلوم هي التي تساعد الإنسان على التحكم في العالم، ولكن ما دام الإنسان في مذهب الذات لا يدرك هدفا أو معنى بمعزل عن يقينه العقلي الخاص، فإنه يصبح حبيس دائرة عالمه الخاص الذي يسقطه من ذاته على الخارج، هكذا تغدو الأعمال الفنية مجرد ضروب من «موضعة»
Objectifications
الذاتية، أو «تعبيرات» عن الخبرة البشرية، والثقافة تصبح مجرد موضعة جماعية لما تقدره الذوات الإنسانية، أو إسقاطا للنشاط الإنساني المحض، ولا يعود النشاط الإنساني الثقافي ولا الفردي استجابة لفعل الله (أو الوجود) فكل شيء من هذا المنظور متوقف على الإنسان، وحتى الله يعاد تعريفه في نهاية المطاف بوصفه «اللانهائي، اللامشروط، المطلق»، وتنتزع الألوهة من العالم، وترد علاقة الإنسان بالله إلى مجرد «خبرته الدينية» الخاصة، وبينما المفهوم القديم عن «الغبطة بالله»
Fruitio Dei
يربأ به عن تغيرات الحياة اليومية وتقلباتها، فإن مذهب الذات يجعل الله إسقاطا من جانب الإنسان ويجعل العلاقة بالله إحساسا بشريا بالاعتمادية.
وحتى «فلسفة القيم» الحديثة لا تعدو أن تكون نتيجة أخرى لميتافيزيقا مذهب الذات، فالقيم هي بدائل مؤقتة قصد بها أن تزود «الأشياء» (ما دامت قيمتها الآن متوقفة على الذات) بالمعنى الذي فقدته حين دخلت في إطار مذهب الذات، لقد فقد الإحساس بقداسة الأشياء وانخفضت مكانة الأشياء إلى مجرد فائدتها للإنسان، وحين يقيض الإنسان القيم للأشياء يكون قد اقترب كثيرا، من الوجهة الفلسفية، من النظر إلى القيم ذاتها على أنها أشياء، عندئذ تكون القيمة هي شيء ما يلقيه المرء، كأنه طبقة من الطلاء، على الأشياء في عالمه، ويصبح العلم والمذهب الإنساني هما الشعارين المميزين لعصر أصبح الإنسان فيه بحق مركز جميع الأشياء ومقياسها.
في مثل هذا الإطار لا يمكن للتفكير إلا أن يكون «حضوريا»، أي عرض فكرة أمام العقل، ولا يمكن للحقيقة إلا أن تكون «تطابقا»
Correspondence
بين ما في الأذهان وما في الأعيان، هذا الحضور لا يمكن في حقيقة الأمر أن يكون انكشافا ذاتيا للشيء ما دام الشيء واقعا في القبضة المسيطرة لفعل «الموضعة»
Objectification
الذي تقوم به الذات، ومن ثم فقد أصبحت الأنساق الميتافيزيقية الكبرى، كما يقول «هيدجر»، تعبيرات عن الإرادة، سواء اتخذت هذه الإرادة صورة «العقل» (كانت)، أو «الحرية» (فخته)، أو «الحب » (شيلنج)، أو «الروح المطلق» (هيجل)، أو «إرادة القوة» (نيتشه).
لا تعرف إرادة القوة القائمة على مذهب الذات أي قيمة نهائية، ولا تعرف غير التعطش الدائم لمزيد من القوة، ويتجلى هذا في عصرنا الحاضر في التكالب المسعور على السيطرة التكنولوجية، غير أن تأثير التفكير التكنولوجي هو أكثر شمولا وخفاء من ذلك؛ لأننا شيئا فشيئا صرنا نعتبر التفكير نفسه مسألة سيطرة وسيادة، لقد أصبح التفكير تكنولوجيا يتشكل وفقا لما تقتضيه المفاهيم والأفكار التي تمنحنا سيطرة على الأشياء وعلى الخبرة، لم يعد الفكر مسألة استجابة مفتوحة للعالم بل أصبح محاولات محمومة للسيطرة عليه، لم يعد راعيا حصيفا وحارسا أمينا لثروات الأرض، بل أصبح يستهلك العالم ويستنفد ثرواته في محاولة إعادة تشكيله وفقا لأغراض الإنسان، لم تعد للنهر، على سبيل المثال، قيمة داخلية، وصار الإنسان يغير مجراه بما يخدم مصالحه، فيبني السدود الضخمة، ويلقي النفايات السامة في النهر ولا يراعي حرمته، لقد فرت الآلهة وصارت الأرض تستهلك بلا هوادة، وهذه، فيما يرى «هيدجر»، هي النهاية المأساوية لتطور التفكير من أفلاطون، مرورا بديكارت ونيتشه، ووصولا إلى عصرنا الحالي.
والهرمنيوطيقا، بوصفها نظرية الفهم والتفسير، تتأثر بشكل مباشر بهذه الاعتبارات، ذلك أنه حين يتم تناول المشكلة التأويلية داخل إطار التفكير التكنولوجي، يكون المطلوب من التأويل هو أن يقدم الوسائل الكفيلة بالسيطرة التصورية على الشيء، وعندما يعرف التفكير على أنه التلاعب بالأفكار والمفاهيم فإنه لا يعود تفكيرا إبداعيا خالقا بل تلاعبا واختراعا، وعندما يكمن مذهب الذات في قاعدة الموقف التأويلي وأساسه فإن ما يجري تأويله لن يكون سوى مجرد «موضعة»
Objectification ، مجرد إسقاط لدواخل الذات على الخارج، وها هنا يكون مفهوم الحقيقة، كتطابق، مفهوما ملائما منطقيا لهذا الطرح، وتصبح الحقيقة مجرد «صواب» عبارة أو «صحة» فكرة.
ثمة إذن فرق هائل يمس نظرية التأويل حين يتم النظر إلى التفكير على أنه تناول أفكار؛ لأن التأويل نفسه عندئذ لا يعود تناولا لمادة مجهولة يجب أن تخرج إلى النور بل يصبح توضيحا وتقييما لمعطيات معلومة سلفا، هنالك تنحصر مهمة التأويل لا في «إظهار» الشيء وإماطة اللثام عنه بل في تحقيق الثواب والصحة من بين العديد من التأويلات الممكنة، من شأن هذه الفروض المسبقة أن تبقي المرء دائما في الضوء الواضح لما هو معروف سلفا بدلا من أن تعبر به الفجوة بين الضوء والظلام، واللغة لا يمكن تصورها في هذا الإطار إلا كنسق من العلامات يتم تطبيقها على مجموعة معلومة سلفا من الأشياء.
يرى «هيدجر» أن كل هذه المجموعة من التعريفات - تعريف اللغة، والحقيقة، والتفكير - وتصور الفهم والتأويل القائم عليها، تمثل تجسيدا موضوعيا لمذهب «أفلاطون» في «الحقيقة»، وما الفكر الغربي، وبخاصة الميتافيزيقا، منذ أفلاطون سوى «النص»
Text
الخاص بهذا التجسيد، وقد أخذ «هيدجر» على عاتقه تأويل هذا النص وذلك بأن يذهب فيما وراءه، إنه ليجد في كانت وهيجل ونيتشه إلماعات من الطرح اليوناني القديم للحقيقة كإظهار وكشف ولا تحجب، غير أنها سرعان ما تخفت وتنطفئ ليسود التصور الجديد لها كتوافق وتطابق وصحة أفكار، منذ البداية إذن عرف «هيدجر» مهمته الفلسفية كمهمة تأويلية بالدرجة الأساس، غير أنه تأويل لا يعني مجرد الصحة والتوافق، بل يحمل النبرة العميقة القديمة: جلب معنى خفي مخبوء، إخراج ما هو مجهول إلى النور، وحي وبوح، كشف وإظهار، رفع حجاب وإماطة لثام، بذلك حين يقوم «هيدجر» بتأويل كانت فإنه لا يقول لنا ماذا يقصد كانت فحسب؛ لأن الاكتفاء بما يقوله المؤلف هو بمثابة التوقف عند النقطة عينها التي ينبغي أن يبدأ منها التأويل الحقيقي، إنما هو يسأل: ماذا لم يقله النص؟ إنه يسأل: لماذا قام كانت بمراجعات وتنقيحات معينة فيما بين الطبعة الأولى والطبعة الثانية من «نقد العقل الخالص»؟ ويمضي فيما وراء النص ليسأل: «ماذا لم يقله المؤلف ولم يكن بمقدوره أن يقوله، على أنه جلي في النص بوصفه المحرك الداخلي الصميم؟ ذلك أن النص المنتهي والنهائي ليس هو الموضوع الوحيد للتأويل، بل موضوع التأويل هو ذلك العرام الداخلي والجهاد الباطن الذي كان يعتمل أثناء خلق النص.
يثير هذا الحديث مسألتين مألوفتين في التراث الهرمنيوطيقي: (1)
مسألة التعدي على النص أو التجرؤ عليه. (2)
مسألة فهم الكاتب فهما أفضل من فهمه هو لنفسه.
حين نتصور الحقيقة كشيء ما يبزغ ثم يتوارى بالحجاب، وحين يضع الفعل الهرمنيوطيقي المفسر على حدود الفراغ الخالق الذي ينبثق منه العمل، عندئذ يجب أن يكون التأويل متفتحا لما لم يقل بعد، ذلك أن «العدم»، في مفهوم «هيدجر»، هو الخلفية الخلاقة لكل إبداع إيجابي، إلا أن هذا العدم لا يحمل معنى إلا في سياق الوجود وفي إيجابية الوجود، وحين يتم النظر إلى العمل الفني لا كموضعة أو إسقاط للذاتية الإنسانية بل كانكشاف للوجود أو كنافذة إلى العالم المقدس، تكون مواجهة العمل الفني أقرب إلى استلام هدية أو نيل هبة وليس عملية إدراك ذات لذاتيتها.
إن تأويل العمل العظيم ليس تمرسا بالقديم ولا هو محاولة أخذ حياة الإغريق كنموذج للحياة الحقة كما هو شائع ومألوف عند دعاة المذهب الإنساني، بل التأويل هو إعادة معايشة لحظة الانكشاف الأصلية واستعادتها، إنه يحاول التخلص من رواسب سوء الفهم المتراكمة عبر السنين (شغف «هيدجر» بصقل الكلمات حتى يشع بريقها الأصلي مرة ثانية) ويأخذ موقفا وسطا بين ما قيل وما لم يقل، غير أنه ليس مجرد عودة إلى الماضي بل هو لحظة جديدة من الكشف، فأن تبعث كانت كما كان بالضبط إنما هو استعادة حمقاء، وإنما ينبغي على كل تأويل أن يشن هجوما على الصيغ الظاهرة في النص، فالخوف من المضي فيما وراء ظاهر النص هو ضرب من عبادة الأوثان وضرب من السذاجة التاريخية في الوقت نفسه.»
9
هل المرء - إذن - يفهم المؤلف حقا أفضل مما يفهم المؤلف نفسه؟ بالطبع لا، فالمؤلف كان في الدائرة الكاملة من الاعتبارات التي ألهمت تأليفه، إن المرء لا يفهم المؤلف فهما أفضل بل فهما مختلفا، وفي حواره الشهير مع الياباني يقول «هيدجر» إن هدفه هو أن «يتدبر الفكر اليوناني بطريقة يونانية أكثر عمقا»، وحين يسأل هل يعني ذلك أن يفهم اليونان أكثر مما فهموا أنفسهم يقول كلا بل إنه يفوقهم - هنا - في أنه لن يكتفي بما قيل وفكر فيه بل سيمضي إلى ما لم يفكر ولم يقل، يريد «هيدجر» أن يخترق الستار الخلفي للتفكير اليوناني في بزوغه الأول؛ فقد يكمن في الفراغ الخلاق واللاوجود القابع وراء انبثاقه الإيجابي مفتاح لصنف آخر من التفكير وفهم آخر للوجود والحقيقة واللغة، وحتى يتم ذلك ستبقى الأشياء مجرد «موضوعات»
Objects ، وسيبقى العالم لعبة الإنسان أو دميته، ليس ما يلزمنا هو مزيد من التقدم والإيغال في فكر الحضور وإنما تلزمنا خطوة إلى الخلف نتملص بها من التفكير الذهني أو التفسيري الصرف، ونلج إلى التفكير التأملي الكشفي. (6) على الطريق إلى الفكر
في حواره الشهير مع الياباني يذهب «هيدجر» إلى أن الإنسان يقف في «علاقة هرمنيوطيقية» يكون فيها هو «حامل الرسالة» وهو المفصح عن الوجود، فالإنسان هو ذلك الكائن الذي يعبر الفجوة بين خفاء الوجود وتجليه، بين تحجب الوجود وانكشافه، بين العدم (بتعبير آخر) والوجود، والإنسان إذ يتكلم إنما «يؤول» الوجود، والتفكير الحق في تعريف «هيدجر» ليس تناولا وتلاعبا بما تم انكشافه، بل كشفا لما خفي واحتجب، على أن النص الذي يقوله مفكر أو شاعر كبير ينطوي دائما على الكثير من الأشياء التي تظل محتجبة غير مقولة، ومن ثم فإن الحوار الفكري مع النص من شأنه أن يثمر مزيدا من الكشف ويؤدي إلى مزيد من الإفضاء، ويصبح هذا تأويلا بالمعنى التقليدي للكلمة، غير أن هذا الفعل التأويلي الثانوي يجب أن يرتد باستمرار إلى إعادة ودية متعاطفة للكشف الأصلي، ويجب أن يتلبث دائما على الحدود فيما بين المحتجب والمنكشف.
كيف يمضي الحوار الخلاق مع النص؟
في كتاباته المتأخرة كان «هيدجر» أميل إلى أن موقف الإنسان ينبغي أن يكون نوعا من السلبية المنفتحة القانتة في إصغاء تام لصوت الوجود، إلا أنه في عمل من أعماله المبكرة، هو «مدخل إلى الميتافيزيقا» يقدم عرضا ذا أهمية هرمنيوطيقية حول طبيعة التساؤل الخلاق، وهو عرض يضم معا عددا من العناصر الهامة في فكر «هيدجر» اللاحق.
التساؤل، عند «هيدجر»، هو طريقة للإنسان في الجدل مع الوجود وحثه على أن يسفر عن وجهه، التساؤل الذي يبقى عند مستوى وجود الموجودات ولا يتجاوزها إلى أساس هذا الوجود وخلفيته، إنما هو تساؤل زائف، أو هو ليس تساؤلا حقيقيا بل تلاعبا أو حسابا أو شرحا، يقول «هيدجر» «إننا نعاني منذ زمن طويل من شلل السؤال وذهاب كل شغف به، لقد أضعنا السؤال بوصفه عنصرا أساسيا من عناصر الوجود التاريخي».
إن جوهر وجود الإنسان في العالم هو بالتحديد تلك العملية التأويلية للتساؤل، إنه نوع من السؤال من شأنه أن يصل إلى الوجود المحتجب ويميط عنه اللثام ويجعل منه حدوثا تاريخيا عينيا، السؤال إذن هو ما يجعل الوجود تاريخيا، وفي الفقرة التالية من كتاب «مدخل إلى الميتافيزيقا» تتضح العلاقة المتبادلة بين الوجود والتاريخ والذاتية
Selfhood : (1)
تحديد ماهية الإنسان ليست جوابا على الإطلاق، وإنما هي، جوهريا، سؤال. (2)
توجيه هذا السؤال هو شيء تاريخي بمعنى أن هذا السؤال يخلق التاريخ خلقا أول. (3)
لا يحدث التاريخ، ومعه وجود الإنسان، إلا حيث يكشف الوجود عن نفسه في عملية السؤال. (4)
لا يعي الإنسان نفسه إلا ككائن تاريخي متسائل، ولا يكون ذاتا إلا بوصفه كائنا تاريخيا متسائلا، فذاتية الإنسان تعني هذا: إن عليه أن يحول الوجود الذي يكشف له عن نفسه إلى تاريخ ويحمل نفسه على الوقوف فيه.
في كتاباته المتأخرة يتحول اهتمام «هيدجر» من تساؤل الإنسان إلى ضرورة الانفتاح اليقظ على الوجود، ما يزال الوجود في هذه الكتابات تاريخيا غير أن حدوثه يعد هبة من جانب الوجود لا نتاجا لبحث الإنسان وفهمه.
غير أننا يجب أن نأخذ حذرنا من تصور أي نقطة تحول أو انتقال جذري هنا؛ لأن «هيدجر» في حقيقة الأمر لا يناقض موقفه الأول بل يكمله، إنه يحاول في أعماله المتأخرة أن يؤكد موقفه غير المتمركز على الذات، ولهذا السبب فهو يحول الصورة من إظهار الإنسان متسائلا مجادلا للوجود إلى إظهار الإنسان على أنه «راعي الوجود »، غير أنه حتى بوصفه راعيا للوجود فإن رعايته تتمثل في هيئة «تفكير» و«بناء شعري»، وهذان كلاهما فعلان من جانب الإنسان (وإن يكونا استجابة للوجود) ويحتفظان بطابعهما التاريخي.
الانفتاح على الحقيقة، الانتظار اليقظ، الإصغاء لنداء الوجود؛ ل «لا تحجب» «الحقيقة كهدية من جانب الوجود لا كثمرة لبحث الإنسان: هذا هو القانون الأول للفكر وليس قواعد المنطق»، وقد سبق أن ألمعنا في الفصل الخاص بمعنى الهرمنيوطيقا إلى أن «هيدجر» يرى صلة وثيقة بين طبيعة الهرمنيوطيقا وطبيعة هرمس رسول الآلهة في الميثولوجيا اليونانية، فالرسالة التي يحملها هرمس ليست رسالة عادية، إنه يحمل الخبر الصاعق والنبأ الجلل، التأويل في أسمى معانيه هو أن تكون قادرا على فهم هذه الأنباء المقدورة، بل أن تفهم قدرية الأنباء، أن تؤول هو أن تصغي أولا، أن تفهم الشيء الذي أسفر عن نفسه، أن تفتح كيانك كله لعملية «التجلي»، ألا تفعل بقدر ما تنفعل، أن تتلقى ولا تنخذل أمام سفور الحقيقة، تماما مثلما يفعل الشعراء في لحظة الإلهام كما يقول أفلاطون في محاورة أيون، هكذا يعود بنا «هيدجر» إلى لحظة أكثر بداءة، لحظة سابقة على أي استدلال أو إعمال ذهن، سابقة على أشكال فكرنا الحاضرة، إن مشروع «هيدجر» التأويلي ينطوي على محاولة لاستعادة فهم الوجود واسترداد الوعي به، والذي يرى «هيدجر» أننا قد فقدناه في الأزمنة الحديثة، فإذا توجب على المرء أن يبحث عن الثقل الخفي للألفاظ القديمة فلكي يمضي فيما وراء الوضوح الذاتي في التفكير الحديث، ولكي يفلت من حدود النظرة الحديثة للعالم، فالهرمنيوطيقا هي ذلك المجال المعني بفك رموز الأقوال التي تنتمي إلى أزمنة وأمكنة ولغات أخرى، دون أن يفرض عليها المرء مقولاته هو أو تصنيفاته الذهنية. (6-1) اللغة والكلام
معجزة من بعيد أو حلما
جلبته إلى طرف بلادي،
وانتظرت حتى تجد ربة القدر المظلمة
في نبعها اسما تضفيه عليه
عندئذ أمكنني أن أقبض عليها بقوة،
وهي الآن تزدهر وتسطع نافذة في عظامي ...
وقديما حركني الشوق إلى رحلة طيبة
ومعي جوهرة ثرية ورقيقة،
فتشت «ربة القدر» طويلا ثم جاءتني بالخبر: «لا شيء هنا يرقد في الأعماق».
هنالك أفلتت من بين يدي،
وما كسبت بلدي الكنز أبدا ...
فتعلمت وقلبي محزون هذا الزهد:
إن تنكسر الكلمة لا يوجد شيء .
10
الكلمة، ستيفان جئورجه
تتحدث هذه القصيدة عن قوة الشاعر وقدرته، فهو يملك موهبة الرؤية والبصر بشكل مدهش وعجيب، وربة القدر في الأساطير الجرمانية هي التي تهب رؤيته «الاسم»، نعمة منها وهدية، فهي تبحث في أعماق نبعها عن اسم لكل شيء ولكل خبرة، والكلمة هي التي تظهر الموجود أمام الشاعر أو أمام غيره من الناس، والأسماء هي التي تمكنه من الاحتفاظ برؤاه، كما تساعد هذه الرؤى على التفتح والازدهار (وهي الآن تزدهر وتسطع نافذة في العظام)، ومهما يكن ثراء الخبرة وعرامها فلا ضمان لفهمها ودوامها وتوصيلها للآخرين إذا لم يقيض لها الكلمات التي تترجمها وتفضي به وتنميها، وحين لا يجد المرء كلمة تترجم خبرته (لا تجد ربة القدر اسما لجوهرة الشاعر) فلا جدوى للخبرة ولا قيمة، وربما لا وجود لها على الإطلاق! الأسماء إذن هي التي تحضر الأشياء وتمدها بالوجود والثبات، وهي التي تسبغ المعنى على الخبرة وتجعل الخبرة «تصبح ذاتها» على حد تعبير بول ريكور.
الوجود لغة، أو هو لغوي في بنيته وصميمه، و«ليست الكلمات واللغة قواقع تختزن فيها الأشياء ببساطة من أجل تجارة الحديث والكتابة، في الكلمة وحدها، في اللغة وحدها، تصبح الأشياء وتكون.»
11
اللغة هي تلفظ الوجود ونطقه، إن الوجود نفسه يفكر بنا، أو هو يتعقل ذاته من خلال لغتنا نفسها؛ فليس التفكير مجرد تعبير يستدرج الفكرة إلى شبكة اللغة، بل هو نطق بلسان حال الوجود، أو هو على الأصح تعبير عن كلمة الوجود غير المنطوق! وهذا هو السبب في أن «هيدجر» يختم رسالته عن النزعة الإنسانية بقوله «إنما اللغة لغة الوجود، كما أن السحب سحب السماء!»
12
في كتابه «الوجود والزمان» وضع «هيدجر» اللغة في سياق جديد، وذلك حين قام بتحليل الوجود في العالم بوصفه فهما وتأويلا، واللغة هي تلفظ الفهم الوجودي، وهي وثيقة الصلة بالفهم بحيث يصبح التفكير المنطقي والتلاعب التصوري بموضوعات العالم أمرا ثانويا واشتقاقيا بالمقارنة باللغة في السياق الحي للتلفظ الأولي للفهم، ومنذ «الوجود والزمان» أدرج «هيدجر» المنطق والقضايا تحت تصنيف الفكر الحضوري بينما جعل اللغة، في جوهرها الحقيقي كتلفظ بدئي للفهم التاريخي الموقفي، شيئا ينتمي إلى ماهية الإنسان وطريقة وجوده، ومن هذه الزاوية أمكن ل «هيدجر» أن يهاجم النظريات التي ترى اللغة مجرد أداة للاتصال والتواصل.
يحتل موضوع اللغة موقعا حاسما في كتاب «مدخل إلى الميتافيزيقا» الذي يكرسه «هيدجر» لبحث السؤال «ما هو الوجود؟» ويعود فيه إلى شذرة من بارمينيدس وجد فيها الإقرار بأن الوجود لا ينفصل عن فهم الوجود، فالوجود والفهم شيء واحد، مثلما أن الوعي وموضوعه شيء واحد عند بارمينيدس، يعني ذلك أنه «ثمة وجود فقط عندما يكون هناك ظهور، لا تحجب، انكشاف»، ومثلما أنه لا يمكن أن يكون هناك وجود بدون فهم، ولا فهم بدون وجود، كذلك لا يمكن أن يكون هناك وجود بدون لغة، ولا لغة بدون وجود.
يتساءل «هيدجر»: هب الإنسان لم تكن لديه معرفة مسبقة بالوجود، لم يكن لديه معنى غامض للوجود، فهل كان ذلك سيؤدي إلى نقصان لغتنا لاسم وفعل (فعل الكينونة) ليس إلا؟ ويجيب «هيدجر»: كلا، بل لن تكون هناك لغة على الإطلاق، ولن يتسنى لأي وجود، بما هو كذلك، أن يكشف عن نفسه في كلمات، ولن يعود بالإمكان استحضاره أو الحديث عنه في كلمات، ذلك أن الحديث عن الوجود، بوصفه وجودا، لا بد أن يتضمن فهمه مقدما كوجود، أي فهم وجوده.
ومن الجهة الأخرى، لو لم تكن ماهيتنا تتضمن القدرة على اللغة، لكان كل وجود منغلقا أمامنا، بما فيه وجودنا نفسه، فبدون اللغة لما أمكن للإنسان أن يكون، وما أمكن أن يوجد بأي أسلوب يمكن أن نتخيله، و«هيدجر» يقول في ذلك بصريح العبارة: «أن تكون إنسانا هو أن تتكلم.» يقول «هيدجر» إنه لوهم عظيم إذن أن نظن أن الإنسان قد اخترع اللغة! فالإنسان لم يخترع اللغة، تماما مثلما أنه لم يخترع الفهم ولا الزمان ولا الوجود نفسه، «هل يعقل أن يكون الإنسان قد اخترع تلك القوة التي تغمره والتي بفضلها وحدها يمكنه أن يوجد كإنسان؟» وحتى الفعل الإنشائي للتسمية، تسمية الأشياء، هو استجابة من جانب الإنسان لوجود الموجودات.
في كتابات «هيدجر» التي أعقبت «مدخل إلى الميتافيزيقا» يزداد توكيده على استجابة الإنسان لنداء الوجود، في «رسالة في النزعة الإنسانية» مثلا يقول «هيدجر» إن الشأن الوحيد للفكر هو أن يحول إلى شكل منطوق مجيء الوجود، الذي يكمن وفي كمونه ينتظر الإنسان، والوجود بطبيعة الحال يسفر عن وجهه في اللغة، هذا الحضور للوجود في اللغة تترجمه
Geschick (لفظة المصير، القدر)، هذه القدرية التي يتسم بها قول الوجود هي القانون الأول للتفكير، أما مسألة التاريخ فلم تكن جديدة؛ لأن «هيدجر» في «مدخل إلى الميتافيزيقا» كان قد وصف اللغة بأنها آلية الوجود الإنساني التي تمكن الإنسان من أن يصير تاريخيا، بل أن يؤسس التاريخ في حقيقة الأمر، وكان قد وصف الفهم والكلام بأنهما فعلان تاريخيان بصفة خاصة يدخل من خلالهما الوجود إلى الزمن ويحدث، ليس هناك من فرق بين ما قبل «مدخل إلى الميتافيزيقا» وما بعده إلا في النبرة: فلم يعد الإنسان مجادلا للوجود بقدر ما أصبح متفتحا للوجود، مصغيا لنداء الوجود، حتى «التساؤل» لم يتخل عنه «هيدجر» رغم ذلك؛ لأن التساؤل هو بالضبط وضع التصورات الحضورية موضع الشك، لقد ظل التساؤل منهجا أساسيا لتفكير «هيدجر»، ولم يقصد «هيدجر» من تغيير نبرته إلا الإشارة بقوة أكبر إلى أولوية الوجود وصدارته.
أما متضمنات ذلك بالنسبة للغة فهي أن نعكس الاتجاه المتعارف عليه للكلام، فلا نقول إن الإنسان يتكلم، بل نقول إن اللغة ذاتها تتكلم، «فاللغة»، في جوهرها وصميمها، ليست تعبيرا ولا هي نشاط للإنسان؛ «اللغة تتكلم»، الكلمات ترن في الصمت، ومن خلالها تتردد حقائق عالم المرء، «هذا الرنين في الصمت ليس من الإنسان، العكس هو الصحيح، الإنسان، في حقيقته وجوهره، من اللغة»، وفعل الكلام هو ما يميز الإنسان بالتحديد، غير أن الكلام هو في ذاته فعل تقوم به اللغة، ما يتجلى في اللغة ليس شيئا إنسانيا بل عالم ... الوجود نفسه.
يقول «هيدجر» إننا نجد الماهية الصميمة للغة في الكلام، وبخاصة في «القول»
Dassagen ، أن تقول هو أن تكشف. بذلك يمكن للصمت أحيانا أن «يقول» أكثر مما تقوله الكلمات، وبإمكاننا أن نقول، بطريقة أخرى، إن اللغة ليست «تعبيرا» للإنسان بل هي «ظهور» للوجود، وإن التفكير لا يعبر عن الإنسان بل يترك الوجود يحدث كواقعة لغوية، في ترك الحدوث هذا يكمن مصير الإنسان، ومصير الحقيقة أيضا، وأخيرا مصير الوجود.
يعد تحول «هيدجر» في اتجاه التوكيد الزائد على الصبغة اللغوية لطريقة الإنسان في الوجود وتصريحه بأن الوجود يقود الإنسان ويناديه (ومن ثم فالوجود في حقيقة الأمر هو الذي يظهر نفسه وليس الإنسان)، يعد هذا التحول ذا أهمية هائلة بالنسبة لنظرية الفهم، فهو يجعل ماهية اللغة هي وظيفتها التأويلية في جعل الشيء يفصح عن نفسه، يعني ذلك أن يصبح مبحث التأويل تمردا على التحليل المحض والتفسير الصرف من أجل الوصول إلى حوار فكري مع ما يظهر في النص، لم يعد الفهم مسألة تساؤل يريد أن يكون مفتوحا وغير دوجماوي فحسب بل أصبح أيضا مسألة تعلم لكيف ينتظر المرء ويترقب وكيف يعثر على الموضع الذي سيكشف فيه وجود النص عن نفسه ويسفر عن وجهه، إن اللغة نفسها هرمنيوطيقية في جوهرها وصميمها، وهي أشد ما تكون هرمنيوطيقية في الشعر العظيم؛ لأن الشاعر، كما يقول «هيدجر» في «ماهية الشعر»، هو الرسول ما بين الآلهة والإنسان.
هكذا وحد «هيدجر» بين ماهية الوجود والتفكير والإنسان والشعر والفلسفة وبين الوظيفة الهرمنيوطيقية للقول، وهكذا جعل فلسفته الخاصة هرمنيوطيقية بالدرجة الأساس وجعل موضوعاته الكبرى واقعة في صميم نطاق الهرمنيوطيقا، وقد نجح بالطبع في تحويل سياق الهرمنيوطيقا بأسره بعيدا عن التصور القديم لها كمبحث فيلولوجي خاص بتأويل النص، لم يأبه «هيدجر» بكثير من المفاهيم السابقة: قسمة الذات/الموضوع، الموضوعية، معايير التحقق، النص بوصفه تعبيرا عن الحياة؛ كل هذه مسائل غير واردة في منهج «هيدجر»، لقد عرف الهرمنيوطيقا على أنها التعامل مع اللحظة التي ينبلج فيها المعنى، إنه فهم هائل الاتساع، على حد تعبير ريكور؛ لأنه لا ينحصر بالضرورة في عملية فهم نص من النصوص، وقد أدى هذا التعريف إلى تغيير جارف في بنية هذا المبحث ومعالمه، ليعاد تعريف فعل التأويل نفسه ويوضع في إطار أنطولوجي.
في كتابه «مدخل إلى الميتافيزيقا» يقوم «هيدجر» بشرح «أنشودة في الإنسان» من مسرحية «أنتيجونا» لسوفوكليس، في محاولة منه للتعرف على التصور الإغريقي الأول عن الإنسان كما تعبر عنه القصيدة، يقول «هيدجر»: «يقع تأويلنا في ثلاث مراحل، وفي كل مرحلة منها سوف ننظر إلى القصيدة كلها من زاوية مختلفة:
في المرحلة الأولى سوف نقدم المعنى الباطن للقصيدة، ذلك المعنى الذي يمسك صرح الألفاظ ويحفظه ويعلو فوقه.
وفي المرحلة الثانية سوف نتفقد التتابع الكامل للفقرات الشعرية
Strophes
وردودها
Antistrophes ، ونحدد المنطقة التي تكشفها القصيدة وتبينها وتضيئها.
وفي المرحلة الثالثة نحاول أن نتخذ موقفنا في مركز القصيدة، بحيث يمكننا الاطلاع على حكمها فيما يكونه الإنسان وفقا لهذا الخطاب الشعري.»
من الواضح أن «هيدجر» لا يأخذ منهجا شكليا
Formalist ؛ لأن الشكلية لا تتفق مع مقاصده ولا مع السؤال الذي يطرحه، ومن المثير أن إجراءه هنا يستبق مدخله «الطوبولوجي» اللاحق الذي يجعل فيه غاية الشرح هو تحديد «الموضع»
Topos
الذي تتحدث منه القصيدة، موضع تلك المساحة مع الوجود التي تضيئها الفقرة الشعرية؛ وعلى ذلك فإن المرحلة الأولى لا تبدأ في الحقيقة تسلسليا، بل تبدأ بسعي للعثور على المعنى الذي يمسك صرح الألفاظ كله و«يرتفع فوقه»، فالشيء الذي تقوله القصيدة يقف داخل معنى غير مصرح به تصريحا كاملا، ذلك المعنى الذي يحيط بالنص من أسفله وأعلاه، هذا المعنى المحيط ... هذا «الجشطلت» الذي يفوق مجموع أجزائه، هو المبدأ الذي يحكم القصيدة ويجلو أجزاءها، إنه «الحقيقة» التي في القصيدة، «الوجود» الذي يتكشف ويأتي إلى النور، «روح القصيدة» إن جاز للمرء أن يقول. فقط في ضوء هذا المعنى يستطيع «هيدجر» أن ينتقل إلى المرحلة الثانية، وهي أن ينتقل من فقرة شعرية
Strophe
إلى ردها
Antistrophe
والعكس، خلال القصيدة، لكي يحدد المنطقة التي تكشفها القصيدة وتسلط عليها الضوء.
في المرحلة الثالثة، نحاول أن نقف في مركز القصيدة، أي في الحد الفاصل بين التحجب من جهة وبين الانكشاف الذي أتاحه الفعل الإبداعي للشاعر، فعل التسمية ، من جهة أخرى، وأن ننظر مرة أخرى بتمعن فيما تمت تسميته، يعني ذلك بطبيعة الحال أن نتخطى القصيدة إلى ما لم تقله القصيدة: «لو أننا قنعنا بما تقوله القصيدة بصورة مباشرة، لبلغ التفسير (التأويل) نهايته (مع المرحلة الثانية)، غير أن التأويل هنا في حقيقة الأمر يكون قد بدأ لتوه، فالتأويل الحق يجب أن يكشف ما لا يمثل في الألفاظ ولكنه يشار إليه رغم ذلك (ما يقال دون أن يلفظ)، وعلى المفسر لكي يحقق ذلك أن يستخدم العنف! عليه أن يبحث عن الشيء الجوهري حيث لم يتبق شيء يمكن أن يجده التفسير العلمي الذي يصم باللاعلم كل ما يتجاوز حدوده.»
إن العملية التأويلية في جوهرها تتمثل لا في الإيضاح العلمي لما هو مصرح به في النص، بل في التفكير الإبداعي الذي يسلط الضوء على المعنى المضمر لا الصريح، الباطن لا الظاهر.
13
في تناوله للشاعر الألماني «جورج تراكل»
Georg Trakl
يقول «هيدجر» إن دراسته لتراكل ليست بيوجرافية ولا اجتماعية ولا سيكولوجية، بل هي نظر في «المكان»
Ort
الذي «يشعر» منه تراكل، المكان الذي يكشفه شعره ويسلط عليه الضوء، ذلك أن كل شاعر عظيم إنما يتحدث من داخل «قصيدة» شاملة وحيدة لا تقال أبدا ولا تتم، ومهمة الحوار الفكري مع الشاعر هي العثور على ذلك المكان من الوجود الذي يمثل أساس القصيدة، «فقط من موضع القصيدة» غير المقولة «يمكن للقصيدة المفردة أن تضيء وترن»، يعترف «هيدجر» أن هناك خطرا لا يستهان به أن يؤدي هذا الحوار الفكري مع القصيدة إلى خلط يغشي على ما تقوله القصيدة بدلا من أن يتركها تقول ما لديها بتلقائية وبساطة، ويقول إن شرح القصيدة الشاملة التي أشرنا إليها لا يمكن، على أية حال، أن يكون بديلا عن الاستماع الحقيقي للقصائد، فهل تخلى «هيدجر» بذلك عن مبدئه الأول القائل باستخدام العنف مع النص؟ الحق أن «هيدجر» منذ البداية يريد أن يترك النص يتحدث بصوته ويبوح بحقيقته، أما مسألة «استخدام العنف» فهي أساسا رد فعل تجاه النقاد الذين يقصرون مهمة التفسير على ظاهر النص (النقاد «الظاهرية» إن صح التعبير)، يريد «هيدجر» أن يؤكد مرة ثانية ضرورة تجاوز النص في نهاية المطاف وإعادة السؤال الذي يطرحه النص والانشغال بما كان يشغل النص!
وفضلا عن ذلك، فإن عملية الشرح - في كل خطوة - يبدو أنها تمضي وراء النص إلى جذور كل كلمة، إلى إعادة لكل بيت أو أبيات مرة ومرات، والاستماع أكثر وأكثر إلى البيت نفسه، توضح هذه الإعادات أن وظيفة الشرح هي أن تترك البيت يتكلم لا أن تفرض عليه ما ليس فيه أو أن تحاول أن تتكلم أفضل منه، إن الفكرة ذاتها - فكرة كشف «موضع» القصيدة - هي محاولة ل «تمهيد المسرح» للقصيدة لا لأخذ مكانها على المسرح، ومثلما يدعو «النقد الجديد»
New Criticism
فإن القصيدة نفسها هي كل ما يهم وليس الخلفية البيوجرافية، وإن «الخلفية» الحقيقية للقصيدة ليست حياة المؤلف بل «الموضوع»
Subject matter
الذي تتناوله القصيدة.
يتفق «هيدجر» مع «النقد الجديد» إذن في التوكيد على «الاستقلال الأنطولوجي» للقصيدة، وفي عبثية (ولا مشروعية) إعادة الصياغة، وينشأ الاختلاف بينهما في أن النقد الجديد يجد صعوبة كبيرة في تقبل «الفروض المسبقة»
كخطوة في المسعى الجدلي إلى «الحقيقة» التي تحملها القصيدة وتكشف عنها، فالنقد الجديد مأخوذ ب «الموضوعية العلمية» ومتقيد بقيودها، ويجعل من النص «موضوعا»
object
ومن الشرح تناولا علميا ل «معطيات» النص ولا شيء غير معطيات النص، أما أسلوب «هيدجر» في الشرح فيختلف جذريا عن أي «تحليل» موضوعي للمعطيات الصلبة (الماثلة في النص بدون أدنى خلاف)، غير أن وشائج القربى بين «هيدجر» والنقد الجديد ونقاط اتفاقهما المكينة من وراء الاختلافات الأسلوبية الخارجية، لتومئ إلى أن هرمنيوطيقا «هيدجر» يمكن أن تقدم الأساس والقاعدة لبعث جديد وصيغة جديدة أكثر حيوية للنقد الجديد. (7) نظرية هرمنيوطيقية في الفن
في عام 1936م ألقى «هيدجر» ثلاث محاضرات في الفن تحمل عنوان «الأصل في العمل الفني»
The Origin of the Work of Art
لم تنشر حتى عام 1950م عندما ضمنها كتابه «متاهات» (مسالك في الغابة)
Holzwege ، في هذه المحاضرات الثلاث يجد القارئ مذهب «هيدجر» في طبيعة الفن في أكمل عرض وأقومه، حقيقة الأمر أن هذه المحاضرات تنقل إلى نطاق الفن تلك التصورات الهرمنيوطيقية ال «هيدجرية» عن الحقيقة والوجود، وعن اللغة بوصفها حديثا وقولا كما بينا آنفا، فالعمل الفني العظيم يتكلم، وهو إذ يفعل ذلك إنما يستقدم «عالما»
World
ويأتي به ويستحضره، هذا «الكلام»، شأنه شأن كل «قول» حقيقي، يكشف الحقيقة ويحجبها في الوقت نفسه، «إن الجمال هو طريقة للحقيقة، بوصفها لا تحجبا، في المثول»، فالشاعر مثلا يسمي «المقدس» (يقيض له اسما) وبذلك يستقدمه إلى الظهور ويحمله على المثول في «شكل»
Form ، و«هيدجر» يرد جميع الفنون إلى الشعر ويراها «شعرية» (بالمعنى الواسع للشعر المستمد من أصل الكلمة اليوناني التي تعني الإبداع والإنشاء والخلق)، إنها شعرية في صميمها وجوهرها، وهي طريقة لكشف النقاب عن وجود الموجودات وتحويل الحقيقة إلى حدث تاريخي عياني ملموس.
يقوم هذا الموقف الاستطيقي على التوتر الداخلي بين «الأرض»، بوصفها الأساس الخلاق للأشياء، وبين «العالم». الأرض عند «هيدجر» تمثل الأم الخصبة والمصدر البدائي والأساس الأولي لكل شيء. والعمل الفني، بوصفه حدثا تتكشف فيه الحقيقة وتميط لثامها، يمثل الإمساك بهذا التوتر الخلاق واحتباسه في «شكل»، إنه يكشف للإنسان التوتر الباطن بين «الأرض» و«العالم» ويأتي به إلى نطاق الموجودات ككل، المعبد اليوناني، على سبيل المثال، الرابض في الوادي، يخلق فضاء مفتوحا في الوجود، يخلق فضاءه الحي الخاص، وهو في جمال شكله الفني يترك مواده البنائية تشع في بهائها، لقد صب هذه المواد في «شكل» من شأنه أن يظهرها ويبرزها ويجعلها تتلألأ وتضيء، إن المعبد لا يحاكي شيئا ولا ينسخ أي شيء، إنه، ببساطة، يفرغ لذاته وينحت من نفسه «عالما» يحس فيه وجود الآلهة وجلال حضرتها، وإذا كانت مادية المواد تختفي في «الموضوعات النفعية» أو «الأدوات» كلما نجحت في أداء وظيفتها كأدوات، فإن العمل الفني لا يفتح «عالما» إلا من خلال إظهار مادية المواد على التحديد: «الحجر يبقى حجرا، والمعدن يضيء ويضوئ، والألوان تشع كألوان، والأنغام تأتي صوتا حقيقيا، والكلمة تتحدث»، ولئن كان كل من المثال والبناء يستخدم في إنتاجه الصخر أو الحجارة، إلا أن الأول منهما لا يريد للحجارة أن تختفي في طوايا عمله الفني، بل هو يريد لها أن تفصح عن كل ما تنطوي عليه من دلالات جمالية، وعلى العكس من ذلك، نجد البناء يستخدم الحجارة، وكأنما هو يستهلكها؛ لأنه لا يريد لها سوى أن تصبح عنصرا صلبا يندمج في بناء متين، دون أن يكون له وجوده المستقل.
وكذلك الحال بالنسبة إلى المصور، فإنه يستعين بمجموعة من الألوان، ولكنه لا «يستهلك» هذه الأصباغ اللونية، بل هو يريد أن يصل بها إلى أعلى درجة من درجات نصوعها، ولا يختلف حال الشاعر عن حال غيره من الفنانين: فهو أيضا يستعين بالكلمات أو الألفاظ، ولكنه لا يتكلم كأولئك الذين يتكلمون أو يكتبون في الحياة العادية المبتذلة، فإن هؤلاء «يستهلكون» الألفاظ بالضرورة، بينما الشاعر يستخدم «اللفظ» لكي يخلق منه «قولا»؛ أعني أنه لا يستعين بالكلمات كمجرد أدوات، بل هو يبرز كل ما في الكلمة من عمق وكثافة ودلالة. «العمل الفني» إذن ليس مجرد «منتج صناعي» نحكم عليه بالنظر إلى مدى تلاؤم صورته مع مادته، وإنما هو، على حد تعبير «هيدجر»، كائن متفتح يخفق تحت وقع وجوده باعتباره عملا مبدعا.
14
إن العمل الفني لا يريد أن يطمس الأرض في صنعته ويخفي أرضيتها، بل يريد أن يترك الأرض أرضا! فالأرض ليست مجرد شيء جعل للسير عليه كما أن الشجرة ليست مجرد شيء واقف على الطريق، فالأرض هي ذلك الشيء الذي يكشف عن نفسه في إشعاع المعدن ورنين النغم ثم يخفيها مرة ثانية، إنها تلقائية وموصولة، «وعلى الأرض وفيها يؤسس الإنسان التاريخي سكناه في العالم»، وفي الفن نجد أن تشييد عمل فني من «خامة» الأرض يخلق «عالما»، فالعمل الفني يمسك الأرض نفسها ويحتفظ بها في انفتاح «عالم»، فتشييد الأرض وعرض العالم هما، من وجهة نظر «هيدجر»، السمتان الأساسيتان للعمل الفني.
ماهية الفن - إذن - تكمن لا في مجرد الصنعة والحرفية، بل في الكشف والإظهار، فكون الشيء عملا فنيا يعني أنه يفتح عالما، وتأويل العمل الفني يعني التحرك داخل الفضاء المفتوح الذي خلقه العمل واستقدمه إلى النور ، والحقيقة في الفن ليست مسألة محاكاة أو اتفاق سطحي مع شيء معطى سلفا (أي الرأي التقليدي في الحقيقة بوصفها الصوابية
Correctness ) إنها تسلط الضوء على «الأرض» بحيث يكون بوسع المرء أن يراها، وعظمة الفن، بتعبير آخر، ينبغي أن تتحدد وفقا لوظيفته الهرمنيوطيقية، وهكذا يمكننا القول بأن ما طرحه «هيدجر» في مقاله هو «نظرية هرمنيوطيقية في الفن».
15
خلاصة
تبين مما سبق أن إسهام «هيدجر» في النظرية التأويلية هو إسهام متعدد الجوانب حقا، في «الوجود والزمان» أعاد «هيدجر» صياغة تصور الفهم ذاته في سياق جديد تماما، وبذلك يكون «هيدجر» قد أحدث تغييرا في الطابع الأساسي لأي نظرية لاحقة في التأويل، لقد أعاد تعريف كلمة «هرمنيوطيقا» نفسها، فجعلها مماثلة للفينومينولوجيا كما رآها وللوظيفة الأولية للكلمات في إحداث الفهم، وفي أعماله المتأخرة اتخذ «هيدجر» تأويل النصوص منهجا خاصا به في التفلسف، معلنا نفسه فيلسوفا «هرمنيوطيقيا» بالمعنى التقليدي للكلمة، غير أن المعنى الأعمق للكلمة عند «هيدجر» هو عملية الكشف والإظهار التي بها ينكشف الوجود ويأتي إلى النور، وبهذه الطريقة الهرمنيوطيقية الصميمة قام «هيدجر» بمعالجة موضوعات اللغة والأعمال الفنية والفلسفة والفهم الوجودي نفسه.
لقد تجاوز «هيدجر» مفهوم «دلتاي» العريض عن الهرمنيوطيقا كأساس منهجي لجميع العلوم الإنسانية، فالهرمنيوطيقا عند «هيدجر» تشير إلى واقعة الفهم بما هو كذلك، لا إلى المنهج التاريخي في التأويل كمقابل للمنهج العلمي، فقد تخلى «هيدجر» عن ثنائية التاريخي-العلمي التي نذر لها دلتاي حياته بأكملها، واعتبر أن كل فهم هو شيء متأصل في الطبيعة التاريخية للفهم الوجودي، وبذلك مهد «هيدجر» الطريق لتلميذه جادامر وتأويليته الفلسفية.
الفصل التاسع
جادامر
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء
المعري
كان حدثا فاصلا في تطور الهرمنيوطيقا الحديثة ذلك الذي وقع عام 1960م، حين صدر كتاب «الحقيقة والمنهج» لمؤلفه هانز جورج جادامر، فبين دفتي مجلد واحد قدمت مراجعة نقدية للاستطيقا الحديثة ونظرية الفهم التاريخي من منظور هيدجري أساسا، بالإضافة إلى هرمنيوطيقا فلسفية حديثة قائمة على أنطولوجيا اللغة.
لا يقارن هذا الكتاب في ثرائه ودقته الفلسفية إلا بالسفرين الجليلين الآخرين حول النظرية التأويلية اللذين كتبا في القرن العشرين ل «يواقيم فاكس»، و«إميليو بتي»، كان كل عمل من هذه الأعمال الثلاثة يضع لنفسه غاية مختلفة، ومن ثم فقد أسهم كل منها إسهامه الخاص والمتميز، أما كتاب «فاكس» القائم في ثلاثة مجلدات عن تاريخ الهرمنيوطيقا في القرن التاسع عشر فيمثل مرجعا لا غنى عنه لأي باحث جاد في الهرمنيوطيقا، غير أنه كتب في أواخر العشرينيات من القرن العشرين، ومن ثم فهو متأثر بدلتاي، ويقف بالضرورة داخل أفق تصوره للهرمنيوطيقا.
أما «بتي» فقد استعرض الأنواع المختلفة من التأويل بقصد صياغة نظرية عامة شاملة ومنهجية وتأسيس مجموعة من القوانين الأساسية لجميع صور التأويل، والتي يمكن أن تمثل القاعدة التي يقوم عليها التأويل الصحيح، ومنذ البداية جعل هذا العمل هدفه وضع منطق منظم - وليس مجرد تاريخ - لصور التأويل، وهو بذلك يعد مكملا قيما لعمل «فاكس» الأسبق، غير أن «بتي» يقف من الوجهة الفلسفية داخل التقليد المثالي الألماني، ويفترض مقدما، كبديهية لا يطالها الشك، نفس المسلمة التي وضعها هيدجر موضع الشك على نحو جذري، يرى «بتي» أن فكر هيدجر التأويلي يمثل تهديدا لفكرة الصواب الموضوعي نفسها في مجال الفيلولوجيا (فقه اللغة) والتاريخ، ومن ثم فقد بقي على جادامر من بعد بتي أن يطور النتائج المثمرة والإيجابية للفينومينولوجيا، وبخاصة فكر هيدجر، في النظرية التأويلية، كان جادامر هو من قدر له أن يشتبك بالمشكلة الفلسفية الخاصة بتأسيس أنطولوجيا جديدة لحدث الفهم. (1) نقد جادامر للاستطيقا الحديثة والوعي التاريخي
هكذا مع ظهور «الحقيقة والمنهج» نجد أن النظرية التأويلية قد دخلت مرحلة جديدة وهامة، ونجد أفكار هيدجر التأويلية الثورية قد وجدت لها في كتابة جادامر تعبيرا منظما ومكتملا، وخرجت إلى النور متضمناتها فيما يتعلق بالتصور التاريخي والاستطيقي، ونجد التصور القديم للهرمنيوطيقا بوصفها المنهج الخاص بالعلوم الإنسانية (دلتاي) قد أهمل وضرب عنه صفح، بل نجد فكرة «المنهج» ذاتها قد حوكمت، ومكانة «المنهج» نفسه قد اهتزت؛ «ذلك أن عنوان كتاب جادامر ينطوي على تهكم»، فالمنهج عنده ليس هو الطريق إلى الحقيقة! بل من دأب الحقيقة، على العكس، أن تفوت رجل «المنهج» وتروغ منه، والفهم في تصوره ليس عملية ذاتية لإنسان بإزاء موضوع وقبالته، بل الفهم هو أسلوب وجود الإنسان نفسه، والهرمنيوطيقا ليست فرعا مساعدا للدراسات الإنسانية بل هي نشاط فلسفي يحاول تفسير الفهم على أنه عملية أنطولوجية في الإنسان، أسفرت هذه المراجعات والتفسيرات الجديدة عن صنف جديد من النظريات التأويلية، هي «الهرمنيوطيقا الفلسفية» لجادامر.
من الضروري في البداية أن نفهم الفرق بين هرمنيوطيقا جادامر الفلسفية وبين ذلك النوع من الهرمنيوطيقا ذي التوجه «المنهجي» أو «الميثودولوجي»، إن جادامر لا تعنيه كثيرا المشكلات العملية لصياغة المبادئ الصحيحة للتأويل، إنه يود بالأحرى أن يسلط الضوء على ظاهرة الفهم نفسه، وليس يعني ذلك أنه ينكر أهمية صياغة مثل هذه المبادئ الضرورية للمباحث التأويلية، وإنما يعني أن جادامر يعمل على مستوى أكثر بداءة، ويتناول سؤالا أكثر أولية، وهو: كيف يكون الفهم ممكنا، ليس فقط في الدراسات الإنسانية بل في خبرة الإنسان بالعالم ككل؟ هذا سؤال مفترض مسبقا في مباحث التأويل التاريخي غير أنه يتجاوزها بكثير، وإنه عند هذه النقطة يربط جادامر تعريفه للهرمنيوطيقا بشكل صريح بفكر هيدجر: يقول جادامر في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «الحقيقة والمنهج»:
أعتقد أن التحليل الزماني للوجود الإنساني عند هيدجر قد برهن بوضوح على أن الفهم ليس موقفا للذات الإنسانية بين غيره من المواقف العديدة، وإنما الفهم هو طريقة وجود الدازاين نفسه، وإنما بهذا المعنى قد قمت باستخدام مصطلح «هرمنيوطيقا» هنا (أي في كتاب «الحقيقة والمنهج»).
إنه يشير إلى الحركة الأساسية للوجود الإنساني، والتي تتألف من تناهيه وتاريخيته، وتستغرق بالتالي كل خبرته بالعالم ... إن حركة الفهم شاملة وعالمية.
1
ولهذه العالمية بطبيعة الحال عواقب ومترتبات تلحق المحاولات الرامية إلى المنهج في المباحث التأويلية؛ فالصبغة الشاملة للفهم تطرح السؤال الخاص بما إذا كان بإمكان المرء بمجرد قرار أو أمر أن يحد من نطاق الفهم أو يقصره على جانب دون الآخر، يذهب جادامر إلى أن خبرة العمل الفني تتخطى أي أفق ذاتي للتأويل ، سواء في ذلك أفق الفنان أو أفق المتلقي، ومن ثم فإن «مقصد المؤلف»
Mens Auctoris
ليس بالمقياس الممكن لمعنى العمل، والحق أن الحديث عن أي «عمل في ذاته» بقطع الصلة عن واقعه المتجدد أبدا كلما تمثل في خبرة، هو تصور مجرد غاية التجريد، فالأمر الحاسم والفاصل هنا ليس هو نية المؤلف ولا هو العمل كشيء في ذاته خارج التاريخ، بل هو ما يجيء ويمثل كل مرة في اللقاء التاريخي بالعمل.
ولكي نفهم النتائج المترتبة على هرمنيوطيقا جادامر بالنسبة لتصور «المنهج» يلزمنا أن نتعمق الجذور الهيدجرية في فكر جادامر والطابع الديالكتيكي للهرمنيوطيقا كما يتصورها جادامر، إن جادامر، شأنه في ذلك شأن هيدجر، يوجه سهام نقده للاستسلام الحديث للتفكير التقني
Technological Thinking
المتجذر في «مذهب الذات»
Subjectism ، وهو المذهب الذي يتخذ من الوعي الإنساني واليقين العقلي القائم عليه النقطة المرجعية النهائية للمعرفة الإنسانية، لقد كان الفلاسفة قبل ديكارت، قدامى اليونان مثلا، يرون فكرهم جزءا من الوجود ذاته، لم يكن هؤلاء الفلاسفة يعتبرون الذاتية نقطة بدايتهم ثم يؤسسون عليها معرفتهم الموضوعية، لقد كانت طريقتهم جدلية لا تستنكف أن يقودها الموضوع كما هو وكيفما كان، وتسمح لنفسها أن تسترشد بطبيعة الشيء الذي تريد أن تفهمه، لم تكن المعرفة لديهم كسبا وامتلاكا بل لقاء ومشاركة، بهذه الطريقة ظفر اليونان بمدخل إلى الحقيقة يتخطى حدود التفكير الحديث القائم على قسمة «الذات/الموضوع» المتأصلة في مطلب المعرفة ذات اليقين الذاتي.
تعد طريقة جادامر - إذن - أقرب إلى الجدل السقراطي منها إلى التفكير الحديث التقني المتلاعب، فالحقيقة عنده لا تطلب منهجيا بل جدليا، هذه الطريقة الجدلية هي في الحقيقة نقيض المنهج، وهي وسيلة للتغلب على نزوع المنهج إلى أن يشكل العقل ويصبه في قالبه ويحدد مسبقا طريقة الشخص في رؤية الأشياء، فالمنهج، إن شئنا الدقة، غير قادر على كشف حقيقة جديدة ، المنهج لا يفعل أكثر من التصريح بصنف الحقيقة المضمر سلفا في داخله، في المنهج تمسك الذات الباحثة بالزمام وتقوم بالقياد والتحكم والتلاعب، أما الجدل فيترك الموضوع الذي يقابله يلقي أسئلته الخاصة التي تتعين الإجابة عنها، لم يعد الموقف التأويلي هو موقف سائل وموضوع يتوجب فيه على السائل أن يشيد «مناهج» تكفل له أن يوقع الموضوع في قبضة فهمه، بل أصبح السائل، على العكس، يجد نفسه الطرف الذي يجري استجوابه: يستجوبه «الموضوع»
Sache
ويلقي عليه أسئلته، في مثل هذا الموقف يصبح نموذج «الذات/الموضوع» مجرد تضليل، فالذات الآن قد غدت هي الموضوع، والحق أن فكرة «المنهج» نفسها لا تنشأ إلا في سياق تصور «الذات/الموضوع» الذي يصبغ الموقف التأويلي للإنسان ويعد هو الأساس الذي يقوم عليه التفكير الحديث التقني التلاعبي.
قد يسأل سائل: أليس الجدل الهيجلي هو جوهر التفكير الذاتي نفسه، أليست العملية الجلية كلها تفضي إلى الموضعة الذاتية للوعي؟ ومن الحق أن الوعي الذاتي هو في القلب من فكر هيجل، غير أن التأويلية الجدلية عند جادامر لا تقفو التصور الهيجلي عن «الروح»
Geist
إلى تأسيسها النهائي في الذاتية، فتأويلية جادامر لا تتأسس في الوعي الذاتي بل في الوجود، في الصبغة اللغوية للوجود الإنساني في العالم، وبالتالي في الصبغة الأنطولوجية للحدث اللغوي، الجدل عند جادامر ليس ارتقاء بأطروحتين متضادتين، إنه جدل بين أفق المرء وبين أفق «التراث»؛ أي ذلك الذي ينحدر إلينا، ويلاقينا، ويخلق لحظة «السلب»
Negativity
التي هي حياة الجدل وحياة التساؤل.
بذلك يتبين أن الهرمنيوطيقا الجدلية عند «جادامر» رغم صلتها الوثيقة بهيجل فهي لا تنطلق من الذاتية الباطنة في هيجل (وفي كل الميتافيزيقا الحديثة السابقة على هيدجر في حقيقة الأمر)، كذلك رغم وجود أوجه تشابه بين تأويلية جادامر وبين الجدل عند أفلاطون فهي لا تسلم بمذهب «المثل» ولا بتصور الحقيقة واللغة عند أفلاطون، تقدم هرمنيوطيقا جادامر بدلا من ذلك جدلا قائما على بنية الوجود كما فصلها هيدجر في كتاباته المتأخرة وعلى البنية المسبقة للفهم كما قدمها هيدجر في «الوجود والزمان». إن هدف الجدل عند جادامر هو هدف فينومينولوجي بشكل واضح: أن يجعل الشيء الذي نحن بصدده يفصح عن نفسه ويسفر عن وجهه، فإذا كان «المنهج» ينطوي على ضرب من المساءلة تفتح جانبا واحدا من الشيء ، فإن التأويل الجدلي يفتح نفسه لأسئلة الشيء ويتقبل أن يكون هو المسئول لا السائل ... بذلك يمكن للشيء الذي يلاقيه أن يكشف عن نفسه وعن وجوده الخاص، يقول جادامر: إن ما يجعل ذلك أمرا ممكنا هو «لغوية» الفهم الإنساني (الصبغة اللغوية للفهم) و«لغوية» الوجود نفسه في حقيقة الأمر.
2
لقد كان هذا التوجه الفكري موجودا عند هيدجر إلى حد كبير، أما الشيء الجديد الذي أضافه جادامر فهو التوكيد على الجانب النظري والجدلي (وربما الهيجلي) والتفتح الكامل لمتضمنات الأنطولوجيا الهيدجرية في مجال الاستطيقا وتأويل النصوص، لقد تلقى جادامر التصورات الهيدجرية الأساسية عن التفكير واللغة والتاريخ والخبرة الإنسانية كما سيلحظ القارئ في هذا الفصل، ومن الأهمية أن يلحظ ذلك؛ لأن الحجج التي يشتمل عليها كتاب «الحقيقة والمنهج» تعتمد بشدة على هذه التصورات، والحق أن هناك صعوبات جمة تواجه كل من يحاول فهم أفكار جادامر فهما صائبا، ذلك أن أفكاره متعالقة متواشجة بحيث لا يمكننا أن ندخل دائرته إلا تدريجيا، ومن ثم فسوف نحاول فيما يلي أن نبرز بعض الخطوط الرئيسية للطريقة التي طور فيها جادامر نظرية هيدجر في الفهم إلى نقد منطقي للاستطيقا الحديثة ومفاهيم تاريخية للتأويل. (1-1) نقد الوعي الاستطيقي
لكي تنظر إلى الورق الخالي
نظرة ميكل أنجلو إلى الحجر،
لكي تنتزع الشعر الكامن في بياض الصفحة،
يلزمك وعي ثمل، وليل جيد،
وحس شبحي لا تصده الأشياء
ولا ترده الدوائر،
يقرأ معنى تبقى من هذاء النهار،
ويذخر شيئا نجا من الغرق الكبير
ويجره، كما الفأرة، خلف سياج الزمن.
لا تلحف في السؤال عن قصد القصيدة.
لا تنخذل أمام حضورها المكتمل،
ورعشتها الحية،
وفراغاتها الحبلى،
وغموضها المبين،
المهم أن تعرفك القصيدة!
لا تنكرها وهي تشق عنها بياض الصفحة.
لا تبذلها للصم،
ولا تقتلها بكثرة الترديد،
وانظرها بما هي:
خيال يقبض على واقع،
وغرابة ليست غريبة على الروح.
قصد القصيدة
يذهب جادامر إلى أن مفهوم «الوعي الاستطيقي»
Aesthetic Consciousness
كشيء متميز ومنفصل عن مجالات الخبرة «غير الاستطيقية» هو مفهوم حديث نسبيا، وأنه في الحقيقة نتاج للاتجاه العام إلى «إضفاء الذاتية»
Subjectivizing
على الفكر منذ ديكارت، أي الميل إلى تأسيس كل المعرفة على اليقين الذاتي، وفقا لهذا التصور تعد الذات التي تتأمل موضوعا استطيقيا هي وعي خال يتلقى إدراكات حسية، وبطريقة ما يستمتع بالوقع المباشر للشكل الحسي الخالص، هكذا تنفصل «الخبرة الاستطيقية» وتنبت عن المجالات العملية الأخرى، ولا يمكن قياسها بمعيار «المضمون»
Content
لأنها استجابة ل «الشكل»
Form ، إنها شيء لا صلة له بفهم الذات المدركة لنفسها، ولا صلة له بالزمن، إنها لحظة غير زمانية ولا تشير إلى أي شيء غير ذاتها.
يترتب على هذا التصور نتائج كثيرة؛ أولها: أنه لم تعد هناك طريقة وافية لتعليل الفن غير المتعة الحسية، لم تعد هناك معايير فنية تتعلق بالمحتوى أو «المضمون» ما دام الفن ليس معرفة، لقد تم وضع تمييزات مغالطة بين الشكل والمضمون في الفن وعزيت اللذة الجمالية إلى الشكل، لم يعد للفن أي مكان واضح في العالم ما دام الفن والفنان لا ينتسبان للعالم بأي صورة محددة، لم يعد للفن أي وظيفة في المجتمع ولم يعد للفنان أي مكان فيه، ولم يعد هناك سبب مشروع لتلك «القداسة» الواضحة للفن، والتي نحسها عندما نستاء لأي تحطيم غشوم لأي عمل فني عظيم، ومن المتيقن أنه من الصعب على الفنان أن يزعم أنه ملهم وصاحب وحي إذا كان كل ما يبدعه هو تعبير شكلي عن مشاعر وكل ما يقدمه هو لذة جمالية.
غير أن هذا التصور للظاهرة الاستطيقية يناقض خبرتنا ذاتها بأي عمل فني عظيم، فخبرة الالتقاء بعمل فني تفتح لنا عالما وليست مجرد انشداه بلذة حسية إزاء ظاهر الأشكال، وبمجرد أن نكف عن النظر إلى العمل على أنه «موضوع» ونرى إليه على أنه «عالم»، عندما نرى «عالما» من خلاله، عندئذ سندرك أن الفن ليس إدراكا حسيا بل «معرفة»، عندما نلتقي الفن تتسع آفاق عالمنا الخاص وفهمنا لأنفسنا فنرى العالم في ضوء جديد، كما لو كنا نراه للمرة الأولى، حتى الأشياء المعتادة والشائعة في الحياة تبدو في نور جديد عندما يضيئها الفن، فالعمل الفني ليس منفصلا عن عالمنا الذي نعيش فيه ولا عن فهمنا لأنفسنا، ونحن في لقائنا بالعمل الفني لا نوغل في عالم غريب ولا نخطو خارج الزمن والتاريخ ولا ننفصل عن أنفسنا أو عن الأشياء غير الاستطيقية، إننا بالأحرى نصبح حاضرين حضورا أكثر امتلاء، ونحن حين نضم إلينا ذاتية الآخر ووحدته، بوصفه عالما، فإننا في الوقت نفسه نحقق فهمنا لأنفسنا ذاتها. عندما نفهم عملا فنيا عظيما فإن خبرتنا بالعمل تتفاعل مع كياننا كله، ويوضع فهمنا لأنفسنا على المحك، وما يحدث إذاك هو أننا لسنا من يستجوب العمل وإنما العمل هو من يستجوبنا ويلقي علينا سؤاله، أي يشغلنا بالمسألة التي شغلته والتي أتت به إلى الوجود.
ولكن رب قائل يقول إننا عندما نشاهد عملا فنيا فإن العالم المألوف الذي نعيش فيه حياتنا يختفي ويتبدد، بينما ينبلج عالم العمل الفني ويبقى لفترة وجيزة عالما مغلقا على حاله مكتفيا بذاته، وما هو بنسخة محاكية للواقع وما ينبغي أن يقاس بمقاييس الواقع، فكيف يمكننا أن نوفق بين هذا القول وبين ما ذهبنا إليه من أن العمل الفني يقدم لنا عالما متصلا تمام الاتصال بعالمنا الحياتي الذي نعيش فيه؟
إن تبرير ذلك لا بد أن يكون أنطولوجيا: فعندما نشاهد عملا فنيا عظيما ونلج إلى عالمه فنحن لا نغادر بيتنا، إن صح التعبير، بل «نعود إلى البيت»! إننا نقول على الفور، حقا إن الأمر كذلك، لقد قال الفنان الحق، لقد قبض على الواقع في صورة، في «شكل»، إنه لم يستحضر عالما مسحورا لا وجود له بل هذا العالم نفسه، عالم الخبرة والفهم الذاتي الذي نعيش فيه ونسعى ونمارس وجودنا، والتحويل إلى «شكل» هو في الحقيقة تحويل إلى حقيقة الوجود، ومن ثم فمشروعية الفن لا تأتي من أنه يقدم لذة جمالية بل من أنه يكشف النقاب عن الوجود، وفهم الفن لا يأتي من خلال تقطيعه وتقسيمه منهجيا بوصفه موضوعا، ولا من خلال فصل الشكل عن المضمون، وإنما يأتي من خلال الانفتاح على الوجود، ومن خلال الإصغاء إلى السؤال الذي يلقيه علينا العمل الفني.
العمل الفني إذن يقدم لنا عالما حقا، وينبغي علينا ألا نختزل هذا العالم إلى معايير عالمنا أو إلى معايير المناهج، غير أننا لا نفهم هذا العالم الجديد إلا لأننا نشارك سلفا في بنى الفهم الذاتي التي تجعله حقيقة بالنسبة لنا، وهذا هو السبب الحقيقي الذي يجعل الشيء الذي يتم فهمه هو الشيء نفسه الذي كان مقصودا، أما الوسيط الذي يؤدي هذا الفهم الذاتي فهو الشكل، فالفنان يمتلك القدرة على أن يحول خبرته بالوجود إلى صورة أو شكل، وحين تتحول خبرة الوجود إلى شكل فإنها تتخذ قواما وتصبح ماثلة باقية دائمة، ويصبح الالتقاء بها متاحا للأجيال التالية، أي تصير قابلة للإعادة والتكرار، لقد أصبح لها صفة «العمل» وطبيعته وليس مجرد طاقة الوجود، أي إنها أصبحت «حقيقة مقيمة باقية»
Das Bleibende Wahre .
3
والتغير الذي يعتري المواد الخام حين تتحول إلى صورة ليس مجرد تبدل بسيط بل هو تحول حقيقي: فالشيء الذي كان قبلا لم يعد كائنا، أما الشيء الكائن الآن، أي الشيء الذي يمثل في لعبة الفن فهو «الحقيقة»
Truth ... الحقيقة التي بمكنتها الآن أن تدوم، والاتحاد الذي يتم بين الحقيقة المتمثلة وبين الشكل هو اتحاد تام والتئام كامل، بحيث إن هناك شيئا ما جديدا قد أتى إلى الوجود، وبحيث إن الشكل الآن لم يعد نسخا بسيطا لأي شيء، هذا الاستقلال الظاهر ليس استقلال «الوعي الاستطيقي» المتجرد والمنعزل بل هو اتحاد المعرفة بالوسيط الحسي اتحادا تاما ... هو «توسط»
Mediation
المعرفة بالمعنى الأعمق للكلمة، وإن خبرة مشاهدة العمل الفني تجعل هذه المعرفة معرفة مشتركة.
ولمفهوم «التوسط التام» عند جادامر جانب آخر، فهو يؤكد عدم تمايز العنصر الاستطيقي عن غيره من العناصر داخل لعبة العمل الفني، إننا حين نستمع إلى «خطبة وعظية جيدة» على سبيل المثال فنحن لا نفصل الشكل فيه عن المضمون، ونحن نحس غريزيا أن التمايز الاستطيقي لا مكان له في المواعظ، ونحس بالغريزة أنه لا معنى لأن نصف شعيرة أو طقسا بأنه «جميل»، وبنفس المقياس فإن التمايز بين الاستطيقي وغير الاستطيقي لا مكان له في فهم خبرتنا بالعمل الفني، فالجانب الاستطيقي أو الشكلي في التقائنا بعمل فني هو جزء لا يتجزأ مما يقوله العمل، أي إنه ملتئم تماما ب «الشيء المقصود» بحيث يصبح التمايز الاستطيقي مصطنعا وباطلا، وقد دأب جادامر على رفض القسمة الثنائية للشكل والمضمون بوصفها نتاجا للفكر الانعكاسي وملحقا بثنائية «الذات/الموضوع» التي يرفضها هي أيضا أسوة بأستاذه هيدجر، وهكذا في مقابل مبدأ «التمايز الاستطيقي»
Aesthetic Differentiation
يقدم مبدأ مضادا هو «عدم التمايز الاستطيقي»
Aesthetic non-Differentiation .
الأمر المحوري في خبرتنا الجمالية بعمل فني ليس هو المضمون ولا هو الشكل، بل هو «الشيء المقصود» المتوسط تماما في هيئة صورة أو شكل، في عالم له منطقه ودينامياته الخاصة، هكذا ينبغي على المرء في حالة التلقي الاستطيقي للشعر ألا يعمد إلى فصل الشعر عن مادته الخام، وفي حالة التلقي المسرحي ألا يعمد إلى فصل الشيء المقصود عن الأداء نفسه؛ لأن وحدة الحقيقة التي ندركها في لعبة الفن لا تقبل القسمة أو التمايز، ولا يمكن أن نفصل بين عناصرها التامة الاتحاد إلا فصلا مفتعلا احتياليا. يريد جادامر في حقيقة الأمر أن يقوض كل استطيقا تنطلق من المقدمة المغلوطة التي تحيل العمل الفني بوصفه «موضوعا» إلى «الذات» في علاقة «الذات/الموضوع»، ويذهب إلى أنه لا بد لنا من أن نظفر أولا بأفق التساؤل الذي يتجاوز النموذج القديم لثنائية «الذات/الموضوع» حتى يتسنى لنا أن نجد سبيلا لفهم وظيفة الفن وغرضه، وفهم ما يقوله العمل الفني وكيف يقوله، وفهم زمانية العمل الفني ومكانيته. (أ) اللعب وطريقة وجود العمل الفني
لظاهرة اللعب عدد من العناصر الهامة التي يمكن أن تلقي الضوء على العمل الفني وأسلوبه في الوجود، غير أن جادامر هنا لا يريد بحال أن يبعث نظريات «اللعب» التي تفسر الفن بأنه تصريف لفائض الطاقة وجلب للذة الاستطيقية ، تقوم هذه النظريات على أن اللعب هو نشاط للذات الإنسانية، وأن الفن هو نوع من اللعب الذي يجلب متعة للذات الإنسانية التي تترك العالم لتستمتع بلحظة استطيقية تسمو على وجودها الأرضي الدنيوي وتنفصل عنه، وتنظر هذه النظريات إلى الفنان على أنه طفل كبير مرهف الحس يستمد متعة استطيقية من اللعب بالأشكال وقولبة المواد الخام والتلاعب بها وتحويلها إلى أشكال ذات نسب منسجمة وهيئة متسقة تبعث السرور واللذة.
لا جرم يرفض «جادامر» هذه النظريات ويرى فيها الخطأ نفسه الذي يسم الفكر الحديث كله: خطأ إحالة كل شيء إلى الذات الإنسانية، وهو إذ يهيب بظاهرة اللعب فإنه لا يعني به نشاط ذات إنسانية تبتكر وتستمتع، ولا يعني به «حرية» الذات الإنسانية التي يمكنها أن تنخرط في اللعب، إنما يشير «اللعب» في نظرية جادامر إلى طريقة وجود العمل الفني نفسه، وهو حين يستعين بمفهوم اللعب في معرض تفسيره الفن إنما يهدف إلى أن يخلص الفن من الميل التقليدي إلى ربط الفن بنشاط الذات.
إن اللعب هو اللعب وما هو بالجد، إلا أن للعب نوعا قدسيا من الجدية! وحقيقة الأمر أن الشخص الذي لا يأخذ اللعب مأخذ الجد فهو يفسد المباراة، فاللعبة لها دينامياتها وأهدافها الخاصة بمعزل عن وعي أولئك الذين يلعبونها، المباراة ليست «موضوعا» في مقابل «ذات»، إنما هي حركة من الوجود محددة ذاتيا ندخل فيها وننخرط في مناخها، إن اللعبة (وليس اشتراكنا فيها) تصبح هي «الذات» الحقيقية، صحيح أن اشتراكنا هو الذي يأتي بالمباراة ويجعل منها عرضا ومثولا، غير أن ما يمثل الآن ليس ذواتنا الداخلية بل المباراة: المباراة الآن قائمة، إنها تحدث فينا ومن خلالنا.
من وجهة نظر المذهب الذاتي، فإن اللعب نشاط تقوم به ذات من الذوات، نشاط حر يشاء المرء أن يزاوله ويستخدمه لمتعته الخاصة، غير أنه عندما نسأل ماذا يكون اللعب نفسه وكيف يحدث، عندما نجعل منطلقنا هو اللعب وليس الذاتية البشرية، عندئذ يبدو للأمر وجه آخر، صحيح أن اللعب هو مجرد لعب، غير أن المباراة إذ تنعقد فهي تمتلك الزمام، إنها تنفث فينا سحرها وتجذبنا إليها وتصبح لها السيادة على اللاعب، إن للمباراة روحها الخاصة، وللاعب أن يختار اللعبة التي سوف يهب نفسه لها، ولكنه ما إن يختر حتى يدخل عالما مغلقا، هو العالم الذي تجري فيه المباراة في اللاعبين ومن خلال اللاعبين، للمباراة، بمعنى ما، زخمها الخاص، إنها تدفع نفسها قدما، إنها «تريد» أن تتم حتى النهاية!
في لعبة البردج أو في لعبة تنس أو في حالة لعب الأطفال مع بعضهم البعض، لا تعرض هذه الألعاب في العادة على متفرج، بل يلعبها اللاعبون بأنفسهم ولأنفسهم، والحق أن الرياضة حين تصبح شيئا للعرض على متفرجين بالدرجة الأساس قد تشوه وتحرف وتفقد طابعها كلعبة، ولكن ما هو الحال بالنسبة لعمل من أعمال الفن؟ ترى أين ستكون مسرحية ما إذا لم يسقط «الحائط الرابع» وينفتح للجمهور؟ عندما نلتقي بعمل فني ترانا نكون مشاركين أم ملاحظين؟ يرى جادامر أننا نظل جمهور المسرحية لا لاعبيها، إلا أن ثمة فرقا يندس هنا: فالمسرحية ليست لعبة ولكنها «تمثل/تلعب»
من أجل جمهور، وبتعبير آخر نقول إن المسرحية «تعرض» غير أننا نظل نسميها
A
، فالكلمة الإنجليزية تظل تعني «مسرحية» و«لعبة» في الوقت نفسه، مما يوحي بقرابة وثيقة بين المسرحية واللعبة، فكلاهما مكتف بذاته وكلاهما له قواعده الخاصة، وله دافع إلى التمام، وكلاهما يطوي اللاعبين تحت جناحه ويجعلهم في خدمة روح أكبر من روح أي لاعب واحد.
غير أن الفروق بين المسرحية واللعبة هي على نفس الدرجة من الأهمية، ذلك أن المسرحية لا تحقق معناها إلا بوصفها عرضا، فالمعنى الحقيقي للمسرحية هو مسألة توسط
Mediation
وهي لا توجد بالأساس من أجل اللاعبين بل من أجل المتفرجين، والمسرحية، شأنها شأن اللعبة، هي محكمة الإغلاق مكتفية بذاتها، إلا أنها، بوصفها مسرحية، تقدم نفسها كحدث إلى المتفرج، يقول جادامر: «لقد رأينا أن اللعبة لها وجودها لا في وعي اللاعبين أو في أفعالهم، بل هي على العكس تجذبهم إلى عالمها وتعبئهم بروحها، فاللاعب يحس بأن اللعبة بالنسبة إليه هي واقع غالب مسيطر، بل إن ذلك لينطبق أكثر حين يكون هذا الواقع واقعا «مقصودا»، وهو ما يحدث عندما يظهر اللعب بوصفه «عرضا يقدم للمشاهد».
الغرض من اللعب إذن ليس أن يمنح اللاعبين خبرة اللعب أو أن يأسرهم في «روح اللعبة»، بل الغرض من اللعب هو نقل «الواقع المسيطر» للشيء «المقصود» فيها، ذلك الواقع الذي تم نقله إلى شكل، ما هي طبيعة الحركة الداخلية لهذا الشكل؟ إنه أشبه بصنف معين من اللعبات التي تأسرنا كمتفرجين، وتنقل إلينا الحدث القاهر للعبة، ذلك الشيء الذي تعنيه اللعبة (بنية اللعبة وروحها)، ترى ما هو هذا «الشيء المعني أو المقصود» في حالة العمل الفني؟ إنه «حالة الأشياء وطريقة وجودها»، أي «حقيقة الوجود»
Die SacheSselbst ، فالعمل الفني ليس مجرد موضوع للمتعة، إنه عرض، تم نقله إلى صورة، لحقيقة الوجود بوصفه حدثا، لم يحدث قط أن فهم أحد قصيدة في حقيقتها الجوهرية من خلال معيار الوعي الاستطيقي، وإنما وجه الأمر أن القصيدة، شأنها شأن كل النصوص الأدبية، تخاطبنا بمعناها ومحتواها، إننا لا نبدأ أبدا بالسؤال عن الشكل في القصيدة، ولا الشكل هو ما يجعل القصيدة قصيدة، إننا نسأل: ماذا تقول القصيدة؟ ونخبر المعنى في الشكل ومن خلال الشكل، أو، بتعبير آخر، في حدث لعبة الالتقاء بالشكل، فالشكل حين نقابله هو حدث، ونحن أسرى القصيدة: تأسرنا روح القصيدة وتغلبنا على أمرنا.
في رؤية أوجه التماثل بين العمل الفني واللعب، بل في اتخاذ بنية اللعب كنموذج إرشادي لأي بنية تتمتع باستقلال ذاتي وتنفتح مع ذلك للمشاهد، حقق جادامر العديد من الأهداف الهامة، لقد نظر إلى العمل الفني على أنه شيء دينامي لا شيء سكوني، وتجاوز النظرة الاستطيقية المتمركزة على الذاتية، وكشف قصور مخطط «الذات/الموضوع» حين أشار إلى البنية القائمة في عملية فهم اللعبة، والقائمة - بالمماثلة والامتداد - إلى عملية فهم العمل الفني.
4
من نقاط قوة الحجة التي يقدمها جادامر هنا أنه يتخذ من خبرة الفن نقطة انطلاقه ودليله الذي يؤسس عليه دعاواه، فهو يكشف لنا أن ما يسمى «الوعي الاستطيقي» هو شيء غير مستمد من طبيعة الخبرة الفنية، وإنما هو بناء انعكاسي تأملي قائم على الميتافيزيقا الذاتية، إن خبرة الفن بالتحديد هي التي تثبت لنا أن العمل الفني ليس مجرد موضوع قائم قبالة ذات مكتفية بذاتها، فالوجود الحق للعمل الفني يقوم على حقيقة أن هذا العمل حين يصبح خبرة فإنه يغير صاحب هذه الخبرة ويحوله: العمل الفني ليس عاطلا أو متبطلا، العمل الفني يعمل! و«الذات»
subject
الخاصة بخبرة الفن، أي الشيء الذي يثبت ويبقى خلال الزمن، ليست ذاتية الشخص الذي يخبر العمل، بل هي العمل نفسه! ها هنا بالتحديد تتجلى أهمية القياس باللعب وطريقة وجود اللعب، فاللعبة أيضا لها طبيعتها الخاصة المستقلة عن وعي أولئك الذين يلعبونها، لقد عثر جادامر بذلك على نموذج لا يبرهن فقط على إفلاس الاستطيقا الذاتية بل يقدم أيضا الدليل الذي يدعم الطابع الديالكتيكي والأنطولوجي لتأويليته الخاصة.
ولكن أليس هذا التصور عن استقلالية العمل الفني والالتفات إلى ديناميات وجود العمل نفسه شبيها في روحه ب «النقد الجديد»
New Criticism ؟ ألا يجوز أن يكون جادامر قد وصل من خلال تحليل معقد إلى نفس الموقف الذي ارتآه النقد الجديد على الدوام بوصفه واقعية أرسطية؟ إن هناك أوجه التقاء لا يسع الناقد الجديد معها أن يختلف مع هذا التصور الشبيه الذي قدمه جادامر، غير أن الأهم من ذلك أن الأنالوجي الذي طرحه جادامر (قياس العمل الفني باللعب) يقدم تبريرا قويا لاستقلالية العمل الفني دون الفصل الذي يستلزمه الأخذ بخرافة التمايز الاستطيقي. إن دفاع النقاد الجدد عن استقلالية العمل الأدبي لم يجر وراءه حتى الآن إلا إضعاف الصلة بين الأدب والحياة، ودفاعهم الرائع عن الشعر لم يذكرنا إلا بأن الشعر والشاعر لم يعد لهما مكان في المجتمع وأن المدافعين اللوذعيين كانوا ملائكة متبطلين يرفرفون بأجنحتهم المضيئة في فراغ (باستعارة تعبير ماثيو أرنولد مشيرا إلى شيلي)، ولكن يبقى أن التأويل «الموضوعي» الأصيل للعمل الأدبي عند جادامر، والذي يحرر التأويل من خرافات الاستطيقا الذاتية (وبخاصة قسمة الذات/الموضوع وقسمة الشكل/المضمون) ما زال يحفظ العمل الأدبي بمعزل عن آراء مؤلفه وعن فعله الإبداعي وعن الميل إلى اتخاذ ذاتية القارئ كنقطة انطلاق، بل إن النقاد الجدد يتحدثون أحيانا عن «الاستسلام» لوجود العمل الأدبي، وهم في ذلك على وفاق حقيقي مع جادامر.
على أن النقاد الجدد ظلوا متورطين في أوهام الاستطيقا الذاتية دون أن يعوا بذلك، وقد كان تصور جادامر كفيلا أن يكشف لهم بوضوح أكبر طبيعة الاتصال والاستمرار بين الفهم الذاتي المستمد من الأدب والفهم الذاتي الذي توجد فيه ومن خلاله، وكان تصور جادامر جديرا بوجه خاص أن يبصرهم بتاريخية الأدب، لقد طالما اتخذ أتباع النقد الجديد من الشكل نقطة انطلاق لتحليلاتهم، مما أوقعهم على الفور في جميع الأخطاء التي يجرها التمايز الاستطيقي.
في الوقت نفسه ما يزال الكثيرون من مفسري الأدب اليوم يجفلون من فكرة أن الأدب ذو صبغة تاريخية، صحيح أن العمل الفني ليس مجرد «أثاث في كتاب التاريخ» غير أنه من الخطر بنفس الدرجة أن نغفل حقيقة أن الفهم الذاتي لروح عظماء الماضي إنما يتمثل وينتقل إلينا تاريخيا من خلال الأعمال الفنية، ومن شأن مذهب التمييز بين الجوانب الشكلية للأدب، بوصفها الجانب الاستطيقي، والجوانب غير الشكلية أن تجعل المفسر يحس أنه يحيد عن التناول الفني للعمل كلما شرع في تأمل ما «يقوله» العمل، أما تناول معنى العمل بالنسبة ليومنا الحاضر فلا مكان له فيما يبدو في فلسفتهم عن العمل الأدبي. والحق أن التوتر القائم بين الماضي والحاضر كثيرا ما يتم كبته في التحليلات الشكلية للشعر والتي تتسم باللازمانية واللاتاريخية، وهنا أيضا نجد النقد الأدبي الحديث مفتقرا بشدة إلى فهم الطبيعة التاريخية والزمانية للعمل الفني الأدبي، وسوف يتبين ذلك بوضوح أكبر بعد عرضنا التالي لنقد جادامر للتصورات المعتادة عن التاريخ والتاريخية. (1-2) نقد الفهم الشائع للتاريخ
الأيام
لا تقلع من دم إنسان،
بل تضرب فيه جذورا لا تفقد غير اللمعان،
وتضم أقانيم الحاضر والمستقبل
وتعيش الآن.
يصرح جادامر أنه يتخذ من تحليل هيدجر للبنية المسبقة للفهم وللتاريخية الصميمة للوجود الإنساني مرتكزا وأساسا ونقطة انطلاق لتحليله الخاص ل «الوعي التاريخي»، ومفاد «البنية المسبقة»
للفهم عند هيدجر أننا حين نضطلع بفهم نص ما أو مادة أو موقف فنحن لا نفهمه بوعي خال لحظيا نملؤه بالموقف الجاري، بل نفهمه لأننا نضمر توجها مبدئيا يتعلق بالموقف ونهيب به، ونكن في أنفسنا طريقة معينة في الرؤية محددة سلفا وبعض «التصورات المسبقة»
. وقد أسهبنا في الفصل الخاص بهيدجر في بيان ذلك، وإنما يعنينا هنا أن نتعقب ما يترتب على هذا التصور بالنسبة للوعي التاريخي، وبإمكاننا أن نوجز ذلك منذ البداية فنقول: ليس هناك فهم خالص أو رؤية للتاريخ بدون الإشارة، أو الإحالة، إلى الحاضر، بل إن فهم التاريخ ورؤيته لا يتمان أبدا إلا من خلال وعي يقف في الحاضر.
ورغم ذلك فإن مفهوم التاريخية، حتى وهو يؤكد هذه الحقيقة، يؤكد في الوقت نفسه على أن الماضي يظل يؤثر على الحاضر ويفعل فيه فعله؛ فالحاضر أيضا لا تمكن رؤيته ولا فهمه إلا من خلال مقاصد وطرائق رؤية وتصورات مسبقة منحدرة من الماضي، إن الماضي عند جادامر ليس كومة من الوقائع يمكن تحويلها إلى موضوع للوعي، وإنما الماضي تيار نتحرك فيه ونشارك لدى كل فعل من أفعال الفهم. التراث إذن ليس شيئا يقف قبالتنا بل هو شيء نقف فيه ونوجد خلاله، وهو، في معظمه، وسط بلغ من الشفافية حدا يجعله غير مرئي لنا، تماما مثلما أن الماء غير مرئي للسمك.
ورد هذا التشبيه في رسالة هيدجر «في النزعة الإنسانية»، وإن يكن ذلك بصدد «الوجود» لا «التراث»، فالوجود هو «العنصر» الذي نعيش فيه، غير أنه لا فرق هناك ولا تناقض في حقيقة الأمر؛ لأن اللغة هي منزل الوجود ونحن نعيش في اللغة وخلال اللغة، ولأن هيدجر وجادامر كليهما يتفقان، فضلا عن ذلك، على أن اللغة هي مستودع التراث ووسطه الحامل، التراث يختبئ في اللغة، واللغة «وسط» شأنها شأن الماء، يتفق كل من هيدجر وجادامر على أن اللغة والتاريخ والوجود ليست عناصر مترابطة فحسب بل ملتحمة ومنصهرة وملتئمة معا، بحيث إن «لغوية» الوجود هي في الوقت نفسه «أنطولوجيته»، أي انوجاده وتأتيه والوسط الذي يحمل تاريخيته.
كان نقد «الوعي التاريخي» عند كل من جادامر وهيدجر موجها بالدرجة الأولى إلى «المدرسة التاريخية» في ألمانيا، تلك المدرسة التي كان يمثلها في القرن التاسع عشر درويسن وفون رانكه، والتي تمثل امتدادا للهرمنيوطيقا الرومانسية (التي يمثلها شلايرماخر ودلتاي بوجه خاص)، على ألا نفهم من ذلك أنها تضفي على التاريخ صبغة رومانسية على طريقة سير ولتر سكوت، إنها على العكس تمثل أشد المحاولات صرامة لبلوغ تاريخ «موضوعي» لا يدع فيه عالم التاريخ مشاعره الشخصية تتسرب إلى التاريخ بل يدخل بكليته في العالم التاريخي الذي يود أن يصفه.
لقد أنفق دلتاي عمره في محاولة تأسيس منهج لفهم التاريخ مختلف عن منهج العلوم الطبيعية، وأنفق الشطر الأخير من حياته في محاولة تأسيس الدراسات الإنسانية على مجموعة من الأفكار والإجراءات التاريخية والتأويلية غير المصطبغة بالصبغة الطبيعية، كانت «الخبرة» و«الحياة ذاتها» موضوعاته الرئيسية المتكررة، وكان يرى أن الخبرة إذا نظر إليها على أنها وحدة معنى تصبح معرفة، وبذلك تكون «الحياة ذاتها» منطوية على تأمل انعكاسي باطن فيها (محايث)، كانت العلاقة بين الحياة وعملية المعرفة نقطة أساسية عند دلتاي، كما لاحظ جادامر بحق، وكان فهم التاريخ يكمن عنده لا في انفصال المرء عن خبرته الخاصة بل في إدراك أنه هو نفسه كائن تاريخي، ويكمن في النهاية في مشاركة المرء مع الآخرين في «الحياة»، يقول دلتاي إن هذا الفهم المعطى سلفا للحياة هو ما يمكن المرء من فهم «تعبيرات الحياة» في الفن العظيم والأدب الرفيع، وعندما يواجه المرء هذه التعبيرات ويفهمها فإنه يظفر أيضا بفهم نفسه؛ فالوعي التاريخي عند دلتاي هو طريقة للتعرف على الذات.
إلا أن تعبيرات الحياة بالنسبة لدلتاي هي حقا «موضعة»
Objectification
للحياة بوسعنا أن نظفر بمعرفة «موضوعية» عنها، وبقدر ما انتقد دلتاي مناهج العلوم الطبيعية فقد بقي أمينا لهدفه المثالي في تحقيق معرفة موضوعية في الدراسات التاريخية، وذهب إلى أن الدراسات التاريخية يمكن أن تسمى «علوما» وإن تكن «علوما إنسانية» (روحية)
Geisteswissenschaften ، هنا بالتحديد يرى جادامر أن دلتاي متورط في مثال «الموضوعية» الذي نادت به المدرسة التاريخية، وهي المدرسة التي وجه إليها دلتاي الكثير من النقد؛ فالمعرفة الموضوعية، أي المعرفة «الصحيحة» موضوعيا أو ذات الصواب الموضوعي، تشير إلى وجهة رؤية أو نقطة استشراف تعلو على التاريخ يمكن منها أن ننظر إلى التاريخ نفسه، غير أن هذه النقطة غير متوافرة للإنسان، فالإنسان، ذلك الكائن المتناهي التاريخي، ينظر دائما ويفهم من موضعه الخاص في الزمان والمكان، ليس بمقدور الإنسان، في رأي جادامر، أن يقف فوق نسبية التاريخ ويظفر بمعرفة «ذات صواب موضوعي». إن دلتاي يستعير، على غير دراية منه، مفهوم المنهج الاستقرائي من العلوم، ولكن الخبرة التاريخية، كما لاحظ جادامر، ليست إجراء ولا تتحلى ب «حيادية» المنهج و«لا شخصيته»، وإن لها لصنفا مختلفا تماما من الموضوعية، وإن اكتسابها ليتم بطريقة مختلفة تمام الاختلاف، ولعل دلتاي أن يكون مثالا ممتازا لباحث عن التاريخية قدير ومخلص يمنعه التكالب العلمي على «المنهج»، وعلى الفكر ذي التوجه المنهجي، من أن يجد هذه التاريخية،
5 (ولعلنا نرى فيه نموذجا بدئيا لفقداننا الحالي للتاريخية الأصيلة من جراء ميلنا لاستخدام المناهج الاستقرائية للحصول على معرفة موضوعية في الأدب).
وحتى قبل هيدجر وجادامر فإن نقد هسرل الفينومينولوجي للنزعة الموضوعية على أساس قصدية الوعي، كان قد أعلن نهاية النزعة الموضوعية البائدة، وأصبح واضحا بشكل متزايد منذ ذلك الحين أن جميع الموجودات المعطاة في عالم المرء تقف داخل الأفق القصدي لوعيه، داخل «عالمه الحياتي»، ففي مقابل المعرفة «الصائبة موضوعيا» والعالم اللاشخصي الذي يراه رجل العلم، دفع هسرل بفكرة الأفق القصدي الذي فيه يعيش المرء ويتحرك، والأفق القصدي ليس أفقا غفلا (من الاسم)
Anonymous
بل هو أفق شخصي ومشترك مع الموجودات الأخرى ذات الخبرة، وهو يسمي هذا «عالم الحياة»
Lifeworld ، في إطار هذا التصور العام عن «عالم الحياة» استهل هيدجر نقده للوعي التاريخي.
6
غير أن «العالم الحياتي» للإنسان عند هيدجر ليس مجرد طريقة أكثر اكتمالا لوصف عمليات الذاتية الترانسندنتالية القائمة في الوعي وما وراءه، لقد فسر هيدجر قصدية الوعي تفسيرا تاريخيا، وجعل منها أساسا لنقده للوعي التاريخي، كما قام هيدجر في الوقت نفسه بنقد الميتافيزيقا ومفهومها للذاتية، ذلك المفهوم الذي يؤسس الموضوعية كلها على اليقين الذاتي للذات الإنسانية العارفة (أي إن الموضوعية هنا لا تعدو أن تكون ذاتية مقنعة)، في «الوجود والزمان»، وبينما يستخدم هيدجر منهج هسرل الفينومينولوجي، فقد كان يبذل وسعه للابتعاد عن الذاتية الترانسندنتالية؛ لكي يصل إلى نوع من الموضوعية تقوم خارج قسمة «الذات/الموضوع»، موضوعية تتخذ من «وقائعية»
Facticity
الوجود الإنساني نقطتها المرجعية النهائية، هكذا نجد عند هيدجر نوعا جديدا من الموضوعية مخالفا لموضوعية العلوم الطبيعية وموضوعية دلتاي وموضوعية المدرسة التاريخية وموضوعية الميتافيزيقا الحديثة وموضوعية التفكير التقني الحديث بكل ما يتسم به من براجماتية، الموضوعية الجديدة التي أتى بها هيدجر هي ترك الموجود يفصح لنا عن نفسه كما هو.
وبوسع المرء أن يلمس بوضوح أوجه القصور الشديد للنزعة الموضوعية عندما يكف عن اتخاذ «العالم الموضوعي» (الذي يقدمه لنا تصورها للعالم) بوصفه «العالم» ويستخدم العالم الحياتي كنقطة انطلاق، عندئذ سيرى للتو أن لا شيء من عالم الحياة، باستثناء شطر يسير، يمكن أن يصبح شيئا مقابلا للإنسان بوصفه موضوعا، فالحق أنه بوصفه عالما يمثل الأفق الذي يتعرف فيه المرء على بقية الأشياء كموضوعات بينما يبقى هو عالما. إن العالم الحياتي للمرء يند عن أي محاولة لفهمه من خلال أي «منهج»، وإنما يعثر المرء على طبيعة هذا العالم، أو قل يتعثر بها، بطريق المصادفة في عامة الأحوال، وبخاصة خلال نوع من السلبية أو التعطل (انظر ما قيل في ذلك في الفصل الخاص بهيدجر)، وما كان لطريق الموضوعية والمناهج أن يكشف للمرء عن عالمه الحياتي، ولكن في عالم الحياة هذا ومن خلاله يصنع المرء أحكامه ويصل إلى قراراته، وحتى «العالم الموضوعي» هو بناء داخل عالم حياتي معطى خبرويا، كيف إذن يتسنى للمرء أن يصل إلى العالم الحياتي؟ كيف يمكن للمرء أن يقنع العالم الحياتي بأن يسفر عن وجهه؟! يقترح هيدجر منهجه الفينومينولوجي كطريقة لذلك، وهو يسمي هذا المنهج أيضا «هرمنيوطيقا الوقائعية
Hermeneutics of Facticity »، يقوم هذا المنهج لا على الطريقة التي ينتسب بها العالم للذات الإنسانية، بل على الطريقة التي تنتسب بها الذات الإنسانية للعالم، يحدث هذا الانتساب من خلال عملية «الفهم»، ليست عملية الفهم مجرد عملية يقوم بها المرء بين غيرها من العمليات، إنها عملية أساسية، عملية فيها ومن خلالها يوجد المرء بوصفه موجودا إنسانيا (أو بتعبيرنا الأثير: الفهم ليس شيئا يقوم به الإنسان، بل هو شيء يكونه).
هذا تفسير أنطولوجي للفهم، تفسير يصف عملية الوجود، وقد اتخذ هيدجر منه هذا التصور نقطة بدايته في تحليله للوجود يبدأ من وقائعية الوجود الإنساني، هذا التحليل يصور الوجود على أنه «مشروع إلقاء»
Thrown Project
متوجه بالماضي من حيث هو «ملقى»
Thrown
في الزمان وفي العالم بطريقة محددة، ومتوجه للمستقبل من حيث هو «ممكنات»
لم تتحقق بعد وكدح لتحقيق هذه الممكنات. ثمة دلالة كبيرة يمكن أن تستخلص من ذلك: فما دام هذا الوصف للفهم في الموجود الإنساني المتعين (الدازاين) هو وصف عالمي، فلا بد أنه ينطبق على عملية الفهم في جميع العلوم، أي إن الفهم من حيث هو فهم يعمل دائما في الصور الثلاثة للزمانية معا في آن: الماضي والحاضر والمستقبل، يعني ذلك، بالنسبة لفهمنا للتاريخ، أن الماضي لا يمكن مطلقا أن يعتبر موضوعا في الماضي منفصلا تماما عنا في الحاضر والمستقبل، هكذا يتبين أن الغاية المثالية للتاريخيين في رؤية الماضي في حدود ذاته فحسب هي حلم يجري ضد طبيعة الفهم نفسه، ذلك الفهم الذي لا تنفصم علاقته بالحاضر والمستقبل، يطلق على هذه الصبغة الزمانية الصميمة للفهم نفسه - أي رؤية العالم دائما في حدود الماضي والحاضر والمستقبل - يطلق عليها «تاريخية الفهم»
The Historicity of Understanding .
7 (أ) بعض النتائج التأويلية المترتبة على تاريخية الفهم
مسألة الحكم المسبق
تعد فكرة التحرر من التحيزات
التي ينطوي عليها الرأي السائد في الزمن الراهن وتنقية الفهم والتأويل من هذه التحيزات فكرة جد شائعة بيننا جميعا. لقد درجنا على القول بأن من السخف أن نحكم على إنجازات عصر مضى بمقاييس اليوم، وبأن من المحال إذن تحقيق ما نصبو إليه من معرفة تاريخية إلا بالتخلص من سيطرة الأفكار والقيم الشخصية على الذات والانفتاح الذهني الكامل على عالم الأفكار والقيم الخاصة بذلك العصر الماضي، كان استكشاف دلتاي ل «رؤية العالم»
Wel-Tanschauung (World View)
الخاصة بكل عصر مستندا إلى ضرب من النسبية التاريخية التي تقول بأن الانفتاح العقلي يقضي بأن لا يحكم المرء على عصر تاريخي معين بأحكام عصر آخر، هناك بنفس المقياس أساتذة أدب يهيبون بنا أن تكون مفتوحي العقل حين نتناول الأفكار اللاهوتية المتضمنة في «الفردوس المفقود» لملتون؛ إذ ليس يحق لنا أن نحكم على عمل أدبي بمعايير اليوم، فنحن إنما نقرأ «الفردوس المفقود» بوصفه «عملا فنيا» من أجل عظمة أسلوبه وجلال فكره وقوة خياله، وليس لأنه صادق أو حقيقي، مثل هذا الرأي يفصل الجمال عن الحق، وينتهي بنا إلى أن نرى ملحمة «الفردوس المفقود» على أنها «نصب نبيل لأفكار ميتة».
ومن المثير للسخرية أن هذه النظرة المغلوطة إلى النص الأدبي تتنكر على أنها أقصى ما وصل إليه التفتح العقلي، رغم أنها تسلم بالحاضر تسليما وتفترض مسبقا أنه صحيح ولا ينبغي أن يوضع موضع الاختبار، أي إن الحاضر «مطلق» وإن توجب أن يعلق وينحى جانبا؛ لأن الماضي لا يمكن أن ينافسه، ونحن إن أنعمنا النظر في هذا التفتح العقلي المزعوم وهذا التعليق للتحيزات نجد أن وراءه ضربا من الانغلاق وعدم الاستعداد للمخاطرة بأحكامنا المسبقة ووضعها على المحك، إنه يضع الماضي في مقابلنا كشيء لا صلة له بنا تقريبا، أو كشيء لا يهم إلا أهل الدراسات القديمة، ومن الأمور المؤسفة أن أساتذة الأدب بعامة أصبحوا يصنفون إما إلى شكلانيين (أو جماليين متطرفين) وإما إلى سلفيين مهتمين بالدراسات القديمة، ينعى الفريق الثاني على الفريق الأول عدم التعمق في التاريخ وفقه اللغة، بينما ينحي الشكلانيون بالنقد على أساتذة فقه اللغة والتاريخيين؛ لأنهم لا ينظرون في الحقيقة إلى العمل الأدبي على أنه «فن». يستند موقف الجماليين على الفصل المغلوط بين الشكل والمضمون في الاستطيقا الذاتية، فقد رأينا فيما سبق أن الحق والجمال لا يمكن فصلهما في خبرة العمل الفني، وها نحن نرى الآن في ضوء تصورات هيدجر وجادامر عن الفهم التاريخي أن السلفيين والفيلولوجيين من سدنة الماضي ليسوا أقوم فهما للتاريخ من الجماليين المتطرفين.
واقع الأمر أننا لا يمكن أن نغادر الحاضر لكي نذهب إلى الماضي، وأن «معنى» أي عمل من الماضي لا يمكن أن نراه في حدود ذاته فحسب، الأمر على النقيض من ذلك، فمعنى العمل الماضي إنما يتحدد في ضوء الأسئلة التي توجه إليه من الحاضر، وإذا تمعنا في بنية الفهم فنحن نرى أن الأسئلة التي نسألها تنتظم بحسب الطريقة التي نسقط فيها أنفسنا، أثناء عملية الفهم، في المستقبل، وباختصار فإن النزعة الدراسية القديمة هي بمثابة إنكار للتاريخية الحقة، تاريخية كل فهم للماضي نقف أثناءه في الحاضر. ماذا يعني ذلك بالنسبة لمسألة «الحكم المسبق»
؟ إنه تصور خاطئ انحدر إلينا من «التنوير»
El Lightenment ،
8
بل إن جادامر ليؤكد أن أحكامنا المسبقة لها أهميتها الخاصة في عملية التأويل: «إن التأويل الذاتي للفرد هو مجرد رجة في التيار المغلق للحياة التاريخية؛ لهذا السبب فإن الأحكام المسبقة للفرد هي أكثر من مجرد أحكام له، إنها الواقع التاريخي لوجوده.» وصفوة القول أن الأحكام المسبقة ليست مجرد شيء ينبغي، أو يمكن، أن نستغني عنه، إنما هي أساس قدرتنا على فهم التاريخ على الإطلاق.
وبوسعنا من الوجهة التأويلية أن نصوغ هذا المبدأ كما يلي: لا يمكن أن يكون هناك تأويل بدون فروض مسبقة، فلا النص الإنجيلي ولا الأدبي يتم تأويله بدون تصورات مسبقة، فما دام الفهم هو بنية أساسية متراكمة تاريخيا وعاملة تاريخيا فإنه يتبطن حتى التأويل العلمي، فمعنى التجربة التي نصفها لا يأتي من تفاعل العناصر في التجربة بل من التراث التأويلي الذي تقف فيه ومن الاحتمالات المستقبلية التي تفتحها، زمانية الماضي-الحاضر-المستقبل تنطبق إذن على كل من الفهم العلمي وغير العلمي، إنها عالمية شاملة، ولا يمكن أن يكون هناك فهم بلا فروض مسبقة سواء داخل العلوم أو خارجها.
من أين نحصل على فروضنا المسبقة؟
من التراث الذي نقف فيه، هذا التراث ليس شيئا يقف قبالة تفكيرنا كمضوع للفكر، بل هو نسيج العلاقات، الأفق، الذي فيه نقوم بتفكيرنا، ولأنه ليس «موضوعا»
Object
ولا يقبل الموضعة بصورة كاملة، فإن مناهج التفكير الموضوعي لا تسري عليه، وإنما يلزمنا نوع من التفكير الذي يمكنه التعامل مع الأشياء التي لا تقبل الموضعة، غير أننا لا نحصل على كل فروضنا المسبقة من التراث؛ إذ يجب أن نتذكر أن الفهم عملية جدلية من التفاعل المتبادل بين الفهم الذاتي للشخص (أفقه أو عالمه) وبين الشيء الذي يواجهه، فالفهم الذاتي ليس شيئا خابيا شفافا يملؤه الموقف الحاضر، إنه فهم قائم سلفا في التاريخ والتراث، ولا يمكنه أن يفهم الماضي إلا بتوسيع أفقه ليستوعب الشيء الذي يواجهه.
إذا صح أن من المحال وجود فهم بلا فروض مسبقة، وبعبارة أخرى إذا صح أن ما يقال له «العقل» هو بناء أو تشييد فلسفي وليس محكمة استئناف نهائية، فإنه يتوجب علينا من ثم أن نعيد فحص علاقتنا بموروثنا، علينا ألا ننظر إلى التراث وإلى السلطة على أنهما عدوان للعقل وللحرية العقلية كما كان ينظر إليهما في عصر التنوير وفي الحقبة الرومانسية وحتى يومنا هذا، فالتراث يقدم لنا تيار التصورات الذي نقف فيه، ومن واجبنا أن نعرف كيف نفرق بين الفروض المسبقة المثمرة والفروض المسبقة التي تسجننا وتمنعنا من التفكير والنظر، ليس هناك تناقض داخلي، على أية حال، بين دعاوى العقل ودعاوى التراث، فالعقل دائما يقف داخل التراث، بل إن التراث ليزود العقل بذلك الجانب من الواقع والتاريخ الذي سيعمل معه، يقول جادامر: إن إدراكنا لاستحالة وجود فهم بلا فروض مسبقة يترتب عليه أن نتخلى عن تفسير عصر «التنوير» للعقل، وأن يسترد التراث والسلطة منزلتهما التي حرما منها منذ ما قبل التنوير.
وإذا كان من المحال وجود تفسير بلا فروض مسبقة فإن فكرة وجود «تفسير صحيح» واحد بوصفه صحيحا في ذاته هي غاية حمقاء وأمر محال، فليس هناك تفسير منبث عن الحاضر، وليس هناك تفسير دائم وثابت، وكل نص ينحدر إلينا، وليكن الإنجيل أو مسرحية شكسبيرية، يتعين أن يفهم في الموقف التأويلي الذي يقفه، أي في علاقته بالحاضر، وليس يعني ذلك أن نأتي بمقاييس خارجية من الحاضر ونفرضها، كيفما اتفق، على الماضي؛ فنجد شكسبير أو الإنجيل غير ذي صلة بنا ، بل يعني على العكس أن «المعنى» ليس خاصية ثابتة لموضوع ما بل هو دائما «لنا»، كذلك التوكيد على ضرورة أن ننظر إلى النص داخل أفق تاريخيتنا، فهو لا يعني أن «المعنى» مختلف بالنسبة لنا عما كانه عند قرائه الأوائل، بل يعني أن المعنى هو شيء متعلق بالحاضر ونابع من الموقف التأويلي، وما دام العمل العظيم يكشف حقيقة عن الوجود فإن لنا أن نفترض أن الحقيقة «الجوهرية» تطابق ما دفع بهذا العمل إلى الوجود في الأصل، وذلك دون أن نقر بفكرة «الحقيقة في ذاتها»، أو فكرة وجود تأويل صحيح صحة دائمة.
مفهوم المسافة الزمنية
Temporal Distance
يذهب جادامر إلى أن التوتر القائم بين الحاضر والماضي هو عمل محوري في الهرمنيوطيقا، بل إنه لا يخلو من جوانب بناءة مثمرة، يقول جادامر: «موقع بين الغرابة والإلف يوجد بين ما هو مقصود تاريخيا (الموضوعية البعيدة للموروث) وبين انتسابنا لتراث معين، هذا «الما بين» هو الموقع الحقيقي للهرمنيوطيقا»، توسط الهرمنيوطيقا إذن يتضمن كلا من الشيء، الذي كان مقصودا تاريخيا، والتراث، إلا أن ذلك لا يعني أن مهمة الهرمنيوطيقا هي تأسيس إجراء منهجي للفهم بقدر ما هي تبيان الشروط التي يمكن في ظلها أن يحدث الفهم.
إن ما يجسده النص وينقله لا تكمن أهميته عند المفسر في كونه شعورا أو رأيا لمؤلفه، بل هو مهم في ذاته كشيء معني ومقصود، ولا هو مثير للاهتمام بوصفه «تعبيرا» سواء عن «الحياة» أو عن أي شيء آخر، إن الموضوع نفسه الذي يتناوله النص هو ما يثير الاهتمام، وإن المرء لشغوف بحقيقة هذا الموضوع بالنسبة له، يقتضي المنطق إذن أن العمل الفني الذي أبدع اليوم لا بد أن يكون له أكبر دلالة بالنسبة لنا، غير أننا نعلم من الخبرة أن الزمن وحده هو ما يفرز الدال عن غير الدال ، لم كان الأمر كذلك؟ ليس لأن المسافة الزمنية قد قتلت اهتماماتنا الشخصية بالموضوع، بل لأن «من عمل الزمن أن يقضي ما هو غير جوهري فيسمح للمعنى الحقيقي المخبوء في الشيء أن يظهر وينجلي .» هكذا يتبين أن للمسافة الزمنية إلى جانب سلبياتها آثارا إيجابية أيضا: فالمسافة الزمنية لا تتيح فقط لفروض سبقية معينة خاصة بالموضوع أن تتنحى وتبيد، بل تأتي أيضا بتلك الفروض التي تؤدي إلى الفهم الصحيح وتدفع بها إلى الصدارة.
9
ها نحن بإزاء فضائل الانفصال الزمني وثماره، إنه ظاهرة أشبه بمفهوم «المسافة الاستطيقية»
Aesthetic Distance
التي تقتضي أن يكون المشاهد على مسافة معينة من المسرح لكي يرى الوحدة المنشودة ولا يتشتت بمطالعة الطلاء على وجوه الممثلين! هكذا برغم أهمية أن يصبح الماضي حاضرا فها نحن نلمس أهمية الانفصال الزمني من الوجهة التأويلية، ونحمد للزمن أنه مر!
وحده مرور الزمن ما يمكن لنا أن نقبض على ذلك الذي يقوله النص، وشيئا فشيئا، وبالتدريج فقط، تبزغ الدلالة التاريخية الحقيقية للنص وتشرع في مخاطبة الحاضر.
فهم مؤلف النص
تنحصر مهمة الهرمنيوطيقا بالدرجة الأساس في فهم النص لا في فهم المؤلف، وهو أمر لا بد أن يكون واضحا بذاته من خلال مفهوم المسافة الزمنية ومن خلال التوكيد على المعنى في الفهم التاريخي، إن النص يتم فهمه لا لأن هناك علاقة بين أشخاص، بل لأن هناك مشاركة في موضوع الحديث الذي يوصله النص، مرة أخرى تؤكد هذه المشاركة حقيقة أن المرء لا يخرج عن عالمه بقدر ما يدع النص يخاطبه في عالمه الحاضر، إنه يدع النص يغدو حاضرا بالنسبة له، يغدو معاصرا، والفهم ليس عملية ذاتية بقدر ما هو مسألة أن يضع المرء نفسه في تراث، ثم في «الحدث» الذي ينقل التراث إليه، الفهم مشاركة في تيار التراث، في لحظة تمزج الماضي والحاضر، هذا التصور للفهم هو الذي يلح عليه جادامر ويرى ضرورة التسليم به في نظرية التأويل، فلا ذاتية المؤلف ولا ذاتية القارئ هي النقطة المرجعية الحقيقية، وإنما النقطة المرجعية هي المعنى التاريخي نفسه بالنسبة لنا في الزمن الحاضر.
10
إعادة بناء الماضي
Reconstruction of the Past
تهيب بنا الصبغة التاريخية الصميمة المتضمنة في فهم أي نص قديم أن نعيد النظر في الافتراض التأويلي المسبق القائل بأن إعادة تشييد العالم الخاص بالعمل الفني هو المهمة الأولى للفهم، كان الاهتمام الأساسي للتأويل قبل شلايرماخر هو إعادة بناء الخلفية التاريخية للنص المعطى وتحديد سياقه التاريخي الذي يقع فيه، ثم جاء شلايرماخر فأضفى على التأويل طابعا سيكولوجيا واستشفافيا، ولكنه ظل على الاعتقاد القديم بأن إعادة بناء السياق التاريخي هي عملية أساسية لفهم أي نص قديم، فالنصوص المقدسة ليست، بعد كل شيء، حاملا غير زمني لأفكار أزلية وليست تحليقا خياليا شعريا خلوا من أي دعوى جادة عن الحقيقة، إنها إبداع تاريخي في لغة تاريخية لأناس تاريخيين.
من المؤكد أن إعادة بناء العالم الذي أتى منه العمل وإعادة تشييد أصل العمل الفني هو أمر ضروري للفهم، إلا أن جادامر يحذر من اتخاذ إعادة البناء على أنها العملية الأساسية أو النهائية في التأويل، أو حتى على أنها مفتاح الفهم، فهل حقا أن ما نتناوله في عملية إعادة البناء هي ما نبحث عنه بوصفه «معنى» العمل أو هي ما نسميه «المعنى»؟ هل يتحدد الفهم الصائب حين نسعى إلى أن نرى فيه خلقا ثانيا مطابقا تماما للأصل، أي نرى فيه «إعادة خلق»؟ بالطبع لا؛ لأن معنى العمل يتوقف على الأسئلة التي نطرحها في الحاضر، ليست «الاستعادة»
Restoration ، إذا جعلنا منها محورا للهرمنيوطيقا، بأقل عبثا من كل جهد يبذل لبعث حياة انقضت إلى الأبد، إنما «الدمج» (التكامل)
Integration ، وليس الاستعادة، هو المهمة الحقيقية للهرمنيوطيقا.
أهمية التطبيق
Application
كدرب هيدجر، يخط لا من أجل السير، وإنما بفعله!
تومئ بنية تاريخية الفهم إلى أهمية عامل طالما أغفلته الهرمنيوطيقا التاريخية والأدبية، ألا وهو «التطبيق»
Application ، أي ربط معنى النص بمجريات الحاضر، يعد عنصر التطبيق، على سبيل المثال، عنصرا أساسيا داخلا في نسيج التأويل الإنجيلي والقانوني، ذلك أنه في كلتا الحالتين لا يكفي أن نفهم النص ونشرحه بطريقة عامة، وإنما لا بد من أن نفصح بصريح العبارة ماذا يقوله بالنسبة للحالة الراهنة. يتضمن التأويل في هذه الحالة ثلاثة جوانب: الفهم
Understanding ، والتبيان/الشرح/التفسير
Explication ، والاستخدام أو التطبيق
Application ، ليست هذه الجوانب ثلاثة «مناهج» منفصلة، وإنما تشير جميعا إلى قدرة واحدة تتطلب رهافة معينة للروح، وهي تشكل مجتمعة تحقق الفهم واكتماله.
كانت هرمنيوطيقا شلايرماخر والهرمنيوطيقا بعد-الرومانسية تركز على عنصري الفهم بوصفهما وحدة واحدة، ولا تفسح مكانا لعنصر التطبيق، أما جادامر فقد ذهب إلى أنه في عملية الفهم، بوصفه فهما، ثمة دائما شيء أشبه بتطبيق النص المطلوب فهمه على الموقف الحاضر، أن تفهم، بمعنى تعرف وتفسر، يتضمن داخله سلفا أن تطبق، أو أن تربط النص بالزمن الحاضر، ومن فضائل التأويل الثيولوجي والقانوني أنهما يلفتان الانتباه إلى هذا الجانب من جوانب الفهم ويقدمان بذلك نموذجا لفهم عمليات الفهم في التاريخ والأدب أفضل مما يقدمه التراث الفيلولوجي الذي يغفل عامل التطبيق ولا يتفطن لأهميته، هكذا يبدهنا جادامر بفكرة أن التأويل الثيولوجي والقانوني يمكن أن يكون نموذجا يحتذيه التأويل الأدبي!
11
في حالة تطبيق القوانين بصفة خاصة تتجلى هوية التأويل والتطبيق في أوضح صورة: ذلك أن معنى القوانين وروحها لا تتبلور وتبزغ إلا بكدح القضاة في تطبيقها على الحالات الخاصة قاضيا تلو آخر، وحالة تلو أخرى، إنها مثال جيد ل ««درب هيدجر» الذي يتعين بالسير عليه ويتحدد بالأقدام التي ترسمه، إنه يخط، لا من أجل السير، وإنما بفعله».
الهرمنيوطيقا إذن ليست فهما وتأويلا فقط، بل هي أيضا تطبيق، والتطبيق ليس إضافة تصحب الفهم والتأويل أو لا تصحبهما، فالثلاثة يشكلون وحدة لا انفصام لها. الفهم الهرمنيوطيقي هو أمر عملي في جوهره وصميمه، «أن تفهم» شيئا هو أن ترى علاقته بال «براكسس» (أي العمل كمقابل للنظر)
، هذا الاندماج للتطبيق في عملية الفهم والتأويل هو ما جعل جادامر يقيض للهرمنيوطيقا القانونية والثيولوجية صدارة وأولوية على الهرمنيوطيقا الأدبية كنموذج للفهم في العلوم الإنسانية، وهذه المسألة التطبيقية والعملية هي ما دفعه إلى العودة إلى «الأخلاق النيقوماخية» لأرسطو وإحياء فكرة «المعرفة العملية» أو «الفرونيسيس»
وهي في نظر جادامر استباق مبكر للهرمنيوطيقا.
12
إن ما يميز المعرفة العملية، في رأي أرسطو، هو أنها تتعامل مع جزئيات: كيف ينبغي على إنسان معين أن يفعل في موقف معين. تشتمل المعرفة العملية دائما على جدل بين «المبدأ العام » و«الحالة الخاصة» أو «الموقف الخاص»، و«الحكمة العملية» هي بالتحديد تلك القدرة على إنجاز هذا التطبيق، وما دام كل صنف من المعرفة يتمتع بتلك الدرجة من الدقة التي يسمح بها موضوعها، وحيث إن المعرفة العملية تتناول الجزئيات، فهي إذن، بحكم طبيعتها ذاتها، لا تتيح إلا معرفة غير دقيقة، إن انعدام الدقة هو جزء من طبيعتها وليس قصورا يمكن التغلب عليه بمزيد من التقدم في هذا المجال أو ذاك.
فهم النص، إذن، هو تطبيقه.
هذه واحدة من المتضمنات الخلاقة لفكرة جادامر، فالتأويل القانوني والثيولوجي لا يحصر مهمة التأويل في مجرد جهود دراسية قديمة لولوج عالم آخر، بل ترى إلى التأويل على أنه جهد لعبور المسافة واجتياز البون القائم بين النص والموقف الحالي، فسواء كان الموقف هو إصدار حكم أو التبشير بموعظة فلا بد للتأويل ألا يقتصر على شرح ما يعنيه النص في عالمه الخاص بل يمتد ليشمل ما يعنيه النص في اللحظة الراهنة، كذلك يأبى التأويل الثيولوجي والقانوني الإقرار بفكرة أن فهم النص يتم على أساس الانسجام الروحي أو الائتلاف النفسي مع المؤلف، وهو وهم رومانسي محض، فنحن نعرف أن الفهم يمكن أن يتم، بل يتم فعلا، في وجود الائتلاف وفي غيابه؛ لسبب بسيط، هو أننا لا نتناول المؤلف بل النص.
ومن جهة أخرى يشكل كل من التأويل القانوني والثيولوجي نموذجا مفيدا للتأويل الأدبي من حيث إن المؤول في هذين المجالين لا يطبق منهجا بقدر ما يحاول أن يكيف تفكيره نفسه وينظمه وفقا للتفكير القائم في النص، ولا يمتلك ملكية بقدر ما يكون مملوكا لدعوى النص مذعنا لسلطتها، فالذي يقوم بتأويل «مشيئة القانون» و«مشيئة الله» ليس محتكما في موضوعه بل هو خادم له، وموقف التأويل ليس بالموقف الذي يليق فيه بالمرء أن يسلم تسليما بفروضه المسبقة ويربأ بها عن الشك والتساؤل ثم يجعل فهمه للعالم وللظواهر خاضعا لمناهج قائمة على هذه الفروض المسبقة، بل على المرء في الموقف التأويلي أن يخاطر بمذهبه ويضعه تحت ضوء النص ويخضعه لحكم النص ودعواه، إنه مطالب بأن يترك دعوى النص تكشف عن نفسها كما هي، غير أنه مطالب في الوقت نفسه بأن يرى النص في ضوء الحاضر وأن يترجم معنى الدعوى التي يطرحها النص إلى الحاضر، وفي عملية تفاعل الأفقين، أفق المؤول وأفق النص، والتحامهما، يتسنى للمؤول أن يسمع السؤال الذي كان يشغل النص والذي دعا النص نفسه إلى الوجود.
يجد مبدأ التطبيق تعبيرا ثيولوجيا في مشروع «نزع الطابع الأسطوري»
Demytologizing
من الكتاب المقدس، وفي هرمنيوطيقا رودلف بلتمان، على سبيل المثال، يعد هذا التوجه نتاجا للتوتر القائم بين النص الذي يقف في الماضي وبين الحاجة إلى التطبيق الحاضر، ومن الخطأ أن يظن المرء أن هذا التوجه محاولة تنتمي إلى «التنوير» وتهدف إلى تنقية الكتاب المقدس من الأسطورة عن طريق الاحتكام في كل شيء إلى معايير العقل، وإنما وجه الأمر أن نزع الأسطورية هو محاولة لاكتشاف ما يبلغنا به الكتاب المقدس اليوم، هذا البلاغ لا يعرض حقيقة علمية بل يهيب بالقرار الشخصي، أما أن نتخذ موقفا «علميا» تجاه الكتاب المقدس ونعامله على أنه «موضوع»
Object
لا يطالبنا بشيء، فذاك يعني في جوهر الأمر أننا نسكت الكتاب المقدس، ويعني أننا لا نصغي إلى الكتاب المقدس بل نختبره، ولكن الكتاب المقدس (وفقا لرأي بلتمان) ليس رسالة علمية ولا سيرة غير شخصية، إنه بلاغ، بيان، رسالة.
ونحن نصادف نظيرا لذلك في التفسير الأدبي عندما نسأل: كيف ينبغي أن نفهم الأسطورة؟ ما الذي يخاطبنا فيها ومن خلالها؟ «ليست الأسطورة وهما أو كذبة أو خرافة، إنها حقيقة كبرى نضجت على مهمل في ضمير الأجيال كما ينضج اللؤلؤ في ضمير الصدف، فاكتسبت قواما واتخذت شكلا وصارت مشهدا حيا يملأ علينا مسارح الوجدان ويأخذ بمجامع الوعي، ويوقظ فينا شيئا هاجعا ما كنا لنذكره، وما كنا لننساه.»
كذلك الأمر حين نكون بصدد قراءة أو مشاهدة عمل أدبي عظيم: ملتون أو شكسبير أو دانتي أو سوفوكل أو هومر؛ فما نقوم به هنا ليس مجرد «إعادة بناء» عالم ماض، ذلك أن قراءة العمل الأدبي هي حدث ، واقعة تحدث في الزمان، ومعنى العمل هو نتاج لاندماج أفقنا الحاضر نفسه وأفق العمل الأدبي القديم، ثمة شيء شبيه ب «نزع الأسطورية» يحدث في كل فهم أصيل لأي عمل أدبي، وثمة تطبيق على الحاضر يحدث في كل فعل للفهم، أما الظن القائل بأننا حين نقرأ مسرحية لشكسبير «نعود بكليتنا إلى عالم شكسبير» تاركين وراءنا أفقنا الخاص، فهو وهم ودليل على أن اللقاء الاستطيقي قد نجح في أن يغشي على عامل التطبيق في الفهم.
يؤيد ما ذهبنا إليه أيضا ما يحدث عندما تمثل مسرحية شكسبيرية أو مسرحية أقدم على خشبة المسرح: فالمشهد المسرحي يقدم لنا تقنيات معقدة لمساعدتنا على العودة إلى الماضي، والملابس تصنع أحيانا بتطابق بالغ الأمانة مع الحقبة الزمنية المعروضة، ورغم ذلك تبقى الحقيقة هي أن المسرحية تمثل في الحاضر، الآن، أمام أعيننا، وفي فهمنا، والموضع الذي تجري فيه المسرحية هو في العقل الجمعي للجمهور، يعرف الممثلون ذلك ويضعونه بالاعتبار في تمثيل أدوارهم، خذ على سبيل المثال مشكلة تمثيل دور الساحرات في «مكبث» على خشبة المسرح، فالإخراج الحديث يميل إلى التقليل من أهمية العنصر الخارق للطبيعة في هذا الصدد ويعرض الساحرات كمجرد نسوة عجائز يتبعن جيش مكبث، ويعرض نبوءاتهم بإضفاء صوت على تأملات حاضرة أمامنا وبث جو من الاضطراب على المسرح، إنهن يخلقن مناخا من الشؤم ونذر الشر، هكذا يتم «تأويل» «معنى» الساحرات بالنسبة لنا اليوم بالطريقة التي يعرضن بها على المسرح بحيث نجتنب التأثير المضحك الذي يمكن أن تحدثه الخوارق الخرافية العتيقة الزي لدى المتفرج المعاصر.
من الحقائق الهامة أيضا أن الإيهام الدرامي في المسرحيات لا يعتمد على المشهد أو الملابس أو حتى الحضور المرئي للممثلين، فالحضور الصوتي، كما هو الحال في التسجيلات الصوتية، هو العنصر الهام بحق، فالإيهام الدرامي هو أن الماضي يحدث في الحاضر، في الحاضر الخبروي وليس في الماضي التاريخي، توضح هذه الظاهرة أمرا هاما عن مفهوم التطبيق في الفهم التاريخي: إنه ليس إحضارا حرفيا للماضي بل إحضار ما هو جوهري في الماضي إلى حاضرنا الشخصي، إلى فهمنا الذاتي، أو بتعبير أدق إلى خبرتنا بالوجود، علينا أن نخدع أنفسنا: إن فهمنا لمسرحية من المسرحيات، عندما «نعرف» ماذا «تعني»، ليس أمرا مغلقا على حاله بل هو ربط للعبة المغلقة التي هي المسرحية بحاضرنا ومستقبلنا، هكذا يصرح جادامر: الفهم دائما يشتمل على التطبيق، التطبيق على الزمن الحاضر. (ب) الوعي التاريخي الفعال (العامل/المؤثر/الحق)
يحاول جادامر، كمقابل لذلك الصنف من الوعي التاريخي الذي ينتقده، أن يصف صنفا أصيلا من الوعي يظل فيه التاريخ فاعلا على الدوام، سنطلق على هذا الوعي، على سبيل التخفيف، اسم «الوعي التاريخي العامل» أو «الوعي التاريخي الحق» حسب السياق.
يستخدم جادامر تصنيفا من ثلاثة أنماط لعلاقة
I Thou «أنا-أنت» (يجب ألا نخلط بينها وبين علاقة «أنا-أنت» عند مارتن بيوبر) لكي يضع الوعي التاريخي العامل في موضعه وبالتالي يبين طبيعته: (1)
الأنت بوصفه «موضوعا»
Object
داخل نطاق أو مجال. (2)
الأنت بوصفه إسقاطا تأمليا انعكاسيا. (3)
الأنت على أنه تراث يتحدث.
يشير جادامر إلى أن النمط الثالث وحده هو ما يراه وعيا تاريخيا أصيلا.
في النمط الأول:
من علاقة «أنا-أنت» ينظر إلى الشخص الآخر «كشيء» محدد داخل نطاق خبرة المرء، وفي الأغلب كشيء يستخدمه المرء كوسيلة أو أداة لتحقيق مآربه، في هذه الحالة يتم فهم الآخر في إطار العموميات ووفق المقولات العامة، في هذا الصنف من التناول يقع كل التفكير الاستقرائي، فإذا ما طبقنا هذا النموذج على العلاقة التأويلية بالتراث لانزلقنا بسهولة في «المناهج» وفي «الموضوعية»، عندئذ يصبح التراث موضوعا منفصلا عنا، ينوس على هواه ولا يتأثر بنا أو يتوقف علينا، وسرعان ما نخدع أنفسنا فنظن أنه لا يلزمنا إلا تنحية كل لحظة ذاتية في علاقتنا بهذا التراث لكي نظفر بمعرفة يقينية بما يتضمنه، مثل هذه «الموضوعية» ذات التوجه المنهجي هي في الأغلب الطريقة السائدة في العلوم الطبيعية، والسائدة أيضا في العلوم الاجتماعية باستثناء المجالات التي تسفر فيها الفينومينولوجيا عن وجهها، غير أنها لا يمكن أن تعود بالنفع على الأفرع البحثية التي تركز على الخبرة الإنسانية، ولا يمكن أن تكون أساسا يقوم عليه وعي يكون فيه التاريخ فاعلا (وعي تاريخي حق).
وفي النمط الثاني:
من الخبرة والفهم ينظر إلى الآخر «كشخص»، غير أن هذه العلاقة «الشخصية» قد تبقى سجينة في الأنا، وهي في واقع الأمر علاقة بين الأنا وبين «أنت» تشكله الأنا تشكيلا تأمليا انعكاسيا، هذا النمط الثاني من علاقة «أنا- أنت» يميز، من الوجهة التأويلية، ذلك الوعي التاريخي الذي اضطلع جادامر بمهاجمته ووجه إليه سهام نقده، هذا النمط من الوعي التاريخي يعرف «آخرية الآخر» في خصوصيته وتميزه وليس في إطار العموميات كما يفعل النمط الأول، آخرية الآخر، إذن، وماضوية الماضي لا تعرف إلا بنفس الطريقة التي تعرف بها الأنا الآخر، أي من خلال التأمل الانعكاسي، ها هنا نجد الأنا العارفة، في ادعائها معرفة الآخر بكل أحواله الخاصة وادعائها الموضوعية، قد ادعت في حقيقة الأمر أن لها السيادة، غير أن هذا الصنف الخفي من السيادة من خلال الفهم هو الذي يستخدم الفهم لكي يرى التاريخ «قابعا هناك» بوصفه مجرد «أنت» مشكل تشكيلا انعكاسيا، إنها تموضع التاريخ وتدمر، في حقيقة الأمر، ما يطرحه علينا من معنى.
أما النمط الثالث:
من علاقة «أنا-أنت» فيتميز بالانفتاح الأصيل على الأنت، هذه هي العلاقة التي لا تسقط المعنى من الأنا بل تنفتح الانفتاح الأصيل الذي «يدع شيئا ما لكي يقال»: «إن الشخص الذي «يسمح لشيء ما أن يقال له» هو كيان مفتوح بطريقة أساسية»، مثل هذا النمط هو أقرب من النمطين الآخرين إلى ما يعنيه بيوبر بعلاقة «أنا-أنت» الحقيقية، «إنه الانفتاح الذي يود أن يسمع أكثر مما يود أن يسود، يود أن يتغير ويتعدل من خلال الآخر.» وهو الأساس الذي يقوم عليه الوعي التاريخي الحق.
13
يتكون هذا الوعي من علاقة بالتاريخ لا يمكن للنص فيها أن يكون «آخر» بشكل كامل وموضوعي، ذلك أن الفهم ليس بالتمييز السلبي لآخرية الماضي، بل هو بالأحرى أن يضع المرء نفسه بحيث يقر له الآخر بالأهلية والاستحقاق، عندما يقرأ المرء نصا تاريخيا على أنه مجرد شيء تاريخي فإنه يكون قد صادر بالحاضر سلفا وجزم به ووضعه خارج الشك والتساؤل، أما الوعي التاريخي الأصيل فهو لا ينظر إلى الحاضر على أنه ذروة الحقيقة، بل يتذرع بالانفتاح الدائم للدعوى التي يمكن للحقيقة الكامنة في العمل أن توجهها إليه. «يتحقق الوعي التأويلي لا في اليقين الذاتي المنهجي بل في الاستعداد والانفتاح الخبروي كنقيض للجزم الدوجماطيقي.» حين يكتسب المرء «خبرة» من النصوص فإن ما اكتسبه ليس مجرد معرفة موضوعية، بل «خبرة» غير قابلة للموضعة، إنها «الخبرة» التي أنضجته وجعلته منفتحا للتراث ومنفتحا للماضي، إن مفهوم «الخبرة» هو مفهوم بالغ الأهمية لفهم تأويلية جادامر كما سيتبين لنا فيما يلي من حديث. (2) تأويلية جادامر الجدلية (2-1) بنية الخبرة التأويلية
يبدأ جادامر تناوله للخبرة التأويلية بنقد للمفهوم السائد للخبرة، والذي يراه جادامر مفرط التوجه نحو العرفان (فعل المعرفة) بوصفه فعلا إدراكيا حسيا ونحو المعرفة بوصفها حشدا من المعلومات التصورية. نحن، بتعبير آخر، نميل اليوم إلى تعريف الخبرة بطريقة ذات توجه كامل تجاه المعرفة العلمية، مع إغفال تام للصبغة التاريخية الباطنة للخبرة، ونحن إذ نفعل ذلك نحقق دون وعي منا هدف العلم، وهو «موضعة الخبرة بحيث لا تعلق بها لحظة تاريخية من أي نوع»؛ «فمن خلال التنظيم الميثودولوجي الصارم تقوم التجربة العلمية بانتزاع الموضوع من لحظته التاريخية وتعيد بناءه بحيث يلائم المنهج.»
14
شيء مماثل لذلك يحدث، في رأي جادامر، في مجال اللاهوت وفقه اللغة مع «المنهج التاريخي النقدي» الذي يعكس بطريقة ما نفس الرغبة العلمية العارمة في جعل كل شيء موضوعيا وقابلا للتحقيق، حين تسود هذه الروح لا يعود هناك شيء «واقعي» سوى ما هو قابل للاختبار، ولا يعود هناك مكان للجانب التاريخي والجانب غير القابل للموضعة من الخبرة، ومن ثم فإن تعريف الخبرة نفسه يستبعد معطيات هذه العلوم (فلا تدخل في التعريف).
في مقابل خرافة المعرفة التصورية المحضة والقابلة للتحقيق يدفع جادامر بمفهومه التاريخي والجدلي للخبرة، حيث الخبرة ليست مجرد تيار من الإدراكات الحسية بل واقعة، حدث، لقاء، ورغم أنه لا يشارك هيجل مسلماته ونتائجه فهو يجد في تصور هيجل الديالكتيكي للخبرة نقطة البداية لتأويليته الجدلية الخاصة.
الخبرة، كما يعرفها هيجل، هي نتاج التقاء الوعي بموضوع ما، يقول هيجل: «ثمة حركة بمقتضاها يمارس الوعي فعله في كل من العارف وموضوعه، وبقدر ما يتولد عن ذلك، بالنسبة له، موضوع جديد يكون ذلك جديرا بأن يسمى «خبرة».» الخبرة إذن، وفقا لهيجل، لها دائما بنية انعكاس الوعي أو إعادة تشييده، إنها حركة من نوع ديالكتيكي.
تحت هذا الميل إلى الانعكاس ثمة عنصر من «السلب»
Negativity : فالخبرة هي أولا وقبل كل شيء خبرة ب «ليس»: شيء ما هو «ليس» كما كنا نفترض. موضوع خبرة المرء يرى في ضوء مختلف، يتغير، والمرء نفسه يتغير حيث يعرف الموضوع على نحو مختلف، الموضوع الجديد يتضمن حقيقة أعلى من القديم، لقد قضى القديم زمنه، غير أن الخبرة عند هيجل هي الموضعة الذاتية للوعي، ومن ثم فالخبرة نبلغها من طريق المعرفة التي تتجاوزها، بذلك يتبين أن هيجل يجعل الوعي أساسا، بينما يذهب جادامر إلى أن الوعي نفسه يتم تجاوزه بواسطة موضوعية الوعي.
يذهب جادامر إلى أن الخبرة تجد تحققها الجدلي «لا في المعرفة بل في الانفتاح على الخبرة»، ومن الواضح أن الخبرة هنا لا تعني نوعا من المعرفة المعلوماتية المختزنة عن هذا الشيء أو ذاك، والحق أن جادامر يستخدم مصطلح «الخبرة» بمعنى أقل تقنية وأكثر اقترابا من معناها الدارج، فتشير «الخبرة» عنده إلى تراكم فهم غير مموضع وغير قابل للموضعة، والذي كثيرا ما نسميه «الحكمة»، مثال ذلك أن الرجل الذي قضى كل حياته يتعامل مع الناس يكتسب قدرة على فهمهم، وهي ما نسميه «الخبرة»، وبينما خبرته هي معرفة غير قابلة للموضعة فإنها تدخل في لقائه التأويلي مع الناس، ورغم ذلك فهي ليست قدرة شخصية محضة، إنها معرفة بطبيعة الأشياء وأحوالها ، معرفة بالناس لا يمكن حقا وضعها في مصطلحات تصورية.
تومئ الخبرة دائما إلى ألم النمو وألم الفهم الجديد، والخبرة شيء لا بد من اكتسابه بصفة دائمة، ولا أحد يستطيع أن ينقذنا منها، وقد نود أن نعفي أبناءنا من «الخبرات» المؤلمة التي مررنا بها نحن، إلا أنه يتعذر إعفاؤهم من الخبرة ذاتها، فالخبرة شيء ينتمي إلى الطبيعة التاريخية للإنسان، الخبرة هي دائما تحرر من الوهم وخيبة للتوقع ومسير للأمور على ما لم يكن في الحسبان، ولا تأتي الخبرة إلا من هذا الطريق، ورغم ذلك فحقيقة أن الخبرة هي شيء مؤلم بالدرجة الأساس وغير سار لا يصبغها باللون الأسود ضربة لازب، بل يطلعنا على طبيعتها الداخلية فحسب، فالسلب والإحباط أو خيبة التوقع وانقشاع الوهم هي صفات مدمجة في طبيعة الخبرة، وفي طبيعة الوجود التاريخي للإنسان، «تجري كل خبرة عكس التوقع إذا كانت حقا تستحق أن تسمى خبرة.»
ليس بدعا إذن أن يشير جادامر إلى المأساة الإغريقية وإلى قول أسخيليوس
«تألم لكي نتعلم»، التعلم هنا ليس اكتساب صنف علمي من المعرفة، إنما يريد أسخيليوس أن يقول إنه من خلال المعاناة يعرف المرء حدود الوجود الإنساني نفسه، ويفهم محدودية الإنسان وتناهيه: «فالخبرة هي خبرة بالتناهي.» الخبرة بمعناها الحقيقي الصميم تهيب بالمرء أن يعرف أنه ليس سيدا على الزمن، والإنسان ذو الخبرة هو الذي يعرف حدود كل توقع أو استباق، ويعرف أن كل الخطط البشرية غير مضمونة، غير أن هذه المعرفة لا تدعوه إلى التصلب والانغلاق بل إلى الانفتاح على الخبرة الجديدة.
في ضوء هذه الملاحظات يمكننا أن نتبين «الخبرة التأويلية» التي تعلق بما يصادفه المرء بوصفه تراثا أو موروثا، الخبرة هنا ليست كغيرها من الخبرات، فالموروث لغة، أي إنه هو نفسه يتكلم، كأنه ذات أو «أنت»
Thou . الموروث ليس شيئا يمكن للمرء أن يسيطر عليه، ولا هو موضوع يقف قبالة المرء، إنما يشرع المرء في فهم الموروث، وإن كان في الوقت نفسه مغمورا به، بوصفه خبرة لغوية صميمة، وحين يخبر المرء معنى نص من النصوص فإنه إذاك يفهم موروثا خاطبه برهة كشيء مقابل له، غير أنه في الوقت نفسه جزء من ذلك التيار الذي يقف فيه المرء، تيار التاريخ والخبرات، التيار الذي لا تمكن موضعته
Nonobjectifable .
يؤكد جادامر بشدة على أن النص الذي نقابله بوصفه «أنت»
Thou
ينبغي ألا ننظر إليه على أنه من «تعبيرات الحياة» على حد تصور دلتاي، ذلك أن للنص محتوى معينا من المعنى بقطع كل الصلة بشخص قائله، ولا ينبغي أيضا أن تدفعنا مصطلحات «أنا» و«أنت» إلى تصور العلاقة هنا على أنها علاقة شخص بشخص، بمعنى علاقة شخص القارئ بشخص قائل النص؛ ذلك أن القوة المتحدثة هنا لا تكمن في شخص القائل بل في النص المنقول نفسه، وحين يتناول المرء نصا فإن عليه أن يسمح للنص أن يتحدث، أن ينفتح للنص بوصفه ذاتا قائمة بنفسها لا بوصفه موضوعا، هذا الانفتاح الأصيل هو بالضبط ما كنا نصفه آنفا عندما كنا بصدد بنية «أنا-أنت» التي تسم الوعي التاريخي الحق.
تشير بنية «أنا-أنت» إلى علاقة حوار أو جدل. ثمة سؤال يوجه إلى النص، وثمة، بمعنى أعمق، سؤال يوجهه النص إلى القارئ (المفسر)، إن لكل حوار حقيقي بنية «سؤال-جواب» تعكس البنية الجدلية للخبرة بصفة عامة، والخبرة التأويلية بصفة خاصة، على ألا نغفل أن الحوار هنا هو حوار «قارئ-نص»، وليس حوار «قارئ-كاتب».
15 (3) بنية التساؤل في الهرمنيوطيقا (3-1) التحام الآفاق
Fusion of Horizons
يوم بيت لا يوم خوض الدياجي
فانج ما بين صفحة وسراج
وجمال من النفوس يناجى
في أسارير وجهه ويناجي
العقاد
يقول جادامر إن الصبغة الجدلية للخبرة تنعكس في الحركة واللقاء مع «السلب»
Negativity
الموجودين في كل تساؤل حقيقي، ويمضي جادامر إلى حد القول بأن «كل خبرة حقيقية تفترض مسبقا بنية التساؤل، فإدراك الخبرة له بنية السؤال: «هل الأمر هو كذا أم كذا؟» لقد رأينا أن الخبرة تحقق ذاتها في إدراكنا لمحدوديتنا وتناهينا وتاريخيتنا، كذلك الحال في التساؤل، فهناك حائط نهائي من السلب، هو دائما أن تعرف أنك لا تعرف، هذا هو ما كان يدعوه سقراط
Docta Ignoratia
والذي يكشف السلب الحقيقي الذي يتبطن كل تساؤل.
أن تسأل سؤالا أصيلا يعني أن «تقيم في العراء»؛ لأن الجواب لم يتحدد بعد، ومعنى أي سؤال إنما يدرك في المرور خلال هذه الحالة من عدم التحدد، التي يصبح فيها سؤالا مفتوحا لم يتم حسمه، وكل سؤال حقيقي يتطلب هذا الانفتاح، فبدون هذا الانفتاح يكون السؤال مجرد سؤال ظاهري، سؤال زائف، يترتب على ذلك أن السؤال التدريسي ليس سؤالا حقيقيا؛ لأنه سؤال بلا سائل! وأن السؤال الإنشائي ليس سؤالا حقيقيا؛ لأنه سؤال بلا سائل ولا موضوع! وهو سؤال بلا موضوع؛ لأن الشيء الذي يتحدث عنه السؤال ليس موضوعا حقا موضع تساؤل على الإطلاق.
16 «لكي يستطيع المرء أن يسأل فلا بد أن تكون لديه رغبة في أن يعرف، غير أن هذا يعني أنه يعرف أنه لا يعرف.» وعندما يعرف المرء أنه لا يعرف ثم يتحاشى، رغم ذلك، الاندفاع من خلال «المنهج» إلى افتراض أنه لا يلزمه إلا أن يفهم فهما أدق بالطريقة التي يعرفها سلفا، عندئذ فقط يكتسب بنية الانفتاح الذي يميز التساؤل الأصيل، وفي ذلك يقدم لنا سقراط النموذج بالتبادل المرح للسؤال والجواب، سابرا بذلك أغوار الموضوع نفسه بحثا عن منفذ صحيح إلى طبيعته الحقة.
على أن انفتاح التساؤل ليس انفتاحا مطلقا؛ لأن لكل سؤال دائما اتجاها معينا، ولأن معنى السؤال يتضمن سلفا الاتجاه الذي يتعين على الإجابة أن تأتي فيه إذا شاءت أن تكون ملاءمة وذات معنى، وأنت إذ تضع السؤال تكون قد وضعت الشيء الذي تسأل عنه في ضوء معين، تكون قد اقتحمت وجود الشيء وفتحته عنوة، التساؤل الحقيقي إذن يفترض الانفتاح (أي إن الجواب غير معروف) وفي الوقت نفسه يشير إلى اتجاه ويحدد حدودا.
هذه الظاهرة بطبيعة الحال تطرح مشكلة: كيف تسأل السؤال الصحيح؟ فمن الواضح أن منطلق السؤال قد يكون خطأ ومن ثم لا يؤتي معرفة حقيقية. يرى جادامر أن ليس هناك إلا سبيل واحد للظفر بالسؤال الصحيح، وهو الانغمار في الموضوع نفسه؛ ولذلك ف «الحوار الحقيقي هو نقيض الجدل أو المناظرة»، لأن «المجادل» بطبيعته يتمسك بالجواب الذي بدأ به، أما «المحاور» فهو لا يحاول أن يحرج الطرف الآخر، بل يختبر دعاواه في ضوء الموضوع نفسه، ونحن إذا أنعمنا النظر في محاورات أفلاطون عن الحب أو الأخلاق أو العدالة ... إلخ، نجد الحوار يتحرك في اتجاهات غير متوقعة؛ لأن المتحاورين في هذه المحاورات يقودهم انغماس عام في المسألة موضوع المناقشة، وحين يريد المرء أن يختبر دعاوى الشخص الآخر فهو لا يحاول أن يضعفها، بل على العكس يحاول أن يقويها، أي يحاول أن يجد نقاط قوتها الحقيقية في تناول الموضوع نفسه، هذا ما يجعل محاورات أفلاطون، في رأي جادامر، على أعلى درجة من الأهمية في زمننا المعاصر.
الموضوع العام الذي ينغمس فيه المرء (كل من المفسر والنص) في حالة الحوار التأويلي هو التراث أو الموروث، إلا أن الطرف الآخر في الحوار هو «النص»، ذلك الكيان المثبت تثبيتا عنيدا في الشكل المكتوب، لا بد إذن أن ترد الصبغة الثابتة إلى حركة الحوار، تلك الحركة التي بمقتضاها يحدث الأخذ والرد؛ فالنص يسأل المفسر والمفسر يسأل النص، هذه هي مهمة الهرمنيوطيقا: أن تخرج النص من غربته التي يجد نفسه فيها، من حيث هو شكل مكتوب ثابت، وترده إلى الحاضر الحي للحوار الذي يتقوم بالسؤال والجواب.
عندما يصلنا نص ويصبح موضوعا للتأويل فإنه يطرح على المؤول سؤالا يحاول المؤول أن يجيب عنه من خلال التأويل، ومن صفة التأويل الأصيل أن يربط نفسه بالسؤال الذي وضعه النص، أن تفهم النص يعني أن تفهم هذا السؤال، ولكي تفهم النص يلزمك أولا أن تفهم أفق المعنى أو أفق التساؤل الذي يتحدد داخله اتجاه المعنى.
غير أن النص هو خبر، تقرير
Assertion
فهو بمعنى ما جواب عن سؤال، لا السؤال الذي نطرحه نحن على النص، بل السؤال الذي يطرحه «موضوع النص»
The Subject
على النص، وحين يفهم المرء النص في ضوء السؤال الذي يجيب عنه يتعين عليه أن يمضي متسائلا فيما وراء النص من أجل أن يفسره، يتعين على المرء أيضا أن يسأل: «ما الذي لم يقله النص؟» ولن يتسنى للمرء أن يفهم النص بمعناه إلا بقدر ما يبلغ أفق سؤال يضم أيضا أجوبة أخرى ممكنة، والحق أن معنى أية عبارة هو أمر نسبي ، أمر منسوب إلى السؤال الذي تعد العبارة إجابة عنه، أي إن معنى العبارة يتخطى بالضرورة ما قيل بصريح العبارة، ولهذا المبدأ دلالة هائلة وأهمية حاسمة في مجال الدراسات الإنسانية، وعلى المرء ألا يقنع بمجرد زيادة إيضاح ما هو واضح أصلا في النص، بل يتعين أن يوضح النص داخل أفق السؤال الذي أوجده، يقول ر. ج. كولنجوود
R. G. Collingwood
مطبقا هذا المبدأ في مجال التأويل التاريخي: لكي يفهم المرء حدثا تاريخيا ما فإن عليه أن يعيد نسج السؤال الذي كانت أفعال الأشخاص التاريخية جوابا عنه. ويعد كولنجوود، في رأي جادامر، واحدا من المفكرين القلائل في العصر الحديث الذين حاولوا صياغة منطق السؤال والجواب، وحتى هذه المحاولة لم تنجز على نحو تام ومنظم.
على أن عملية إعادة بناء السؤال الذي يعد النص أو الفعل التاريخي جوابا عنه ليست عملية مغلقة على ذاتها ولا يمكن تصورها كذلك على الإطلاق، يذهب جادامر، في نقده للوعي التاريخي، إلى أن أفق المعنى الذي يقف داخله النص أو الفعل التاريخي تتم مقاربته من داخل الأفق الشخصي للمرء، فالمرء عندما يقوم بالتفسير لا يترك أفقه الخاص وراءه، بل يوسعه بحيث يدمجه بالأفق الخاص بالنص أو الفعل، كما أن التفسير ليس مسألة الوقوف على مقاصد كاتب النص أو الفاعل التاريخي، إن الموروث نفسه يتحدث في النص، وجدل السؤال والجواب يحدث انصهارا للأفقين أو التحاما بينهما، هذا هو «التحام (انصهار/التئام) الآفاق»
Horizons of Fusion
الشهير والمأثور عن هانز جادامر، فما الذي يجعل هذا الالتحام ممكنا؟ ما يجعله ممكنا هو حقيقة أن كلا الأفقين، بمعنى ما هو شيء عام وشامل ومؤسس في الوجود؛ ولذا فإن الالتقاء بأفق النص القديم، في واقع الأمر، يضيء الأفق الخاص بالمرء ويؤدي به إلى الفهم الذاتي والكشف الذاتي، فاللقاء يغدو لحظة انكشاف أنطولوجي، إنه حدث فيه يبزغ شيء ما من «السلب»
Negativity ، أي من إدراك المرء أن هناك شيئا ما لا يعرفه، أن الأشياء ليست كما كان المرء يفترض.
الانكشاف، بعبارة أخرى، يأتي كواقعة لها بنية الخبرة وبنية السؤال والجواب، إنها مسألة ديالكتيكية، فما هو «الوسط» الذي يمكن أن يحدث فيه وخلاله هذا الكشف الأنطولوجي؟ ما هو الوسط الذي بلغ من الشمول والعمومية مبلغا يسمح بانصهار الآفاق؟ ما هو الوسط الذي يختزن ويخبئ الخبرة المتراكمة لكل الأجيال الماضية من البشر؟ ما هو الوسط الذي لا ينفصل عن الخبرة ذاتها، لا ينفصل عن الوجود؟ إنه اللغة.
17 (3-2) طبيعة اللغة (أ) اللغة ليست أداة (الطابع غير الأداتي للغة)
في القلب من تصور جادامر للغة رفضه لنظرية «العلامة»
Sign
في طبيعة اللغة، وفي مقابل التوكيد على الشكل وعلى الوظائف الأداتية للغة يشير جادامر إلى طبيعة اللغة الحية ومشاركتنا فيها، يقول جادامر إن تحول الكلمة إلى «علامة» هو أمر أساسي في العلم، فالعلم غايته المثالية هي التسمية الدقيقة والمفاهيم المحددة غير الملتبسة، لقد أصبح تصور الكلمات على أنها علامات تصورا شائعا وبديهيا، بحيث يقتضي الأمر عملا بطوليا من الرياضة الذهنية لكي نتذكر أن حياة اللغة خارج نطاق العلم ومطلبه الخاص من الدقة والتحديد تمضي في طريقها غير متأثرة بذلك.
أن تنظر إلى الكلمات على أنها علامات هو أن تسلبها قوتها البدئية الأصلية وتجعلها مجرد أدوات أو وسائل لتسمية الأشياء، «وحيثما تم النظر إلى الكلمة في وظيفتها كمجرد علامة فإن العلاقة الأصلية بين الكلام والتفكير تتحول إلى علاقة «أداتية»، تغدو الكلمة أداة للتفكير وتقف كمقابل للتفكير وللشيء الذي تسميه، ولا نعود نرى العلاقة العضوية بين الكلمة وما تسميه، بل نرى الكلمة كمجرد علامة، بذلك يظهر التفكير كشيء منفصل عن الكلمات ويستخدم الكلمات للإشارة إلى الأشياء.»
متى ظهرت نظرية العلامة في الفكر الغربي؟ يتعقب جادامر هذا التصور في التاريخ ويربطه بفكرة «اللوجوس» في الفكر اليوناني، يقول جادامر: «إذا اختزل نطاق الأمور العقلية
The Noetic
بعناصره المتعددة وتم تمثيله بنطاق «اللوجوس»، فإن الكلمة تغدو عندئذ، شأنها شأن العدد، مجرد علامة على وجود محدد جيدا، ومن ثم معروف سلفا، بذلك ينقلب السؤال على نفسه، يغدو التساؤل، من حيث المبدأ، معكوسا: فالآن لا يمضي المرء من المسألة المطروحة إلى السؤال عن وجود الكلمات بوصفها وسائط، بل نبدأ بالوسيط - أي الكلمات - ثم نسأل: ماذا وكيف تنقل العلامة شيئا ما لمستخدمها؟ في صميم طبيعة «الطبيعة» أنها تحظى بوجودها وخاصيتها الحقيقية الوحيدة في وظيفة الاستعمال، حين يجري استخدامها.»
إنها تختفي في وظيفتها (التسمية)، ولا تعود مهمة في ذاتها ككلمة بل كعلامة فقط، لا يعود يشار إلى قوتها على كشف الوجود، بل يتلوى «اللوجوس» تزويد العلامات بواقع جاهز معروف سلفا لكي تشير إليه، لا تعود هناك مشكلة في جانب الكلمات وتتركز المشكلة الحقيقية في جانب الذات التي تستخدم الكلمات، هكذا ينظر إلى الكلمات كأدوات للإنسان من أجل توصيل فكره، وهكذا ينظر إليها في النهاية على أنها أداة للذات منفصلة تمام الانفصال عن وجود الشيء الذي تفكر فيه.
يتصل بهذه الفكرة اتصالا وثيقا تصور اللغة كشكل رمزي، وهو التصور الذي أصبح مألوفا لنا من خلال فلسفة إرنست كاسيرر
E. Cassirer ، فهنا أيضا ما تزال الوظيفة الأداتية للغة هي المبدأ وهي الأساس، وإن كان ذلك بطريقة تتجاوز وظيفتها كمجرد علامة، يرى جادامر أن لغويات كاسيرر الحديثة، وكذلك فلسفة اللغة الحديثة بصفة عامة، تخطئ حين تجعل «الشكل» في اللغة قاعدتها ومحور اهتمامها، فهل اللغة، بوصفها لغة، هي شكل رمزي؟ وهل يفي مفهوم الشكل بما يمكننا أن نسميه «الصبغة اللغوية
Lsinguisticality
للخبرة الإنسانية»؟ أو هو تصور سكوني يجرد الكلمة من طابعها كحدث، من قوتها على القول، من منزلتها كشيء أكثر بكثير من مجرد أداة للذات؟
فإذا لم تكن اللغة علامة، ولا هي شكل رمزي يبدعه الإنسان، فماذا تكون إذن؟ أولا وقبل كل شيء، الكلمات ليست شيئا ينتمي للإنسان، بل هي شيء ينتمي إلى الموقف! إن المرء ليبحث عن الكلمات، الكلمات التي تنتسب إلى الموقف، إن ما تحمله الكلمات حين يقول المرء «الشجرة الخضراء» ليس تأملا انعكاسيا بشريا بقدر ما هو الموضوع نفسه ، الذي يهم هنا ليس شكل العبارة أو حقيقة أن العبارة تدلي بها ذات إنسانية، بل المهم هنا هو حقيقة أن الشجرة يتم كشفها في ضوء معين، إن صانع العبارة لم يخترع أي كلمة من كلماتها، لقد تعلمها، وعملية تعلم اللغة لا تأتي إلا بالتدريج ومن خلال الانغمار في تيار الموروث، صانع العبارة لم يصنع كلمة ثم يسبغ عليها معنى معينا، فهذا التصور هو بناء ذهني محض للنظرية اللغوية، يقول جادامر: «الكلمة اللغوية ليست «علامة» يقبض عليها المرء، ولا هي شيء موجود يشكله المرء ويسبغ عليه معنى ما فيصنع منه علامة ليظهر بها شيئا آخر، فكلا الاحتمالين خطأ، وإنما وجه الأمر أن المعنى الأمثل يقبع في الكلمة نفسها، إن الكلمة هي دائما محلاة بالمعنى سلفا.»
من الخطأ أن نتصور أن الخبرة هي معطى غير لغوي يقيض المرء له كلمات بشكل لاحق ومن خلال فعل تأملي انعكاسي، إنما الخبرة والتفكير والفهم شيء لغوي قلبا وقالبا، وما يفعل المرء حين يصوغ عبارة إلا أن يستخدم الكلمات المنتسبة أصلا إلى الموقف، وإن تقييض كلمات لوصف الخبرة ليس بالفعل العشوائي، بل هو إذعان لمقتضيات الخبرة.
تكوين كلمات إذن ليس صنيعة التأمل بل الخبرة، إنه ليس تعبيرا عن روح أو عقل بل عن موقف أو وجود: «والتفكير الذي يبحث عن تعبير لا يربط نفسه ب «عقل» بل بحقيقة، بمسألة.» ولكي يوضح جادامر العلاقة الوثيقة بين الكلمة والتفكير والقول فهو يشير إلى مذهب «التجسد»
Incarnation : إن وحدة الفكر والقول الخاصة بسر التجسد في عقيدة التثليث (الكلمة كان كلمة حتى قبل أن يصبح جسدا) تتضمن فكرة أن الكلمة الباطنة للروح لا تتكون من خلال فعل تأملي.» تنبثق الكلمة بالطبع من عملية نشاط ذهني، إنما يريد جادامر أن يقول بأنها ليست تجسيدا ذاتيا للتأمل نفسه، فمبدأ الأمر ومنتهاه في عملية تكوين الكلمات ليست التأمل الانعكاسي بل الموضوع أو المسألة التي يجري التعبير عنها في كلمات.
أن ترى اللغة أداة للتأمل البشري، أو ترى الكلمات أدوات للذات، هو أشبه بأن تجعل الذيل يهز الكلب! أن تجعل الشكل هو نقطة البداية في اللغة هو في جوهره تكرار لنفس الخطأ الذي ترتكبه الاستطيقا حين تجعل الشكل نقطة بدايتها، إنك إذن تجرد الظاهرة من طابعها كحدث وتفقدها «زمانيتها»، وأهم من ذلك أنك تقع في خطأ اتخاذ الذات الإنسانية، بدلا من طبيعة الشيء المراد التعبير عنه، كنقطة مرجعية ثابتة، ذلك أنه في حالة اللغة فإن قوتها القولية، وليس شكلها، هي الحقيقة المحورية والحاسمة، لا يمكن للشكل أن ينفصل عن المضمون، غير أننا حين ننظر إلى اللغة كأداة فنحن نفصلهما تلقائيا، لا ينبغي للغة، في رأي جادامر، أن تصنف وفقا للشكل بل وفقا لما تنقله إلينا اللغة تاريخيا، لا يمكن للغة أن تنفصل عن الفكر.
هكذا يبرهن جادامر على مبدأ وحدة اللغة والفكر نفسه، ومبدأ الصبغة غير التأملية لعملية تكوين الكلمات، وكلا المبدأين يرفض فكرة اللغة كعلامة، اللغة عند جادامر ظاهرة شاملة محيطة، كالفهم نفسه، ومن المحال الإمساك بها كواقعة أو موضعتها على نحو كامل، اللغة، شأنها شأن الفهم، تغمر كل شيء وتحيط بكل شيء يمكن أن يصبح موضوعا لنا، وقد لاحظ جادامر أن اليونانيين الأوائل لم يكن لديهم كلمة أو تصور للغة نفسها، فاللغة، شأنها شأن الوجود والفهم، هي «وسط» وليست أداة، ويوجز جادامر رأيه عن الشكل، وعن وحدة الفكر واللغة والفهم، وعن خفاء اللغة ولا شعوريتها فيقول: «اللغة التي تحيا في الكلام، اللغة التي تغمر كل شيء وتحيط بكل فهم وتحيط بكل مفسري النصوص، تلتحم بعملية الفكر (ومن ثم بالتأويل) التحاما، بحيث لا يبقى في يدنا شيء لو أننا انصرفنا عما تسلمنا إياه اللغة في المضمون وأردنا التفكير في اللغة كشكل، لم تزل لا شعورية اللغة هي أسلوبها الحقيقي الأصيل في الوجود.»
18 (3-3) اللغة وكشف العالم
إذا كانت وظيفة اللغة ليست الإشارة إلى الأشياء، وإذا كان اتجاه اللغة لا يمضي من الذات، عبر العلامة/الأداة، إلى الشيء المسمى، فنحن إذن بحاجة إلى تصور للغة ووظيفتها يمضي في الاتجاه الآخر: من الشيء أو الموقف - عبر اللغة - إلى الذات، وقد قيض جادامر لهذا الغرض مفهوم الكشف أو التمثيل؛ فاللغة تكشف لنا عالمنا (ولا نعني بعالمنا بيئتنا التي يتناولها العلم بل نعني عالمنا الحياتي)، ولكي نفهم تصور جادامر للغة علينا أولا أن نذكر ما يعنيه بالعالم؛ لأن اللغة عنده هي التي تخلق إمكانية أن يكون للإنسان عالم.
والعالم غير البيئة، فالإنسان وحده هو من لديه عالم، «يتعين على المرء لكي يكون له عالم أن يكون قادرا على أن يحتفظ أمامه بفضاء مفتوح يتسنى فيه للعالم أن يتكشف له كما هو، أن تمتلك عالما يعني في الوقت نفسه أن تمتلك لغة.» الحيوانات مثلا ليس لديها عالم، وليس لديها لغة، من المؤكد أن الحيوانات يفهم بعضها بعضا بطريقة ما، ولكن هذا ليس لغة (اللهم إلا عند رجل العلم الذي يعتنق نظرة أداتية محضة إلى اللغة بوصفها علامة)، فاللغة بوصفها القدرة على فتح فضاء يكشف فيه عالم عن نفسه هي شيء لا يملكه الحيوان، فالحيوانات، على سبيل المثال، لا يمكنها استخدام جهازها التواصلي في الوصول إلى «فهم» حول موقف أو حدث في الماضي أو المستقبل، وحدها اللغة، بقوتها الحقيقية على تأسيس عالم، يمكنها أن تفعل ذلك.
من بالغ الخطأ أن ننظر إلى هذا «العالم» على أنه من ممتلكات الذات أو مقتنياتها، فهذا خطأ يسم ويميز التفكير الحديث المرتكز على الذاتية، إنما العالم شيء «بين ذاتي»
Intersubjective
و«عبر شخصي»
Transpersonal
وكذلك اللغة، ولما كانت اللغة مصنوعة لتلائم العالم فهي مهيأة للعالم وليس لذاتيتنا، بهذا المعنى (وليس بالمعنى العلمي) تكون اللغة شيئا موضوعيا.
العالم إذن ليس شيئا لا شخصيا، ولا هو دائرة مغلقة على فرد معزول كأنها بالون هائل من إسقاط عقله وإدراكاته، والأقوم أن ننظر إلى العالم على أنه «بين الأشخاص»، إنه الفهم المشترك بين الأشخاص والوسط الحامل لهذا الفهم، والشيء الذي يتيحه ويجعله ممكنا هو اللغة، واللغة، بوصفها مجال تفاعل متبادل، ليست في حقيقتها «أداة» مشيدة من أجل الفهم، فلو كان الأمر كذلك لكان الإنسان يعيش في نطاق أشبه بنطاق الفهم القائم بين الحيوانات، إنما الفهم في حالة الإنسان هو فهم لغوي، ومن ثم فالذي بين الناس هو «عالم»، العالم إذن هو أرض مشتركة يميزها كل شخص وتربط بين كل من يتواصل في إطارها.
وحيث إن الفضاء المفتوح الذي يعيش فيه الإنسان هو مجال الفهم المشترك الذي تخلقه اللغة بوصفه عالما، فمن البين إذن أن «الإنسان يعيش في اللغة». «ما كانت اللغة مجرد شيء مثبت يصادفه الإنسان في عالمه، إنما في اللغة ومن خلال اللغة يتسنى للإنسان أن يمتلك عالما على الإطلاق.» يعني ذلك أن كلا من اللغة والعالم يند عن التحول الكامل إلى «موضوع»
Object ، اللغة (وكذلك العالم) تشمل الإنسان وتحيطه وتغمره بحيث لا يستطيع الإنسان، بأي معرفة أو تأمل، أن يتجاوز اللغة أو العالم. بهذا المعنى يمكننا القول بأن الخبرة اللغوية بالعالم هي «مطلق»
Absolute
من المطلقات، وما من موضوع للمعرفة إلا هو مشمول باللغة وواقع داخل أفق اللغة، ولنا أن نسمي هذه الحقيقة «الصبغة اللغوية لخبرة الإنسان بالعالم».
من شأن هذا التصور أن يوسع الأفق الذي نرى فيه الخبرة التأويلية توسيعا هائلا، فالذي نفهمه من خلال اللغة ليس مجرد خبرة معينة بل العالم الذي تتكشف داخله هذه الخبرة، إن قدرة اللغة على الكشف تتخطى حتى الزمان والمكان، وبإمكان نص قديم من أناس ذهبوا منذ عهد بعيد أن يحيي العالم اللغوي «بين الشخصي» الذي كان موجودا بين أولئك القوم بدقة مذهلة ويجعله حاضرا أمامنا، هكذا تتحلى عوالمنا اللغوية الخاصة بعالمية معينة تكمن في هذه القدرة على فهم موروثات أخرى وأماكن أخرى، يقول جادامر: «إن عالمنا اللغوي الخاص، هذا العالم الذي نعيش فيه، ليس بالسياج الضيق الذي يعوق معرفة الأشياء كما هي، بل هو على العكس عالم رحب يحيط بكل شيء يمكن لبصيرتنا أن تمده وترفعه، من المؤكد أن كل تراث يرى العالم بطريقة مختلفة عن غيره، وأن العوالم التاريخية على مر التاريخ قد اختلفت عن بعضها البعض وعن عالمنا اليوم، غير أن العالم، في الوقت نفسه، هو دائما عالم إنساني، وهذا يعني أنه عالم من خلق اللغة، عالم ممثل في موروث أيا ما كان هذا الموروث.»
19
تتمتع اللغة بقدرة على القول تسمح لها أن تخلق العالم الذي يمكن لكل شيء أن يتكشف فيه، وتتمتع اللغة بشمول وإحاطة تسمح لنا أن نفهم مختلف العوالم التي تمثلت في اللغة مهما تباينت وتنوعت، وتتمتع اللغة بقوة كشف تسمح حتى للنص القصير نسبيا أن يفتح عالما مختلفا عن عالمنا، غير أن بإمكاننا أن نفهمه. (3-4) الصبغة اللغوية والخبرة التأويلية
الخبرة التأويلية، كما لاحظنا، هي لقاء بين موروث في هيئة نص منقول عبر الزمن وبين أفق المفسر، وتقدم الصبغة اللغوية الأرض المشتركة التي يتقابلان فيها وعليها، واللغة هي الوسط الذي يختبئ فيه التراث وينتقل عبر الزمن. الخبرة ليست شيئا ما يأتي سابقا على اللغة، بل الخبرة نفسها تحدث في اللغة وخلال اللغة، الصبغة اللغوية هي شيء يغمر الإنسان التاريخي ويتخلل طريقته في الوجود في العالم، والإنسان كما لاحظنا لديه «عالم» ويعيش في عالم؛ وذلك بسبب اللغة وبفضل اللغة.
ومثلما «ينتمي» الإنسان إلى جماعة معينة فإنه ينتمي إلى زمن ومكان معينين في التاريخ، وينتمي إلى بلد معين، والمرء لا يقول إن الجماعة تنتمي إليه أو إن التاريخ من الممتلكات الشخصية لذاتيته، ولا هو بأية حال يتحكم في بلده بقدر ما يتحكم بلده في حياته وينظمها، إنه ينتمي إلى هذه الأشياء ولا تنتمي هي إليه، إنه يشارك «فيها»، بنفس الطريقة وبنفس القياس نحن ننتمي إلى اللغة والتاريخ، نشارك فيهما، نحن لا نسيطر على اللغة بقدر ما نتعلمها ونذعن لمقتضياتها، وقوة اللغة على تنظيم فكرنا وتطويعه لا تعود إلى تصلب في اللغة أو قصور بل إلى الموقف وإلى الحالة التي توصلها. الموقف إذن ومقتضى الحال هو ما ينبغي أن نمتثل له ونكيف تفكيرنا وفقه، اللغة ليست سجنا بل هي فضاء مفتوح في الوجود يسمح بالتوسع اللانهائي بحسب انفتاح المرء على التراث.
لظاهرة الانتماء هذه أهمية كبرى للخبرة التأويلية، فهي تتيح الالتقاء بموروث المرء في النص، فبفضل انتمائنا للغة وانتماء النص إليها في الوقت نفسه يغدو انبثاق أفق مشترك أمرا ممكنا، وانبثاق (أو بزوغ) أفق مشترك هو ما يسميه جادامر «التحام الآفاق» كما يحدث للوعي التاريخي الحق، هكذا يتبين أن الصبغة اللغوية هي الأساس الذي يقوم عليه الوعي التاريخي الحق، فالانتماء للغة والمشاركة فيها بوصفها الوسط الخاص بخبرتنا بالعالم (بل السبب الذي يتيح لنا أن يكون لدينا عالم، فضاء مفتوح يمكن لوجود الأشياء أن يتجلى فيه) هما الأساس الحقيقي للخبرة التأويلية.
يعني ذلك من الوجهة المنهجية أن المرء لا يسعى إلى أن يكون سيدا على النص بل أن يكون «خادما» له، ولا يحاول أن يلاحظ ويرى ما في النص بقدر ما يتبع ما يقال بواسطة النص ويشارك فيه ويصغي إليه، وهنا يتلاعب جادامر بالعلاقة بين الاستماع والانتساب والخدمة التي توحي بها كلمة
Zugehorigkeit (الانتماء)، يذهب جادامر إلى أن السمع أهم من البصر وأكثر قوة، «فلا شيء يمكن أن يند عن السمع من خلال اللغة.» لماذا كان ذلك؟ لأنه من خلال السمع، من خلال اللغة، يجد المرء منفذا إلى «اللوجوس»، إلى العالم الذي ننتمي إليه. هذا بالتحديد ما يمنح الخبرة التأويلية أهميتها بالنسبة للحياة الحاضرة للمفسر، هذه الموضوعية الخاصة التي تتحلى بها اللغة والتي تجعلها قادرة على كشف اللثام عن الأشياء كما هي، وهذه الأبعاد الأعمق للغة والتي تستمد منها قوتها على كشف الأشياء في وجودها، هي ما يضفي على اللغة تلك العمومية الأنطولوجية التي تجعل الخبرة التأويلية خبرة كشف أنطولوجي مفصح بصورة مباشرة، هذا هو السبب الذي يجعل بمكنة التراث أن يخاطبنا، لا مصادفة ولا بهرجة، بل بطريقة تؤثر علينا مباشرة وتعني شيئا معينا بالنسبة لنا.
20
نخلص من ذلك إلى أن المنهج الملائم للموقف التأويلي الذي يضم المفسر والنص هو المنهج الذي يضع المفسر في حالة انفتاح تسمح بأن يخاطبه التراث، إنها حالة توقع وتحسب وانتظار لشيء ما أن يحدث، يدرك المفسر في هذه الحالة أنه ليس عارفا يلتمس موضوعه ويمتلك زمامه ويقتنيه عن طريق اتباع منهج يطلعه على جلية النص ويكشف له ما يعنيه حقا ويهيب به أن يترك تحيزاته جانبا وينظر بعقل مفتوح نظرة موضوعية خالصة، لا، ليس هذا منهج جادامر في التأويل، فالتأويل عند جادامر هو أن يكبح المفسر رغبته في التسلط والتسيد على النص، وأن يضع نفسه في حالة تلقي «خبرة» لا معرفة، فاللقاء بالنص ليس استيعابا تصوريا لشيء ما، بل هو «حدث» فيه ينفتح عالم ما أمام المفسر، وحيث إن كل مفسر يقف في أفق جديد فالحدث الذي يجري، لغويا، في الخبرة الهرمنيوطيقية هو شيء جديد يبزغ، شيء لم يكن موجودا من قبل، في هذا الحدث القائم على الصبغة اللغوية، والمتاح من خلال اللقاء الجدلي بمعنى النص، تتحقق الخبرة الهرمنيوطيقية وتبلغ تمامها.
خاتمة
في «الحقيقة والمنهج» بلغ جادامر بالهرمنيوطيقا مستوى جديدا من الشمول والإحاطة، لقد جهد كل من دلتاي وإميليو بتي من أجل تأسيس هرمنيوطيقا عامة وشاملة للعلوم الإنسانية، فماذا عن العلوم الطبيعية؟ هل تتطلب فهما من نوع مختلف؟ لقد خلص الاثنان إلى أن تفسير نص منحدر إلينا تاريخيا يتطلب فعلا من الفهم التاريخي متميز تماما عن الفهم الذي يمارسه العالم الطبيعي، أما جادامر فقد رفض هذا التمييز لأنه لم يعد يتصور الهرمنيوطيقا كشيء مقصور لا على النص ولا على العلوم الإنسانية.
الفهم، عند جادامر، هو دائما حدث لغوي جدلي تاريخي، سواء كان ذلك في مجال العلوم أو في الإنسانيات أو في فن الطهي، والهرمنيوطيقا هي أنطولوجيا الفهم وفينومينولوجيا الفهم أيضا. الفهم ليس فعلا للذاتية الإنسانية، كما يفترض التصور التقليدي، بل هو الطريقة الأساسية لوجود الدازاين (الآنية) في العالم، أو أسلوبه في الوجود. الفهم ليس شيئا يفعله الإنسان بل هو شيء يكونه، ومفاتيح الفهم ليست التلاعب والسيطرة بل المشاركة والانفتاح، ليست المعرفة بل الخبرة، ليست الميثودولوجيا (المنهج) بل الديالكتيك (الجدل)، وليست غاية الهرمنيوطيقا عند جادامر أن تقدم قواعد للفهم «الصائب موضوعيا» بل أن تتصور الفهم نفسه بطريقة شاملة محيطة قدر المستطاع. لم يكن ما يشغل جادامر هو الفهم الأكثر صوابا (وبالتالي تقديم معايير للتأويل الصحيح) شأن ناقديه بتي وهيرش، بل الفهم الأكثر عمقا، الأكثر أصالة.
أخذ جادامر بتعريف هيدجر الأصلي الشامل للفهم، وتعمقه إلى مداه مقتفيا كتابات هيدجر المتأخرة، فأبرز الجانب الأنطولوجي واللغوي للفهم، وهو بهذا السعي وبمحاولته لتأسيس هرمنيوطيقا فلسفية منظمة فقد اقترب كثيرا من هيجل الذي يمثل قوة مؤثرة كبرى في الفلسفة الألمانية. إن الطابع الجدلي والنظري عند جادامر ليذكرنا بهيجل على الفور، وإن وجه الشبه بين فينومينولوجيا الفهم عند جادامر وبين فينومينولوجيا الروح عند هيجل هو أمر لا يمكن إغفاله.
لعل من الصواب أن تقول إن جادامر كان يميل إلى الوفاق مع هيجل بالقدر الذي يحيد به عن هيدجر، ومن الصواب من جهة أخرى أن نقول إن هرمنيوطيقا جادامر الجدلية هي، ببساطة، امتداد بفكر هيدجر نفسه وتصريح بمضمره. لقد أخذ نظرية هيدجر في الفهم والأنطولوجيا ونقد النزعة الذاتية الإنسانية الحديثة ونقد التكنولوجيا، وطور، بلا تناقض جذري مع هيدجر، هرمنيوطيقا نظرية ديالكتيكية أنطولوجية متمركزة على اللغة.
ولعل المسحة الهيجلية لهرمنيوطيقا جادامر الهيدجرية أساسا هي بمثابة تحسين لتصور هيدجر، يتجلى ذلك بوضوح عندما يلاحظ المرء ميل هيدجر في كتاباته المتأخرة إلى وصف الفهم في حدود سلبية: الفهم ليس فعلا للإنسان بل هو حدث فيه! حيث يبزغ خطر أن يتحول الإنسان إلى بقعة سلبية في تيار اللغة والتراث. إن جادامر لا يوغل في الطرف الآخر الذي يعد ذاتية الإنسان بمثابة نقطة البدء في كل تفكير عن الفهم، ولكنه يتخذ بالفعل موقفا يسمح بدرجة أكبر من التفاعل الدينامي عندما يتحدث عن «الخبرة» وعن «انصهار الآفاق»، ومن الجدير بالذكر، في هذا الصدد، أن النقد الحديث الذي وجهه جان-ماري دوميناك لبنيوية ليفي شتراوس وميشيل فوكو لا يطال جادامر بقدر ما يطال هيدجر: «ثمة توجه عام في فلسفة اليوم يريد أن يعكس نظام المصطلحات التي درجت عليها الفلسفة حتى الآن، وأن ينفي النشاط المستقل للوعي: أنا لا أفكر بل أفكر، لا أقول بل أقال، لا أتناول شيئا ما بل أتناول، إنه من اللغة يأتي كل شيء وإليها يعود ... إلخ، لقد صار النسق، في دعوى هؤلاء، سيدا على الإنسان، النسق
The System ، ذلك التفكير البارد غير الشخصي والمشيد على حساب كل ذاتية فردية أو جمعية، ينفي أخيرا إمكان وجود ذات قادرة على التعبير والفعل المستقل.»
ومن الإنصاف أن نقول إن المدخل الفينومينولوجي بريء من تلك الموضوعية المجردة للنسق الخالص التي لا تحسب للإنسان حسابا، ومن ثمن فمن الخلط والعبث أن نحشر هيدجر أو جادامر في زمر ة البنيويين، ولكن يبقى أن نحسب لجادامر مزية انفرد بها بفضل نزعته الهيجلية: إنه بقدر جدليته بالتحديد وحديثه عن الطبيعة الجدلية للخبرة كمبدأ أساسي في تأويليته، فهو يسمح بتصور الفهم كفعل شخصي وليس كمجرد «حدث يحدث». «الحقيقة والمنهج» إذن يفتح أفقا بأكمله من الاعتبارات في النظرية الهرمنيوطيقية، فاتحا، ربما، مرحلة جديدة مثمرة في التفكير الحديث حول التأويل، وبينما نقل هيدجر الهرمنيوطيقا إلى تصور حدث الفهم أنطولوجيا، فإن جادامر طور أنطولوجيا الفهم إلى هرمنيوطيقا جدلية تضع موضع التساؤل أرسخ بديهيات الاستطيقا الحديثة والتأويل التاريخي، وأمكنها أن تقدم الأساس الفلسفي لنقد جذري لتصورات التأويل السائدة في النقد الأدبي الحديث.
21
تذييل: أهمية أرسطو في الهرمنيوطيقا الحديثة
المعرفة العملية
إذا كان لب المشكلة الهرمنيوطيقية هي أن التراث الواحد ينبغي أن يعاد فهمه مرة أخرى بطريقة مختلفة، فإن المشكلة من الوجهة المنطقية تتعلق بالصلة بين الكلي والجزئي، الفهم إذن هو حالة خاصة من تطبيق شيء عام على موقف خاص، الأمر الذي يجعل علم الأخلاق الأرسطي ذا أهمية وصلة بالنسبة لنا، صحيح أن أرسطو لم يكن معنيا بمشكلة الهرمنيوطيقا، ولا سيما بعدها التاريخي، بل بالتقدير السليم للدور الذي يتعين على العقل أن يضطلع به في الفعل الأخلاقي، غير أن ما يهمنا في هذا المقام هو بالتحديد أن أرسطو كان معنيا بالعقل والمعرفة غير منفصلين عن الكائن الإنساني في صيرورته الدائمة، بل محددين لذلك الكائن ومحددين به، لقد خفف أرسطو من حدة النزعة الذهنية عند سقراط وأفلاطون حين شرع في استقصاء مسألة الخير، وبذلك أصبح أرسطو هو مؤسس علم الأخلاق كمبحث مستقل عن الميتافيزيقا.
تناول أرسطو بالنقد فكرة أفلاطون عن الخير ووصفها بأنها تعميم فارغ، وشرع بدلا من ذلك في التساؤل عما هو خير بشكل إنساني، ما هو الخير كصفة تسند إلى الفعل الإنساني (انظر «الأخلاق النيقوماخية» الجزء الأول، القسم 4)، وقد بين أرسطو في نقده أن مساواة الخير بالمعرفة (وهو أساس نظرية سقراط وأفلاطون في الفضيلة) هي مبالغة وشطط، وأعاد الأمر إلى نصابه بأن أوضح أن أساس المعرفة الأخلاقية عند الإنسان هو المجاهدة والكدح وتطورهما إلى خليقة مكينة وسلوك ثابت
Hexis ، وإن اللفظة نفسها
Ethics
لتدل على أن أرسطو يقيم الفضيلة على الممارسة وعلى الإيثوس، (
Ethios
الطبع، الشخصية).
تختلف الحضارة الإنسانية عن الطبيعة اختلافا جوهريا في أنها ليست مكانا تحقق فيه الإمكانات والقدرات نفسها ببساطة، إن الإنسان يصبح ما هو خلال ما يفعله وكيف يفعله، أي إنه يتصرف بطريقة معينة يمليها ما وصل إليه وما أصبح عليه، هكذا يختلف «الإيثوس» عن «الفيزيس» في أنه نطاق تتوقف فيه قوانين الطبيعة عن العمل، غير أنه ليس مجالا بلا قانون، وإنما هو مجال النظم البشرية وطرائق الفعل الإنسانية التي تتسم بالتغير وعدم الثبات ولا تشبه القوانين إلا شبها ضئيلا.
22
والسؤال الحق هو ما إذا كان بالإمكان وجود شيء من قبيل المعرفة الفلسفية الخاصة بالوجود الأخلاقي للإنسان، وأي دور يمكن أن تضطلع به المعرفة (اللوجوس) في الوجود الأخلاقي للإنسان، فإذا كان الإنسان بصفة دائمة يواجه الخير في هيئة موقف عملي محدد يجد نفسه فيه فإن مهمة المعرفة الأخلاقية هي أن تحدد له ما يطلبه منه الموقف العياني ويهيب به أن يفعله، أو بعبارة أخرى ينبغي على الشخص الفاعل أن ينظر إلى الموقف العياني في ضوء ما هو مطلوب منه بصفة عامة، غير أن هذا، إن وضعناه بصيغة سلبية، يعني أن المعرفة التي لا يمكن أن تطبق على الموقف العياني تبقى معرفة بلا معنى، بل تعرض ما يتطلبه الموقف للتعتيم والإبهام، هذا الحال الذي يمثل طبيعة التأمل الأخلاقي يجعل الفلسفة الأخلاقية مشكلة صعبة منهجيا، ليس هذا فحسب، بل إنه يجعل مشكلة المنهج مشكلة ذات صلة بالأخلاق، وفي مقابل نظرية الخير القائمة على مذهب أفلاطون في المثل فإن أرسطو يؤكد أن من المحال على علم الأخلاق أن يبلغ الدقة المتناهية التي تتمتع بها الرياضيات، بل إن طلب هذا الصنف من الدقة هو في حقيقة الأمر طلب غير ملائم، إن ما يلزمنا فعله هو، ببساطة، أن نضع صورة عامة وبواسطة هذا المخطط التمهيدي نكون قد قدمنا للوعي الأخلاقي بعض العون (انظر «الأخلاق النيقوماخية»، الجزء الأول، القسم 7، والجزء الثاني، قسم 2)، ولكن كيف يتأتى هذا العون وكيف يكون ممكنا؟ إن هذا يمثل مشكلة أخلاقية بحد ذاته، فمن الواضح أن من سمات الظاهرة الأخلاقية أن الشخص الفاعل يتعين عليه أن يعرف ويقرر بنفسه، ولا يمكن لأي شيء آخر أن ينهض بهذه المسئولية نيابة عنه، هكذا يتبين أن على علم الأخلاق بوصفه مبحثا فلسفيا أن يحوز بالضرورة على المدخل الصحيح بحيث لا يغتصب مكان الوعي الأخلاقي، غير أن عليه أيضا ألا ينشد معرفة نظرية و«تاريخية» خالصة، بل عليه، بترسيم الظاهرة، أن يساعد الوعي الأخلاقي على أن يبلغ الوضوح والجلاء فيما يتعلق بذاته، إن هذا يفرض على من يرغب في تلقي هذا العون (أي الشخص الذي يستمع إلى محاضرة أرسطو) أشياء كثيرة: إن عليه أن يكون من النضج بحيث لا يطلب من تعاليم أرسطو أكثر مما تملك أن تقدمه، ويمكننا، بصيغة إيجابية، أن نقول إن عليه، من خلال التعليم والممارسة، أن يكون قد حقق هو نفسه مسلكا يحرص على التزامه في المواقف العيانية لحياته وعلى تصويبه من خلال التصرف الصائب.
23
كما رأينا فإن مشكلة المنهج يحددها الموضوع تحديدا تاما، وذلك مبدأ أرسطي عام، وما يهمنا حقا هو أن نفحص بدقة أكبر تلك العلاقة الخاصة بين الوجود الأخلاقي والوعي الأخلاقي والتي وصفها أرسطو في كتابه «الأخلاق»، لقد ظل أرسطو سقراطيا من حيث إنه أبقى المعرفة كعنصر ضروري للوجود الأخلاقي، وإن التوازن الذي أوجده بين الإرث السقراطي والأفلاطوني وبين فكرته عن «الإيثوس» هي بالتحديد ما يهمنا في هذا المقام، ذلك أن المشكلة الهرمنيوطيقية هي أيضا متميزة بشكل واضح عن المعرفة «الخالصة» المنفصلة عن أي نوع معين من الوجود، لقد تحدثنا عن انتماء المؤول للتراث الذي يؤوله، وقد رأينا أن الفهم نفسه هو حدث تاريخي . إن اغتراب المفسر عن المفسر بواسطة المنهج الموضوعي للعلم الحديث، وهو ما يميز الهرمنيوطيقا والتأريخ في القرن التاسع عشر، قد بدا كنتيجة للإضفاء الزائف للموضوعية، وهدف جادامر في الرجوع إلى مثال الأخلاق الأرسطية هو أن يساعدنا على إدراك ذلك وتفاديه؛ ذلك لأن المعرفة الأخلاقية، كما يصفها أرسطو، ليست معرفة موضوعية بكل تأكيد، أي إن الشخص العارف لا يقف بإزاء موقف يقوم بملاحظته فحسب، إنه ملتحم بشكل مباشر بما يراه، إنه شيء عليه أن يفعله.
من الجلي أن هذا ليس ما نعنيه بعملية المعرفة في مجال العلم، ومن ثم فإن التمييز الذي وضعه أرسطو بين المعرفة الأخلاقية (
) والمعرفة النظرية (
Episteme ) هو تمييز بسيط قريب المأخذ وبخاصة إذا ما تذكرنا أن العلم عند اليونان يتخذ مثله الأعلى من الرياضيات، تلك المعرفة التي تتناول ما هو ثابت لا يتغير، المعرفة التي تعتمد على البرهان والتي يمكن من ثم أن يتعلمها أي شخص، من المؤكد أن هرمنيوطيقا العلوم الإنسانية ليس لديها ما تتعلمه من المعرفة الرياضية (كمقابل للمعرفة الأخلاقية)، فالعلوم الإنسانية تأخذ موقفا أقرب إلى المعرفة الأخلاقية منه لذلك الصنف «النظري» من المعرفة، إنها «علوم أخلاقية»، موضوعها هو الإنسان وما يعرفه الإنسان عن نفسه، على أن الإنسان يعرف نفسه ككائن فاعل، وهذا الصنف من معرفة الإنسان عن نفسه لا ترمي إلى البرهان على ما هو كائن؛ فالكائن الفاعل إنما ينصب اهتمامه على شيء ليس ثابتا على الدوام بل يمكن أن يعتريه التغير. في هذا الشيء يمكنه اكتشاف النقطة التي ينبغي عندها أن يأتي فعله، إن غاية معرفته هي أن يحكم أفعاله ويسيطر عليها.
هنا تكمن المشكلة الحقيقية للمعرفة الأخلاقية التي شغلت أرسطو في مبحثه «علم الأخلاق»، ذلك أن هناك صنفا نموذجيا من الفعل الذي تحكمه المعرفة متمثلا فيما يسميه اليونان
Techne
أي الفن الحرفي أو «الصنعة»، إنها المهارة أو المعرفة التي يحوزها الحرفي الصانع الذي «يعرف كيف» يصنع شيئا معينا على وجه التحديد، والسؤال الآن هو ما إذا كانت المعرفة الأخلاقية هي معرفة حرفية من هذا النوع، أي معرفة كيف يصنع المرء نفسه: هل يتعلم الإنسان أن يصنع من نفسه ما ينبغي أن يكون عليه بنفس الطريقة التي يتعلم بها الحرفي أن يصنع أشياء معينة وفقا لخطته ومشيئته؟ هل يسقط الإنسان نفسه على «مثال» أو «صورة»
Eidos
لنفسه بالطريقة ذاتها التي يضمر بها الحرفي مثالا أو صورة عما يحاول أن يصنعه بيديه ويجسده في مادته؟
24
هذه هي النقطة التي يمكننا عندها أن نربط بين تحليل أرسطو للمعرفة الأخلاقية وبين المشكلة الهرمنيوطيقية الخاصة بالعلوم الإنسانية الحديثة، صحيح أن الوعي الهرمنيوطيقي لا شأن له بالمعرفة التقنية ولا الأخلاقية، غير أن هذين الصنفين من المعرفة ما يزالان مشتملين على مهمة «التطبيق» نفسها التي أثبتنا آنفا انها المشكلة المحورية للهرمنيوطيقا. إن التحكم الحقيقي في المادة الخام أمر مطلوب عمليا في الصنعة، وهذا بالتحديد يقدم نموذجا للمعرفة الأخلاقية، غير أن هناك فرقا واضحا بين المعرفة الأخلاقية ومعرفة «الصنعة»، فمن الجلي أن الإنسان ليس «تحت تصرف نفسه بالطريقة ذاتها التي تكون بها خامة الحرفي تحت تصرفه، ومن الجلي أنه لا يملك أن «يصنع نفسه» بنفس الطريقة التي يمكن أن يصنع بها أي شيء آخر، ومن ثم فلا بد أن المعرفة التي يتطلبها وجوده الأخلاقي غير المعرفة التي يسترشد بها في صنع شيء ما.»
وقد قبض أرسطو على هذا الفرق بطريقة جريئة وفريدة عندما أطلق على هذا النوع من المعرفة «المعرفة الذاتية» أي معرفة المرء لنفسه، إنه تعبير يفصل هذه المعرفة بشكل مباشر عن المعرفة «النظرية»، غير أنه يفصلها أيضا عن المعرفة «التقنية»، وهذه التفرقة الأخيرة، أي تفرقتها عن المعرفة التقنية، هي الأصعب إذا حددنا، كما فعل أرسطو، «موضوع» هذه المعرفة أنطولوجيا، لا كشيء عام يبقى كما هو على الدوام، بل كشيء مفرد يمكن أيضا أن يختلف، ذلك أن المهمتين تبدوان للوهلة الأولى متماثلتين تماما: فالشخص الذي يعرف كيف يصنع شيئا ما يعرف «خيرا» ويعرفه «لنفسه»، بحيث يمكنه فعلا أن يصنعه كلما واتت الظروف؛ فيأخذ الخامة الصحيحة ويتخير الوسيلة الصحيحة لإتمام العمل، لا بد إذن أنه يعرف كيف يطبق ما تعلمه بطريقة عامة على الموقف العيني الجزئي، أليس هذا الشيء نفسه هو ما يحدث بالنسبة للوعي الأخلاقي؟ أليس الشخص أيضا الذي يتخذ القرارات الأخلاقية هو دائما شخص قد تعلم شيئا ما تشكل بالتعليم والعرف، بحيث يعرف بصفة عامة ما هو الصواب، وفعل الشيء الصحيح في الموقف الجزئي، أي إنه رأى ما هو صواب داخل إطار الموقف واستوعبه؟ أليس هو أيضا ينبغي أن يفعل ما يفعله بتخير الوسيلة الصحيحة وأن يسيطر على مسلكه بنفس الإتقان الذي يتسم به رجل الحرفة؟ فكيف إذن تعد المعرفة الأخلاقية أمرا مختلفا كل الاختلاف عن المعرفة التقنية؟! من تحليل أرسطو للمعرفة العملية (
) يمكن للمرء أن يستمد إجابات مختلفة عن هذا السؤال، ذلك أن قدرة أرسطو على وصف الظواهر من كل جانب من جوانبها تشكل عبقريته الحقيقية.
إننا نتعلم «الصنعة» ويمكن أيضا أن ننساها، ولكننا لا نتعلم المعرفة الأخلاقية، ولا هو بمقدورنا أن ننساها، إننا لا نقف بإزائها، لا نقف قبالتها، كما لو كانت شيئا ما يمكن أن نكتسبه أو لا نكتسبه، مثلما يمكننا أن نختار أن نكتسب مهارة موضوعية ما، أي «صنعة»، إنما نحن دائما مغمورون في موقف حتمية الفعل، ومن ثم فلا بد أن نمتلك سلفا معرفة أخلاقية وأن نكون قادرين على تطبيقها، هذا هو ما يجعل مفهوم التطبيق إشكاليا للغاية؛ ذلك أننا لا يمكننا أن نطبق إلا شيئا هو في حوزتنا بالفعل، بيد أننا لا نملك المعرفة الأخلاقية بمعنى أن نحوزها بالفعل ثم نطبقها على مواقف محددة، صحيح أن لدى الإنسان صورة عما ينبغي أن يكونه (أفكاره عن الصواب والخطأ، عن الدماثة والشجاعة والكرامة والإخلاص ... إلخ) وأنه بالتأكيد يسترشد بها في سلوكه، ولكن يظل هناك فرق أساسي بين هذه الصورة وبين الصورة التي يسترشد بها الحرفي في صنعته، أي خطته لصنع الشيء الذي هو مقدم على صنعه، فما هو صواب مثلا لا يمكن تحديده تحديدا تاما بمعزل عن الموقف الذي يتطلب مني فعلا صائبا، بينما الصورة التي يريد الحرفي أن يصنعها هي صورة تحددها تماما تلك الفائدة المقصودة منها.
ومن الحق أن ما هو صواب يبدو أمرا محددا أيضا تحديدا مطلقا؛ لأننا نصوغه في قوانين وندرجه في قواعد عامة للسلوك يمكن، رغم أنها غير مدونة، أن تكون محددة بدقة كبيرة وملزمة للجميع، هكذا تعد إقامة العدل مهمة خاصة تتطلب المعرفة والمهارة معا في آن: ألا تكون صنعة إذن؟ أليست عبارة عن تطبيق القوانين والقواعد على الحالة العينية؟ ألسنا نتحدث عن «فن» القاضي؟ فلماذا لا يكون صنف المعرفة العملية التي يحوزها القاضي، كما يصفها أرسطو، هو تقنية أو «صنعة»؟
25
إذا أنعمنا النظر لرأينا أن تطبيق القوانين ينطوي على ضرب غريب من الالتباس القضائي. إن موقف الحرفي الصانع جد مختلف، فهو بواسطة تصميم الشيء الذي يضمره بذهنه والقواعد الخاصة بتنفيذه يمضي في تحقيق ذلك الشيء، وهو قد تضطره الظروف إلى تحوير خطته، وقد يعدل عن تصوره الأول إلى تصور آخر دون أن يعني ذلك أن معرفته عما يريد فعله قد تحسنت، وإنما وجه الأمر هنا أننا بإزاء القصور المؤلم المصاحب لتطبيق المرء لمعرفته.
أما موقف الشخص وهو «يطبق» القانون فهو موقف مختلف تمام الاختلاف، فهو في حالة معينة سيكون عليه أن يحجم عن تطبيق القانون بكل حذافيره وبكل بأسه، ليس لأنه لا يملك بدائل بل لأنه إن فعل ذلك سيجانب الصواب، وهو إذ يكبل القانون لا يتنقص منه، بل ينشد قانونا أفضل، وقد عبر أرسطو عن ذلك بوضوح كبير في تحليله للعدالة
Epieikeia (Equity) : «فالعدالة هي تصحيح القانون.» أوضح أرسطو أن كل قانون هو بالضرورة في حالة شد وتوتر مع الفعل العيني، من حيث هو - أي القانون - شيء عام؛ ومن ثم لا يمكنه احتواء الواقع العملي بكل عيانيته، ومن الجلي أن الهرمنيوطيقا القضائية تجد مكانها الصحيح هنا، ومن ثم يجب في كل قانون أن يستخدم تأويل من شأنه أن يثني القانون ويخضعه أو يطوعه لقرارات أكثر إنسانية وسماحة. إن القانون دائما ناقص، لا لأن به قصورا بحد ذاته بل لأن الواقع الإنساني هو بالضرورة منقوص ومطفف بالمقارنة بالعالم المنظم المكتمل للقانون، وهو بالتالي لا يسمح بتطبيق بسيط مباشر للقانون.
وثمة فرق آخر بين المعرفة الأخلاقية والمعرفة التقنية يتعلق بالعلاقة التصورية بين الغاية والوسيلة، لا تنطوي المعرفة التقنية بالضرورة على مداولة مع النفس وعلى تفكر وتدبر، فحيثما تواجدت صنعة ما فإن كل ما علينا هو أن نتعلمها، وعندئذ يكون بمكنتنا أن نجد الوسيلة الصحيحة، أما المعرفة الأخلاقية فهي تقتضي دائما ضربا معينا من مداولة الذات، من التفكير والتدبر وتقليب الأمر، والمعرفة الأخلاقية لا يمكن مطلقا أن تكون معروفة مقدما شأن المعرفة التي يمكن تعلمها، والعلاقة بين الوسيلة والغاية هنا ليست علاقة تقليدية تسمح بأن يعرف المرء الوسيلة الصحيحة مقدما؛ وذلك لأن الغاية الصحيحة ليست موضوع معرفة أيضا! لا يمكن أن يكون هناك يقين مقدم يتعلق بما تتجه إليه الحياة الصالحة ككل، وهذا ما يجعل تعريفات أرسطو للمعرفة العملية
غير جازمة، من حيث إن هذه المعرفة تتعلق أحيانا بالغاية أكثر من تعلقها بالوسيلة، وتتعلق أحيانا أخرى بدرجة أكبر بالوسيلة ذاتها المتخذة إلى الغاية، يعني ذلك في حقيقة الأمر أن الغاية التي تتجه إليها الحياة الصالحة ككل وترجمتها إلى مبادئ للفعل هي أمور لا يمكن أن تكون موضوعا لمعرفة قابلة للتعليم.
26
هكذا يتبين أيضا أن مجرد الملاءمة العملية أو «النجاعة» لا دخل لها بتعزيز الغايات الأخلاقية، الغاية في الأخلاق لا تبرر الوسيلة، بل النظر في الوسيلة هو نفسه اعتبار أخلاقي، وهذا بعينه هو ما يقوم الصواب الأخلاقي للغاية ويجعله عينيا ملموسا. تتسم «المعرفة الذاتية» التي يتحدث عنها أرسطو بحقيقة أنها تتضمن تطبيقا قويما وتستخدم معرفتها في الوقع المباشر للموقف المعطى، ومن ثم تكون معرفة الموقف الجزئي (وهي رغم ذلك ليست رؤية حسية) هي مكمل ضروري للمعرفة الأخلاقية، فرغم أنه من الضروري أن نرى ما يطالبنا به الموقف وما يهيب بنا أن نفعله، فإن هذه الرؤية ليست رؤية حسية، بل رؤية عقلية، بنفس المعنى الذي «نرى» به من خلال التحليل الهندسي للسطوح المستوية أن المثلث هو أبسط شكل ثنائي الأبعاد يمكن رسمه على سطح مستو، وبالتالي يستحيل علينا أن نمضي في تقسيمنا أكثر من ذلك ويتعين علينا أن نتوقف هنا، كذلك الحال في التدبر الأخلاقي، حيث رؤية ما ينبغي فعله في الحال ليست مجرد رؤية حسية بل هي رؤية عقلية
Nous ، المعرفة الأخلاقية إذن هي معرفة من نوع خاص شديد الخصوصية، فهي تضم معا على نحو غريب كلا من الوسيلة والغاية، وتختلف بالتالي عن المعرفة التقنية؛ ولذا فمن العبث أن نميز هنا بين المعرفة والخبرة مثلما نفعل بالنسبة للصنعة، فالمعرفة الأخلاقية تنطوي في ذاتها على صنف من الخبرة، ولعل هذه هي الصورة الأساسية للخبرة
Erfahrung
والتي إذا قورنت بها جميع الخبرات الأخرى لتكشفت عن مجرد اغتراب، إن لم نقل مسخ وإفساد.
27
وللمعرفة الذاتية الخاصة بالتأمل الأخلاقي علاقة فريدة مع ذاتها، وبوسعنا أن نرى ذلك من خلال التعديلات التي أجراها أرسطو في سياق تحليله للمعرفة العملية (
) فإلى جانب المعرفة العملية، فضيلة التأمل الحصيف، يقف «الفهم المتعاطف»
Sympathetic Understanding (انظر الأخلاق النيقوماخية، الجزء السادس، قسم 11). ها هنا يدخل «فهم الوجود» كتعديل لفضيلة المعرفة الأخلاقية، ففي هذه الحالة لست أنا من يتعين عليه أن يفعل، يترتب على ذلك أن الفهم المتعاطف يعني، ببساطة، القدرة على الحكم الأخلاقي، فالفهم المتعاطف لشخص ما يستوجب الثناء بطبيعة الحال عندما يضع هذا الشخص نفسه بتمامها في الموقف العيني للشخص الفاعل حتى يحكم عليه، إذن السؤال هنا ليس سؤالا عن المعرفة بصفة عامة بل عن تعينها في لحظة محددة، وهذه المعرفة أيضا ليست بأي حال معرفة تقنية أو تطبيقا لمثل هذه المعرفة، إن الشخص الدنيوي الملم بجميع الحيل والمراوغات والمتمرس بكل ما هو كائن لا يملك في حقيقة الأمر حالة واحدة، وهي أن ينشد هو أيضا ما هو صواب، أي إنه متوحد بالشخص الآخر في هذا الشأن المشترك، والمثال الملموس على ذلك هو ظاهرة إسداء النصح في مسائل الضمير، فالشخص الذي يلتمس النصح والشخص الذي يسديه يفترضان أنهما مرتبطان معا في صداقة، وحدهم الأصدقاء من بوسعهم أن ينصح بعضهم بعضا، أو لنقل بعبارة أخرى: وحدها النصيحة التي قصد بها الود الصادق ما يحمل معنى لدى متلقي النصح. مرة أخرى نكتشف أن الشخص الذي يقوم بعملية الفهم لا يعرف ولا يحكم كفرد يقف بمنأى ومعزل، بل يواكب الآخر في التفكير من منظور رابطة معينة من الانتماء، كما لو كان هو أيضا مشمولا بالموقف ومتأثرا به.
ويتجلى هذا بتمامه عندما ننظر في لونين آخرين من التأمل الأخلاقي أدرجهما أرسطو، وهما البصيرة
Insight
وحس الزمالة، البصيرة هنا تعني صفة أو كيفية، فنقول: إن شخصا ما هو شخص متبصر عندما يصدر حكما صحيحا عادلا، المتبصر هو شخص مهيأ لأخذ موقف الشخص الآخر بعين الاعتبار ومن ثم فهو أيضا أميل ما يكون إلى التسامح أو العفو، ومن الواضح هنا أيضا أن هذه ليست معرفة تقنية.
28
وأخيرا يبين أرسطو بجلاء ووضوح الطبيعة الخاصة للمعرفة الأخلاقية وفضيلة امتلاكها بأن يعرض المسخ الدنيء لهذه المعرفة الأخلاقية، وهو «الدينوس» (الفظيع)
Deinos ، إنه الشخص الذي لديه كل متطلبات المعرفة الأخلاقية وملكاتها، والذي يستطيع بمهارة كبيرة أن يستفيد من أي موقف أقصى استفادة، ولديه القدرة على أن يحول أي شيء لصالحه وأن يجد مخرجا من كل موقف، ولكن هذا النظير الطبيعي للفرونيسيس
يتسم بأنه «قادر على أي شيء»، إنه يستخدم مهاراته من أجل أي غرض دون ضابط أو رابط، وليس من قبيل الصدفة أن يطلق على مثل هذا الشخص اسما يعني أيضا
Terrible
فليس هناك ما هو أبشع ولا أغرب ولا أفظع من استخدام المواهب الفذة من أجل الشر، يقول جادامر: «وصفوة القول أن وصف أرسطو للظاهرة الأخلاقية، وبخاصة فضيلة المعرفة الأخلاقية، يتصل ببحثنا التأويلي صلة وثيقة، ذلك أن تحليله يقدم في الحقيقة نموذجا معينا من مشكلات الهرمنيوطيقا، فنحن أيضا قد ذهبنا إلى أن التطبيق ليس جزءا لاحقا ولا عرضيا من ظاهرة الفهم، بل يشارك في تحديده ككل منذ البداية، فهنا أيضا لا يتمثل التطبيق في الربط بين مبدأ كلي معطى مسبقا وبين موقف جزئي، إن المؤول إذ يتناول نصا تراثيا معينا إنما يحاول أن يطبقه على نفسه، ولكن هذا لا يعني أن النص معطى له كشيء كلي عام، لا يعني أنه يفهم النص أولا بما هو كذلك ثم يستخدمه بعد ذلك في تطبيقات معينة، فالمؤول لا يرمي إلى أكثر من أن يفهم هذا الشيء الكلي العام، النص، أي أن يفهم ما يقوله النص، وما يشكل معنى النص ودلالته، ولكي يفهم ما يقوله النص، وما يشكل معنى النص ودلالته، ولكي يفهم ذلك يتعين عليه ألا يتغافل نفسه ويتغافل موقفه الهرمنيوطيقي الخاص، بل يجب أن يطبق النص على هذا الموقف إذا شاء أن يظفر بأي فهم على الإطلاق.»
29
الفصل العاشر
معارك حول التأويل
كان كتاب «الحقيقة والمنهج» منعطفا هاما في تطور الهرمنيوطيقا، وقد أثار هذا الكتاب العمدة فور صدوره أصداء هائلة لدى الباحثين في المجال اللغوي والفلسفي واللاهوتي سواء داخل أوروبا أو في الولايات المتحدة، وقد تنوعت الاستجابات ما بين تأييد حار وتفهم متعاطف من جهة، وبين استنكار شديد وهوج ضار من جهة أخرى، ولا نعدم من المفكرين من اتخذ موقفا وسطا وآثر أن يتناول فكر جادامر بحيطة وحصافة ويأخذ منه صفوته الإبداعية الحقة التي تتمثل في الانفتاح الأصيل على النص، ويتلافى ما به من غلو وشطط يقترب به من مظان التميع ومزالق الذاتية.
لم يمض عام أو عامان حتى تعرض هذا الكتاب لهجوم شديد من جانب الناقد الإيطالي إميليو بتي
E. Betti
الذي أعلن أن الألمان يناقضون أنفسهم ولا يفهمون معنى الموضوعية في تناولهم للتأويل، وتعرض جادامر للهجوم على مدى الستينيات، من التفكيكيين وغيرهم من الدارسين خارج ألمانيا، ففي الولايات المتحدة هاجمه إ. د. هيرش
E. D. Hirsch
في كتاب أصدره عام 1967م بعنوان «صحة التأويل» ويقترح فيه مواصلة تقاليد الهرمنيوطيقا المنهجية التي تستهدف وضع تأويلات موضوعية للنصوص.
ولكن الاتجاه الديني الذي قويت شوكته بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا وجد في هيدجر وجادامر بعض العناصر الإيجابية التي تساعد الباحثين على التصالح مع النصوص المقدسة، فاتجه ثلاثة من علماء اللاهوت الألمانيين إلى تبني «منهج» جادامر (وهم ر. بلتمان ، ج. إيبلينج، أ. فوكس)، كما اتجه بعض علماء اللاهوت الأمريكيين إلى اعتبار كتاب جادامر المذكور بابا يمكنهم الدخول من خلاله إلى لون من التأويل المقنع على أسس فلسفية للنصوص المقدسة، ومنهم ج. روبنسون وج. كوب.
1
ولعل أهم المعارك الفكرية التي أضرم جادامر أوارها بفكره التأويلي الجديد هي معركته مع يورجين هابرماس
Jurgen Habermas (1929م-؟) الذي يمثل الجيل الثاني من مدرسة فرنكفورت النقدية، والذي أفاد من جادامر بقدر ما خاصمه وأثخنه في سجال طويل مثمر، وقدم هرمنيوطيقا نقدية تستحق أن نفرد لها فصلا خاصا يحمل اسمها واسمه. (1) رودلف بلتمان
نزع الأسطورية
Demythologizing
يعد رودلف بلتمان واحدا من كبار اللاهوتيين البروتستانت في القرن العشرين، ورغم أن اسمه يقترن غالبا بمشروع «نزع الطابع الأسطوري أو الصبغة الأسطورية من الكتاب المقدس»
Demythologzing ، والذي كان وما يزال محل خلاف، فإن شهرته كباحث كبير في «العهد الجديد»
New Testament
كانت راسخة قبل أن يصدر مقاله الشهير «يسوع المسيح والميثولوجيا» عام 1941م، والحق أنه خطا خطواته الأولى في اتجاه النزعة الوجودية في اللاهوت في زمن مبكر يعود إلى عام 1926م حين أصدر كتابه «يسوع»، ومنذ ذلك الحين جعلت الخطوط الرئيسية لفكره تتحدد تباعا وتشكل محاولة جادة لمواجهة أكثر معقولية لمشكلة تأويل العهد الجديد تأويلا ملائما لإنسان القرن العشرين.
قلنا إن اسم بلتمان يقترن عادة بمشروع «نزع الأسطورية»، وهو مصطلح غير موفق لأنه يولد تصورا خاطئا عن عمل بلتمان؛ إذ يوحي بأن «العهد الجديد» بالوضع الذي هو عليه يعتبر خرافيا أو أسطوريا أو غير حقيقي ويلزمه من ثم تكييف وتعديل لكي يلائم نظرتنا الحالية للعالم، ويتعجل برسم صورة للاهوتي عبقري متهيئ لإقصاء العناصر الأسطورية من الأناجيل بوصفها خالية من المعنى، وتقديم إنجيل مختزل لا يبقي إلا على العناصر المقنعة التي يقبلها العقل. هذا التصور عن عمل بلتمان هو تصور خاطئ فاحش الخطأ، فنزع الأسطورة لا يفترض مطلقا حذف العناصر الأسطورية من الأناجيل أو تجاوزها وغض الطرف عنها، بل يؤكد فيها المعنى الأصلي والمكنون، إن نزع الأسطورة لا يعني بحال تطويع الأناجيل لكي تلائم طرائق الرؤية الحديثة، إنما هو موجه ضد نزعة الفهم الحرفية السطحية الثاوية في الأسلوب الحديث في النظر إلى الأمور، ضد ميل عامة الناس (وحتى اللاهوتيين) إلى اعتبار اللغة مجرد معلومات بدلا من النظر إليها كوسيط من خلاله يواجه الله الإنسان بإمكانية فهم ذاتي جديد تماما، فهم غير الفهم الإغريقي وغير الفهم الطبيعي وغير الفهم الحديث، و«نزع الأسطورية» ليس أداة في يد النزعة العقلية لفضح التزييف وتحطيم الأوثان على طريقة فرويد ونيتشه وماركس (فهناك فرق بين «نزع الأسطورية»
Demythologizing
و«نزع التزييف»
Demystification
كما أوضح ريكور)، ذلك أن «نزع الأسطورية» لا يرمي إلى الإطاحة بالرمز الأسطوري وتحطيمه، بل يعتبر الرمز الأسطوري نافذة لنا على «المقدس»، فأن نؤول الرمز يعني أن «نتذكر» معناه الأصلي الحقيقي وإن توارى الآن واحتجب.
من الوضح أن «نزع الأسطورة» عند بلتمان يرمي إلى إحداث تحول في الفهم الذاتي للمرء، ومن الواضح أن بلتمان، في مسألة الفهم الذاتي الوجودي، مدين بالشيء الكثير لهيدجر الذي كان على صلة وثيقة به في أواسط العشرينيات في جامعة ماربورج حيث كان هيدجر يدبج كتابه «الوجود والزمان»، ودون تورط في المبالغة في تأثير هيدجر على بلتمان (الذي جعل البعض، مثل ماكوري، يضاهي بين مفاهيم بلتمان ومفاهيم هيدجر مضاهاة نقطة لنقطة) فلا شك أن هيدجر كان من المؤثرات الحاسمة في فكر بلتمان حول المشكلة التأويلية، وأن هذا التأثير يتجلى بوضوح في مفهوم «نزع الأسطورية» الذي يعد في صميمه مشروعا هرمنيوطيقيا في التأويل الوجودي.
هناك على سبيل المثال تصور بلتمان للإنسان على أنه كائن مستقبلي التوجه وتاريخي الوجود، وهو تصور جد قريب من تصور هيدجر الذي صرح به في «الوجود والزمان»، بل إن هناك ثلاثة جوانب محددة أخرى على أقل تقدير في لاهوت بلتمان يقتفي فيها أثر هيدجر: (1) هناك التمييز بين اللغة المستخدمة كمجرد معلومة ينبغي تفسيرها موضوعيا على أنها حقيقة واقعة وبين اللغة المفعمة بالمغزى الشخصي والسلطة الجديرة بالسمع والطاعة، والتي توازي مفهوم هيدجر عن الطابع الاشتقاقي لعبارات التقرير (وبخاصة المنطق). (2) وهناك فكرة أن الإله (الموجود) يواجه الإنسان ك «كلمة»
Word ، كلغة، وهي توازي الفكرة التي ألح عليها هيدجر حول الطبيعة اللغوية للوجود كما يعرض نفسه للإنسان. (3) وهناك أيضا مفهوم «الرسالة المبلغة»
Kerygma
حيث «الإنجيل/كلمة الله» يتحدث في كلمات إلى الفهم الذاتي الوجودي، يقول بلتمان إن العهد الجديد نفسه يتجه نحو فهم ذاتي أصيل جديد، والغاية من إعلان «العهد الجديد» هي غرس هذا الفهم الجديد في الإنسان الحديث الذي يخاطبه اليوم، «كلمة» العهد الجديد إذن هي شيء شبيه بتحقيق «نداء الضمير» الذي تحدث عنه هيدجر في «الوجود والزمان».
من المؤكد أن الدعوة إلى فهم ذاتي جديد هي تحد لطريقة المرء في «الوجود في العالم» في العصر الحاضر، إن بلتمان لا يود أن يمحو «فضائح» العهد الجديد بل أن يسلك «الفاضح» في نصابه ويضعه موضعه، وهو يفعل ذلك لا بالتوكيد الإيماني على أساطير تؤخذ بمعناها الحرفي، ولا بالاعتقاد في معلومات كوزمولوجية واضحة البطلان، بل بالإهابة بالطاعة المطلقة والانفتاح على النعمة والغبطة والحرية في الإيمان. تشير أطروحات بلتمان في مشكلة الهرمنيوطيقا بشكل واضح ومحدد إلى أنه يعرفها دائما على أنها نظرية في الفهم بما هو كذلك.
وفي كتابه «مشكلة الهرمنيوطيقا» (1950م) يعيد بلتمان التوكيد على المبدأ البروتستانتي القائل بالحرية التامة في البحث، ويمضي إلى حد القول مرة ثانية بأن الإنجيل يخضع لشروط الفهم نفسها وللمبادئ الفيولوجية والتاريخية نفسها التي تطبق على أي كتاب آخر، ومن ثم فإن «مشكلة الهرمنيوطيقا» ليست وقفا على اللاهوت بل هي قائمة في كل تفسير سواء كان تفسير وثائق قانونية أو تفسير أعمال تاريخية أو أدبية أو تفسير الكتاب المقدس، وبطبيعة الحال يبقى لب المشكلة هو تحديد مكونات الفهم التاريخي بالنسبة لنص من النصوص، يرى بلتمان أن السؤال الهرمنيوطيقي هو: «كيف نفهم الوثائق التاريخية المنحدرة إلينا في التراث؟» وهو بدوره يقوم على سؤال: «ما هي طبيعة المعرفة التاريخية؟» لهذه المشكلة كرس بلتمان نصف «محاضرات جيفورد» (1955م)، وإلى ذلك التحليل الذي قدمه في هذه المحاضرات على وجه التحديد وجه إميليو بتي فيما بعد اعتراضا عنيفا.
يبين بلتمان أن كل تفسير للتاريخ أو لأي وثيقة تاريخية يحدوه اهتمام معين وتوجهه مصلحة معينة، هذا الاهتمام بدوره يرتكز على فهم مبدئي معين للموضوع، من هذا الاهتمام وهذا الفهم يتشكل «السؤال» المطروح على النص، وبدون هذين الشرطين لن يمكن لسؤال أن يطرح ولن يكون هناك أي تفسير، ومن ثم فما من تأويل إلا وهو مسترشد ب «الفهم المسبق»
للمؤول (مما يذكر مرة أخرى بتحديدات هيدجر عن البنى المسبقة للفهم في «الوجود والزمان» بوصفها الشروط المسبقة للتأويل)، فإذا طبقنا ذلك على التاريخ فهو يعني أن المؤرخ يتخير دائما زاوية معينة للرؤية أو وجهة معينة من النظر، مما يعني بدوره أنه منفتح بالدرجة الأولى على ذلك الجانب من العملية التاريخية الذي ينكشف للأسئلة التي تطرح من هذه الوجهة من الرؤية، ومهما تذرع المؤرخ بالموضوعية في استقصاء موضوعه فما هو بقادر على أن يهرب من فهمه الخاص، يقول بلتمان: «بمجرد اختيار زاوية معينة للرؤية يكون قد بدأ عمله، ما يمكن أن أسميه التلاقي الوجودي مع التاريخ، فالتاريخ لا يتحلى بالمعنى إلا عندما يقف المؤرخ نفسه داخل التاريخ ويشارك في التاريخ.» ثم يستشهد بلتمان بكولنجوود في قوله بأن الأحداث يجب أن يعاد تمثيلها في عقل المؤرخ، وهكذا لا تغدو موضوعية ومعروفة له إلا لأنها أيضا ذاتية،
2
وما دام المعنى لا يبزغ إلا من علاقة المؤول بالمستقبل، فإنه يغدو مستحيلا الحديث عن معنى موضوعي، أي بلا وجهة رأي، وما دمنا لم نعد نزعم معرفة نهاية التاريخ وغايته فإن «السؤال عن المعنى في التاريخ (ككل) قد أصبح سؤالا بلا معنى».
والحق أن «مبدأ هيزنبرج» قد يسري هنا في صورة أكثر جذرية، أي إن الموضوع الملاحظ نفسه يتغير بعض الشيء بفعل حالة كونه يلاحظ. إن المؤرخ هو جزء من المجال نفسه الذي يلاحظه ، والمعرفة التاريخية هي نفسها حدث تاريخي، ومن ثم فإن الذات والموضوع في علم التاريخ لا ينفصلان ولا يوجد الواحد منهما بمعزل عن الآخر، ولهذه الحقيقة، في رأي بلتمان، متضمنات تخص الإيمان المسيحي، وخاصة من حيث إن المسيحي خلال اللحظة الأخروية يرتفع فوق التاريخ ويعود فيدخله بمستقبل جديد ومن ثم بمعنى جديد يضفيه على التاريخ، وقد يقول قائل هنا إن بلتمان في فكرة الأخرويات هذه يريد أن يمضي خطوة أبعد من كولنجوود ليستخدم مدخلا (تناولا) لاهوتيا (أخرويا) للسؤال عن المعنى في التاريخ، إلا أن الفكرة المحورية التي يرتكز عليها بلتمان واضحة وصريحة (وهي نفس الفكرة التي هاجمها بتي): وهي أننا لا يمكن أن نتحدث عن معنى موضوعي في التاريخ؛ وذلك لأن التاريخ لا يمكن أن يعرف إلا من خلال «ذاتية» المؤرخ نفسه! (2) تأويلية إميليبو بتي
E. Betti
في عام 1962م، أي بعد عامين من صدور «الحقيقة والمنهج»، أصدر المفكر والناقد والمؤرخ القانوني الإيطالي إميليو بتي
Emilio Betti (1890-1968م) كتابا صغيرا يحمل عنوان «الهرمنيوطيقا بوصفها المنهج العام للعلوم الإنسانية»، يحمل هذا الكتاب احتجاجا صريحا وواضحا ضد تناول جادامر (وكذلك بلتمان وإيبلنج) لموضوع الهرمنيوطيقا، يتمثل اعتراض بتي في أن هرمنيوطيقا جادامر أولا لا تقوم مقام المنهج ولا تخدم أي منهج للدراسات الإنسانية، وأنها ثانيا تعرض للخطر مشروعية الإشارة إلى الوضع الموضوعي لموضوعات التأويل، ومن ثم تثير الشكوك حول موضوعية التأويل نفسه.
يبدأ كتيب بتي بهذه الفقرة الشهيرة التي يتحسر فيها على ما صار إليه أمر الهرمنيوطيقا في عهده: «إن الهرمنيوطيقا باعتبارها الإشكالية العامة للتأويل، ذلك المبحث العام العظيم الذي فاض وتدفق ببهاء وسخاء إبان الحقبة الرومانسية (أي مع شلايرماخر ودلتاي) بوصفه الاهتمام المشترك لجميع الدراسات الإنسانية، الهرمنيوطيقا التي استأثرت بانتباه العديد من عظماء الفكر في القرن التاسع عشر - أمثال همبولت في فلسفة اللغة، وأوغست فيلهلم فون شليجل المؤرخ الأدبي العظيم، وبوك الفيلولوجي والموسوعي، وسافيني رجل القانون، ومؤرخين كبار مثل نيبور ورانكه ودرويسن - هذا الشكل العريق الجليل من الهرمنيوطيقا يبدو أن ضياءه آخذ في الخفوت والانطفاء في الوعي الألماني الحديث.»
3
كان بتي يسعى إلى تجديد هذا التراث الألماني الأقدم عهدا والأثري دلالة في عمله الموسوعي الأسبق «النظرية العامة للتأويل» (1955م) الذي كان نتاج أكثر من سبع سنوات من العمل الدءوب، يقول بتي: إنه رغم كل جهوده فإن نفوذ هيدجر ظل يمتد حتى بسط سلطانه على الفلسفة وعلى اللاهوت البروتستانتي، وحتى بزغت ثم سادت صيغة للهرمنيوطيقا مختلفة تمام الاختلاف عن الهرمنيوطيقا التي عرفناها وسعينا إلى ترسيخها والتي ترمي إلى تحديد القواعد الميثودولوجية العامة لعملية التأويل، كانت الصيغة الجديدة التي استأثرت بالساحة هي ثمرة الفينومينولوجيا الناشئة والأنطولوجيا الهيدجرية والاهتمام الجديد الطاغي بفلسفة اللغة، أما في مجال اللاهوت فكان تطور الهرمنيوطيقا مرتبطا بمشروع «نزع الأسطورة» كوسيلة لمواجهة المشكلة الكبرى وهي: كيف نجعل الأناجيل موصولة بحياة القارئ المعاصر ومقبولة لعقل الإنسان الحديث.
كان إميليو بتي مؤرخا للقانون، ومن ثم لم يكن اهتمامه منصبا على تأصيل فلسفي للعمل الفني (كما هو الحال بالنسبة لجادامر)، ولا على بلوغ فهم أعمق لطبيعة الوجود (هيدجر)، ولا على إيجاد حل عاجل لمشكلة المعنى المعاصر لرسالة الإنجيل (بلتمان وإيبلنج)، كان اهتمام بتي، بوصفه مؤرخا للقانون، منصبا في حقيقة الأمر على التمييز بين الحالات المختلفة للتأويل في الدراسات الإنسانية وعلى صياغة مجموعة من المبادئ الأساسية التي نفسر بها أفعال الإنسان وموضوعاته، فإذا ما لزمت التفرقة بين لحظة فهم موضوع ما بحد ذاته وبين رؤية المعنى الوجودي لهذا الموضوع بالنسبة لحياة المرء نفسه ومستقبله، عندئذ يمكننا القول بأن هذه اللحظة الوجودية هي ما يشغل جادامر وبلتمان وإيبلنج، بينما انصرف بتي إلى التركيز على طبيعة التفسير «الموضوعي» والإحكام المنهجي لهذا التفسير.
لا يريد بتي بأية حال أن يلغي اللحظة الذاتية من التأويل، أو حتى ينكر ضرورتها في كل تأويل إنساني، غير أنه يود التوكيد على أنه أيا ما كان الدور الذاتي في التأويل فإن الموضوع يبقى موضوعا ويبقى حقيقا بالبحث عن تأويل صائب صوابا موضوعيا، إن «الموضوع»
Object
ليتحدث، وقد يسمعه السامع بطريقة صائبة أو خاطئة بالضبط؛ لأن هناك معنى قابلا للتحقق الموضوعي، وإذا لم يكن الموضوع شيئا مختلفا عن الملاحظ، وإذا لم يكن الموضوع يتحدث بنفسه عن نفسه ... فلماذا الإصغاء وفيم الاستماع؟!
يقول بتي: إن الهرمنيوطيقا الألمانية الحديثة شغلت نفسها رغم ذلك بظاهرة «الفهم»
Sinngebung (أي وظيفة المفسر الخاصة بإضفاء معنى على الموضوع) بحيث غدا هذا مساويا للتأويل، في مستهل كتاب «الهرمنيوطيقا بوصفها المنهج العام للعلوم الإنسانية» (1962م) يؤكد بتي أن غرضه الأساسي هو توضيح الفرق الأساسي بين «التأويل»
Auslegung
و«الفهم»
Sinngebung ، وأن إغفال هذا الفرق هو بالتحديد ما يهدد الدراسات الإنسانية وينال من قدرتها على استخلاص نتائج صائبة صوابا موضوعيا.
ولنتناول الآن بضعة أمثلة من قوانين بتي التأويلية واعتراضاته على جادامر، من شأن هذه الأمثلة أن تلقي مزيدا من الضوء على موقف بتي ودفاعه عن الموضوعية، إن الموضوع التأويلي عند بتي هو «موضعة»
Objectification
لروح الإنسان
Geist
معبر عنها في شكل ذي معنى، التأويل إذن هو بالضرورة تمييز وإعادة بناء للمعنى الذي تمكن المؤلف، باستخدام نوع معين من المادة، من أن يجسده، ويعني ذلك بطبيعة الحال أن الملاحظ يتوجب عليه أن يتحول إلى ذاتية مغايرة، ويرتد، خلال قلب للعملية الإبداعية، إلى الفكرة أو «التأويل» الذي يتجسد في الموضوع، هكذا يتبين، كما يلاحظ بتي، أن الحديث عن موضوعية لا تشتمل على ذاتية المؤول هو حديث واضح البطلان، غير أن ذاتية المؤول يجب أن تنفذ إلى «غيرية» الموضوع و«آخريته»، وإلا فهو لن ينجح إلا في إسقاط ذاتيته على موضوع التأويل، هكذا يتجلى القانون الأساسي والأول لكل تأويل، والذي يؤكد على استقلالية الموضوع، غيرية الغير، آخرية الآخر.
وهناك قانون ثان يتعلق بسياق المعنى أو الكل الذي تؤول الأجزاء المفردة في داخله، ثمة علاقة ترابط داخلي بين أجزاء أي حديث يضفيه المعنى الكلي المحيط المشيد من الأجزاء المفردة، وفي قانون ثالث يعترف بتي ب «موضعية/محلية المعنى»
Topicality of Meaning ، أي الارتباط بموقف المؤول نفسه واهتماماته في الحاضر والذي يدخل في كل فهم وفي كل تأويل، فالذي يقوم بتفسير حدث في الأزمنة القديمة لا حيلة له إلا أن يفسره وفقا لما خبره هو نفسه في حياته، ولا فكاك له من طريقته الخاصة في الفهم ومن مخزونه الخاص من الخبرة، هنا يتبين لنا أن بتي بعيد كل البعد عن تخيل الفهم كمسألة تلق سلبي، إنه على العكس يرى الفهم دائما عملية إعادة تشييد تتضمن خبرة المؤول نفسه في العالم، بل لعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن بتي يؤكد مرة ثانية «من حيث المبدأ» فكرة الفهم المسبق التي صرح بها بلتمان.
غير أن بتي لا يوافق بلتمان فيما خلص إليه من أنه استنادا إلى تاريخية الفهم المسبق فإن فكرة إمكان الحصول على معرفة تاريخية موضوعية هي مجرد وهم يقع فيه التفكير الساعي إلى الموضعة، يقول بتي: «إن النص الذي يتناوله الفهم المسبق ويضفي عليه المعنى لم يوجد لمجرد أن يدعم لنا رأينا الذي نعتقده سلفا، وإنما ينبغي أن نفترض أن لدى النص شيئا يريد أن يقوله لنا، شيئا لا نعرفه منذ البداية من تلقاء أنفسنا، شيئا يوجد بمعزل عن عملية الفهم التي نقوم بها، ها هنا بالتحديد يتسلط الضوء على عبثية النظرة الذاتية، تلك التي تأثرت بوضوح بالفلسفة الوجودية المعاصرة والتي تريد أن تضم معا كلا من «التفسير/الشرح/التأويل»
Auslegung ، و«الفهم»
Sinngebung
دون تفرقة، فينتهي الأمر إلى أن تصبح موضوعية النتائج المستخلصة من عملية التأويل في الدراسات الإنسانية ككل محل شك وموضع ارتياب.»
4
هكذا مثلت انتقادات بتي لجادامر اعتراضا عنيفا ضد «الذاتية» الوجودية وضد تاريخية الفهم، وزعمت أن جادامر قد فشل في تقديم مناهج معيارية لتمييز التأويل الصحيح من التأويل الخطأ، وأنه كوم معا ومن غير تمييز حالات متباينة من التأويل، فالمؤرخ مثلا، كما يقول بتي، لا تهمه الصلة العملية بالحاضر بقدر ما يهمه أن يغمر نفسه، متأملا، في النص الذي يدرسه، بينما يقلب رجل القانون النص وفي ذهنه تطبيق عملي يعتزم اجتراحه في الحاضر، يترتب على ذلك أن عمليتي التأويل هنا مختلفتان في الطابع، ومن ثم فإن ما زعمه جادامر من أن كل تأويل يتضمن تطبيقا على الحاضر لا يصدق بحق إلا على التأويل القانوني دون التأويل التاريخي.
وقد قام جادامر بالرد على هذه الاعتراضات في خطاب بتي قائلا إنه، في «الحقيقة والمنهج» لا يقترح منهجا بل يحاول أن يصف ما هو كائن في عملية الفهم، يقول جادامر إنه يحاول أن يفكر خارج التصور العلمي الحديث عن «المنهج» وأن يتأمل في عمومية صريحة ما يجري دائما في عملية الفهم، غير أن هذا الرد لم يقنع بتي الذي أكد أن جادامر قد ضل في ذاتية وجودية بلا معايير، وفي مقدمة طبعة 1965م من «الحقيقة والمنهج» رد جادامر على بتي مرة ثانية مؤكدا هذه المرة على الصبغة غير الذاتية للفهم، ذلك أن المنعطف الأنطولوجي الذي خلقه كتابه (والذي استنكره بتي) أفضى بجادامر إلى أن ينظر إلى وظيفة «الوعي العامل تاريخيا» لا كعملية ذاتية بل كعملية أنطولوجية: «لم أقصد ببحثي على الإطلاق أن أقدم نظرية عامة في التأويل تشتمل على تمييزات تفسر المناهج المختلفة للأفرع البحثية الخاصة، كما فعل إميليو بتي بإجادة عظيمة، وإنما قصدت أن أستخلص ما هو قائم في جميع طرائق الفهم وأن أبين أن الفهم ليس بأية حال إجراء ذاتيا بإزاء «موضوع» معطى، بل الفهم ينتمي إلى «التاريخ العامل»
Wirkungsgeschichte
للشيء الموجود، وبالتالي لوجوده.»
نخلص مما سبق أننا أمام تصورين مختلفين غاية الاختلاف حول مجال الهرمنيوطيقا وغرضها، وحول الطابع الجوهري لهذا المبحث كحقل من حقول الدراسة، فالحق أن كلا من هذين المفكرين يتبنى تعريفا مختلفا للهرمنيوطيقا يرتكز على أساس فلسفي مختلف ويشيد الهرمنيوطيقا لكي تؤدي غرضا مختلفا، أما بتي
Betti
فهو يبحث (مقتفيا أثر دلتاي في بحثه عن منهج مؤسس للعلوم الروحية) عما هو عملي ومفيد للمؤول، إنه يريد معايير لتمييز التأويل الصحيح من الخاطئ، وتمييز أصناف التأويل الواحد من الآخر، وأما جادامر فهو يسأل، متقفيا أثر هيدجر، أسئلة من قبيل: ما هي الطبيعة الأنطولوجية للفهم؟ أي صنف من اللقاء بالوجود تنطوي عليه العملية التأويلية؟ كيف يدخل التراث، أي الماضي المنقول، في عملية فهم النص التاريخي ويشكل هذه العملية؟ والآن ماذا بوسع المرء أن يقول بصدد هذا الصراع في التعريفات؟
الحق أن هذين الموقفين ليسا متناقضين تناقضا تاما كما يبدوان للنظرة العجلى! وإنما وجه الأمر أن كلا من المفكرين، جادامر وبتي، يقوم بعمله على جانب مختلف من جوانب مشكلة التأويل، صحيح أن على المرء في نهاية المطاف أن يتخير أحد المنظورين، فإما المنظور الواقعي وإما المنظور الفينومينولوجي، غير أن بوسعنا أن نعترف أن كلا من الموقفين الفلسفيين يسدي للهرمنيوطيقا ككل خدمة جليلة ويقدم من زاويته مدخلا هاما إلى المشكلة الهرمنيوطيقية. (3) إ. د. هيرش
E. D. Hirsch
الهرمنيوطيقا بوصفها منطقا للتحقق
في عام 1967م أصدر هيرش أول رسالة مستفيضة ومكتملة عن الهرمنيوطيقا العامة باللغة الإنجليزية، بعنوان «صحة التفسير»
Validity of Interpretation ، في عرض منهجي منظم وقوي الحجة ناهض هيرش بعضا من الافتراضات الأثيرة لدى النقاد والتي وجهت التفسير الأدبي نحوا من أربعة عقود من الزمن، يذهب هيرش على سبيل المثال إلى أن مقصد المؤلف يجب أن يكون المعيار الذي تقاس به صحة أي «تفسير» (أي شرح وتبيان المعنى اللفظي للفقرة)، هذا المقصد هو كيان محدد يمكن أن تحشد له بينة موضوعية، وبالإمكان حين تتوافر هذه البينة تحديد المعنى، وسوف يكون هذا المعنى مقبولا على نحو عمومي شامل وسوف يدركه الجميع على أنه معنى صحيح، هكذا بدا أن حلم دلتاي بتأويل صائب موضوعيا هو بصدد التحقيق.
ومن البديهي أن «المعنى اللفظي» للفقرة، كما يحدده التحليل الفيلولوجي المكثف (لكل من العمل وأي بينة خارجية تتعلق بمقاصد الكاتب) و«الدلالة» التي يحملها العمل نفسه في وقتنا الحاضر هما مسألتان مختلفتان تماما، بل إن الدعوى الرئيسية التي يطرحها هيرش هي بالتحديد أن ضم «المعنى الحرفي» و«الدلالة» (المعنى بالنسبة لنا) معا وبلا تمييز يفتح مجالا لخلط لا نهاية له، ويذهب هيرش إلى أن هذا المزلق قد وقع فيه جادامر ولاهوتيو الهرمنيوطيقا الجديدة. إن «المعنى»
Bedeutung ، بلغة إميليو بتي، يجب أن يبقى بمعزل عن «الدلالة»
Bedeutsamkeit
وإلا انفرط فقه اللغة وتفسخ ولم يعد بالإمكان الحصول على نتائج موضوعية وصادقة، وهذا التمييز هو أمر أساسي ويتوقف عليه تماسك فقه اللغة وإمكان الموضوعية.
يقول هيرش إن غرض الهرمنيوطيقا ليس العثور على «دلالة» الفقرة بالنسبة لنا اليوم، بل تبيان معناها اللفظي نفسه، فالهرمنيوطيقا هي ذلك الفرع الفيلولوجي المختص بوضع القواعد التي يمكن بها استخلاص المعنى اللفظي للفقرة على نحو موضوعي محدد، ويرى هيرش أن جادامر وأتباع بلتمان قد ارتكبوا خطأ مضاعفا: فهم أولا قد انشغلوا بأمور لا صلة لها بالمهمة الحقيقية للهرمنيوطيقا، وهم فضلا عن ذلك قد تبنوا موقفا فلسفيا بلغ من الغلو والشطط إلى حد التشكيك في إمكان الوصول إلى معنى قابل للتحديد الموضوعي.
ويمضي هيرش في تبيان حجته فيقول إنه إذا كان معنى الفقرة (أي المعنى اللفظي) متغيرا لما عاد هناك معيار ثابت نعرف به ما إذا كان تفسير الفقرة يمضي على نحو صحيح، فما لم يميز المرء «الحذاء الزجاجي» للمعنى اللفظي الأصلي الذي كان يعنيه المؤلف، فلن يكون ثمة سبيل نميز به «سندريللا» من بقية الفتيات! يذكرنا ذلك باعتراض بتي على تأويلية جادامر: أن جادامر لا يقدم مبدءا معياريا راسخا يمكن أن نحدد به المعنى «الصحيح» للفقرة تحديدا صائبا، لقد جعل هيرش المعنى اللفظي الذي عناه المؤلف وقصده وانتواه هو المقياس وهو المحك وهو المعيار، بل إنه يمضي أبعد من ذلك فيصف المعنى اللفظي بأنه ثابت لا يتغير، وبأنه محدد وقابل للاستعادة، وفيما يلي فقرة مقتبسة من كتاب هيرش تلقي الضوء على منطقه الخاص في هذه المسألة وتكشف شيئا من النكهة الأرسطية في عرضه:
لذا عندما أقول بأن المعنى اللفظي شيء محدد فإنني أعني أنه كيان وأنه في هوية مع ذاته، وأعني فضلا عن ذلك أنه كيان يبقى دائما هو نفسه من لحظة إلى اللحظة التالية، أي إنه ثابت لا يتغير، والحق أن هذه المعايير متضمنة منذ البداية في مطلبنا الخاص بأن يكون المعنى اللفظي قابلا للاستعادة والتكرار وأن يكون دائما هو نفس الشيء في مختلف أفعال التأويل، المعنى اللفظي إذن هو ما هو وليس أي شيء آخر، وهو دائما نفس الشيء، هذا ما أعنيه بكلمة «التحديد» (الذي يتحلى به المعنى اللفظي).
5
الهرمنيوطيقا هنا تأخذ على عاتقها مهمة تزويدنا بتبرير نظري لهذا «التحديد» الذي يتحلى به موضوع التأويل، ومهمة تقديم معايير يمكن بها فهم ذلك المعنى الواحد الثابت المحدد، وبالطبع تشمل المهمة أيضا أن تقول لنا الهرمنيوطيقا على أي أساس يقع اختيارنا على معنى دون آخر، تلك هي مسألة «الصحة/الصواب»
validity . إن الهرمنيوطيقا التي لا تتعرض لقضية الصواب هي في نظر هيرش ليست هيرمنيوطيقا بل أي شيء آخر، وهو، شأنه في ذلك شأن بتي، يعترض على إغفال التيار الهيدجري في الهرمنيوطيقا أو تجنبه لمسألة «الصواب» التي بدونها لا يكون هناك، ببساطة، علم للتأويل ولا منهج للوصول إلى التأويلات الصحيحة.
أما الزعم القائل بأن الهرمنيوطيقا يجب أن تتعامل مع «دلالة» النص بالنسبة لنا اليوم ومع البنى أو الآليات التي يصبح بها المعنى اللفظي ذا دلالة خاصة بنا، فهو زعم مرفوض من جانب هيرش؛ لأنه يرى أن هذا الأمر يدخل في مجال النقد الأدبي ويقع داخل نطاق حقول أخرى غير الهرمنيوطيقا، فالهرمنيوطيقا بمعناها الصارم القديم هي «ذلك الجهد الفيلولوجي المتواضع الذي يرمي إلى الوقوف على المعنى الذي عناه المؤلف وقصد إليه»، هذا هو «الأساس السليم الأوحد للنقد» غير أنه ليس نقدا، إنه تأويل، ولا بأس بأن تفيد الهرمنيوطيقا من التحليل المنطقي والسيرة الذاتية وحتى حساب الاحتمالات (لتحديد التفسير الأكثر احتمالا من بين عديد من التفسيرات الممكنة) إلا أنها تظل في جوهرها «فقه لغة»، ورغم ذلك، وحتى مع هذا التقليص من نطاق الهرمنيوطيقا، فإنها تظل مبحثا أساسيا يعلن المبادئ العامة لتفسير أي وثيقة مكتوبة سواء كانت وثيقة قانونية أو دينية أو أدبية، أو حتى في فن الطهي!
والآن ماذا ترى في هذا التعريف للهرمنيوطيقا بأنها ذلك الجهد المتواضع، والأساسي رغم ذلك، لوضع القواعد التي تحدد المعنى اللفظي للفقرة؟ إن أكثر ما يلفت النظر فيه هو ما يحذفه ويتخلى عنه: الهرمنيوطيقا ليست معنية بالعملية الذاتية للفهم كما ينادي شلايرماخر ودلتاي، ولا بعقد صلة بين معنى مفهوم وبين الزمن الحاضر (نطاق النقد)، بل معنية بمشكلة الحكم أو الفصل فيما بين معان مفهومة أصلا من أجل الوقوف على التفسير الصحيح من بين تفسيرات أخرى ممكنة، إنها إرشاد لفقيه اللغة الذي عليه أن يحدد من بين احتمالات عديدة ما هو المعنى الأكثر احتمالا للفقرة.
مشكلة الهرمنيوطيقا إذن، من وجهة نظر هيرش، ليست مشكلة «ترجمة أو نقل» - أي اجتياز المسافة التاريخية التي تفصلنا مثلا عن «العهد الجديد» كيما تبزغ دلالة النص بالنسبة لنا اليوم - وإنما مشكلة الهرمنيوطيقا ببساطة هي المشكلة الفيولولجية الخاصة بتحديد المعنى اللفظي الذي يعنيه المؤلف، ومن المؤكد أن هيرش يعرف ويعترف أن وصل النص بالزمن الحاضر هو مشكلة حقيقية، غير أنه ينكر أن تكون هذه المشكلة داخلة في حقل الهرمنيوطيقا، وهو إذ يتخذ هذا الموقف فإن عليه بالطبع أن يؤكد أن المعنى اللفظي هو شيء مستقل وثابت ومحدد وبمقدور المرء أن يثبته ويبرهن عليه بيقين موضوعي، مثل هذا التصور عن المعنى اللفظي يرتكز على فروض فلسفية معينة بوسعنا أن نضع عليها أيدينا، وهي فروض «المذهب الواقعي» بالدرجة الأساس، أو ربما فروض هسرل في عمله المبكر «بحوث منطقية» والذي اقتبس منه هيرش قوله بأن الموضوع القصدي الواحد قد يكون محطا لأفعال قصدية عديدة مختلفة، ويبقى الموضوع في هذه الحالة هو نفس الموضوع، فكرة مستقلة أو ماهية منفصلة.
غير أننا إذا سايرنا هيرش في نظرته حتى النهاية، واختزلنا الهرمنيوطيقا إلى مجرد مشكلة فيلولوجية، لاضطررنا إلى أن نزيح جانبا كل هذا التطور المعقد الذي أتى به فكر القرن العشرين بوصفه غير ذي صلة بعملية التعرف الفعلي على المعنى اللفظي، ولأصبحت الهرمنيوطيقا مجرد مجموعة من مبادئ التفسير الفيلولوجية التي يمكن لمدرس اللغة أو رجل الدين أو القانون أن يستخدمها دون أن يكرث نفسه بتطورات القرن العشرين في فلسفة اللغة أو في الفينومينولوجيا أو الإبستمولوجيا أو الأنطولوجيا الهيدجرية، فمن ذا الذي يكترث بهيجل أو هيدجر أو جادامر إذا كان مرامه أن يجمع معلومات عن «القصد الحقيقي» أو «المعنى اللفظي الثابت» ل
Lycidas
ملتون، ولكن ماذا عن مشكلة فهم ما يمكن أو ما يجب أن تعنيه
Lycidas
بالنسبة لنا اليوم؟ ذلك، في رأي هيرش، شأن الناقد الأدبي، وتلك مهمته، غير أن الناقد الأدبي بالطبع «لن يزدري» العمل التكنيكي المتواضع الذي يقوم به «المفسر» - وهو الأساس الوحيد للنقد - حتى إذا كان المفسر منصرفا إلى المعنى النقي الأصلي الثابت فوق تغيرات الزمن وفوق التاريخ، المعنى الحقيقي المقصود بمعزل عن دلالته لنا اليوم.
ولكن المشكلة الهرمنيوطيقية في حقيقة الأمر ليست مجرد مشكلة فيلولوجية، ولا يمكن بحال أن تحملنا بضعة تعريفات أرسطية على أن نضرب بكل هذه التطورات الحديثة عرض الحائط، تلك التطورات التي أتت بها نظرية الفهم عند شلايرماخر ودلتاي وهيدجر وجادامر، ناهيك بتلك الإسهامات الرامية إلى تعريف الفهم التاريخي سواء داخل حقل اللاهوت أو خارجه. يزعم هيرش أن المعنى اللفظي منفصل في الحقيقة عن الدلالة ما دمنا نستطيع في واقع الأمر أن نميز ما كان يعنيه المعنى بالنسبة لمؤلفه وما يعنيه بالنسبة لنا، وإلا لاستحال وجود معنى موضوعي قابل للإعادة والتكرار، هذا ما يزعمه هيرش، ولكن هل هذه حجة مقبولة؟ إن حقيقة أن الموضوع الذهني يمكن أن يرى من زوايا عديدة لا يجعل منه شيئا ثابتا أبديا، أما الدعوى القائلة باستحالة الموضوعية إذا تخلينا عن ذلك فهي دعوى «دائرية» أي تقع في «دور منطقي» ما دامت إمكانية المعرفة الموضوعية واللاتاريخية هي ذاتها السؤال، غير أن صواب التمييز بين المعنى والدلالة يتوقف عليه صواب نظرية هيرش بأكملها عن«الصواب»
Validity ! ولكن هل صحيح أن الفهم يعمل بالطريقة الآلية التي يفترضها هيرش؟ أو هل هذا الفصل بين المعنى والدلالة هو عملية تأملية حقا قامت «بعد» فعل الفهم؟ ألا يجوز أن يكون هذا الشكل من الهرمنيوطيقا هو في حقيقة الأمر نقد نصي مقنع، ميثودولوجيا للتمييز تأمليا بين فهم وفهم آخر؟
يقينا أن مثل هذه النظرية الهرمنيوطيقية لا تطرح، بل تفترض مسبقا، نظرية في كيف يحدث الفهم نفسه! (وينبغي أن تسأل عن مدى كفايتها كنظرية في الفهم)، إنها بالأحرى تبدأ بعد الفهم، وكما يلاحظ هيرش: «يبدأ فعل الفهم كتخمين صائب (أو خاطئ)، وليس ثمة مناهج لوضع تخمينات (حدوس) أو قواعد لتوليد استبصارات، إنما يبدأ النشاط الميثودولوجي للتأويل عندما نبدأ في اختبار تخميناتنا ونقدها.» أو كما يقول بطريقة أكثر دقة: «يشتمل مبحث التأويل على كل من حيازة الأفكار واختبارها، ويقوم لا على منهج بناء بل على منطق تحقيق.»
6
فالهرمنيوطيقا عند هيرش لم تعد هي نظرية الفهم بل منطق التحقيق، إنها النظرية التي يتسنى لنا بواسطتها أن نقول: «هذا هو ما كان يعنيه المؤلف وليس ذاك.»
لقد نجح هيرش بامتياز في تحقيق ما يصبو إليه: وهو تشييد نسق واحد للوصول إلى المعاني القابلة للتحقيق الموضوعي، نجح ولكن بأية تكلفة؟ أولا: لكي يجعل المعنى محددا فقد ذهب إلى أن المعيار أو المحك يجب دائما أن يكون هو مقصد المؤلف، وثانيا: لكي يجعل هذا المعنى موضوعيا فلا بد أن يكون ثابتا وقابلا للإعادة، ومن ثم فقد ذهب إلى أن المعنى اللفظي، من حيث هو معنى، هو دائما وأبدا نفس الشيء، ولا شأن له بالمعنى بالنسبة لنا كما نجده في عملية الفهم، ولكن هل هذه الدعاوى مما يمكن قبوله؟ إن كثيرا منها يرتكز على فروض إبستمولوجية أرسطية بالدرجة الأساس، وعلى نظرية للمعنى يتوجب تبريرها هي ذاتها على أسس فلسفية.
ترى هل أسهمت حقا إعادة هيرش لتعريف الهرمنيوطيقا كمنطق للتحقيق في فهم المشكلة الهرمنيوطيقية في اتساعها وتعقدها؟ أو تراها بسطت المشكلة تبسيطا مفرطا؟ يرى إيبلنج
Ebeling
أن «موضوع الهرمنيوطيقا هو حدث الكلمة من حيث هو حدث»، وبذلك توغل الهرمنيوطيقا عميقا إلى السؤال عن الواقع وعن طبيعة مشاركتنا في اللغة، فماذا حدث لهذه الصيغة من المشكلة الهرمنيوطيقية؟ هي يمكن أن تترك لمجال آخر من مجالات البحث، مثل فلسفة اللغة؟ إن البساطة التي يتغافل بها هيرش عن متضمنات نظرية الفهم وفلسفة اللغة لتشير بأن التخصيص الضيق الذي يقترحه للهرمنيوطيقا يفتقر إلى الحكمة، وكم تتقلص مشكلة الهرمنيوطيقا وتضيق في مجال اللاهوت مثلا لو أنها قنعت بمجرد كشف المعنى اللفظي المحتمل للمؤلف! غير أن السؤال يطرح نفسه للتو عن طبيعة المعنى عند القديس بولس مثلا: هل كان القديس بولس يحاول أن يوصل فهما ذاتيا جديدا، أم ماذا؟ هل يمكن أن نجد معايير الحكم في هذا الأمر عند القديس بولس نفسه؟ وإذا زعمنا أن مثل هذه المعايير موجودة فعلا، فعلى أي أساس يمكننا أن نقرر ما إذا كانت هذه المعايير صحيحة؟ وها نحن قد عدنا أدراجنا إلى الحاضر مرة ثانية، وإن هذه النقطة بالتحديد هي التي تستوجب أن نبرزها ونؤكدها: فحتى المعايير الخاصة بالموضوعية والمعايير اللازمة للموضوعية هي مصنوعة من القماشة التاريخية للحاضر الذي نعيشه. ذلك بعض مما تحمله مشكلة الهرمنيوطيقا من تعقد، ذلك التعقد الذي يتجاهله التعريف الضيق للهرمنيوطيقا ويحثنا دون أن ندري على تجاهله.
هكذا يمضي النزاع في مجال الهرمنيوطيقا، فعلى أحد الجانبين هناك المدافعون عن الموضوعية والتحقق الذين ينظرون إلى الهرمنيوطيقا على أنها المصدر النظري لمعايير التحقيق، وعلى الجانب الآخر هناك الفينومينولوجيون الذين يرصدون حدث الفهم رصدا فينومينولوجيا، ويؤكدون على الطابع التاريخي لهذا «الحدث»، وبالتالي على قصور كل دعاوى «المعرفة الموضوعية» و«الصواب الموضوعي».
الفصل الحادي عشر
هابرماس: الهرمنيوطيقا النقدية
ما زال الإنسان يصنع الآلات ويطور الأدوات حتى أصبح هو ذاته آلة بين الآلات وأداة بين الأدوات، والأدهى بعد ذلك أنه صار عبدا لها يأتمر بأمرها ويدور في الفلك المدوخ الذي أفرغته، ويرزح في مجال القهر الجديد الذي أفرزته.
ظل اهتمام النظرية التأويلية خلال تطورها منذ شلايرماخر حتى جادامر منصبا على عبور (أو عدم عبور) الفجوة التاريخية والثقافية التي تفصل ما بين المفسر والنص، غير أن هذا التركيز من جانب النظرية قد يحمل جرثومة وهنها وذبولها؛ إذ يبدو أن الهرمنيوطيقا فور زوال الفجوة ستفقد مبرر وجودها ولن يعود لها دور، إلا أن الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورجين هابرماس
Jurgen Habermas (1929م) شق للهرمنيوطيقا طريقا جديدا سواء من حيث النظرية أو التطبيق. ينتمي هابرماس إلى الجيل الثاني من مفكري «معهد البحث الاجتماعي» أو ما يعرف بمدرسة فرانكفورت التي اشتهرت بالمزج بين الفكر الذي يستلهم الفلسفة الماركسية وبين المناهج الناشئة للعلوم الاجتماعية، وجعلت النقد غاية في ذاته، وانصرف اهتمامها إلى نقد الواقع الاجتماعي (السياسي-الاقتصادي)، أو نقد الفكر من حيث هو وثيق الصلة بمواقف اجتماعية معينة.
1
شيد هابرماس فلسفته على نفس الأسس الفكرية التي تقوم عليها مدرسة فرانكفورت بصفة عامة، وأهمها أن المعرفة هي نتاج المجتمع، وهو نتاج عرضة في كثير من الأحيان للتزييف والتعمية والتشيء، وأن التأمل النقدي كفيل بكشف هذا الزيف والتغلب على هذا التشيء، وفي عام 1968م أصدر هابرماس كتابه «التقنية والعلم كأيديولوجيا»، وقد أفاد فيه من أفكار هربرت ماركوز (وبخاصة في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد») وافتتح المرحلة الثانية من مراحل تطور مدرسة فرانكفورت.
شهد هابرماس مجهودات التحديث في ألمانيا، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، وعايش مرحلة البناء المسترشد بالعقلانية، حيث الخطاب الثقافي والسياسي يكبت السؤال ويقصي النقد، وقد دفعه ذلك إلى اختيار الاستمرار في تقليد ثقافي وفلسفي ألماني يتخذ من «السلب» والنفي والنقد مبدأه الموجه، ويجعل من الفلسفة أداة لتفكيك الأفكار والمعتقدات الرائجة والمتداولة، ولمحاكمة الفكر الوضعي الذي يكن له عداء نظريا مكينا.
2
تجذر هذا العداء للفكر الوضعي في قلب مدرسة فرانكفورت بمختلف أجيالها، وصار هاجسها الأكبر كشف الأسس النظرية والتاريخية والاجتماعية التي تسير هذا الفكر، وإماطة اللثام عن «إرادة القوة» التي تتبطن هذه الأسس، الأمر الذي استدعى من أقطاب مدرسة فرانكفورت جميعا التنقيب عن أصول (جينيالوجيا) تلك النزعة العلمية المتطرفة لدى المذاهب الوضعية. (1) هربرت ماركوز
كرس هربرت ماركوز العديد من مؤلفاته لنقد كل أشكال الاستقطاب، وعلى رأسها الاستقطاب العلموي (النزعة العلمية المتطرفة) والتقني، باعتبار التكنوقراطية هي الوجه الآخر للفلسفة الوضعية، «فإذا كان أفلاطون أراد أن يجعل من الفلاسفة سادة، فإن التكنوقراطيين يريدون أن يجعلوا من المهندسين مجلس إدارة المجتمع».
3
في كتابه «العقل والثورة» يؤكد ماركوز على أن «الوضعية» من حيث اشتقاقها تعني مذهب «الإيجاب والقبول»
، وهما أمران يجب أن يفهما في معناهما السياسي والأيديولوجي في سياق القرن التاسع عشر في فرنسا بالذات بعد الثورة الفرنسية. إن «الإيجاب» كان يعني قبول الأوضاع الراهنة والوقوف منها موقف الرضا والمناصرة، خلافا للرفض أو «النفي» الذي كانت تحمل لواءه فلسفات أخرى عاصرها أوغست كونت (1798-1857م)، رائد الوضعية، في فرنسا أو خارجها، أبرزها فلسفة هيجل (1770-1831م) التي كانت ترتكز على فكرة السلب والتناقض، وهو الاتجاه ذاته الذي سار فيه ماركس (1818-1883م) فيما بعد مع تعديله كي يقف على قدميه، هذا فضلا عن الفلسفات الاشتراكية الخيالية في فرنسا كفلسفة سان سيمون (1760-1825م) ومذهب برودون (1809-1865م) الفوضوي، إنها اشتراكيات تستند إلى فلسفة اجتماعية رافضة تتخذ موقف الرفض من الأوضاع الراهنة ومن النظم الاجتماعية القائمة، وتدعو إلى تغييرها تغييرا جذريا في الوقت الذي اقترنت فيه الوضعية مع كونت بالدعوة إلى الإصلاح في إطار ما هو قائم وما هو موجود؛ لذا فإن الإعجاب بالعلم ومعاداة الفلسفة لدى هذا المفكر لا يمكن أن يفهما إلا في هذا السياق، سياق الهجوم المرير على فلسفات السلب والرفض متمثلة في المذاهب الفلسفية الاجتماعية التي عرفت انتشارا في فرنسا، وفي فلسفة هيجل واليسار الهيجلي في ألمانيا.
لا تفهم وضعية كونت حق الفهم إلا في ضوء نقيضها، أي في استحضار الخصم الذي كانت هذه الفلسفة تواجهه، فقد جاءت كرد فعل واع على الاتجاهات النقدية الهدامة في فرنسا وألمانيا، فوصفت مذهب هيجل مثلا، بسبب قوامه النقدي، بأنه فلسفة سلبية تنفي أي واقع لا معقول، وتحاول قياس الواقع وفق معايير العقل المستقل، وهو تحد للنظام القائم وبحث عن إمكانيات الأشياء من دون معرفة واقعها الفعلي؛ لأنها تقتصر على الصور المنطقية ولا تصل إلى العمق الفعلي الذي لا يمكن استنتاجه في هذه الصور، إن الفلسفة السلبية، نظرا إلى بنائها التصوري، «تنفي (أو تنكر) الأشياء على ما هي عليه، فالأمور الواقعة التي تؤلف الوضع القائم، أو الحالة الراهنة، حين ينظر إليها في ضوء العقل، تصبح سلبية محدودة عارضة، أي تصبح صورا زائلة داخل عملية شاملة تؤدي إلى تجاوزها.»
4
ويتجلى الارتباط بين وضعية القرن التاسع عشر والوضعية المحدثة في توجيه الفكر نحو الأمور الواقعة ورفع مكانة التجربة بحيث تصبح هي المعيار والفيصل في كل معرفة.
هكذا يرى ماركوز أن اسم الوضعية (الإيجابية) اسم سجالي، أي لا يمكن فهمه إلا في سياق خلافي واختلافي، أي لا يفهم إلا باستحضار الخصم الذي يحاربه، حينئذ يتبين للمرء أنه نحت للدلالة على ذاك التحول من نظرية فلسفية إلى نظرية تريد أن تكون علمية، فحلول الملاحظة محل التأمل في علم الاجتماع عند كونت يعني تأكيد النظام بدلا من أي خروج على النظام، وهو يعني سلطة القوانين الطبيعية بدلا من الفعل الحر، والتآزر بدلا من اختلاف النظام.
ينعت ماركوز الوضعية في موضع آخر بأنها فلسفة أحادية البعد، تعكس تطور المجتمع الأحادي البعد الجديد وأشكال الرقابة التكنوقراطية فيه، ثمة إذن طبع أيديولوجي ملازم لكل جنوح وضعي وتطرف علمي، فربط صدق الفكر والمعرفة باختبارهما الواقعي، وجعل العلوم الفيزيائية نموذج اليقين والدقة، والاعتقاد بأن تقدم المعرفة منوط بالاحتذاء بذلك النموذج، كلها علامات على انتصار معايير الواقع التكنولوجي حيث يتحول العالم إلى عالم أدوات ومنافع ومصالح؛ لذا فإن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة ويشهد على التقدم التقني هو الرفاه والفعالية وافتقاد الحرية الفردية، «وهل ثمة ما هو أكثر عقلانية من إلغاء الفردية عن طريق ميكنة الأعمال الضرورية اجتماعيا والشاقة رغم ذلك؟»
5
إن لغة الفعالية والإنتاجية هي لغة النظام التكنولوجي، وحتى الحقوق والحريات التي كانت عوامل أساسية في المراحل الأولى من المجتمع الصناعي تقل أهميتها وحيويتها في مرحلة أكثر تقدما، وتفرغ من مضمونها التقليدي: «فقد كانت حرية الفكر والكلام والضمير - شأنها شأن المشروع الحر الذي كانت تخدمه وتذود عنه - تهدف، وهي المكونة في جوهرها من أفكار نقدية، إلى ترك ثقافة مادية وفكرية بالية وتبني ثقافة أخرى أكثر فعالية وعقلانية، وعندما أخذت تلك الحريات والحقوق صفة المؤسسات، شاطرت المجتمع الذي أصبحت جزءا لا يتجزأ منه، مصيره، وبكلمة واحدة، إن الإنجاز يموه المقدمات.»
6
يصف ماركوز المجتمع الصناعي المعاصر بأنه مجتمع يضفي صفة العقلانية على اللاعقلانية، باعتباره مجتمعا تسنده حضارة منتجة، ناجعة، قادرة على زيادة الرفاه وعلى إضفاء صفة الحاجة على ما هو زائد على الحاجة، وتحويل ما هو كمالي إلى ضرورة، وما هو هدمي إلى بناء! وبمقدار ما تحول الحضارة القائمة عالم الشيء إلى بعد للجسم والروح الإنسانيين، يصبح مفهوم الاستلاب بالذات إشكاليا، فالناس يتعرفون على أنفسهم في بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم في سيارتهم وجهازهم التلفزيوني الدقيق الاستقبال، وفي بيتهم الأنيق وأدوات الطهي الحديثة، إن الآلية التي تربط الفرد بمجتمعه قد تبدلت هي نفسها، والرقابة الاجتماعية تحتل مكانها في قلب الحاجات الجديدة التي ولدتها.
7
فالأشكال السائدة من الرقابة الاجتماعية هي أشكال تكنولوجية بمعنى جديد، ومما لا شك فيه أن البنية التقنية وفعالية جهاز التدمير والإنتاج قد أسهما في إخضاع السكان لتقسيم العمل الحالي، ولكن الرقابة التقنية غدت اليوم تعبيرا عن العقل نفسه الذي أصبح خادما لكل الجماعات ولكل المصالح الاجتماعية، بحيث إن كل تناقض يبدو لا عقلانيا وكل معارضة تبدو مستحيلة، يخضع المرء في المجتمع التقني الجديد للون جديد من التبعية: تلك التي تخضع المرء ل «نظام أشياء موضوعي»، هو القوانين الاقتصادية وقوانين السوق وغيره ... ولئن كان «نظام الأشياء الموضوعي» هو أيضا من صنع السيطرة ونتائجها، فإن السيطرة تعتمد الآن على درجة أكبر من العقلانية، عقلانية مجتمع يدافع عن بنيته الهرمية، ويستغل في الوقت نفسه وبصفة أنجع الموارد الطبيعية والفكرية ويوزع على نطاق متعاظم باستمرار أرباح هذا الاستغلال.
يقول ماركوز: «إن التكنولوجيا المعاصرة تضفي صبغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل «تقنيا» أن يكون الإنسان سيد نفسه وأن يختار أسلوب حياته، وبالفعل، إن نقص الحرية لا يطرح نفسه اليوم على أنه واقعة لا عقلانية، أو واقعة ذات صبغة سياسية، وإنما يعبر بالأحرى عن واقع أن الإنسان بات خاضعا لجهاز تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل. إن العقلانية التكنولوجية لا تضع السيطرة موضع اتهام، وإنما هي تحميها بالأحرى، والأفق الأداتي للعقل يطل على مجتمع كلي استبدادي وقد أضيفت عليه الصفة العقلانية.»
8
يتبين إذن أن التقنية ليست شيئا محايدا عديم اللون والطعم والرائحة، كما أنها ليست مجرد تطبيق عملي لممارسة نظرية هي العلم، إنها منطق أو وضع أو موقف فلسفي أو أيديولوجي، ليست آلات وأدوات ووسائل عمل في يد الإنسان، بل هي أدوات ووسائل تكرس منطق السيطرة وتكشف عصر التقدم التقني وأيديولوجيا النظام التكنولوجي.
ثمة مشابهات بين هذا الموقف الذي دافع عنه ماركوز ثم هابرماس، وموقف هيدجر الذي يعتبر الوضعية الأساسية للأزمنة الحديثة هي «الوضعية التقنية»، ولأن العصر تقني، فالتنقية شكل من أشكال الحقيقة وكيفية من كيفيات الوجود أو نمط من أنماط تجلياته، إنه موقف يصب في القول ب «لا حيادية» التقنية، خلافا للموقف الماركسي الذي يعتبرها مجرد تطبيق للعلم.
9 (2) التقنية والعلم كأيديولوجيا
يرى هابرماس أن العلم ليس بريئا وليس محايدا وليس نزيها!
فالعلم في سياق العقلانية التقنية تتلبسه حسابات السياسة، أي إرادة قوة بالمعنى النيتشوي تنبغي تعريتها وإخراجها إلى واضحة النهار، الأمر الذي يستلزم نقد المذاهب الوضعية والنزعة العلمية المتطرفة
Scientism
والنزعة التقنية، بوصفها جميعا تعبيرات عن الأيديولوجيا المكونة للحداثة التقنية، أما الوضعية فهي تميل إلى تحنيط العلم حتى ليتحول إلى دين جديد دوجماوي يقدم أجوبة وثوقية عن كل الأسئلة الممكنة ويقدم حلولا ناجعة لكل المشكلات، وأما النزعة التقنية فهي الميل إلى اعتبار التطبيق العملي للمعرفة العلمية هو وحده الكفيل بتقدم المجتمع، واعتباره توظيفا عمليا محايدا للمعرفة العلمية، متناسية أن التقنية تحول البشر أنفسهم إلى وسائل وأدوات، فتقمع طاقاتهم الإبداعية والتحررية، وبهذا المعنى فهي أيديولوجيا تلعب دورا أساسيا في إضفاء المشروعية على النظام الاجتماعي والسياسي الحديث القائم على العقلانية التقنية.
10
ويعود الفضل إلى ماكس فيبر في استخدام مفهوم «المعقولية» لوصف الشكل الرأسمالي للنشاط الاقتصادي، والنمط البرجوازي للمبادلات والأنماط البيروقراطية للسيطرة؛ وعليه فإن العقلنة تعني توسيع المجالات المجتمعية التي تخضع لمعايير القرار العقلي، والتي تسير بموازاة تصنيع العمل الاجتماعي وميكنة الحياة الاجتماعية وإضفاء الصفة الآلية والتقنية على حياة الإنسان، إن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة هو رزوحها تحت أشكال من الرقابة المتعددة المستويات، تحشر في عداد العقلنة والتخطيط والترشيد المتوخية كلها تحقيق «غايات» و«أهداف» معقلنة .
ويؤكد هابرماس أن «العقلنة» المتزايدة للمجتمع تتم بموازاة عملية إضفاء صيغة المؤسسة على التقدم العلمي والتقني، فبقدر ما يتدخل العلم والتقنية في مؤسسات المجتمع ويفقدانها طابعها كمؤسسات، تغدو الإنتاجية هي المعبئ الوحيد للمجتمع وتضع نفسها فوق كل مصلحة.
هكذا يحول هابرماس مفهوم العقلنة، مثلما استخدمه ماكس فيبر، ويكيفه تكييفا يجعله يسير على قدميه، وليس على رأسه كما كان الأمر مع هذا الأخير، وهابرماس، هنا، يقتفي أثر ماركوز الذي انتقد الطابع الصوري للمعقولية في صيغتها الفيبرية، وكأنها مجرد عملية تتم في حدود نشاط عقلي يقرره رئيس مؤسسة رأسمالية متوخيا منه تحقيق غايات وأغراض عملية استنادا إلى معايير العلم والتقنية، فهو يرى أن خلف هذه «المعقولية» المظهرية ثمة إرادة سياسية ثاوية تسعى إلى توسيع مجال السيطرة وعقلنته، فكل عقلانية تكنولوجي يحايثها (يباطنها ويحل بها) منطق للسيطرة يتمثل في إخضاع الإنسان لنظام الأشياء، فما دامت معقولية من هذا القبيل تقوم على وضع الخطط والاختيار بينها بحثا عن أفضلها، واستخدام التكنولوجيا الملائمة وتهيئة الأنظمة المناسبة والمواتية لبلوغ غايات ثابتة ومحددة، فإنها تبقي شيئا يتم في غفلة عن التفكير، وفي خلسة من المصالح الاجتماعية الكبرى، معقولية من هذا القبيل لن تخدم سوى علاقات التسيير والتحكم التقني، إنها تفترض نوعا من السيطرة على الطبيعة أو على المجتمع، ذلك أن النشاط العقلي حينما يضع لنفسه غايات، يتحول إلى رقابة؛ لذا فإن «عقلنة» شروط الحياة تعني في نهاية الأمر تحويل السيطرة إلى مؤسسة لها شرعيتها، والتي لا ينتبه إلى أنها شرعية سياسية، وهذا هو جوهر النقد الذي يوجهه ماركوز ثم هابرماس إلى ماكس فيبر.
ففي المجتمعات الرأسمالية المتقدمة صناعيا تتجه السيطرة إلى أن تفقد طابعها القمعي المعيمن والمسيطر لتتحول إلى نوع من السيطرة «المعقلنة»، من دون أن تتخلى مع ذلك عن طابعها.
غير أن الطابع القمعي لا يختفي تماما، بل يتخذ لنفسه مظاهر وتجليات تتمثل في خضوع الأفراد ورزوحهم تحت نير جهاز الإنتاج والتوزيع واندماجهم الكلي في منطقه، إلا أن الأفراد لا يعون الجوهر القمعي لكل ذلك؛ لأنه يضفي على نفسه رداء جديدا من الشرعية، مفاده الزعم بأن السيطرة على الطبيعة والتحكم في الإنتاجية المتزايدة هو ما سوف يضمن للأفراد شروط العيش الرغيد.
11
لقد فاق تعاظم قوى الإنتاج، والذي هو إحدى مميزات التقدم العلمي والتقني المعاصر، كل النسب والحدود، ومبادئ العلم الحديث قد ركبت وبنيت، مسبقا، على نحو يمكن معه استخدامها كأدوات مفاهيمية من طرف عالم الرقابة الإنتاجي الذي يجدد نفسه بصفة أوتوماتيكية، وكان من نتيجة ذلك أن اندمجت النزعة الإجرائية النظرية بالنزعة الإجرائية العملية وامتزجت بها، وهكذا قدم المنهج العلمي، الذي فتح الباب على مصراعيه أمام السيطرة الفعالة على الطبيعة، مفاهيم بحتة، ولكنه قدم أيضا مجموع الأدوات التي سهلت سيطرة الإنسان على الإنسان على نحو مطرد الفاعلية من خلال السيطرة على الطبيعة، ولقد أصبح العقل النظري، بمحافظته على بقائه وحياده، خادما للعقل العملي، ولقد كان هذا التلاقي مفيدا لكليهما، واليوم لا تزال السيطرة قائمة، وقد أخذت طابعا أكثر شمولا بفضل التكنولوجيا، وبوجه خاص بوصفها تكنولوجيا، فالتكنولوجيا تبرر ابتلاع السلطة السياسية من خلال امتدادها إلى كل دوائر الثقافة. (3) المعرفة والمصلحة
في كتابه «المعرفة والمصلحة» الذي صدر عام 1968م (أي في نفس العام الذي صدر فيه «التقنية والعلم كأيدلوجيا») رسم هابرماس الخطوط العريضة لتأويليته النقدية، وذلك عندما قسم المصلحة البشرية إلى ثلاثة أقسام: المصلحة التقنية أو الأداتية، والمصلحة العملية، والمصلحة التحررية. «أما المصلحة التقنية» أو الأداتية فهي تلك التي تحكم العلوم التجريبية، وتستخدم المناهج الإمبيريقية-التحليلية للوضعية لكي تستخلص المعرفة الأداتية للعلوم الطبيعية، إن ما يميز عبارات العلوم التجريبية هو أن دلالتها تكمن في قابليتها للاستغلال التقني، وهذا هو سر الارتباط بين المعرفة التجريبية والمصلحة التقنية. «وأما المصلحة العملية» فمجالها التواصل بين البشر، وتستخدم المنهج التأويلي، لتنتج المعرفة العملية. «وأما المصلحة التحررية» (المصلحة الرامية للتحرر والانعتاق) فتستخدم النظرية النقدية لكي تظفر بمعرفة تحرر الإنسان من الزيف والوهم.
والحق أن هابرماس يضع الهرمنيوطيقا النقدية في موضع أعمق بعض الشيء من الهرمنيوطيقا التقليدية، بمعنى أنه يدرجها ضمن النطاق «التحرري» من المصلحة البشرية، والهرمنيوطيقا النقدية التي يقترحها هابرماس لا تشذ عن الروح العامة لأسلوب البحث في مدرسة فرانكفورت، فهي مركب فعال من النظرية والتطبيق وبرنامج العمل غايته أن يضاد التأثيرات القمعية للبناء الاجتماعي للمعرفة.
12 (4) المعركة الفكرية بين هابرماس وجادامر
في كتاب «المعرفة والمصلحة» ظل الطابع السائد هو نقد المعرفة، ولم يقدر لهابرماس أن ينشغل بالهرمنيوطيقا النظرية والعملية بشكل جاد ودائم، ويتحول بالتالي من نقد المعرفة إلى نقد اللغة، إلا بعد اشتباكه مع جادامر في سجال عنيف (لعله أطول المعارك الفكرية في التاريخ الحديث؛ إذ استمر عدة عقود من الزمن)، في هذا الجدل نجد هابرماس يأخذ على جادامر ميله إلى إخضاع الفهم والتأويل لسلطة التراث (التقليد/الإرث)، فالتراث في نظر هابرماس (وفي نظر كل مفكر ذي خلفية ماركسية) هو وعاء يحوي تحريفات أيديولوجية هائلة ويختزن في قلبه الزيف والتعمية والتشييء، زد على ذلك أن التراث ليس شيئا متصلا موصولا ثابتا، فهو عرضة للتمزق الذي يحدثه التعقل والتفكير العقلاني، وهو مليء بالتمزقات التي تخلق ألوانا من القطيعة والانقلاب، ثمة مصالح حقيقية في المنهج، وفي العلم بصفة عامة، ينطوي عليها التراث بحيث لا يكفي أن نلم بأسس الفهم ودعائمه بل يلزمنا خلاص، يلزمنا انعتاق من ربقة التراث وبخاصة إذا كان هذا التراث قمعيا.
كما سخر هابرماس من إحجام جادامر عن التنظير في المنهج التأويلي واكتفائه بمجرد عرض مفاهيم موغلة في التجريد من مثل «الآفاق» و«التحام الآفاق»، الأمر الذي استهدف الهرمنيوطيقا لوابل من التهكم والازدراء من جانب الوضعيين.
أما السلطة التي دافع عنها جادامر وبرأها، والحكم المسبق (أو التحيز) الذي جعل منه أداة للفهم كما أراد هيدجر، فقد نالا قسطهما من التفنيد والنقد، ذلك أن هابرماس يرى الأحكام السبقية التي نتشربها من تراثنا كثيرا ما تكون عثرات وقيودا على العقل، وينبغي أن نخضعها للتمحيص النقدي باسم العقل والتأمل، لا بد من أن نضع طاقة العقل وسلطانه في مواجهة الطبيعة الظاهرية والقبول السطحي لأطروحات التراث وطرائقه وسبله، أما المبدأ القائل بعبثية التخلص من الأحكام المسبقة واستحالته ، والذي أخذه جادامر عن هيدجر، فهو مبدأ خاطئ في نظر هابرماس الذي يؤكد أن بإمكان الهرمنيوطيقا أن تقهر التحيزات عن طريق المنهج النقدي، وإذا كان جادامر قد حاول أن يزيل التوتر بين النزعة الموضوعية والنزعة الذاتية ويذيب الفوارق بينهما ويفض الاشتباك، فإن هابرماس قد أعاد مرة ثانية حكم الموضوعية في الهرمنيوطيقا ورد لها سلطانها.
وأما اللغة، تلك التعويذة الهيدجرية التي تعبد بها هيدجر وجعلها مكافئة للوجود ذاته، فهي في نظر هابرماس كيان أيدلولوجي يختزن في قلبه الزيف والخرافة والاستلاب، وإذا كانت الأيديولوجية في اللغة قمعية كابتة فإن فهم اللغة لا جدوى منه ما لم يتم التحقق من الأيديولوجيات وتمحيصها، ثمة فرق بين الفهم من خلال اللغة وبين الانعتاق من اللغة، ومن المتيقن أن المبادرة السياسية بتصحيح الموقف أهم بكثير من مجرد تفسير الألفاظ، ذلك أن تشويهات اللغة لا تأتي من استعمال اللغة بل من ارتباطها بالعمل وبالسلطة، وهو ارتباط يظل أعضاء المجتمع غافلين عنه وغير متفطنين إليه، الأمر إذن ينطوي على تشويه منظم للفهم وليس مجرد سوء فهم، وإذا كان الحوار لا يكفي للتغلب على هذا التشويه وهذه الغفلة فإن كشف الأيديولوجيا وتفكيكها يجب أن يمر خلال مسار التفافي من الإجراءات المعنية ب «التفسير»
Explaining
وليس مجرد «الفهم»
Understanding .
هذه بعض المناوشات الصغرى التي جرت في السجال الطويل بين هابرماس وجادامر، فالحق أن جدل هابرماس ينفذ إلى القلب من تأويلية جادامر ليصبح أساسا لتأويلية هابرماس النقدية، يزعم هابرماس أن المشكلة الجذرية في تأويلية جادامر هي أنه يظن أن كل حوار بين ذات وموضوع، أو بين ذات وأخرى، هو حوار صادق وأصيل، ويظن أن كل التحام بين أفقين هو التحام حقيقي، لم يضع جادامر في حسبانه احتمال وجود حوار زائف وإجماع زائف، ولم يدر بخلده أن لعبة الفهم والتفسير الجارية المتدفقة يمكن أن تفسدها القوى الأيديولوجية المسيطرة والعنيفة والمشوهة، والتي قد تشف وتدق بحيث لا يراها ولا يحسها اللاعبون أنفسهم، يتفق هابرماس مع جادامر في أن الحوار يجب أن يكون تفاعلا متبادلا حرا بين قوتين، ولكنه يرى أن هذه الحرية التي يقوم عليها الحوار مهددة في الصميم، فما إن يصاب الحوار بعدوى الأيديولوجيا حتى تنهار حريته ويصبح الاتفاق الذي يفضي إليه الحوار اتفاقا زائفا، بإمكان الأيديولوجيا أن تتخلل «نظرة العالم»
World View
كليا، وتتخلل «الأفق»
Horizon (أي مقولات الفهم التي لا يسعنا أن نرى وراءها)، غير أن بإمكان الأيديولوجيا أيضا أن تتسلل إلى نسيج اللغة ذاتها وتسلك نفسها في سدى اللغة ولحمتها، وهكذا تصبح اللغة، وهي الأداة الضرورية للحوار الجادامري، حاملة للعدوى الأيديولوجية، وهكذا يبدو جادامر في الصورة الكاريكاتورية لجراح خطر يحمل حقيبة آلات جراحية ملوثة.
ويتفق هابرماس مع جادامر في أن ممارسة لعبة التأويل تعني ممارسة لعبة اللغة، غير أن ممارسة لعبة اللغة عند هابرماس تعني ممارسة السيطرة والعنف والتحريف، وإذا شاءت الهرمنيوطيقا أن تتجه إلى الحقيقة وتقصدها فلا بد لها من أن تقف خارج اللعبة كمشاهد موضوعي، لا بد للمؤول من أن يتخذ موقف ملاحظ خارجي غير مشارك حتى يستطيع أن يشخص بدقة تلك العمليات المشئومة والأفاعيل الشريرة التي ترتكبها الأيديولوجيا واللغة، وحيث إن كلا من الأيديولوجيا واللغة تتسرب إلى «نظرة العالم»
World View
حتى لدى أعتى مفكر نقدي فقد كان على هابرماس أن يجد نقطة أرشيميدية يستطيع منها أن يفض الأسرار المحجبة للأيديولوجيا واللغة، وقد تبين أنه أسعد حظا من أرشيميدس نفسه؛ ذلك أن هابرماس استطاع أن يكتشف نقطتين من تلك النقاط لا نقطة واحدة، وهما بالتحديد: التحليل النفسي الفرويدي والنقد الماركسي للأيدولوجيا، أما التحليل النفسي الفرويدي فهو يقدم نموذجا لعلاج الأدواء النابعة من التشويه المنظم الذي تلحقه الأيديولوجيا واللغة بنظرة العالم. إن المحلل النفسي يشجع مرضاه، بلغة الكلام، على مداواة العلل الناجمة عن الذكريات والدوافع اللاشعورية، كذلك ينبغي على الهرمنيوطيقا النقدية أن تشجع البشرية، بلغة الخطاب، على أن تناهض القمع والزيف والتشييء الذي تنطوي عليه المعرفة.
وأما التراث الماركسي في نقد الأيديولوجيا، وهو رافد أساسي لفكر مدرسة فرانكفورت بصفة عامة، فهو يقدم نموذجا آخر للنفاذ إلى البنى التحتية للمجتمع والنظر إلى البنية الاجتماعية للمعرفة ، يقول ماركس في كتابه «الأيديولوجية الألمانية»: «الوعي لا يحدد الحياة، الحياة هي التي تحدد الوعي.» غير أنه بين الضروب المختلفة من الوعي والتعبير في أي مجتمع هناك وعي سائد ومسيطر وغالب، ووعي آخر مسود وخاضع ومغلوب على أمره، الوعي الغالب هو وعي الطبقة الحاكمة، وهو يشكل أيديولوجية المجتمع، ويعمل على تبرير سلطة الطبقة المسيطرة وخدمة مصالحها وإضفاء الشرعية على أوضاعها، مهمة النقد الماركسي للأيدلويوجيا هي أن يكشف النقاب عن هذه الخدع الأيديولوجية للوعي المسيطر والتعبيرات السائدة، ويرتكز على المصلحة المحررة ويهدف إلى تحرير الطبقات المقهورة.
أفاد هابرماس إذن من التراثين الماركسي والفرويدي، وشيد نظرية تأويلية تبدأ من افتراض أن كل معنى ينتج عن الاتفاق هو موضع شك في أن يكون نتاج اتفاق زائف، وأن يكون من ثم معنى زائفا، ومهمة الهرمنيوطيقا النقدية إذن هي البحث عن اتفاق حقيقي ومعنى أصيل، وحيث إن عملية البحث عن اتفاق هي في أمثل الأحوال مغامرة عقلية، فقد استعار هابرماس فكرة العقلانية التي قال بها ماكس فيبر، ولا سيما فكرتي الفعل والفعل العقلاني. (4-1) نظرية الفعل التواصلي
Theory of Communicative Action
الفعل العقلاني، بأبسط معانيه وأصرحها، هو الفعل المخطط والمحسوب، والمصمم لتحقيق هدف بعينه، وهو دائما أيسر إجراء للظفر بأقصى نجاح ممكن، وغني عن القول أن ليست جميع الأفعال البشرية أفعالا عقلانية، ورغم ذلك فإن معظم الأفعال التي يقوم عليها المجتمع الحديث هي أفعال عقلانية: الأعمال التجارية والاستثمارية، الإجراءات القضائية، الإدارة المكتبية ... إلخ. قد يكون الفعل العقلاني موجها نحو النجاح أو النجاعة، وقد يكون موجها نحو الفهم الأصيل، وقد يكون الفعل العقلاني أيضا ذا نطاق اجتماعي، وقد يكون غير اجتماعي في نطاقه ومجاله، وفقا لهذه التصنيفات يقسم هابرماس الفعل العقلاني إلى: (1) «فعل عقلاني موجه إلى النجاح»، وهو ينقسم بدوره إلى صنفين:
فعل أداتي غير اجتماعي:
يتخذ نموذج العقلانية التقنية.
فعل استراتيجي اجتماعي المجال:
بمعنى أنه يجري في سياق توجد فيه أطراف عقلانية أخرى، والفعل الاستراتيجي هو بالضرورة فعل تنافسي ومخطط بهدف قمع أفعال الأطراف الأخرى أو محاصرتها أو التفوق عليها ، وينقسم الفعل الاستراتيجي إلى قسمين: (أ)
فعل استراتيجي صريح: حيث جميع الأطراف على علم بأنها في عملية تنافسية، مثال ذلك المباريات، المناقشات، الإجراءات القانونية ... إلخ. (ب)
فعل استراتيجي مضمر: وينقسم بدوره إلى صنفين:
فعل ينطوي على خداع شعوري: مثال ذلك التلاعب والإغواء، حيث هناك طرف واحد يدري بالخدعة.
فعل ينطوي على خداع لا شعوري: مثال ذلك التحريف الأيديولوجي، حيث جميع الأطراف لا تدري بالخدعة. (2) «فعل تواصلي
Communicative Action »، وهو الفعل العقلاني الوحيد الذي يرمي إلى فهم حقيقي، والفرق المميز له عن الفعل الاستراتيجي هو أن الفعل التواصلي غير تنافسي، ورغم أنه عقلاني الصبغة فهو قائم على التواضع ومدفوع بالفهم التعاوني البينذاتي
Intersubjective
ومجرد من الأنانية والمصلحة الذاتية.
يذهب هابرماس إلى أننا بصدد الفعل التواصلي تلزمنا هرمنيوطيقا نقدية للوصول إلى الغاية المشتركة من هذا الفعل وهو الفهم المتبادل، وبصدد الفعل الاسترايتيجي تلزمنا هرمنيوطيقا نقدية تكشف النوايا الخبيثة والمقاصد الشريرة التي تتبطن الفعل الاستراتيجي، وحيث إن كلا من الفعلين التواصلي والاسترايتيجي يتجسد في اللغة، فإن على الهرمنيوطيقا النقدية أن تولي عنايتها باللغة، وها هنا يبزغ المنعطف اللغوي الشهير لهابرماس: التحول من نقد المعرفة إلى نقد اللغة، والذي يدخل النقد الأسلوبي للأيديولوجية عن ماركس إلى داخل نطاق علم اللغة (اللسانيات). (4-2) المنهج التأويلي لهابرماس: البراجماطيقا العامة
تنقسم دراسة اللغة في عامة الأحوال إلى الأقسام التالية (ضاربين صفحا في هذا المقام عن «علم الأصوات الكلامية»
و«علم تمثيل الأصوات»
و«علم الصرف»
Morphology ):
علم النظم (التراكيبية)
Syntatics
الذي يدرس علاقة العلامات اللغوية بعضها ببعض.
علم دلالة الألفاظ (السيمانطيقا/المعاني)
Semantics
الذي يدرس علاقة العلامات اللغوية ب «الواقع الخارج عن اللغة»
Extralinguistic Reality .
التداولية (البراجماطيقا)
التي تدرس علاقة العلامات اللغوية بمستخدميها من بني الإنسان، فليست اللغة بأي حال شيئا مخزنا بالمعاجم وكتب النحو، بل هي شيء متصل بين بني الإنسان، وأيسر طريقة لبيان الموضوعات التي تتألف منها البراجماطيقا هي أن نقول إنها تشمل جميع المسائل التي لا يمكن أن يبحثها اللغويون وفلاسفة اللغة في نطاق علم النظم أو علم الدلالة، والحق أنه في كثير من المناقشات اللغوية تستخدم عبارة «إنها مسألة تداولية لا أكثر» للتهوين من شأن بعض المسائل والموضوعات وعدم أخذها مأخذ الجد.
ربط هابرماس تأويليته النقدية بالبراجماطيقا (التداولية) التي تعد أحدث الأفرع اللغوية سنا؛ إذ لم يعترف بها كجزء من علم اللغة إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، ولعل مرد هذا التأخير إلى أن البراجماطيقا تحيد كثيرا عن الموضوع التقليدي لعلم اللغة وفقا للتمييز الصارم الذي وضعه فرديناند دي سوسير (1857-1913م)، رائد علم اللغة الحديث، بين «اللغة»
Langue
و«الكلام»
، أما «اللغة»
Langue
فهي القالب أو البنية اللغوية التي توجد وجودا مثاليا خارج أي استعمال يومي معين، ذلك الاستعمال الذي يطلق عليه سوسير
«الكلام»، ف«الكلام» عند سوسير هو تلك الكتلة المهوشة للعبارات (المنطوقات) اليومية التي لا تصلح موضوعا لعلم مثل علم اللغة، بينما اللغة عنده هي المادة المثالية المنظمة التي يمكن أن تكون موضوعا للبحث العلمي.
ومن بين أفرع علم اللغة جميعا فإن البراجماطيقا (التداولية) وحدها هي التي تجاسرت على دراسة «الكلام»
، بينما آثرت الأفرع الأخرى دراسة الكيان المنظم المستقر أي «اللغة»
Langue ، ورغم ذلك فقد انكب هابرماس على دراسة البراجماطيقا، ولم يكتف بتعديلها وتهيئتها بل أرهفها وكيفها بحيث يتلاءم مبحثها مع متطلباته النقدية.
والحق أن هابرماس لم يكن مولعا بانشغالات البراجماطيقا ب «الكلام»
بالمعنى السوسري والتي كان يراها انشغالات دنيوية مفرطة، بل كان مولعا في المقابل بالمبادئ التحتية التي تحكم البراجماطيقا وتحكم تجنيدها للغة، لقد أخذ يبحث عن النظام، والبنية، والقالب في منطوقات الحياة اليومية، وبذلك أحدث انقلابا في البراجماطيقا، وإذ جعل يعامل «الكلام» معاملة «اللغة» فقد خلق ما أسماه «البراجماطيقا العامة» (العمومية/الشاملة/العالمية)
Universal Pragmatics ، فإذا كانت البراجماطيقا تبدأ بمناهج جمع البيانات الإمبيريقية، فإن براجماطيقا هابرماس العامة تقوم على إعادة بناء الاستراتيجيات التي يستخدمها الناس في أداء أفعالهم التواصلية داخل سياقات محددة.
مشروع البراجماطيقا العامة إذن هو إعادة بناء التعامل (التفاعل) التواصلي المثالي، ويقوم هذا المشروع على نظريات مفتاحية ثلاث، تنتمي اثنتان منها للتراث الفلسفي اللغوي الأنجلوسكسوني، والثالثة تنتمي للغويات السيكولوجية الألمانية . أما «النظرية الأولى» من هذه النظريات الثلاث فهي مخطط سير كارل بوبر (1902-1994م) عن العوالم الثلاثة:
العالم 1:
عالم البيئة الطبيعية.
العالم 2:
عالم الأفكار والخبرات الذاتية.
العالم 3:
عالم المعرفة الموضوعية ... العالم الاجتماعي البينذاتي.
استلهم هابرماس هذا المخطط البوبري وذهب إلى أنه إذا كان هناك تمييز جوهري بين هذه العوالم الثلاثة فإن هناك تمييزا جوهريا بين اللغات التي تستخدم وفقا لكل من هذه العوالم أو داخل سياقها، ولكي يتعقب هابرماس هذا الاستبصار الأول فقد أفاد من النظرية الأساسية الثانية وهي نظرية «أفعال الكلام»
Speech Acts
كما بدأها فتجنشتين
Wittgenstein (1889-1951م) وطورها تلميذه الإنجليزي جون أوستن
J. Austin (1911-1960م) في كتابه «كيف تفعل أشياء بالكلمات»
How to Do Things with Words
وضع جون أوستن تصنيفا لأفعال الكلام، فقسم الأفعال الكلامية إلى ثلاثة مستويات: (1)
في المستوى الأول نجد الوظيفة الكلامية المحضة للمنطوق أو القول كما يحدث حين أصدر ضوضاء صوتية أو أكون جملة مفيدة أو أقول شيئا ذا معنى، ويسمى هذا الفعل الكلامي
Locu. Tionary Act . (2)
في المستوى الثاني تأتي الوظيفة الإنجازية للمنطوق أو العبارة؛ إذ يكون القول ذاته «فعلا»: فحين أكتب في وصيتي على سبيل المثال: «أنا أهب ساعتي لأخي وأوصي له بها» فإنني إذاك لا أصف ما أنا أقوم به ولا أثبت أنني أفعل ذلك، بل أنجز فعلا وأهب ساعة، وحين أقول في لحظة عقد الزواج «أنا أرضى بهذه المرأة زوجة لي» فأنا لا أخبر عن نفسي خبرا ولا أنقل وقائع الزواج، وإنما أتزوج، إن الجملة هنا ليست مجرد إخبار أو تقرير أو إثبات، إنها جملة إنجازية، منطوق إنجازي، ويسمى هذا الفعل من أفعال الكلام حيث يكون إنتاج العبارة هو ذاته إنجاز لفعل
Illocutionary Act (الفعل الأدائي/الإنجازي/الإنشائي). (3)
في المستوى الثالث تأتي الوظيفة الإيعازية أو التحريضية، وذلك حين يريد القائل من قوله أن يحدث تأثيرات في المتلقي: إقناعا، رهبة، خشية، سخرية أو ازدراء ... إلخ، ويسمى هذا الفعل الكلامي
Act .
13
ذهب هابرماس إلى أن نظرية أفعال الكلام لجون أوستن تشق طريقا لنظريته عن البراجماطيقا العامة، من حيث إنها تتناول بعض القواعد العامة للكفاءة التواصلية التي تهدف إلى تبيان الشروط اللازمة للاستعمال الموفق، أي المفهوم والملزم، للجمل في منطوقات أو عبارات كلامية، ذلك أن البراجماطيقا العامة معنية بتحليل اللغة المستخدمة كفعل اجتماعي، وبخاصة كفعل استراتيجي، وفعل تواصلي، ومثل هذا الاستخدام هو بالضرورة
Illocutionary ، فمن بين الأصناف الثلاثة من أفعال الكلام التي طرحها أوستن فإن الفعل «الأدائي/الإنجازي/الإنشائي»
Illocutionary Act
هو الذي يهم هابرماس بالدرجة الأولى.
لاحظ هابرماس رغم ذلك أن نظرية أفعال الكلام لجون أوستن تعاني من قصور أساسي، من حيث إنه لم يدرك أن أفعال الكلام يمكن أن ترتبك بتحليل ل «الصواب»
Validity
أعقد بكثير من مجرد تحليل «الصدق» القضوي
(أي الصدق الواقعي للخبر الذي تقرره العبارة)، فهناك أبعاد أخرى للصواب غير البعد الذي يقدمه الصدق القضوي وإن تكن مساوية له في الأهمية والمشروعية، ورغم أن تحليل صدق القضايا يناسب تماما اللغة المستخدمة للإشارة إلى عالم بوبر الأول (الفيزيائي) وضمن سياقه، فإنه قد لا يصلح كمعيار لتحليل دعاوى الصواب الخاصة باللغات المستخدمة للإشارة إلى العالمين الآخرين (الذاتي والبينذاتي) وضمن سياقهما، ويتساءل هابرماس: إذا كانت هناك فروق جوهرية بين العوالم الثلاثة وهناك بالتالي فروق لا بد من أن تكون بين اللغات المستخدمة في الإشارة إلى، وداخل سياق، كل من هذه العوالم، فكيف ظلت فلسفة اللغة وعلم اللغة حتى زمن أوستن مقيدين بمعيار واحد ومونولوجي لتحليل الصواب، وهو معيار غير حساس للفروق اللغوية الجوهرية؟
ولكي يمضي في الطريق الذي شقته نظرية أفعال الكلام يستعين هابرماس بنظرية أساسية ثالثة هي نظرية السيكولوجي واللغوي الألماني كارل بولر
K. Buhler
الذي لفت الأنظار إلى حقيقة أن اللغة يمكن استخدامها للتواصل بثلاثة طرق هي: (1)
أن تمثل وقائع عن العالم الحقيقي. (2)
أن تعبر عن نوايا وخبرات المتحدث. (3)
أن تؤسس علاقة بالمستمع.
ثمة تواز لافت بين هذه الوظائف اللغوية الثلاث وبين عوالم بوبر الثلاثة، وقد اقتفى هابرماس أثر بولر بشكل مباشر، وأفاد من نظرية بوبر بشكل غير مباشر، فأعاد صياغة مفهوم اللغة التي تستخدم كفعل اجتماعي، أي كفعل كلامي (إنجازي/إنشائي)
Illocutionary ، وقسم بنية هذه اللغة إلى ثلاثة مكونات:
مكون قضوي
.
مكون تعبيري
Expressive .
مكون إنجازي/إنشائي
Illocutionary .
ورغم أن هذه المكونات الثلاثة موجودة في كل فعل كلامي إنجازي/إنشائي
Illocutionary
فإن وجودها يتفاوت في نسبته ومقداره، وبحسب المكون السائد يقسم هابرماس الأفعال الكلامية الإنجازية إلى: خبرية
Constative ، وإشهارية
Avowal
أو تمثيلية
Representative ، وتنظيمية
Regulative .
الفعل الكلامي الخبري
Constative Speech Act :
المكون الغالب فيه هو المكون القضوي
، ويشير إلى العالم البوبري الأول (الفيزيائي)، ويقوم بوظيفة تمثيل الوقائع (وفقا لبولر)، ويعتمد على الطريقة، الحالة، المعرفية
Cognitive
في التواصل.
الفعل الكلامي الإشهاري
Avowal
أو التمثيلي
Representative :
يسوده المكون التعبيري، ويشير إلى العالم البوبري الثاني (الداخلي الذاتي)، ويقوم بوظيفة البوح بما في نفس المتحدث وكشف دخيلته، ويعتمد على الحالة التعبيرية
Expressive
في التواصل.
الفعل الكلامي التنظيمي
Regulative :
يسوده المكون الإنجازي
Illocutionary ، ويشير إلى عالم بوبر الثالث (البينذاتي/الاجتماعي/الموضوعي)، ويؤدي وظيفة تأسيس علاقات اجتماعية مشروعة، ويعتمد على الحالة التفاعلية في التواصل.
هكذا تبين هذه الأفعال الكلامية الثلاثة وجود فروق جوهرية في اللغة المستخدمة في سياق كل من عوامل بوبر الثلاثة؛ إذ تبرز الفروق في البنية والوظيفة والحالة، على هذه الفروق الجوهرية الواضحة تترتب نتيجة بالغة الأهمية وتشكل محور البراجماطيقا العامة عند هابرماس: وهي أن تحليل «الصواب»
Validity
ينبغي أن يفرد ثلاثة سبل منفصلة تحترم الاختلافات بين الأفعال الكلامية الثلاثة وتحفظ الفروق بينها ولا تخلط الأمور خلطا يفتح المجال للزيف والتشييء أن يتسلل إلى نسيج اللغة، بذلك يتم تحليل الأفعال الكلامية الخبرية
Constative
من حيث فعلها الإشاري والتنبئي، ويتم تحليل الأفعال الكلامية الإشهارية
Avowel (أو التمثيلية) من حيث مقصدها ونيتها ودخيلتها، ويتم تحليل الأفعال الكلامية التنظيمي
Regulative
من حيث طريقتها في تأسيس علاقات بينشخصية.
14
وبينما تقنع نظرية أوستن في تحليل «صواب» أفعال الكلام بتغطية بنيتها المؤسسية المحيطة وعلاقات القوة الشاملة، فإن هابرماس يصر على أن تحليل «صواب» الأفعال الكلامية يمكن أن يتم بمعزل عن ظروفها السياقية، ولا يتسنى ذلك إلا بتحديد «معيار صواب» خاص بكل صنف من أفعال الكلام الثلاثة: «فالأفعال الكلامية الخبرية
Constative »: معيار صوابها الخاص هو «الصدق»
Truth (بمعنى صدق القضية ومطابقة ما في العبارة لما هو في العالم الخارجي). «والأفعال الكلامية الإشهارية
Avowal »: معيار صدقها هو «الإخلاص والأمانة وصدق النية»
Truthfulness or Sincerity . «والأفعال الكلامية التنظيمية
Regulative »: معيار صوابها «الملاءمة أو السداد»
Appropriateness or Rightness .
وجملة القول أن البراجماطيقا العامة بدلا من أن تقيد نفسها بمعيار واحد أو «مونولوجي» فإنها تقدم معايير مختلفة لتقييم أفعال الكلام وفقا لطبيعة كل فعل وتكوينه الخاص من حيث الإشارة والبنية والوظيفة والحالة: فتقيم الأفعال الخبرية
Constative
أساسا بما إذا كانت «القضية»
فيها صادقة أم كاذبة، وتقيم أفعال الإشهار
Avowals
أساسا بما إذا كانت تتحلى بسلامة القصد وصدق النية ونقاء السريرة أم لا تتحلى بذلك، وتقيم الأفعال التنظيمية
Regulative
أساسا بالنظر فيما إذا كانت طريقتها في تأسيس علاقات بينشخصية هي طريقة ملائمة وقويمة وسديدة أم لا.
وجدير بالتنويه أن تقييم أفعال الكلام بمعيار أساسي مقيض لها وفقا للمكون البنائي السائد فيه لا يعني بحال إغفال المكونات الأخرى وإغفال تقييمها بمعاييرها المقابلة، وما كان لنا أن نغفل أن كل فعل كلامي له مكون أساسي غالب وله أيضا مكونان آخران غير سائدين ينبغي أن ينالا قسطهما من التقييم المناسب وبالمعيار الخاص بكل منهما، وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن كل فعل من أفعال الكلام يرفع دعوى صواب واحدة بشكل مباشر ويرفع اثنتين أخريين بشكل غير مباشر، وعلينا من ثم أن نحلل الفعل الكلامي تحليلا أوليا بواسطة معيار صواب أساسي مناسب للمكون السائد، وأن نحلله تحليلا ثانويا بمعيارين آخرين مناسبين لمكونيه الثانويين، أي إن البراجماطيقا العامة تسلم بأن كل فعل كلامي يمكن أن يقيم، وينبغي أن يقيم، من ثلاثة منظورات مختلفة، ملقية في هذه العملية شبكة دقيقة منسوجة نظريا بحيث تتدارك وتصفي أي مقاصد شريرة للفعل الاستراتيجي. (4-3) البراجماطيقا العامة والبرنامج النقدي لهابرماس
للسائل أن يسأل بعد هذا المسير المرهق في درب البراجماطيقا العامة: ما الصلة بين هذه النظرية وبين قضية هابرماس الأساسية وهي نقد الأيديولوجية؟ تتصل البراجماطيقا العامة في حقيقة الأمر بنقد الأيديولوجية صلة وثيقة، وذلك بطريقتين: «فالبراجماطيقا العامة»، أولا: تقدم نفسها كمعيار أو مقياس ينبغي أن تعرض عليه جميع الأفعال الاستراتيجية حتى نكشف النقاب عن برنامجها الشعوري أو اللاشعوري، وعن إرادة القوة التي تضمرها وتكنها ، وبإخضاع كل فعل استراتيجي لتحليل ثلاثي (للصدق، والإخلاص، والملاءمة) يمكن للمؤول النقدي بسهولة أن يعري الفعل ويكشف أنه فعل استراتيجي، ويحدد الطريقة التي يرتكب بها هذا الفعل تشويها منظما لعملية التواصل، فإذا ما أخفق الفعل الكلامي الإنجازي في أي واحدة من هذه الاختبارات الثلاثة يكون على الفور موضع شك بأنه محمل بعناصر استراتيجية وتحريفات أيديولوجية. بمقدور البراجماطيقا العامة في رأي هابرماس أن تتعقب أخفى العناصر الأيديولوجية التي تنسلك في نسيج اللغة، هذه هي الهرمنيوطيقا النقدية عند هابرماس بالمعنى الدقيق للكلمة، إنها المنهج الذي طور هرمنيوطيقا الارتياب التي تعود لأساتذتها الكبار ماركس ونيتشه وفرويد، وشحذ أدواتها وأرهفها تكنيكيا ومنطقيا ولغويا. «والبرجماطيقا العامة» ثانيا تنأى عن العالم المتشائم لأساتذة الارتياب الثلاثة، وتتجه إلى عالم أكثر ألقا حيث يمكن للعقلانية أن تتولى زمام الأمور، والبراجماطيقا العامة تقدم مثالا يمكن للفعل التواصلي أن يسعى إليه ومجموعة أدوات يعمل بها، وإذا كانت هرمنيوطيقا هابرماس النقدية ارتيابية وتشاؤمية، فإن نظريته في الفعل التواصلي شديدة التفاؤل بل أقرب إلى أن تكون «يوتوبية»، بحيث جعلت فكرته غير الانهزامية عن العقلانية فكرة بارزة واضحة في العالم بعد الحداثي الذي ينظر داخله.
إن هابرماس، في حقيقة الأمر، يبعث «الحوار» الجادامري ويحييه بعد أن أثخنه سابقا وأصماه، وذلك بحقنه بالبراجماطيقا الجديدة التي تطهر «الأفق الجادامري»، و«اللغة» الجادامرية أيضا، من العدوى الأيديولوجية ومن «إرادة القوة» اللاشعورية، إن هابرماس «جادامري» بمعنى ما! من حيث إنه يؤمن بالحوار كطريق نهائي إلى العقلانية، لقد سلك الحوار الجادامري في أحكام موقف كلامي مثالي، حيث يمنح كل أطراف الحوار فرصة متكافئة للمشاركة في حوار عادل، فيقررون أو يدافعون أو يمحصون دعوى الصواب في أي فعل كلامي، وحيث التفاعل المتبادل غير مقيد ولا مكبوح بالتراتب الاجتماعي والمعايير الملزمة لطرف واحد، وحيث أطراف التواصل مبرأة من أي برنامج استراتيجي.
تذييل
توبة اللفظ (على ذكر تأويلية هابرماس)
ها قد جئتك أيها الشاعر،
مثقلا بجرائمي، غاصا بذنوبي،
لأتداعى على قدميك،
وأتوب على يديك،
وأعترف:
كنت طاغيا مستبدا،
ليس في الوجود من يفوقني استبدادا وطغيانا،
يظن الإنسان أنه يصنعني ويستخدمني.
الحق أقول لك، أنا الذي أسخره وأسيره،
وأقوده كالمنوم.
ولا أسمح أن يرى من العالم إلا ما أريد له أن يرى. •••
ولأني كهل غروبي!
فظلالي دائما أطول مني،
وهي أرق مني وأدق،
وأكثر نفاذا وبثا! •••
كم أشعلت من الفتن والحروب،
قابعا في غبرة الميدان لا يراني أحد،
متلمظا بنزيف الأشلاء،
ثملا بشميم الدم،
ضاحكا من حماقة الخصوم، •••
دعني أعترف:
كنت دائما مع القديم،
وجنديا من أشرس جنوده، (فأنا كما قلت لك: كهل خريفي غروبي!)
ومهما صال الجديد وجال،
وانتشى واغتر،
فما دمت قائما، فالقديم قائم في بتمامه؛
فأنا خط الرجعة، وجسر المتاب،
وما دمت أتجول بحرية،
وأتقلب على الألسنة كما أنا؛
فالقديم حي يرزق،
يجلس بعد، ويملك ويحكم، •••
دعني أعترف:
كنت شرطيا جافيا،
أسحب الجدة من الجديد، والفرادة من الفريد،
وأسدل على الجميع ليل الرواسم.
كنت أطمس الغريب بالإلف،
وأشدخ السؤال بالجواب،
وأقتل الشيء باسمه!
وكما تخنق الأقدام بأحذية صينية،
كنت أخنق الرؤى بالنموذج،
والبدائع بالزي.
كان بمقدوري دائما أن أدبر للزائف سببا،
وأسك للباطل هوية،
وأمنح الوهمي خاتم النسر! •••
دعني أعترف:
لم أكن أتنقل قط إلا حاملا خنجري تحت العباءة.
ترافقني ظلالي الطويلة،
وتلازمني حاشية هائلة:
من ضلالات أفكار،
ونشيج مواجد،
وصليل معارك،
وأنين جموع،
ومصالح طبقة.
لا ... لقد طفحت ذنوبي، وطال تجبري،
وصرت وحشا جسيما باهظ الحضور.
15
الفصل الثاني عشر
مدرسة الارتياب
إن المكر سوف يواجه بمكر مضاعف. (1) يقين الكوجيتو (ديكارت) ... قلت إنني شككت في كل شيء على الإطلاق ... في شهادة الحواس وأحكام العقل ووجود العالم، غير أني سرعان ما لاحظت أنه بينما كنت أريد أن أعتقد أن كل شيء باطل، فقد كان حتما وبالضرورة أن أكون أنا صاحب هذا التفكير شيئا من الأشياء ... نعم إن شيئا واحدا يظل بمنجاة من الشك، وهو الفكر، أنا واثق من أنني أفكر، وحتى لو شككت في أنني أفكر فهذا الشك يقتضي أن أفكر أيضا، وأنا حين أشك، وحين أفكر، وحتى حين أخطئ في تفكيري لا بد أن أكون موجودا.
أنا أفكر فأنا إذن موجود
Cogito Ergo Sum .
ها أنا ذا قد أزحت التراب والحصى والأنقاض، فخلصت إلى الصخرة الثابتة التي أقيم عليها صرح الفلسفة التي أتحراها، أنا أفكر فأنا إذن موجود ... قضية صحيحة بالضرورة كلما نطقت بها وكلما تصورتها في ذهني، وهي من الثبات والوثوق بحيث تعجز كل حجج الشكاك عن زعزعتها ، ولو استطاع الروح الخبيث أن يضلني في كل شيء فلن يستطيع أن يمنعني من اليقين أن ذاتي موجودة حين أفكر.
1 ... غير أن الكوجيتو الذي يعطيني وجودي بأوثق الحدوس يجعلني من جهة أخرى في عزلة تامة هي عزلة فكري الخاص، فلا أتبين سبيلا للخروج منها ولا أبلغ أي وجود من الموجودات خارج نفسي؛ لذا سأبذل جهدي للإفلات من عزلة لو طالت لجعلت المعرفة البشرية كلها وهما وحلما، سألتمس للفكر سندا في الوجود الواقع، سأثبت وجود الله بالفكر ذاته ليكون ضامنا لمعرفتي الواضحة المتميزة عن العالم الخارجي.
ديكارت، مقال في المنهج
هكذا أعمل ديكارت الشك في كل شيء، وفاته أن يشك في الوعي نفسه!
وها هنا بالتحديد تنبري مدرسة الارتياب لكي تعلن زيف الوعي نفسه، وتشهر بحيل الوعي المباشر وتزيل عنها القناع، هكذا يتعين على أية نظرية عامة في التأويل أن تفسر التعارض بين صنفين من التأويل: التأويل كتذكر للمعنى أو استعادة له، والتأويل كتعقب لأوهام الوعي وأكاذيبه وردها إلى أصولها، ويتعين على نظرية التأويل فضلا عن ذلك أن تقسم كل مدرسة من هاتين المدرستين الكبريين إلى «نظريات» مختلفة بعضها عن بعض بل وغريبة بعضها عن بعض (وهو أمر يصدق من غير شك على مدرسة الارتياب أكثر مما يصدق على مدرسة التذكر)، ثمة ثلاثة أساتذة يبسطون سلطانهم على مدرسة الارتياب، وإن بدوا في الظاهر مختلفين يلغي أحدهم الآخر، وهم: ماركس ونيتشه وفرويد.
2
إذا رجعنا إلى المقصد المشترك الذي اتخذه كل واحد من هؤلاء الثلاثة لوجدنا فيه الاعتزام على النظر إلى الوعي بأسره على أنه وعي «زائف» بالدرجة الأساس، هكذا أعادوا، كل بطريقته الخاصة، طرح مشكلة الشك الديكارتي، لنقلها إلى صميم الحصن الديكارتي نفسه. إن الفيلسوف الذي تدرب في مدرسة ديكارت يعرف أن الأشياء محل شك، وأن الأشياء ليست في حقيقتها على ما تبدو عليه، إلا أنه لا يشك في أن الوعي هو على ما يبدو لنفسه، ففي الوعي هناك توافق بين المعنى والوعي بهذا المعنى، ومنذ ماركس ونيتشه وفرويد أصبح هذا أيضا محل شك، وبعد الشك في الأشياء بدأنا في الشك في الوعي نفسه.
غير أن علينا ألا نسيء فهم هؤلاء الثلاثة الكبار وندرجهم في «مذهب الشك»
Skepticism ، إنهم بالتأكيد ثلاثة هادمين عظام، ولكن هذا بحد ذاته ينبغي ألا يضللنا، فالهدم كما يقول هيدجر في «الوجود والزمان» هو لحظة قائمة في كل تأسيس جديد، لقد كان الثلاثة يطهرون الأفق من أجل عالم أكثر أصالة، من أجل بسط سلطان جديد للحقيقة، لا بواسطة النقد «الهادم» وحده، بل بابتكار فن «للتأويل»، لقد تغلب ديكارت على شكه في الأشياء ببينة الوعي، وتغلب هؤلاء على شكهم في الوعي بطرح تفسير للمعنى، وبدءا من هؤلاء صار الفهم هرمنيوطيقا، ولم يعد البحث عن المعنى هو الإفصاح عن الوعي بالمعنى، بل فك شفرة تعبيراته.
3
إن «الكوجيتو»، أي الوعي المباشر، عاجز عن التوصل إلى فهم ما ينتجه؛ ولذا ينبغي عليه اللجوء إلى خطاب آخر لتوضيح إنتاجاته، وهي إنتاجات تكتسي معنى كامنا غير مباشر ينبغي استحضاره ورفعه من مستوى الباطن إلى مستوى الظاهر، تلك هي مهمة التأويل المتمثلة في فك الآليات التي تتحكم في الشعور وتجعله غافلا عن ذاته، وهي بذلك تسمح بتقدير درجة «عبوديته» وتفسير انحسار حقله المعرفي.
ورغم اختلاف الثلاثة الكبار في المناهج المستخدمة وتعثر كل منهم فيما تعثر فيه من موانع وعقبات، فليس هذا بالشيء الجوهري، وإنما الشيء الجوهري هو أن كلا منهم قد ابتكر، بما أتيح له من وسائل، ومع تحيزات عصره وضدها، علما غير مباشر للمعنى غير قابل للرد إلى «الوعي» المباشر للمعنى، لقد جهد كل منهم، بطريقته الخاصة، لكي يجعل منهجه «الواعي» في فك الشفرة مطابقا للعمل اللاواعي للتشفير ، والذي نسبوه لإرادة القوة (نيتشه)، والوجود الاجتماعي (ماركس)، والآليات السيكولوجية اللاشعورية (فرويد)، إن «المكر سوف يواجه بمكر مضاعف.»
4
هكذا يتبين أن السمة المميزة لماركس وفرويد ونيتشه هي الفرضية العامة المتعلقة بكل من عملية تزييف الوعي ومنهج فك رموز هذا التزييف. إن العمليتين تمضيان معا، ما دام رجل الارتياب يقوم بعمل رجل الزيف والخديعة ولكن في الاتجاه المعاكس ، لقد اقتحم فرويد مشكلة الوعي الزائف من خلال الطريق المزدوج للأحلام والأعراض العصابية، أما ماركس فقد اقتحم مشكلة الأيديولوجيات من داخل حدود الاغتراب الاقتصادي، وأما نيتشه، وقد ركز على مشكلة «القيمة» فقد بحث عن المفتاح الخاص بفضح الكذب وكشف الأقنعة في ناحية إرادة القوة: شدتها وضعفها.
حقيقة الأمر أن «جينيالوجيا الأخلاق» بالمعنى النيتشوي، ونظرية الأيديولوجيات بالمعنى الماركسي، ونظرية المثل والأوهام بالمعنى الفرويدي، تمثل ثلاثة طرق متلاقية لكشف الزيف، غير أن هناك شيئا يجمعهم لعله أشمل من هذا، وعلاقة خفية لعلها أشد وأعمق، إن الثلاثة جميعا يبدءون بالارتياب المتعلق بأوهام الوعي، ثم يمضون في استخدام حيل فك الرموز، غير أنهم جميعا أبعد ما يكونون عن الانتقاص من منزلة «الوعي»، إنما يهدفون إلى توسيعه، فقد كان هدف ماركس مثلا هو تحرير العمل بواسطة فهم الضرورة، على أن هذا التحرير لا ينفصل عن «الاستبصار الواعي» الذي يناهض تعمية الوعي الزائف وينتصر عليها، وكان مراد نيتشه هو زيادة قوة الإنسان واستعادة بأسه وشدته، على أن معنى إرادة القوة يجب أن يسترد بوساطة الشفرات: «الإنسان الأعلى» و«العود الأبدي» و«ديونيسيوس» التي بدونها تتردى القوة المطلوبة في مجرد عنف دنيوي، وكانت غاية فرويد هي أن يقبض الشخص المحلل على زمام وعيه ويمتلك المعنى الذي كان غريبا عنه، فيتسع بذلك نطاق وعيه ويعيش بطريقة أفضل، ويصبح في النهاية أكثر حرية، وأسعد حالا إذا أمكن.
5 (2) ماركس
ذهب ماركس وإنجلز إلى أن كينونة الأفراد ترتبط بالظروف المادية لإنتاجهم، وأن الأسباب الحقيقية للسلوك الإنساني غريبة عن الفكر الواعي، فهي متجذرة في التنظيم الاجتماعي الذي يوجه شعور الإنسان ويجعله في غفلة عن حاجاته الحقيقية ومثله: «إن إنتاج الأفكار والتصورات والشعور مرتبط ارتباطا مباشرا ووثيقا بالنشاط المادي للبشر، إنه لغة الحياة الواقعية.» (ماركس وإنجلز: الأيديولوجية الألمانية)، الحياة تحدد الوعي، الوعي لا يحدد الحياة. يعني ذلك أن الحياة المادية هي أساس العلاقات الاجتماعية، وأن الشعور مشروط بالوجود المادي والاجتماعي، بحيث يستحيل تجريد شعور الإنسان وأفكاره من شروط وجودها وتحويلها إلى ذات مستقلة وعالم ذهني مفارق للعالم للمادي؛ ولذا فلا فائدة من الصعود إلى مبادئ مجردة لفهم التاريخ، بل ينبغي الاستناد إلى الظروف الواقعية الأبسط والأعم التي أشرفت على السيرورة التاريخية، ففي كل مرحلة من مراحل التاريخ نعثر على جملة من القوى الإنتاجية وعلاقة للبشر فيما بينهم وبين الطبيعة تنتقل من جيل إلى جيل وتتغير بمفعول هذا الجيل الجديد. في ذلك يكمن الأساس الواقعي لما يعبر عنه الفلاسفة بألفاظ من قبيل «الجوهر» و«الذات» و«الشعور» و«الفكر»، والتي تقتضي أن نتتبع نشأتها وتكوينها انطلاقا من ظروف معينة في إطار حركة التاريخ الطويلة.
6
على هذا الأساس المادي أقام ماركس نظرية الاغتراب، وهي نظرية واقعية جدلية من حيث إنها تبرز التناقض التاريخي الحي في صميم ما هو إنساني، وتشير لفظة «الاغتراب» إلى حالة الشعور الذي ينفصل عن ذاته وتسلب خصائصه وقدراته، أي تحول إلى شيء آخر مختلف عنها ومتسلط علينا، المستلب هو الذي لا يمتلك ذاته. إن الإنسان ليفقد ذاته ويصبح غريبا أمام نفسه تحت تأثير قوى معادية وإن كانت من صنعه،
7
ويتأسس مفهوم الاغتراب عند ماركس، كما كان عند هيجل من قبله، على التمييز بين الوجود والماهية، بحيث إن الإنسان يختلف في الواقع (بالفعل
Actually ) عما هو عليه في ذاته (بالقوة
) وهذه الحالة تبرز في العمل وتقسيم العمل، أي في إطار خصائص نظام من العلاقات تميز الرأسمالية بخاصة، ونظام الملكية الفردية بعامة، ذلك النظام الذي يتسم بسيادة القوى اللاإنسانية في المجتمع، وانحطاط العامل جسميا وذهنيا وأخلاقيا.
يثبت ماركس أن العمل فعل يتم بين الإنسان والطبيعة، ويتمثل في إنتاج واقع جديد يقوم فيه الإنسان تجاه الطبيعة بدور قوة طبيعية، وبقدر ما يتطور نظام الملكية الفردية يفقد العمل طابعه الأصلي المتمثل في التعبير عن قدرات الإنسان، ويتحول هو ومنتجاته إلى وجود منفصل عن الإنسان، عن إرادته ومشروعه: «إن الشيء الذي ينتجه العمل (المنتج/المصنوع) يجابهه كالكائن الغريب، كقوة منفصلة عن المنتج، فمنتج العمل هو العمل الذي تثبت وتجسد في شيء، فهو تموضع العمل.» (ماركس - مخطوطات عام 1844م)، بحيث إنه في عملية الإنتاج يعيش العامل علاقته بنشاطه كعلاقة تربطه بشيء غريب لا يملكه، بقوة سلبية وعاجزة، إن العمل الذي يبدو حرا في المجتمع الرأسمالي هو عمل مستغل ومغترب، لا يحقق ذات العامل كشخص ولا هو يحقق علاقات اجتماعية وثيقة وسليمة.
والاغتراب في مجال العمل هو أساس جميع الأشكال الأخرى للاغتراب، بما في ذلك الاغتراب الأيديولوجي، مما يؤكد لنا أن الشعور المزيف هو نتيجة تناقضات قائمة في الواقع، أي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
8 (3) نيتشه
يلتقي نيتشه مع ماركس في اتخاذ منهج التأويل والبحث عن الأصل في صميم الواقع: إن الأفكار والقيم منتجات يقتضي توضيحها الكشف عن شروط وجودها، ففكرة الضرورة تستند عند نيتشه إلى فكرة النشوء العيني، بخلاف منهج الميتافيزيقا الذي يتمثل في الصعود إلى أساس خارق للطبيعة، فمفهوم «الجينيالوجيا»
Genealogy
يفيد البحث عن نشأة الظواهر الإنسانية وتطورها، أي معرفة الأصل والصيرورة، بدلا من العمل على إضفاء مصدر مفارق إلى نظام جامد من البنى النهائية الثابتة، إن الماضي لا ينقرض في حقيقة الأمر، إنه حاضر في الحاضر، وهذا الحاضر يمثل إشكالا بسبب الأوهام العديدة التي يحدثها في ذهن الإنسان دون وعي منه.
إن الإنسانية في نظر نيتشه تعيش على عبادة الأصنام: أصنام في الأخلاق، وأصنام في السياسة، وأصنام في الفلسفة، تلك آلهة باطلة اخترعتها ثم عبدتها، فكان أن ضلت سواء السبيل، وأخذت تتخبط وتتدافع حتى انقضت على نهايتها، وكأنها كانت تريد منذ البدء الفناء، فإذا كنا نريد أن نخلص الإنسانية من هذه الحالة، وأن نفتح لها طريقا فسيحا معبدا أمام مستقبل زاهر، وإذا كنا حريصين حقا على أن نجعل لوجودنا معنى ساميا ، وأن نرتفع بالحياة في سلم التصاعد نحو القداسة ونحو العلاء، فلنصطنع الشجاعة في أروع مظاهرها، والصراحة في أفضح صورها؛ كي نواجه أنفسنا وأحوالنا في صبر وثبات، غير خجلين ولا مستحين، فليس في الخجل أو الاستحياء شفاء من أي داء، «ومن يرد الخلق والإبداع، في الخير أو في الشر، لا بد أن يبدأ اولا بالإفناء وإهدار القيم!» يقول نيتشه : «إنني أحلم بقيام جماعة من الرجال تامين مطلقين، أشداء لا يتهاونون ولا يتساهلون، يطلقون على أنفسهم اسم «الهدامين» فيخضعون كل شيء لنقدهم، ويضحون بأنفسهم من أجل الحقيقة، يجب أن يظهر كل ما هو شر وباطل في وضح النهار ... فالعقل الحر لا يجزع إذا رأى من الآراء ما يخالف المألوف، فله مطلق الحق في أن يخلق من الأفكار الجديدة ما يستطيع، أما العقل المستعبد فهو الذي يرى صوابا كل ما له ماض طويل، وكل ما يبدو اعتقاده سهلا، وكل ما هو نافع، وأخيرا كل ما ضحى من أجله، فلا يود أن يتصور أن كل هذه التضحية ذهبت عبثا.»
9
يذهب نيتشه إلى أن التأويل بطبيعته «يعتمد على المنظور الشخصي»
وهو يقع دائما خارج تخوم الموضوعية
بل لا يمكن الفصل بينه وبين مصالح الذين يملكون زمام الأمور في ثقافة من الثقافات، ومن ثم يمكن الإشارة إلى هذه المصالح باسم مصالح السلطة
، ولا يمكن إماطة اللثام عن هذه المصالح التي تكمن وراء كل تأويل إلا بالبحث عن أنسابها والتنقيب عن أصولها (الجينيالوجيا)، أي بتتبع جذورها في التاريخ وفي المجتمع، فكل تأويل يخضع لشجرة عائلة كثيرا ما يغفل عنها لأنه يستظل بظلها ويأكل من ثمرها.
10
يحمل نيتشه على كل الأحكام الأخلاقية التي أصدرتها الإنسانية، مبينا في تحليل دقيق الينابيع التي استقت منها هذه الأحكام، كاشفا عن المصادر الحقيقية التي تصدر عنها، فاضحا الأوهام التي وقعت الإنسانية في أحابيلها، وانتهى إلى نظريته المشهورة في التفرقة بين نوعين من الأخلاق: أخلاق السادة، وأخلاق العبيد، أي الأخلاق التي كان مصدرها الممتازين من الإنسانية، والأخلاق التي كان مصدرها رعاعها والطبقات المنحطة فيها،
11
يقول نيتشه إن قيم السادة تقوم على القوة والبطولة والمخاطرة والصراحة والغرو والرقص والرياضة البدنية وكل ما يكشف عن حيوية فياضة حرة مسرورة تحب الحياة وتقبل عليها بثقة وعزة، وتبغض الضعف والاستخذاء والضعة والكذب والتملق والنفاق والمداهنة والمساومة وأنصاف الحلول، لا جرم يثور المسودون والعبيد على هذه القيم ويخلقون قيما معاكسة تقوم على الجزع من الحياة وعدم الثقة بها، وتمجد الضعف والاستخذاء والعجز وتسميه إحسانا وبرا ورحمة، وتلجأ إلى المداورة والنفاق وتسميه تلطفا وكياسة، وتضطر إلى الخضوع فتسميه طاعة، وإلى الذل فتسميه صبرا، وإلى الضعة فتسميها تواضعا.
تعقب نيتشه تاريخ الصراع بين قيم السادة وقيم العبيد، الذي شهد موجات من الجذب والشد انتهت، مع سقوط نابليون، بانتصار قيم العبيد، وخلص نيتشه من بحثه إلى نتائج هامة؛ أولاها: أن العلة في الانحلال الأوروبي الذي غمر عصره، ثم فيما عانته الإنسانية كلها على مر عصورها من اضمحلال، هو انتصار القيم الأخلاقية الصادرة عن العبيد، وسيطرة أخلاقية العبيد وشرعة أحكامها على أخلاقية السادة وشرعة القيم النبيلة الأرستقراطية، ووضع قيم الضعف مكان قيم القوة، وجعل العجز فضيلة ومستلزمات العجز صفات حميدة يحرص على طلبها، وأصحابها هم الأخيار، أما أصحاب قيم القوة فأشرار. وثانيها: أن منبع الأخلاق والأحكام القيمية في الأخلاق ليس آمرا أعلى كما تقول المسيحية، كما أنه ليس العقل الإنساني بما ركب فيه من جوهر يأمر بالخير ويميز بينه وبين الشر، وبما في طبيعته من «آمر مطلق» يدعو إلى فعل «الواجب» دون شرط، ومن غير حاجة إلى استخلاص القوانين الأخلاقية من التجربة، كما يقول الفلاسفة وعلى رأسهم كانت، وإنما هي الطبيعة الإنسانية بما فيها من غرائز، وعلى رأس هذه الغرائز جميعا حب السيطرة وإرادة القوة، وليست هناك أفعال أخلاقية في ذاتها وإنما هناك تأويل للأفعال الإنسانية وتقييم لها، حسب طبيعة من يقوم بالفعل والتقييم، وما تطمح إليه هذه الطبيعة من حب للسيطرة وإرادة القوة، والشيء الذي يقع عليه التقييم في ذاته ليس أخلاقيا، وليس مضادا للأخلاق، وإنما هو على الحياد.
12
وأكبر الأوهام التي يتشبث بها الإنسان هو الاعتقاد بأولوية العقل والتغافل عن الميكانزمات العميقة التي تفلت من حوزة الشعور، إن اللاشعور هو الذي يحدد كل شيء في الإنسان في قوله وفعله، إنه يؤسس «الجهل» في صميم هذا الواقع: الإنسان يقول ويفعل على نحو مغاير لما يظن أنه يقوله أو يفعله! وبإزاحة الشعور عن مركزه و«خلعه» عن «عرشه» تحيل فلسفة نيتشه الفاعلية المستردة إلى إرادة القوة، بحيث إن اللاشعور سيندمج في العلاقة التي تربط الشعور، كواقع تابع، بمسألة إرادة القوة التي تنصب كمبدأ أولي وعلة قصوى، فإرادة القوة كما تبدو كمبدأ اللاشعور وضرورته ومجاوزته كذلك، وبفضل هذه المجاوزة تطابق إرادة القوة حركة الحياة من حيث إنها «الحياة» تنحو نحو العلو فوق ذاتها. إن إرادة القوة هي «الجوهر الأعمق للموجود» من حيث إن كل موجود يسعى إلى مجاوزة ذاته، بذلك تمثل إرادة القوة مصدر التأويل والتقييم بحيث إن كل أحكامنا الأخلاقية تكون محددة ومنظمة من جانبها.
13 (4) فرويد
كانت كشوف فرويد صدمة حقيقية لغرور الإنسان وثقته الزائدة بعقله وتسليمه الساذج بمحتوى وعيه، ذلك أن الشطر الأكبر من سلوك الإنسان وانفعالاته مرده إلى عناصر لا شعورية لا يدري عنها شيئا، «إن جزءا كبيرا من الأمور الهامة يقع من وراء ظهر المرء.» فاللاشعور هو كل حياة النفس التي لا يلعب فيها الشعور إلا دورا ثانويا، لقد تبين أن الوعي الإنساني ليس أهلا للثقة المطلقة واليقين الديكارتي؛ لأنه، في مجموعه، «زائف» و«مشتق» و«مدفوع» و«غافل عن نفسه»، ولا بد من رد محتواه الظاهر إلى أصوله اللاشعورية الباطنة وترجمة معناه السطحي إلى المعنى اللاشعوري الخفي.
إن الوقائع النفسية، سواء السوية منها والمرضية، لا يمكن التسليم بها على علاتها، بل ينبغي النظر إليها كعلامات يؤدي تأويلها إلى دوافع خفية تمثل شروط وجودها، فالمعنى الحقيقي للسلوك المرضي (كالوسواس والقلق والرهاب ... إلخ)، على سبيل المثال، يجب البحث عنه في العالم النفسي اللاشعوري الذي يضيء الظاهر اللامعقول للأعراض المدركة.
ومن هنا فإن مهمة التحليل النفسي تكمن في استحضار «كلام خفي » يبدو أن الذات البشرية تحمله في داخلها، وذلك في ترابط بمسارات نفسية لا شعورية تحدد ردود فعل تفلت من مراقبة الذات، فحقيقة الخطاب الإنساني تتعالى بدون انقطاع على المعنى الذي يدعي الفكر الواعي منحه إياه، والخاصية الأساسية التي تميز هذا الخطاب هي عدم شفافيته بالنسبة لمن يتفوه به، إن المسارات النفسية اللاشعورية تمارس على الأفعال الفردية دفعا وضغطا لا يمكن للإرادة الواعية مقاومتها، وتأكيدا على أهمية اللاشعور يقول فرويد إنه لا يبالي بأي اعتراض على واقعية اللاشعور وحقيقته، فاللاشعور هو واقع لا يمكن إنكاره؛ لأنه يتمخض عن آثار واقعية ملموسة ومدركة كالسلوك الوسواسي (فرويد؛ مدخل إلى التحليل النفسي)، (يذكرنا ذلك بتعريف كارل بوبر للشيء «الواقعي» أو «الحقيقي» بأنه ذلك الشيء الذي يمكنه أن يمارس تأثيرا عليا على أشياء نسلم بواقعيتها «للوهلة الأولى»)
prima Facie .
14
هكذا تقف الفرويدية ضد الأنا الجوهري الديكارتي التي تسيطر على كامل الشخصية وتراقبها، إن العالم النفسي مليء بالسراب والأوهام، ومن ثم فالتحليل النفسي يخضع الذات ل «تأويل تاريخي» يدرجها في مشروع «أركيولوجي» ينشد تفسير الحاضر بالرجوع إلى المصدر (الماضي). ليس هناك «كوجيتو» أصلي يضع نفسه في حكم يقيني ولا ذات تمثل «موجودا» يتمتع بالدوام ومعطى مباشرا ونهائيا.
15
إن الذات تتكون تدريجيا وتبرز من خلال التاريخ النفسي للفرد في علاقة «تضايف»
Correlation
مع الغيرية ومع الواقع الموضوعي، فالذات تتهيكل وتجدد هيكلتها دوما من خلال لحظات جدلية يتمثل «نسيجها الخلفي» في الممنوع، ولا يمكن للكائن أن يصبح ذاتا بدون أن يجابه تجارب وصراعات مختلفة وأن يرتبط بقوى غريبة وحتى معادية له، مع ما ينجم عن ذلك من كبت يمثل النظام المحتوم لنفسية «حكم عليها» بالتبعية تجاه الطفولة، تجاه الماضي، أي ما هو حتم لازب غير قابل للانقراض، وجملة هذه الاعتبارات من شأنها أن تفرض حدودا على كل محاولة تميل إلى إضفاء طابع صارم على منهج التأويل، إن التجربة التحليلية تحدث في حقل الكلام والعلامات، وليس في حقل الملاحظة كسائر العلوم.
فالتأويل ينتقل من معنى إلى معنى آخر، من الدال إلى شيء آخر يريد أن يكون المدلول الأصلي، وبالرغم من أن «الأعراض العصابية، مثلها مثل زلات القلم واللسان والأحلام، لها معنى وترتبط ارتباطا وثيقا بحياة المريض الحميمة»، فإن ذلك لا يسمح بالادعاء بأن هذا الدال يطابقه مدلول واحد مطلق؛ إذ إن «ظروف الحياة المرضية لا بد أن تكون عديدة ومتنوعة أكثر مما افترضناه» (فرويد: مدخل إلى التحليل النفسي).
فالمحلل ليس السيد المطلق ولا حافظ المعنى الوحيد للنزاعات النفسية، وليس هناك معنى ظاهر وإلى الوراء في الماضي البعيد معنى خفي يدركه نهائيا تحليل ذكي: «إن المدلول يشير إلى اتجاه بدون حدود وإلى طريق غير خطي: المعنى الظاهر والمعنى الباطن قطبان لمعنى واحد لا يمكن استحضاره ولا إدراكه كمجرد اتجاه لمعنى يخص تاريخا فرديا تتحقق جدليته الكاشفة والمكونة من خلال ظروف المعالجة التحليلية.»
إن الاعتبارات السابقة الذكر تجعل من «التعديل الداخلي للفلسفة التأملية» أمرا ضروريا، بما أن الذاتية تعيش تجربة التبعية تجاه وجود لم تضعه يجردها من ملكية أصل المعنى، إلا أن التأمل الذي يلغي ذاته كتأمل هو كذلك نتاج للتأمل، التأمل النقدي والتأويلي، التأمل الذي يقتضي التوسط
Mediation ، كما أن فهم الذات لا يتم إلا بالمرور عبر الآخر.
16
الفصل الثالث عشر
بول ريكور
هرمنيوطيقا الارتياب
حتى لا تعود إسقاطاتنا الذاتية تخاطبنا من خارج على أنها آخر.
في كتابه «رمزية الشر»
Symbolism of Evil
يذهب بول ريكور
(1913م) إلى أن الشر لا يوصف حرفيا على الإطلاق، وإنما يتحدث عنه دائما على نحو رمزي أو استعاري فيقال مثلا: وصمة، وزر، ضلال (زيغ)، غواية، انحراف ... إلخ، يبين ريكور أهمية الرموز، والمعنى المزدوج للألفاظ، ومناهج تأويلها، ويقول إن أساطير الخلق والتكوين وأصل العالم هي تفسيرات من الدرجة الأولى لمنشأ الشر في العالم،
1
وقد أفضى به اهتمامه برمزية الشر إلى الاهتمام باللغة الرمزية وبالتأويل بصفة عامة، وقد وسع ريكور نطاق الرموز لتشمل رموز الحلم والرموز الثقافية، ومد نطاق التأويل ليشمل جميع تقنيات التحليل النفسي الفرويدي.
وفي كتابه «عن التأويل: مقالات عن فرويد» (1965م) يقول ريكور إن اللغة هي ملتقى جميع المداخل الفلسفية ، ويبدي اهتماما عاما «بالفلسفة التحليلية» و«فلسفة اللغة العادية»، لقد كان شغل فرويد الشاغل من وراء أعماله هو وضع «سيمانطيقا» (علم دلالة) للرغبة: كيف تكشف الرغبات عن نفسها في الكلام؟ كيف يتم التعبير عنها؟ وكيف يفشل الكلام في التعبير عنها؟ هذه الصلة بين الرغبة والمعنى هي ما يمنح التحليل النفسي مكانا بارزا في أية فلسفة للغة، وخلال هذا الكتاب يؤسس فرويد جدلا بين اللغة الرمزية التي هي تحريف أو قناع أو تعزيز للوهم وبين اللغة الرمزية التي يمكن أن تكون وحيا للقدسي أو «المقدس».
والسؤال عن المنهج هنا هو: كيف يظل التأويل فينومينولوجيا؟ يقول ريكور إن الفينومينولوجيا التأويلية هي فلسفة تأملية داخلة ضمن الإطار الأساسي لفينومينولوجيا هسرل، لقد رفض ريكور منذ البداية محاولة هسرل بناء فلسفة ذاتية التأسيس أي قائمة على ذاتها، إنه يرفض أي محاولة ديكارتية أو هسرلية لتأسيس المعرفة والنفس على الوعي المباشر والشفاف، فالحقيقة الأساسية الأولى، الكوجيتو، هي فارغة بقدر ما هي يقينية، «والنفس لا يمكن أن تفهم إلا عن طريق التفافي يمر بالأعمال (الفنية إلخ) والأفعال والأدب والنظم والمؤسسات، وكل فهم ذاتي يتطلب تأويلا لنصوص أو بناءات شبيهة بالنص.» بهذه الطريقة تحرر الفينومينولوجيا التأويلية نفسها من المثالية التي ظن هسرل أنها أساسية للفينومينولوجيا.
ولكن بأية طريقة تظل الهرمنيوطيقا نوعا من الفينومينولوجيا؟ إن الفينومينولوجيا، أولا وقبل كل شيء: هي التي لم تثبت في رأي ريكور على مبدئها الأساسي وهو «القصدية»
Intentionality : أي إن معنى الوعي يقع خارج الوعي، فالوعي خارج نفسه ... موجه نحو معنى، هذا هو ما يتضمنه الكشف المحوري للفينومينولوجيا، ثانيا: إن الافتراض الفينومينولوجي الأساسي للهرمنيوطيقا هو أن كل سؤال عن أي نوع من الوجود هو سؤال عن معنى هذا الوجود، يترتب على ذلك أن الفينومينولوجيا التأويلية عبارة عن استخدام جميع المناهج التأويلية للهرمنيوطيقا من أجل تحقيق الغاية الأساسية للفينومينولوجيا.
وبعبارة أخرى يرى ريكور أن الهرمنيوطيقا امتداد للفينومينولوجيا، فكل من الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا مكرسان لفهم النفس، وكلاهما منهج تأملي يبدأ وسط الأشياء، باعتبار كل من العالم وخبرتنا البينشخصية كمعطيات، غير أن ريكور يرفض التفسير المثالي لهسرل والذي يعتمد على الفهم الحدسي والمباشر لماهيات الظواهر الذهنية، وهو ينكر أيضا ذلك الهدف الذي ينشده هسرل وهو تأسيس فينومينولوجيا علمية يمكنها تقديم الأساس التصوري النهائي لكل الفكر، فليس هناك، في رأي ريكور، نقطة بداية مطلقة وليس هناك أسس تدعم ذاتها على الإطلاق، إن اهتمامه الدائم بفهم الفعل البشري والمعاناة البشرية يتطلب التفافا طويلا خلال تأويل الرموز والنصوص والآثار والأعمال الفنية والأدبية والمؤسسات والنظم ... إلخ التي تتوسط فهمنا للنفس وعلاقتها بالآخرين، أما الفينومينولوجيا فهي التي تفتح مجال الأشياء ذات المعنى، وأما الهرمنيوطيقا (وليس الرد الماهوي أو الترانسندنتالي) فهي المنهج السديد والملائم. (1) «الاستعارة الحية» و«الزمان والسرد»
امتد المنهج الهرمنيوطيقي عند ريكور من تأويل النصوص إلى إبداع المعنى الشعري والقصصي في كتابيه «الاستعارة الحية»
La Metaphore Vive (1975م) و«الزمان والسرد»
Temps et Recit (مجلدات ثلاثة: 1983م، 1984م، 1985م) وقد اعتبرهما ريكور توءمين رغم الفاصل الزمني الكبير الذي يفصل بينهما، ذلك أن كليهما يضطلع بالتجديد السيمانتي (الدلالي).
تتمثل الدعوى الرئيسية في الكتاب الأول «الاستعارة الحية» في أن تدمير المعنى الحرفي في الاستعارة يتيح لمعنى جديد أن يظهر، وبالطريقة نفسها تتبدل الإشارة
Reference
في الجملة الحرفية وتحل محلها إشارة ثانية هي تلك التي تحملها الاستعارة، وقد يبدو أن الوظيفة الإبداعية والشعرية للاستعارة تقتصر على تحطيم وظيفتها الإشارية، غير أن هذا في الظاهر فقط، يقول ريكور إنها بالأحرى تخلق إشارة جديدة تتيح لنا أن نصف العالم (أو نعيد وصفه بمعنى أصح) أو جزءا من العالم كان ممتنعا على الوصف المباشر أو الحرفي. إن اللغة الشعرية تدفع عالما جديدا إلى الظهور، ذلك هو عالم العمل الشعري، هذا العالم الشعري يندمج بالعالم الحياتي وينصهر بعالم الفعل اليومي ويمثل بالنسبة لي عالما ممكنا، عالما بوسعي أن أعيش فيه وأعمل وأعاني، وباختصار، يتيح لنا الإبداع الشعري للاستعارة أن نقول شيئا ما جديدا عن عالم خبرتنا المعاشة.
وفي كتابه ذي الأجزاء الثلاثة «الزمان والسرد»، والذي يعد من أهم الأسفار التي دبجت في القرن العشرين، يبين ريكور بصبر ودأب كيف يخلق السرد معنى جديدا؛ إذ يوالف بين عناصر متباينة: الأغراض، المقاصد، الأسباب، المصادفات، الرغبات ... إلخ، وينسج وقائع تبدو غير متصلة ويسلكها في حكاية وفي نظام جديد من الانسجام والترابط، وهناك وجه شبه بين الحبكة في القصة وبين العملية الاستعارية من حيث إن كليهما يخلق كلا جديدا، فالحبكة تضطلع بدمج الأحداث المتباعدة والمصادفات العارضة والأفعال الإنسانية بخاصة، وتمزجها جميعا في قصة مكتملة.
وترتبط خبرة الزمن بالسرد ارتباطا وثيقا لا ينفصم، فكل سرد هو زماني في جوهره وصميمه، ويمثل المدخل ذا الامتياز لخبرتنا الزمانية المشوشة والفجة والبكماء، والفكرة المركزية في هذه الثلاثية كلها هي أن الزمن يصبح زمنا إنسانيا بقدر ما ينتظم في روايات، والروايات تتحلى بالمعنى بقدر ما تمثل وجودنا الزمني.
يبدأ ريكور تحليله للزمن والسرد - والاختبار الطويل لفكرته المركزية - بعرض دقيق لصراع القديس أوغسطين مع مفهوم الزمان، وتفسير أرسطو للحبكة الدرامية وكيف تخلف من العناصر المتباعدة كلا ذا معنى، ومن الفوضى نظاما، ومن العناصر المشتتة قصة مترابطة، وكيف يتحد الزمن والسرد معا في ال
Mimesis
أو المحاكاة الخلاقة للفعل البشري، وتتعلق المحاكاة بكل من العالم المتخيل والعالم الحقيقي، إنها في القلب من الروايات التاريخية والروايات الخيالية.
وفي بقية هذا العمل الجليل يقوم ريكور باختبار أو تحقق دءوب وطويل من فرضيته، خلال فحص دقيق لإبستمولوجيا التاريخ والأدب، ويذهب إلى أن التاريخ إذا قطع روابطه بتلك الملكة الأساسية لدينا، ملكة متابعة قصة، فهو يفقد عندئذ طابعه المميز ويختزل إلى علم من بين غيره من العلوم الإنسانية. وفي الجزء الثاني من «الزمان والسرد» يعرض ريكور لآراء عدد من مفكري نظرية الأدب المعاصرين حول وظيفة السرد ويلقي مزيدا من الضوء على فرضيته من خلال تحليل دقيق لثلاث روايات شهيرة تسودها جميعا فكرة الزمن: «السيدة دالواي» لفرجينيا ولف، و«جبل الذهب» لتوماس مان، و«تذكر أشياء مضت» لمارسيل بروست.
أما الجزء الثالث من الزمان والسرد فيقوم فيه ريكور بمراجعة إشكاليات الزمان وجميع المحاولات التي بذلت لحلها في تاريخ الفلسفة، ويعرض للخلافات بين كانت وهسرل ، وبين هيدجر والميتافيزيقا حول طبيعة الزمان، ويدرس العلاقة بين خبرة الزمان وبين الزمان الطبيعي، ويدرس حقيقة الماضي التاريخي، ويختم دراسته بشرح لهرمنيوطيقا الزمن التاريخي، ويخلص إلى أن جميع المحاولات الفلسفية قد باءت بالفشل، وأن الروايات الزمانية وحدها هي التي تمنحنا منفذا تأمليا لخبرة الزمن.
2 (2) هرمنيوطيقا الارتياب عند بول ريكور
المعادلة الصعبة: هرمنيوطيقا «الانفتاح النقدي»، «الشك والرجاء».
الهرمنيوطيقا علم وفن معا في آن، وهذه العبارة ، ببساطتها الخادعة، هي سبب الجدل المحتدم في الزمن الحديث في مجال الهرمنيوطيقا، ذلك المبحث الذي بدأه شلايرماخر (1768-1834م) بمحاولته انتزاع المعنى من خلال فهم عقل المؤلف، والذي اكتسب دفعة كبرى مع جادامر ودعوته إلى قيام حوار بين أفقي النص والقارئ، وانتهى إلى هرمنيوطيقا اليوم التي ترتكز على القارئ وتسند إليه دورا متعاظم الأهمية في العملية التأويلية.
لم يقنع بول ريكور، رغم أنه يعمل داخل إطار «هرمنيوطيقا القارئ»، إن صح هذا التعبير، بالذاتية الصميمة المرتبطة بهذه الهرمنيوطيقا، فأراد أن يتخذ المسار الضيق والخط الرفيع الممدود بين دعوة الموضوعية (المرتكزة على النص نفسه) وبين البقاء في حالة «انفتاح» معين على ما «يعتمل في باطن النص ولعله كان قمينا أن يقوله»، تمثل هرمنيوطيقا الارتياب عند ريكور محاولته للإبقاء على كل من الطابع العلمي والطابع الفني للتأويل دون منح أي منهما منزلة مطلقة، ذهب ريكور إلى أن حيوية الهرمنيوطيقا يكفلها هذا الدافع المزدوج: الإصغاء والشك، الإذعان والتمرد، يقول ثيسلتون موجزا ماهية الهرمنيوطيقا عند ريكور: «الأول يتعلق بمهمة «إزالة الأصنام»، أي أن نصبح على وعي نقدي بأنفسنا عندما نسقط رغباتنا وبناءاتنا الذهنية على النصوص، وبهذا الوعي النقدي لا تعود إسقاطاتنا الذاتية تخاطبنا من خارج أنفسنا على أنها «آخر»، والثاني يتعلق بالحاجة إلى الإصغاء بانفتاح إلى الرمز وإلى السرد، وبذلك نتيح لأحداث خلاقة أن تحدث «أمام النص» وتمارس تأثيرها علينا.»
3 (2-1) أبطال الارتياب
في مستهل كتابه «فرويد والفلسفة» يلفت ريكور الانتباه إلى الشخصيات المحورية الثلاث (ماركس ونيتشه وفرويد) الذين حاولوا، كل من زاويته الخاصة، إزالة الأقنعة وفضح الزيف وكشف الباطن الحقيقي من الظاهر السطحي، ويبدو أن الارتياب الذي مارسه هؤلاء الثلاثة يمثل نماذج شارحة لهرمنيوطيقا ريكور نفسه، ومن ثم تجدر دراستهم إذا شئنا أن نفهم تأويليته حق الفهم، لقد حاول كل واحد من هؤلاء أن يعثر على المعنى الحقيقي للعقيدة بواسطة نزع المعنى الزائف وتعريته، أما تحليل ماركس للعقيدة فقد أفضى به إلى نتيجة مؤداها أنه بينما تبدو العقيدة معنية بموضوعات رفيعة من السمو الروحي والخلاص الشخصي فقد كانت وظيفتها في حقيقة الأمر هي التعتيم على الأحوال غير الإنسانية للعمل الإنساني، وجعل البؤس الحياتي أكثر احتمالا، وبهذه الطريقة كانت العقيدة تستخدم كأفيون للشعوب، وأما نيتشه فقد اعتبر الهدف الحقيقي للعقيدة هو أن ترفع الضعفاء إلى موقع قوة، وتجعل من الضعف فضيلة، وهو هدف يكذب هدفها الظاهري، وهو أن تجعل الحياة أكثر احتمالا بالنسبة للضعفاء والطغام، وذلك بتدعيم فضائل من قبيل الشفقة والكدح والتواضع والود وغير ذلك مما أسماه «أخلاق العبيد»، هكذا أزال نيتشه القناع عن العقيدة وكشف أنها مهرب الضعفاء وملجأ العجزة.
4
وأما فرويد، وقد مارس نفس العملية الارتيابية التي تعمد إلى إزالة الأقنعة وكشف الحقيقي من السطحي، فقد خلص في تحليله إلى أنه بينما تدرك العقيدة كمصدر مشروع للسكينة والأمل عندما يواجه المرء مصاعب الحياة فإنها في حقيقة الأمر وهم لا يعدو أن يكون تعبيرا عن رغبة المرء في «أب-إله»، هكذا قدم رءوس الارتياب نماذج واضحة للشك في العقيدة والثقافة، وبقي على ريكور أن يطبق المبدأ نفسه على فعل التواصل تحت عنوان «هرمنيوطيقا الارتياب»
Hermeneutics of suspicion
ولم يكن خافيا على ريكور أن هؤلاء الارتيابيين الثلاثة لم يكونوا بأية حال من أصحاب «مذهب الشك»
Skepticism
من أمثال فيرون وزينون الإيلي والأكاديميين الجدد، ذلك أنهم بينما يمارسون هدم الأفكار الراسخة، فقد كان ثلاثتهم في حقيقة الأمر يقومون ب «تنقية الأفق من أجل عالم أكثر أصالة، وحكم جديد للحقيقة، لا من طريق النقد الهدمي فحسب، بل بابتكار فن للتأويل»، وكان ثلاثتهم في حقيقة الأمر يفضحون الوعي الزائف والفهم الزائف ل «النص» (المجتمع) بتطبيق منظم للنقد الارتيابي؛ لكي يخلصوا من ذلك إلى فهم صادق للأمور في بواطنها وإدراك للحقيقة كما هي دون تنكر ودون أقنعة، لقد كان ثلاثتهم، عند ريكور، يمثلون ثلاثة طرائق متقاربة لكشف الزيف
Demystification .
5
عندما تطبق مثل هذه الهرمنيوطيقا على نص من النصوص فإنها تفضي إلى إمكان الوصول إلى ما أسماه ريكور «براءة ثانية»
Second Naivete
والتي يمكن بواسطتها تحقيق هدف التأويل وهو إيجاد «عالم أمام النص، عالم يفتح إمكانات جديدة للوجود»، إن من أيسر الأمور وأكثرها رجحانا عندما يقرأ المرء نصا من النصوص (وليكن نصا إنجيليا)، وبخاصة إذا كان نصا مألوفا، أن يفعل ذلك بتصلب ورضا ذاتي يميل إلى «تجميد» معنى النص تجميدا لا رجعة فيه، ويبدو أن مقاربة النص بارتياب معين - أي بتساؤل عما إذا كان ما يبدو أن النص يقوله هو مطابق حقا لرسالته الحقيقية التي يريد إبلاغها - هو عملية تأويلية صحيحة وضرورية أيضا.
ثمة نقطة أخرى أوضحها أساتذة الارتياب الثلاثة وهي أن الارتياب يجب أن يكون مزدوجا يتوجه إلى المشاركين (المجتمع بصفة عامة أو أفراد المجتمع) وإلى النسق (العقيدة)، كذلك يجب أن يكون الارتياب مزدوجا في تناول أي نص من النصوص، فعندما أقارب نصا ما يلزمني أن أطبق الارتياب على نفسي (هل أقوم بإقحام معنى ما على النص؟) وأن أطبق الارتياب على النص (هل يقول النص ذلك حقا؟) يقول ريكور إن كلا قطبي الارتياب صحيح وضروري إذا شئنا أن نصغي إصغاء جديدا لما يريد الرب أن يقوله لنا، والحق أن ريكور لا يعدو في هذا الأمر أن يذكرنا - وإن يكن ذلك بطريقة شائقة من غير شك - بحقيقة «الدائرة التأويلية» العتيدة، علينا أن نقارب النص بطريقة نقدية وارتيابية حتى يتسنى لنا أن نسمع رسالته وبلاغه، وحتى لا ندع فهمنا المسبق وقناعاتنا المسبقة تغشي على الحقيقة وتحجبها. (2-2) الارتياب، والاستعارة، والحكاية الرمزية
تتجلى هرمنيوطيقا الارتياب عند ريكور في فهمه للاستعارة
Metaphor
على أنها توتر أو شد، يرى ريكور أن في صميم الاستعارة يقبع عنصر إثبات وعنصر نفي، عنصر «كمثل»
Is Like
وعنصر «ليس كمثل»
Is Not Like ، يشير العنصر الأول إلى الناقل الحرفي المستخدم لتوصيل الاستعارة، بينما يدل الأخير على أن «المشار إليه» أو «المرجع»
Referent
في الاستعارة لا ينبغي التماسه في الألفاظ الحرفية، هذا «التوتر» من شأنه أنه يسقط «عالما أمام النص»، هذا «العالم» المسقط هو «المشار إليه»
Referent
الحقيقي للاستعارة، ويرى ريكور أن معنى الاستعارة وإشارتها هما شيء في انتظار أن يتملكه القارئ الراهن من خلال عملية إضفاء القرينة أو السياق التي يضطلع بها من جديد كل قارئ للنص.
6
بهذا التفاعل مع العالم البازغ أمام النص يلتمس ريكور «إيمانا استعاريا»
Metaphor-Faith
يتجاوز نزع الأسطورة
Demtyhol Gizing ، وبراءة ثانية
Second Naivet
تتجاوز تحطيم الأصنام
Iconoclasm (توكيد على عنصر «كمثل»
is like ) غير أنه يلتمس في الوقت نفسه التوكيد على الجانب النقدي «ليس كمثل»، وبذلك يجعل تأويليته نسقا مفتوحا يتجنب أي تصديق ساذج، هذا التوتر بين قطبي الإثبات والنفي، «كمثل» و«ليس كمثل»، يتجلى في مجالات ثلاثة: (1) داخل اللغة الشعرية (2) بين تأويلات هذه اللغة (3) بين هذه التأويلات وبين حياة القراء أو المستمعين. وتجد هذه التوترات انفراجا في اللحظة الحاضرة عن طريق خلق معان جديدة و«مشار إليه» جديدة.
ويحدد ريكور «التعبيرات المقيدة»
Limit Expressions
حيث ينطبق التوتر الداخلي للاستعارة في أوضح صورة، هذه «التعبيرات المقيدة» تشمل الأمثال
والأخرويات (ما ورد في أمور الآخرة أو ما قيل عن الساعة)
Escatological Sayings
والحكايات الرمزية
وحين يطبق ريكور هرمنيوطيقا الاستعارة على الحكايات الرمزية يجد عنصر «كمثل» قائما في الصيغة السردية للحكاية (النموذج)
The Model ، ويجد عنصر «ليس كمثل» قائما في الطريقة التي تنتهك بها الصيغة السردية (المقيد)
The Qualifier
بتدخل «الغرائبي» و«الخارق» وربما «الفاضح»! هذا الازدواج التكويني يفضي إلى التوتر فيما بين «انغلاق» الشكل السردي وبين «انفتاح» العملية الاستعارية، ومرة ثانية يؤدي التوتر إلى إسقاط عالم أمام النص، أي بين القارئ/المؤول وبين النص نفسه، وبه ينكشف «المشار إليه» الخاص بالحكاية ويخرج إلى واضحة النهار، هكذا يتبين أن تعريف ريكور للحكاية الرمزية
على أنها «ربط بين شكل سردي، عملية ميتافيزيقية، وبين «مقيد»
Qualifier
ملائم» هو تعريف متسق مع كل من تأويليته الارتيابية ككل وفهمه الخاص لكيفية عمل الاستعارة.
والآن بعد أن بينا مدخل ريكور إلى الاستعارة، وبصفة أخص إلى الحكاية الرمزية كجنس أدبي، يمكننا اقتفاء أمور كثيرة، بوسعنا أولا أن نتبين أن استبصار ريكور الخاص بازدواجية الاستعارة بوصفها تتضمن وجها مألوفا ووجها آخر يتخطى المألوف هو استبصار مفيد لنا في مواطن كثيرة، ولعل لوثر الذي أصر على تفسير «كلوا ... هذا لحمي، اشربوا ... هذا دمي» تفسيرا حرفيا، لعله كان قمينا أن يغير رأيه في ضوء نظرية ريكور في الطبيعة الثنائية للاستعارة، ولعل الكثيرين من شراح «سفر الرؤيا»
Revelation
كانوا حقيقين أيضا بالإفادة من فهم ريكور للاستعارة، كذلك يعد تطبيق ريكور لهذا المبدأ على الحكاية الرمزية هو تطبيق مفيد غاية الفائدة؛ فكثير من الحكايات الرمزية تتسم فعلا ببنية «النموذج/المقيد»
Model/Qualifier ، مما يهيب بالقارئ أن يميز ويدخل في العملية الاستعارية.
وعلى الرغم من هذه الجوانب الإيجابية في فهم ريكور للاستعارة والحكاية الرمزية، فإن هناك جوانب أخرى جديرة بالشك والتساؤل، أولها إصرار ريكور على أن تفاعل القارئ والنص يتسم «بالانفتاح» ولا يمكن، من حيث المبدأ، أن ينغلق، وهو إصرار يرتبط من جهة بمغالاة ريكور في التعويل على القارئ وإسناد دور كبير له في العملية التأويلية، ويرتبط من جهة أخرى بإيمانه بأن «النص المكتوب يغدو، فور كتابته، صوتا ممحضا منفصلا عن المؤلف وعن موقف المؤلف».
7
ومن الملاحظات المثيرة أنه بينما يتفق كل من يان رامزي (
Ian Ramsay
الذي أخذ عنه ريكور نموذجه الاستعاري «كمثل/ليس كمثل» واستخدمه في تأويليته الخاصة) وريكور حول وجود توتر مقصود مدخل في الحكاية الرمزية بواسطة «المقيد»
Qualifier ، فقد خلص كل منهما إلى نتيجة جد مختلفة بصدد وظيفة «المقيد» في الحكاية الرمزية: أما رامزي فيرى أن وظيفة المقيد هي أن يؤدي، بواسطة عملية منطقية، إلى «الله» الكلمة التي «تكمل» و«تترأس» على اللغة كلها، وأما ريكور فيرى أن وظيفة «المقيد» هي أن يمزق المنطق الخاص بالسرد ويشده القارئ أو المستمع، وبينما يتفق الاثنان على أن «المقيد» هو الوسيلة التي تدفع بها اللغة إلى حدها وقيدها، فقد دعا رامزي إلى نسق مغلق من الهرمنيوطيقا بينما نادى ريكور بنسق مفتوح.
إن التناول الجدلي للنص عند ريكور، بالإضافة إلى رغبته في تجنب الانحياز المطلق إلى جانب النص أو إلى جانب الذات المفسرة، هو ما أفضى به إلى «انفتاح» صميم فيما يتعلق بمعنى الحكاية الرمزية، بل فيما يتعلق بمعنى كل النصوص المكتوبة التي تفصل بيننا وبينها فجوة أو بون، وهو في غمرة اهتمامه بالعثور على المعنى لا في النص نفسه بل أمام النص، فقد فتح مجالا لنسبية لا مفر منها لرسالة النص، فإذ بتغير سياق القارئ كذلك يتغير العالم القابع أمام النص، وهكذا يسمح ل «ليس كمثل» أن تسود على حساب «كمثل». يريد ريكور أن يحافظ على التوتر، غير أنه في الواقع الفعلي ينفرج التوتر في النهاية لصالح «المعنى الجديد» المتولد في الأفق الحادث بين القارئ والنص، ويصير الأمر، بشكل لا مرد له، إلى اضطراب وتقلقل في رسالة النص مصحوب بنسبية تلك الرسالة.
ولكن إذا كانت بعض نصوص الإنجيل تهيب حقا باستجابة القارئ فإن هذه الاستجابة يجب أن تكون مسترشدة، بل محددة، بالنص نفسه لا بالقارئ، إن النص هو الذي يحكم الاستجابة المناسبة من جانب القارئ، وما كان للقارئ أن يستجيب للنص كيفما اتفق، أضف إلى ذلك أن هناك كثيرا من النصوص لا تهيب باستجابة القارئ إلا قليلا، مثل النصوص التاريخية، ومثل النصوص التعليمية كرسائل بولس. القارئ هنا ليس حرا في أن يؤسس معنى جديدا أمام النص على أساس التفاعل الدينامي بين الطرفين، ثمة معنى محدد يتأبى على تعددية المعنى التي ترتكز على استجابة القارئ، وفي ذلك يقول ثيسلتون: «... إلا أن هذه الاعتبارات (المتعلقة بمعطيات النصوص الإنجيلية) تضع علامات استفهام خطيرة ضد النظريات التي تحاول الاستغناء تماما عن المؤلفين أو عن السياقات غير اللغوية للموقف.»
إن هرمنيوطيقا الارتياب عند ريكور هي في الحقيقة مفتوحة أكثر مما يجب، وهي تعمل كدائرة تأويلية أبدية، ولا تدرك أن بوسعنا تأسيس طرائق تأويلية تؤدي لا إلى دائرة لا نهاية لها، بل إلى «لولب» ينتهي بمعنى محدد مطابق للمعنى الذي قصده المؤلف ورمى إليه وعناه، معنى من حقنا أن نبحث عنه وأن نجده. (2-3) الارتياب والإبستمولوجيا
مثلما أدت هرمنيوطيقا الارتياب بريكور إلى أن يحرص على الإبقاء على التوتر بين السيادة المطلقة للقارئ والسيادة المطلقة للنص في عملية استخلاص المعنى، كذلك يمكننا رؤية ظلال هذه الهرمنيوطيقا نفسها بصدد السؤال عن المنهج في عملية اكتساب المعرفة، إن ريكور «ليرتاب» في أية أبستمولوجيا تعتمد بصورة حصرية على «التفسير»
Explanation
من جهة أو على «الفهم»
Understanding
من جهة أخرى.
نشأ هذا التمييز كما سبق أن أوضحنا في غير موضع في الخلافات التي دارت رحاها في القرن التاسع عشر حول مفهوم المعرفة والوسائل الكفيلة باكتسابها، فكان الجناح الوضعي يرى أن «التفسير»
Explanation
الذي يصطنع المنهج العلمي الوضعي هو الكفيل بتأويل الظواهر، بينما ذهب أنصار الإنسانيات إلى أن التفسير العلمي الوضعي لا يملك تقديم وصف شامل للواقع الإنساني وتأويل سديد للخبرة البشرية، ودعوا إلى تأسيس نظرية في الفهم تقيض للأهداف الغائية وللشعور والتخيل دورا مشروعا في المعرفة الإنسانية.
رأى ريكور في هذا التعارض بين «الفهم» و«التفسير» (والممثل في مدخل جادامر ومدخل هابرماس في الهرمنيوطيقا على الترتيب) المسارين «الصاعد» و«الهابط» في التأمل الهرمنيوطيقي،
8
أما «انفتاح» جادامر وفتور اهتمامه بالمنهج فيتجلى بوضوح في قوله: «في اللغة ثمة أولا وقبل كل شيء كل من «اللغة»
Langue
و«الكلام»
كما ميزهما سوسير، فالكلمة المنطوقة (
هي شيء مختلف عن نسق الرموز
Langue ) الذي يؤلف اللغة ... الكلام يوجد في النصوص، نعم بالتأكيد، ولكن النصوص غريبة أو وحشية، كيف يتأتى لهذا الكلام، أي الكلمة المنطوقة، أن تحفظ حقا في النص المكتوب؟ هل هي بكليتها ما نطقه عقلي أو تلفظه ذهني؟ ... علينا دائما أن نبحث عن المعنى الحقيقي لأي منطوق أو عبارة.»
9
يرى ريكور، بحق، أن مشكلة هرمنيوطيقا جادامر هي أنها لا تقدم منهجا لاكتساب المعنى الحقيقي: كيف لنا أن نعرف «المعنى الحقيقي لمنطوق أو عبارة؟» إن مدخل جادامر لا يوقف تقدم الإبستمولوجيا الوضعية في منطقة العلوم الإنسانية، إنه مدخل مفرط في الذاتية.
أما مدخل هابرماس فهو على العكس مفعم بالعلم الوضعي ويفضي بالفعل إلى إبستمولوجيا المناهج، وبينما يتفق ريكور مع هابرماس في كثير من الجوانب (شغفه بعلم اللغة مثلا وهو يضاهي محاولة ريكور نفسه تأسيس «سيميولوجيا ترانسندنتالية»)، فإنه يختلف معه وينسب إليه خطأ الخلط بين مشكلة «الفهم» ومشكلة «فهم الآخر»، لقد ظن أن معنى الرسالة لا بد أن يكون هو المعنى الذي وضعه أشخاص آخرون هناك، فهذا أيضا هو في حقيقته تناول ذاتي وغير نقدي لمشكلة المعنى.
أراد ريكور في مدخله الخاص إلى الهرمنيوطيقا أن يتجنب كلا من القصور المنهجي عند جادامر (وما يصاحبه من نقص الموضوعية) والقصور النقدي عند هابرماس (الذي تسرع بالخلط بين المعنى وبين النص نفسه)؛ لذا فقد حاول ريكور جهده أن يؤسس منهجا يتسنى للمرء بواسطته أن يكشف الغطاء عن البنى الأنطولوجية للمعنى، وربما ينجح أيضا في تقديم تأويل ما لذلك الوجود في العالم الذي يتفتح أمام النص.
10
ذهب ريكور إلى أن السيميولوجيا
Semiology ، وهي أداة لغوية تحاول كشف المعنى على أساس النص وحده (وبمعزل عن نية المؤلف)، يمكن أن تمهد سبيلا إلى المشاركة في مقاصد المتحدث والاستقلال في نفس الوقت عن الإشارات الخاصة التي كانت بالفعل في ذهنه، ومن خلال هذا المنهج الجدلي وهذا التفاعل المتبادل بين النص/الرمز وبين القارئ «سيكون لدينا نوع من العرفان يتم فيه للذات أن تمتلك الحقيقة بكلتا الطريقتين: المشاركة والنقد الموضوعي».
وإذا كان ريكور محقا فيما أخذه على تأويلية جادامر من إفراط في الذاتية، فإن المرء ليستشعر أن محاولة ريكور تجنب الذاتية عن طريق «المشاركة» في مقصد المتحدث مع رفضه في الوقت نفسه وضع هذه المشاركة مع إشارات المؤلف، هي محاولة مفرطة في الذاتية بنفس الدرجة! والحق أن المرء لا يسعه في نهاية المطاف سوى أن يسلم بأن مقصد المؤلف لا بد أن يقوم على المشعرات المعطاة من لدن المؤلف في نصه بوصفها «المشار إليها»
Referent
الخاص بعباراته، وإلا فإن مصير المعنى و«المشار إليه» هو «التعويم» والتسيب والانفلات من المراسي إلى حيثما يشاء المؤول أن يذهب، ذلك هو وجه الأمر بغض النظر عن أية نظرية (سيميوطيقية) لغوية تستخدم لتبرير انشقاق عبارات النص عن المعنى والمشار إليه الأصلي الذي عناه المؤلف وقصده وانتواه.
قد أراد ريكور أن يتجنب الذاتية المرتبطة بإبستمولوجيا «الفهم»، غير أنه في واقع الأمر لم يتمكن من تجنب هذه الذاتية؛ وذلك لأنه التمس الموضوعية والمنهج النقدي لا في التوجه إلى مقصد المؤلف وتأسيسه بالإصغاء المرهف للمؤلف، وهو يعبر عن نفسه في النص بل في تحليل لغوي لا شخصي ، ومن المؤسف أن ريكور بإزاحته للمؤلف من الطريق قد عزز ذاتية المؤول وضمن لها السيادة حتى خلال استخدام أداة «علمية» (السيميوطيقا). (2-4) الارتياب والأيديولوجيا
كان لهرمنيوطيقا ريكور الارتيابية تأثير بعيد يتجاوز الحدود المباشرة لدينامية «القارئ/النص»، ويتجلى هذا التأثير في اللاهوت التحرري بمختلف ألوانه (عند الزنوج وعند المذهب النسائي وفي أمريكا اللاتينية، وبخاصة عند جوان سيجندو بالأوراجواي الذي أقام لاهوته التحرري على هرمنيوطيقا الارتياب عند ريكور)، لم تكن حركة سيجندو موجهة لتأسيس «نسق» لاهوتي، وإن كان ذلك محتما، بقدر ما كان اهتمامه منصبا على تأسيس «منهج» لاهوتي، فإذا كان منهج المرء اللاهوتي باطلا فإن بنيته اللاهوتية الفوقية القائمة على المنهج ستكون أيضا باطلة لا محالة، ويذهب سيجندو إلى أن المنهج اللاهوتي هو صنيعة الأيديولوجيا، ومن هنا انجذابه للهرمنيوطيقا التي تتناول الأيديولوجيا بطريقة ارتيابية أي نقدية، هكذا برزت أهمية الأدوات التحليلية للارتياب، والمصممة لنبذ العادي والمبتذل والمذاهب الهروبية التسكينية والتفسيرات الزائفة، وقد أعمل سيجندو المقولات الفرويدية عن التحول النفسي المرتكزة على هرمنيوطيقا فضح الزيف وكشف الأقنعة والتي ترمي إلى جعل الفرد يقبل الواقع ولا يهرب منه، أي يدرك أن الأشياء ليست كما تبدو في الظاهر، فأسس «مبدأ الواقع»
Reality Principle
الخاص به، يقتضي ذلك قدرا من التواضع يسمح بفك شفرة المعنى الخفي وراء معنى ظاهر عندما يجري تأويل أيديولوجيا المجتمع (النص) على نحو ارتيابي.
في ضوء هذا التحليل يعاد تأويل جميع المقولات اللاهوتية، من قبيل الخطيئة والإيمان والنعمة والكنيسة والآخرة، تأويلا متسقا مع مبدأ كشف الأقنعة وفضح الزيف المتأصل في الأطر الأيديولوجية التقليدية التي تعمل على الإبقاء على الأوضاع الظالمة واستغلال الفقراء وقمعهم، وتدعيم هذه الأوضاع، يقول سيجندو: إن عقيدة «خطيئة العالم»، تلك العقيدة الباعثة على الاغتراب، هي أيديولوجيا، ويترتب على ذلك أن «التحرر يعني إذن أن نختار أن نمارس ارتيابا أيديولوجيا لكي نكشف اللثام عن البنى الأيديولوجية اللاشعورية التي تدعم الطغيان وتخدم مصالح أقلية متسلطة متمتعة بكل الامتيازات»، إن اللاهوت التحرري يهيب بهرمنيوطيقا الارتياب لأنه يرى أن لاهوتيي أوروبا وأمريكا الشمالية قد تأثروا في تأويلهم للكتاب المقدس بالعقلية الرأسمالية تأثرا زائدا.
هكذا تتجلى مرة أخرى مزايا هرمنيوطيقا الارتياب عند ريكور، وعيوبها أيضا، وتعبر عن نفسها في هذه المنطقة من الخطاب اللاهوتي، لا شك في وجاهة استبصارات اللاهوت التحرري وسدادها فيما يتصل بفعل الأيديولوجيا، ونزوع أي أيديولوجيا إلى الإبقاء، دون نظر، على الوضع الراهن والمحافظة على مصالح المستفيدين من الوضع، ها هنا تضطلع هرمنيوطيقا الارتياب بدور كبير في كشف التأويلات الزائفة أو المحرفة للمجتمع أو النص، سواء كان الارتياب موجها إلى نقد الأيديولوجيا بشكل مباشر أو نقدها بشكل غير مباشر من خلال الشك في نصوص الإنجيل التي درجنا على فهمها داخل قضبان أيديولوجية ثابتة دون تفطن ودون نقد.
ولكن لسوء الحظ فإن اللاهوتيين التحررين إذ يفشلون في تأسيس نقد مشروع في حدود رسالة الإنجيل نفسها، عن وعي ودراية، فإنهم يقعون ضحية أيديولوجيا غير إنجيلية (ذات لون ماركسي في الغالب!) وينتهي بهم المطاف إلى مجرد استبدال أيديولوجيا بأخرى! هكذا يتجمد هذا المنظور الجديد، وتلقي ظلال الشك على أي تأويل يتفق أنه يناقض تأويل المرء فيما يتعلق برسالة الإنجيل. إن ما نحتاج إليه حقا هو هرمنيوطيقا ارتياب وارتياب في هذا الارتياب أيضا! ذلك أن بميسور أي قارئ/مؤول أن يستبدل فهما للنص قائما على نقد ارتيابي بفهم آخر، خاطئ بنفس الدرجة، أقحمه على النص قارئ يجلب إلى النص، ربما دون أن يدري، مصالحه الخاصة وتحيزاته وفهمه اللاهوتي المسبق.
ولتجنب التأويل المبتسر والخاطئ هناك عاملان يجب أن يكونا في حالة نشاط دائم؛ أولا: اتخاذ موقف ارتياب موصول، ارتياب في الارتياب، و«انفتاح » مستمر على طريقة ريكور، ثانيا: وبنفس الدرجة من الأهمية، الحركة الصحيحة تجاه تحديد رسالة النص الإنجيلي، هنا نجد أن هرمنيوطيقا ريكور تتخبط ولا تسعفنا بشيء؛ وذلك بسبب اعتقاده الخاطئ بأن النص والمؤلف ينفصلان فور الكتابة، وأن قصد المؤلف من ثم لا يمكن، حتى من حيث المبدأ، الوصول إليه، الأمر الذي أدى إلى التماس المعنى في عالم يتفتح «أمام النص».
تحت هذه الظروف التأويلية لا فكاك من الوقوع في النسبية والذاتية اللتين تفتحان المجال للقارئ أن يملي على النص ما يريده، ويفرض على النص المعنى الذي يحبذه، وهكذا ينتهي الأمر بهرمنيوطيقا الارتياب، التي جهدت لكي تخلق توازنا بين «التفسير» و«الفهم» أو بين العلم والفن، إلى أن تسقط لا محالة في جانب الفن، والانفتاح الأبدي واللاحسم الذي يميز الفن، إن هرمنيوطيقا الارتياب هي بحاجة ماسة إلى أن تكملها وتوازنها هرمنيوطيقا أخرى تدرك أن النصوص المكتوبة تمثل تعبيرات صحيحة عن مقصد مؤلفها، وأن بالإمكان وضع مبادئ ترشد القارئ إلى هذا المقصد، وعلى الهرمنيوطيقا كعلم وفن معا أن تكون أكثر من دائرة تأويلية أبدية لا تنتهي، وأن تسعى نحو الانغلاق الذي ينتهي به مسار اللولب، لا شك أن هرمنيوطيقا الارتياب تسهم بنصيب في هذا المسار، بيد أنها غير قادرة بمفردها على إتمام هذه المهمة.
تذييل
محاورة أيون
11
سقراط :
مرحبا يا أيون، هل أنت من أهل مدينة إفيسوس؟
أيون :
لا يا سقراط، بل من إبيدوروس حيث حضرت مهرجان أسكليبوس.
سقراط :
وهل يقيم الإبيدوريون مسابقات قصيد ملحمي في المهرجان؟
أيون :
نعم ويقيمون مسابقات لكل ضروب الأداء الاستعراضي.
سقراط :
وهل كنت من بين المتنافسين؟ وهل فزت؟
أيون :
لقد فزت بالجائزة الأولى على الجميع يا سقراط.
سقراط :
مبروك، وآمل أن تشرفنا أيضا في الباناثينيا.
أيون :
وسوف أفعل بعون السماء.
سقراط :
كثيرا ما أحسد مهنة الراوي يا أيون، ذلك أن عليك أن ترتدي دائما أبهى الثياب، وأن جزءا من فنك أن تبدو في أجمل صورة، كما أن عليك دائما أن تكون في صحبة العديد من الشعراء المجيدين، وبخاصة هومر وهو أفضلهم وأكثرهم ألوهة، وإن «فهم» هومر، وليس مجرد حفظ كلماته عن ظهر قلب، لشيء يحسد عليه المرء حقا، ولن يتسنى لإنسان أن يكون راوية قصائد ملحمية ما لم «يفهم» المعنى الذي يرمي إليه الشاعر؛ لأن الراوية ينبغي عليه أن «يؤول» عقل الشاعر لمستمعيه، وما كان له أن يؤوله حق تأويله ما لم يعرف ما يعنيه، وإن كل ذلك لمن أدعى دواعي الحسد والغبطة .
أيون :
لقد أصبت كبد الحقيقة يا سقراط، فما زال «التأويل» هو أصعب جوانب فني بكل تأكيد، وإنني لأرى في نفسي القدرة على أن أتحدث عن هومر أفضل من أي شخص آخر: فلا ميترودوروس من لامبساكوس، ولا ستيسيمبروتوس من ثاسوس، ولا جلوكون، ولا أي شخص كان، يعرف عن هومر ما أعرفه كما أو كيفا.
سقراط :
إنني سعيد أن أسمع ذلك منك، وما أظنك تحجب عني هذه المعارف.
أيون :
بكل تأكيد يا سقراط، وإن عليك حقا أن تسمع كيف أقدم هومر تقديما متقنا ... أرى أن من اللائق أن يكللني الهومريون بتاج ذهبي.
سقراط :
ستكون لدي فرصة لسماع إتحافاتك الهومرية في وقت آخر، أما الآن فأود أن أسألك سؤالا: هل يمتد فنك إلى هزيود وأرخيلوخوس أو يقتصر على هومر وحده؟
أيون :
يقتصر على هومر، فهو في ذاته كاف تماما.
سقراط :
هل هناك من شيء يتفق فيه هومر وهزيود؟
أيون :
نعم، هناك الكثير فيما أرى.
سقراط :
وهل أنت أقدر على تأويل ما يقوله هومر أو على تأويل ما يقوله هزيود عن هذه الأشياء التي يتفقان فيها؟
أيون :
بوسعي أن أؤول الاثنين بنفس الإجادة في المواضع التي يتفقان فيها.
سقراط :
ولكن ماذا عن المسائل التي لا يتفقان فيها؟ مسألة الألوهية مثلا، فلدى كل من هومر وهزيود في هذا الأمر ما يقوله.
أيون :
بالضبط.
سقراط :
تراك أقدر يا أيون، أم نبي صالح، على تأويل ما يقوله هذان الشاعران في الألوهية، لا حين يتفقان فحسب بل حين يختلفان؟
أيون :
النبي.
سقراط :
ولكن كيف لك أن تحوز هذه المهارة في هومر فقط دون هزيود ودون سائر الشعراء؟ ألا يتحدث هومر في نفس الموضوعات التي يتناولها بقية الشعراء؟ أليست الحرب هي قضيته الكبرى؟ ألا يتحدث عن المجتمع الإنساني وتعاملات البشر، الأخيار منهم والأشرار، الحاذقين والحمقى؟ وعن الآلهة إذ يخاطب بعضهم بعضا وإذ يخاطبون الجنس البشري، وعما يحدث في السماء وما يحدث في العالم السفلي، وعن أطوار الآلهة والأبطال؟ أليست هذه هي الموضوعات التي يتغنى بها هومر؟
أيون :
بالضبط يا سقراط.
سقراط :
أولا يتغنى بقية الشعراء بالشيء نفسه؟
أيون :
بلى يا سقراط، ولكن ليس بطريقة هوميروس.
سقراط :
ماذا، بطريقة أسوأ؟
أيون :
نعم، أسوأ بكثير.
سقراط :
ويتغنى هومر بطريقة أفضل؟
أيون :
إنه أفضل بما لا يقاس.
سقراط :
ولكن بالتأكيد، أي عزيزي أيون، فحيث تجري مناقشة ما في علم الحساب يتحدث فيها عديد من الأشخاص بينهم واحد يتحدث على نحو أفضل من الباقين، فهناك شخص ما، لديه القدرة على أن يحكم أيهم هو المتحدث الجيد؟
أيون :
نعم.
سقراط :
وذلك الذي يحكم من المتحدث الجيد سيكون هو الشخص الذي يحكم من المتحدث الرديء؟
أيون :
هو نفسه.
سقراط :
وسيكون هذا الشخص هو عالم الحساب؟
أيون :
نعم.
سقراط :
حسن، وفي مناقشات حول الغذاء الصحي حيث يتحدث عديد من الأشخاص بينهم واحد يتحدث على نحو أفضل من الباقين، أيكون ذلك الشخص الذي يميز المتحدث الجيد شخصا آخر غير الذي يميز الرديء، أم الشخص نفسه؟
أيون :
الشخص نفسه بالطبع.
سقراط :
ومن هو هذا الشخص، وما اسمه؟
أيون :
الطبيب.
سقراط :
وبصفة عامة، في جميع المداولات التي تدور حول موضوع بعينه ويتحدث فيها أشخاص عديدون، ألن يكون مميز الجيد من المتحدثين مميزا أيضا للرديء منهم؛ إذ لو كان لا يعرف الرديء فإنه لن يعرف الجيد حيث تجري مناقشة الموضوع نفسه؟
أيون :
حقا.
سقراط :
أليس الشخص نفسه حاذقا في كلا الأمرين؟
أيون :
بلى.
سقراط :
وأنت تقول إن هومر وبقية الشعراء، أمثال هزيود وأرخيلوخوس، يتحدثون في نفس الأشياء، وإن لم يكن على نفس النحو، فهناك من يتحدث بإجادة، وهناك من يقصر عن هذه الإجادة؟
أيون :
نعم ، وأنا مصيب في هذا القول.
سقراط :
وإذا عرفت المتحدث الجيد فستكون قمينا أن تعرف أيضا من هم أدنى حديثا؟
أيون :
هذا حق.
سقراط :
إذن، يا صديقي العزيز، هل يمكن أن أكون مخطئا إذا قلت إن أيون حاذق في هومر وفي بقية الشعراء على حد سواء ما دام هو ذاته يعترف أن الشخص نفسه سيكون حكما جيدا على جميع المتحدثين في المسائل نفسها، وأن جميع الشعراء تقريبا يتحدثون فعلا في المسائل نفسها؟
أيون :
لماذا إذن يا سقراط أفقد انتباهي وأخلد إلى النوم ولا أحوز على الإطلاق أية أفكار ذات أدنى قيمة، عندما يتحدث أي شخص عن أي شاعر آخر، فإذا ما ذكر هومر قمت من فوري وكلي انتباه ولدي الكثير لكي أقوله؟
سقراط :
السبب واضح يا صديقي، بوسع أي إنسان أن يدرك أنك تتحدث عن هومر دون أي فن أو معرفة، فلو كنت قادرا على أن تتحدث عنه وفقا لقواعد الفن لكان تسنى لك أن تتحدث عن بقية الشعراء، فالشعر كل (لا يتجزأ).
أيون :
نعم.
سقراط :
وعندما يكتسب أي شخص أي فن آخر ككل، فإن لنا أن نقول عنه نفس الشيء، هل تود أن أفسر لك ما أعنيه يا أيون؟
أيون :
أود ذلك حقا يا سقراط، وكم يسعدني أن تفعل، فأنا أحب أن أسمعكم أيها الحكماء وأنتم تتكلمون.
سقراط :
بحسبك، لسنا حكماء ولست محقا في أن تدعونا حكماء، إنما أنتم الحكماء معشر الرواة والممثلين، وكذلك الشعراء الذين تتغنون بأشعارهم، أما أنا فواحد من سواد الناس يتكلم الحقيقة فقط، انظر مليا كم هو عادي ومبتذل ذلك الذي قلته، شيء يمكن أن يقوله أي إنسان: وهو أنه عندما يكتسب إنسان معرفة فن بكليته فإن بحثه في الجيد والرديء يكون أمرا واحدا بعينه، ولننعم النظر في هذه المسألة، أليس فن التصوير كلا (لا يتجزأ)؟
أيون :
بلى.
سقراط :
وهناك العديد من المصورين الجيدين والرديئين قديما وحديثا؟
أيون :
نعم.
سقراط :
فهل عرفت قط أي شخص كان حاذقا في تبيان مناقب ومثالب بوليجنوتوس بن أكلاوفون وعاجزا مع ذلك عن نقد بقية المصورين، فإذا ما صدر عمل أي مصور آخر تحير وأبلس وأخلد إلى النوم، حتى إذا ما تعين عليه أن يدلي برأيه في بوليجنوتوس (أو أي من كان هذا المصور) وعنه فقط، نهض وانتبه ولديه الكثير لكي يقوله؟
أيون :
لا والله لم أعرف هكذا شخصا قط.
سقراط :
أو هل سمعت في حياتك عن أي مثال كان ماهرا في عرض مناقب دايدالوس بن مينيون، أو إيبيوس بن بانوبيوس، أو تيودوروس الساموسي، أو أي مثال آخر، فإذا ما صدرت أعمال المثالين بعامة ارتبك ونام ولم يجد ما يقوله؟
أيون :
كلا ولا عرفت هذا.
سقراط :
وإذا لم أكن مخطئا فأنت لم تصادف قط أيا من عازفي الناي أو عازفي القيثار أو المغنين على القيثار أو رواة الملاحم كان بمكنته الحديث عن أوليمبوس أو ثاميراس أو أورفيوس أو راوية إيثاكا، فإذا ما انتقل إلى الحديث عن أيون من إفيسوس ارتبك وتحير ولم تكن لديه أي فكرة عن مزاياه وعيوبه؟
أيون :
ما يكون لي أن أكذبك يا سقراط، غير أني أعي في قرارة ذاتي، ويؤيدني الخلق جميعا، أنني أجيد الحديث فعلا عن هومر ولدي ما أقوله عن أكثر من أي شخص آخر، غير أني لا أتحدث عن الباقين بنفس الإجادة، فقل لي لم كان ذلك؟
سقراط :
أدري يا أيون، وسوف أشرح لك سبب ذلك في تصوري: إن موهبتك في الحديث بامتياز عن هومر تكمن في الحجر الذي يسميه يوريبيدس المغناطيس ويعرف عادة بحجر هيراقليا، هذا الحجر لا يجذب الحلقات الحديدية فحسب، بل يسبغ عليها قوة مماثلة لجذب حلقات أخرى، وأحيانا ما تصادف عددا من قطع الحديد وحلقاته يتدلى بعضها من بعض مكونة سلسلة طويلة جدا، وجميعها يستمد قوة جذبه من الحجر الأصلي، وبطريقة شبيهة تقوم إلهة الشعر بنفسها بادئ ذي بدء بإلهام بعض الأشخاص، ومن هؤلاء الملهمين تتدلى سلسلة من الأشخاص الآخرين الذين مسهم الإلهام، ذلك أن جميع الشعراء المجيدين، الملحميين منهم والغنائيين، يؤلفون قصائدهم الجميلة لا بواسطة الفن بل لأنهم ملهمون وممسوسون، ومثلما يفقد المهووسون الكوريبانتيون صوابهم عندما يرقصون، كذلك لا يكون الشعراء الغنائيون بكامل رشدهم أن يؤلفوا أناشيدهم الجميلة، بل يقعون تحت سيطرة الموسيقى والوزن فيمسهم الإلهام، ومثلما تفعل العذارى الباخوسيات إذ تستدر الحليب والعسل من الأنهار عندما تكون تحت تأثير ديونيسوس (لا عندما تكون في كامل صوابها)، كذلك تفعل روح الشاعر الغنائي، كما يقول الشعراء أنفسهم، فهم ينبئوننا أنهم يجلبون أغنياتهم من ينابيع معسولة ، يتخيرونها من بساتين إلهات الشعر ووديانها، إنهم كالنحل يرنقون من زهرة إلى زهرة، وإن قولهم الحق، فالشاعر شيء لطيف ومجنح وقديس، ولا يتأتى له الخلق إلا بعد أن يمسه الإلهام ويغادر حواسه ولا يعود بعقله، فإذا لم يبلغ هذه الحالة فهو بلا حول ولا قدرة على أن يتفوه بنبوءاته.
كثيرة هي الأقوال البليغة التي يتحدث بها الشعراء عن أفعال البشر، غير أنهم، مثلك أنت نفسك عندما تتحدث عن هومر، لا يفرغون قولهم بوساطة أي قواعد فنية، إنهم، ببساطة، مدفوعون إلى نطق ما تمليه عليهم آلهة الشعر دون غيره، وعندما يلهمون فإن واحدهم سوف ينظم أناشيد «ديثيرامب» (أمدوحة ديونيسوس)
Dithyrambs ، والآخر أناشيد مديح، وغيره أناشيد جوقة، وسواه أشعارا ملحمية أو «عمبقية»
Iambic ، والمجيد منهم في لون من هذه الألوان الشعرية غير مجيد في أي لون آخر: ذلك أن الشاعر إذ يتغنى لا يتغنى بواسطة الفن بل بقوة إلهية، أما إذا صح أنه قد تعلم بواسطة قواعد الفن لقد كان حقيقا أن يعرف كيف يقول في كل ألوان الشعر لا في لون واحد؛ لذا فقد سلب الله الشعراء عقولهم واتخذهم وكلاء له، مثلما يتخذ أولياءه وأنبياءه الصالحين، لكي نعرف نحن المصغين إليهم أنهم لا يتكلمون من تلقاء أنفسهم تلك الكلمات النفيسة في حالة غيبوبة، بل إن الله نفسه هو المتكلم، وإنه يخاطبنا من خلالهم، ويقدم تينيخوس الخالقيدي مثالا لافتا لما أقوله: إنه لم يكتب أي شيء يستحق الذكر سوى أنشودة الحمد
الشهيرة التي يرددها كل فم، والتي هي واحدة من أرفع ما سطره قلم على الإطلاق، إنها، ببساطة، من خلق آلهة الشعر كما يقول هو نفسه، فبهذه الطريقة يبدو أن الله يثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك أن هذه القصائد الجميلة ليست بشرية أو من صنع الإنسان، بل إلهية ومن صنع الله، وأن الشعراء ما هم إلا مترجمو الآلهة الذين يتلبسونهم مرارا، أليس هذا هو الدرس الذي أراد الله أن يلقنه عندما غنى بلسان أسوأ الشعراء أجمل الأغنيات؟ ألست محقا في ذلك يا أيون؟
أيون :
بلى، حقا، يا سقراط، إنني لأشعر أنك على حق؛ لأن كلماتك تمس روحي، وأنا على قناعة بأن الشعراء المجيدين، بواسطة إلهام إلهي، يترجمون لنا أقوال الآلهة.
سقراط :
وأنتم، معشر رواة الملاحم، مترجمو الشعراء؟
أيون :
في هذا أيضا أنت على حق.
سقراط :
أنتم إذن مترجمو المترجمين؟
أيون :
بالضبط.
سقراط :
وددت لو تجيبني بصراحة عما سأسألك فيه: عندما تمارس أعظم تأثير على الجمهور لدى تلاوتك لفقرة مثيرة من مثل ظهور أوديسيوس طافرا يتبينه مقاضوه ويصوبون السهام إلى قدمه، أو وصف أخيل وهو يندفع إلى هكتور، أو أحزان أندروماخ أو هيكوبا أو بريام، هل تكون آنذاك في رشدك وصوابك؟ ألا تكون خارجا عن طورك وكأن روحك في وجد تجوس بين الشخصيات والأماكن التي تتحدث عنها سواء كانت في إيثاكا أو في طروادة أو حيثما كان المنظر الذي تعرضه القصيدة؟
أيون :
إن هذا الدليل ليمس شغاف قلبي يا سقراط، فلا بد أن أعترف صراحة أن عيني في رواية المأساة تغرورقان بالدموع، وأنني حين أعرض للرعب ينتصب شعري انتصابا ويخفق قلبي.
سقراط :
حسنا يا أيون، وماذا ترانا نقول في شخص في تقريب أو احتفال، مرتديا بزة المهرجان ومكللا رأسه بتيجان ذهبية لم يخلعها عنه أحد، عندما يبدو متصدعا هلعا في حضور أكثر من عشرين ألف وجه ودود، دون أن يتعرض له أحد أو يمسه بأذى، أيكون هذا الشخص برشده وصوابه؟
أيون :
بالطبع لا يا سقراط، أؤكد لك أنه ليس في رشده أو صوابه.
سقراط :
أوتدري أنك تمارس تأثيرا شبيها بذلك على معظم المتفرجين؟
أيون :
كل الدراية، فأنا أرمقهم من فوق المنصة وأشاهد مختلف انفعالات الشفقة والتعجب والصرامة مرتسمة على محياهم عندما أتحدث، وإن علي أن أوليهم كل انتباهي؛ ذلك لأني إذا جعلتهم يبكون فأنا نفسي سوف أضحك في النهاية، وإذا جعلتهم يضحكون فسوف أبكي، عندما يحين وقت المكافأة.
سقراط :
أتعرف أن المشاهد هو آخر الحلقات التي تتلقى تأثير المغناطيس الأصلي بعضها من بعض على حد قولي؟ أما رواية الملاحم، مثلك، والممثل، فهما من الحلقات الوسطى، وأما الشاعر نفسه فهو أولى الحلقات، خلال هذه كلها يهز الله أرواح الناس في أي جهة يشاء ويجعل الواحد منهم يتدلى من الآخر. هناك إذن سلسلة ضخمة من الراقصين والأساتذة ومن دونهم من الجوقة، المتدلين كأن من الحجر، على جانب الحلقات التي تتدلى من إلهة الشعر، ولكل شاعر إلهة شعر معينة يتدلى منها ويقال: إنه ممسوس بها، وهو نفس الشيء تقريبا الذي أقوله، لأنه ممسوك بها، ومن هذه الحلقات الأولى، أي الشعراء، يتعلق آخرون، بعضهم يستمد إلهامه من أورفيوس، وبعضهم من ميوسايوس، لكن الغالبية العظمى تمس وتمسك بهومر، أنت يا أيون واحد من هؤلاء، وأنت ممسوس بهومر، وعندما يردد أحد كلمات شاعر آخر تخلد إلى النوم ولا يكون لديك ما تقوله، فإذا تلا أحد ترنيمة لهومر نهضت من فورك وقفزت روحك بداخلك وامتلأت بما يقال، فليس بالفن أو بالمعرفة عن هومر تقول ما تقوله، بل بإلهام إلهي ومس، تماما مثلما يتمتع المستمعون الكوريبانتيون برهافة بتلك النغمة المقيضة للإله الذي هم ممسوسون به ولديهم الكثير من الرقصات والكلمات لذلك دون غيره، وأنت يا أيون عندما يذكر اسم هومر يكون لديك الكثير لتقوله، ولا شيء لديك لتقوله عن بقية الشعراء، وأنت تسأل: «لم هذا؟» والجواب أنك تمجد هومر لا بالفن بل بإلهام إلهي.
أيون :
هذا جميل يا سقراط، ومع ذلك فإن بي شكا في أن بلاغتك سوف تسعفك في إقناعي بأني لا أمجد هومر إلا عندما أكون مجنونا ممسوسا، وإذا أتيح لك أن تسمعني وأنا أتحدث عنه فأنا على يقين من أنك لن ترى الأمر على هذا النحو بأية حال.
سقراط :
سيسعدني كثيرا أن أسمعك، ولكن ليس قبل أن تجيب عن سؤال علي أن أسأله: في أي جزء من هومر تتحدث بإجادة؟ فمن المؤكد أنك لا تجيد كل الأجزاء.
أيون :
أؤكد لك يا سقراط أنه لا يوجد جزء لا أجيد الحديث فيه.
سقراط :
من المؤكد أنك لا تجيد الحديث في هومر عن الأشياء التي ليس لك بها علم.
أيون :
وماذا يوجد في هومر مما ليس لي به علم؟
سقراط :
رويدك، ألا يتحدث هومر في مقاطع كثيرة عن الفنون والحرف؟ عن قيادة العربات مثلا، فلو أنني تذكرت شيئا من الأبيات لرددتها جميعا.
أيون :
إنني أتذكرها، وسأرددها.
سقراط :
قل لي إذن ما يقوله نستور لابنه حيث يوصيه بالاحتراس أثناء الالتفاف في سباق الخيل تكريما لباتروكلوس.
أيون :
يقول: «انحرف برفق في العربة المصقولة على يسارهم وحفز الحصان على الجهة اليمنى بالسوط والصوت، وأرخ العنان، وعندما تبلغ المراد دع الحصان الأيسر يقترب؛ حتى لا يتأتى لمحور العجلة المتقنة أن تمس الطرف أقل مس، وتجنب أن تعلق بالحجر.»
سقراط :
كفى، والآن يا أيون: من الذي يملك الحكم الأصوب على سداد هذه الأبيات: سائق العربات أم الطبيب؟
أيون :
سائق العربات طبعا.
سقراط :
أيكون ذلك بحكم حرفته أم لأي سبب آخر؟
أيون :
بل بحكم حرفته.
سقراط :
ويكون الله قد قيض كل صنعة أو فن لكي يحوز معرفة بعمل معين، فالذي نعرفه بفن الملاحة لا نعرفه بفن الطب؟
أيون :
بالطبع لا.
سقراط :
ولا نحن نعرف بفن النجارة ما نعرفه بفن الطب؟
أيون :
بالطبع لا.
سقراط :
ويصدق ذلك على جميع الفنون؛ فالذي نعرفه بأحد الفنون لا نعرفه بفن آخر. ولكن دعني أسأل سؤالا سابقا: أنت تسلم بأن هناك ألوانا من الفنون متباينة فيما بينها؟
أيون :
نعم.
سقراط :
وتسلم معي بأنه إذا كان هناك فن يضطلع بصنف من المعرفة وفن آخر يضطلع بصنف آخر؛ فهما إذن فنانان مختلفان؟
أيون :
نعم.
سقراط :
نعم بالتأكيد؛ لأنه إذا كان موضوع المعرفة هو نفس الموضوع لما كان هناك معنى لقولنا بأن الفنون مختلفة - إذا كان كلاهما يقدم نفس المعرفة - أنا أعرف مثلا أن هناك خمسة أصابع وأنت تعرف الشيء نفسه، وإذا لزم أن أسأل إن كنت أنا وأنت قد ألممنا بهذه الحقيقة بمساعدة فن الحساب، لوافقتني في ذلك؟
أيون :
نعم.
سقراط :
قل لي إذن ما كنت أريد أن أسألك: هل يمكن تعميم ذلك؟ هل ينبغي أن يختص كل فن بموضوع بعينه من المعرفة وتختص الفنون الأخرى بموضوعات أخرى؟
أيون :
هذا ما أراه يا سقراط.
سقراط :
ومن ثم الذي لا يمتلك معرفة بفن معين لن يملك حكما صائبا على أقوال ذلك الفن وأفعاله؟
أيون :
صحيح تماما.
سقراط :
إذن من سيكون الحكم الأفضل على الأبيات التي كنت تتلوها من هومر، أنت أم سائق العربات؟
أيون :
سائق العربات.
سقراط :
وذلك لأنك راوية ملاحم لا سائق عربات.
أيون :
نعم.
سقراط :
وهكذا كل معرفة مختلفة هي معرفة عن أمور مختلفة؟
أيون :
حقا.
سقراط :
أنت تعرف المقطع الذي توصف فيه هيكاميد خليلة نستور بأنها قدمت شراب البوسيت
12
إلى ماتشاون الجريح، عندما يقول: «مصنوع بالنبيذ البرميني، وقد بشرت جبن حليب الماعز بمبشرة من البرونز، ووضعت بجانبه بصلة تضفي شهية للشراب.» وبعد، فأي فن هو الأقدر على الحكم على سلامة هذه الأبيات وملاءمتها لمقتضى الحال: فن رواية الملاحم أم فن الطب؟
أيون :
فن الطب.
سقراط :
وعندما يقول هومر: «وهبطت في الأعماق مثل قطعة من الرصاص المربوطة بطرف خيط الفادن التي وضعت في قرن ثور يطوف في الحقل، تندفع حاملة الموت فيما بين الأسماك النهمة.» فأي فن سيكون أقدر على الحكم على سلامة التعبير في هذه الأبيات: فن الصياد أم فن رواية الملاحم؟
أيون :
بالطبع يا سقراط فن الصياد.
سقراط :
ها أنت ذا، هبك سألتني: «ما دمت أنت يا سقراط قادرا على أن تعزو مختلف المقاطع في هومر لما يناظرها من فنون، فإني أود أن تخبرني أي المقاطع ينبغي أن يحكم على جودتها نبي أو «فن النبوءة»؟» سترى عندئذ كيف أجيبك إجابة فورية وصحيحة، فهناك العديد من مثل هذه المقاطع، وبخاصة في الأوديسا، هناك، على سبيل المثال، المقطع الذي يقول فيه ثيوكيلمينوس نبي بيت ميلامبس للمدعين: «أيها الرجال البائسون، ماذا أصابكم؟ إن رءوسكم ووجوهكم وأرجلكم مطمورة في الظلام، وصوت النواح يتفجر، وخدودكم المبللة بالدموع، والردهة ملأى والمحكمة مكتظة بالأشباح الهابطة في ظلام إيريبوس، والشمس تبددت من السماء، وسديما مشئوما يخيم وينتشر.» وهناك مقاطع كثيرة كهذه في الإلياذة أيضا، وعلى سبيل المثال ذلك المقطع في وصف المعركة قرب المتراس (السور الواقي)، حيث يقول هومر: «وبينما هم متلهفون على عبور الخندق إذ أتاهم نذير: نسر محلق كبح الناس على شماله، وقد حمل في براثنه تنينا ضخما مضجرا بالدم، ما يزال حيا ولاهثا، ولم يكف عن النضال رغم ذلك؛ لأنه انثنى إلى الخلف وضرب الطائر الذي يحمله بالعنق على صدره، فتركه النسر من ألمه يسقط منه إلى الأرض وسط الجموع، أما النسر فقد صرخ صرخة مدوية وحمل بعيدا على أجنحة الريح.»
هذا هو صنف الأمور التي أؤكد أنه ينبغي على النبي أن ينظر فيها ويقررها.
أيون :
وأنت محق تماما يا سقراط في هذا القول.
سقراط :
نعم يا أيون، وأنت أيضا على حق، ومثلما اخترت لك من الإلياذة والأوديسة مقاطع تصف عمل النبي والطبيب والصياد، فهل تختار لي أنت يا أيون، يا من تعرف هومر أكثر بكثير مني، مقاطع تتعلق بالرواية وفن الرواية، والتي ينبغي أن يكون الراوية أقدر على فحصها والحكم عليها من أي شخص آخر؟
أيون :
كل المقاطع، بالتأكيد، يا سقراط.
سقراط :
ليست كل المقاطع بالتأكيد يا أيون، هل قد نسيت ما كنت تقوله؟! يليق بالراوية أن يتمتع بذاكرة أقوى من ذلك.
أيون :
كيف، ما الذي نسيته؟
سقراط :
ألا تذكر أنك أعلنت أن فن الراوي مختلف عن فن سائق العربات؟
أيون :
بلى أذكر.
سقراط :
إذن وفقا لما خلصت إليه أنت نفسك فإن الراوية، وفن الراوية، لن يعرف كل شيء.
أيون :
لا بد أن أستثني أشياء معينة يا سقراط.
سقراط :
تريد أن تقول إنك ستستثني كثيرا جدا من موضوعات الفنون الأخرى ، فإذا كان لا يعرف كل هذه الموضوعات، فأيا منها يعرف؟
أيون :
سيعرف ما ينبغي على الرجل وينبغي على المرأة أن تقوله، وما ينبغي على الحر وعلى العبد أن يقوله، وما ينبغي أن يقوله الحاكم والمحكوم.
سقراط :
هل تعني أن راوية الملاحم سيعرف أفضل من الربان ما ينبغي أن يقوله حاكم زورق تتقاذفه الأمواج؟
أيون :
لا، فالربان أفضل من يعرف.
سقراط :
أم سيعرف الراوية ما ينبغي أن يقوله حاكم المرضى أكثر من الطبيب؟
أيون :
لا، لن يعرف.
سقراط :
ولكنه سيعرف ما ينبغي على العبد أن يقوله؟
أيون :
نعم.
سقراط :
هب العبد راعي أبقار، فهل سيعرف الراوية أكثر من الراعي ما ينبغي أن يقوله لكي يهدئ الأبقار الهائجة؟
أيون :
لا، لن يعرف.
سقراط :
ولكنه سيعرف ما ينبغي أن تقوله غازلة الصوف عن عمل الصوف؟
أيون :
لا.
سقراط :
لكنه سيعرف على أية حال ما يجب أن يقوله القائد العسكري عندما يوصي جنوده؟
أيون :
نعم، هذا هو صنف الأشياء التي سيعرفها الراوية بالتأكيد.
سقراط :
حسن، ولكن هل فن الراوية هو فن القائد العسكري؟
أيون :
إنني متيقن أنني أعرف بالضرورة ما ينبغي أن يقوله القائد العسكري.
سقراط :
عجبا، نعم يا أيون لأنك قد يكون لديك معرفة بفن القائد العسكري بالإضافة إلى معرفة راوية الملاحم، كما أنه قد تكون لديك معرفة بالفروسية بالإضافة إلى عزف القيثار، وعندئذ ستعرف متى تحسن أو تساء سياسة الأحصنة، ولكن إذا ما سألتك: بمساعدة أي فن يا أيون تعرف إن كانت الأحصنة تساس كما ينبغي: بمهارتك كرجل فروسية أم بمهارتك كعازف قيثار، فبم تجيب؟
أيون :
بمهارتي كرجل فروسية ولا ريب.
سقراط :
وإذا حكمت على عازفي قيثار ستعترف بأنك حكم عليهم كعازف قيثار لا كرجل فروسية؟
أيون :
نعم.
سقراط :
وفي حكمك على فن القائد العسكري، هل تحكم كقائد أو كراوية ملاحم؟
أيون :
لا يبدو لي أن بينهما فرقا.
سقراط :
ماذا تعني؟ هل تريد أن تقول إن فن الراوية وفن القيادة العسكرية هما شيء واحد؟
أيون :
نعم هما الشيء نفسه.
سقراط :
إذن فالراوية الجيد هو أيضا قائد عسكري جيد؟
أيون :
بالتأكيد يا سقراط.
سقراط :
والقائد العسكري الجيد هو أيضا راوية جيد؟
أيون :
لا، أنا لا أقول ذلك.
سقراط :
لكن تقول فعلا إنه من يكن راوية جيدا يكن أيضا قائدا عسكريا جيدا.
أيون :
بالتأكيد.
سقراط :
وأنت أفضل راوية هيليني؟
أيون :
الأفضل غير مدافع.
سقراط :
وهل أنت أفضل قائد عسكري يا أيون؟
أيون :
ثق تماما من ذلك يا سقراط، وهومر هو معلمي.
سقراط :
ولكن يا أيون لماذا بحق السماء تتجول أنت يا أفضل القادة العسكريين وأفضل الرواة في هيلاس كراوي ملاحم بينما بمقدورك أن تكون قائدا عسكريا؟ أتظن أن الهيلينيين يريدون راوية ملاحم مكللا بالذهب ولا يريدون قائدا عسكريا؟
أيون :
على رسلك يا سقراط، السبب أن أهل بلادي إفيسوس هم خدم أثينا وجنودها، وليسوا بحاجة إلى قائد عسكري، وأنتم وأسبرطة لستم بحاجة إلي؛ لأنكم ترون أن لديكم ما يكفي من القادة العسكريين من بينكم.
سقراط :
يا أخي الطيب أيون، ألم تسمع قط عن أبولودوروس من سيزيكوس؟
أيون :
من تراه يكون؟
سقراط :
هو الذي، رغم أنه أجنبي، كثيرا ما اختاره الأثينيون قائدا عسكريا لهم، وهناك فانوسثينيس من أندروس، وهيراقليدس من كلازومينيا اللذان عينهما الأثينيون لقيادة جيوشهم وعينوهما في مناصب أخرى، رغم أنهما أجنبيان، بعد أن ثبتت جدارتهما، ألن يختاروا أيون من إفسوس ليكون قائدهم العسكري ويكرموه، إذا ما أثبت جدارته؟ أليس الإفيسوسيون أثينيين في الأصل، وإفيسوس ليست بالمدينة الهينة؟ ولكن، حقا يا أيون، إذا صح قولك بأنك تستطيع بالفن والمعرفة أن تمجد هومر، فأنت لا تبر بي ولا تصدقني الوعد، وبعد كل تضلعك في معرفة أشياء عديدة ومجيدة عن هومر، ووعودك بأن تعرضها علي، فما عدوت أن خدعتني، وما كان لك أن تعرض الفن الذي أنت سيده، ولا أن تفسر لي طبيعة هذا الفن رغم توسلاتي المتكررة، فأنت متعدد الأشكال، بالضبط مثل بروتيوس، وأنت الآن تداور وتناور وتخب في كل لون، وتتخذ، كدأب بروتيوس، طرائق الخلق جميعا في آن واحد، ثم تروغ مني في نهاية المطاف متخفيا في صورة قائد عسكري؛ كيما تتجنب عرض معرفتك الهومرية المكتسبة، فإذا صح أن لديك فنا، كما كنت أقول في تكذيب وعدك بأنك ستعرض هومر، فأنت إذن تضللني ولا تصدقني، أما إذا لم يكن لديك فن (وهو ما أعتقده)، بل تفوه بكل هذه الكلمات الجميلة عن هومر دون وعي، تحت تأثيره الملهم، هنالك أبرئك من التضليل وأقول بأنك ملهم فقط، فبأي الصفتين تفضل أن تعرف : التضليل أم الإلهام؟
أيون :
شتان بين الخيارين يا سقراط، والإلهام هو الصفة الأنبل بما لا يحد.
سقراط :
إذن يا أيون سأفترض لك الخيار الأنبل، وأنسب إليك في تمجيدك لهومر الإلهام وليس الفن. (تمت)
ناپیژندل شوی مخ