ولما قطعت دعوة يحيى بن علي الحسني من قرطبة سنة سبع عشرة كما ذكرنا ، أجمع رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أمية ، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن محمد بن الغمر بن يحيى بن عبد الغفار بن أبي عبدة ، وقد كان ذهب كل من كان ينافس في الرياسة ويخب في الفتنة بقرطبة ، فراسل جمهور ومن معه من أهل الثغور والمتغلبين هنالك على الأمور ، وداخلهم في هذا ، فاتفقوا بعد مدة طويلة على تقديم أبي بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر وهو أخو المرتضى المذكور ؛ قيل : كان مقيما بالبونت عند أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم ( 1 ) المتغلب بها ، فبايعوه في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة وأربعمائة ، وتلقب بالمعتد بالله ، وكان مولده سنة أربع وستين وثلاثمائة ، وكان أسن من أخيه المرتضى بأربعة أعوام ؛ وأمه أم ولد اسمها عاتب ، فبقي مترددا في الثغور ثلاثة أعوام غير شهرين ، ودارت هنالك فتن كثيرة ، واضطراب شديد بين الرؤساء بها إلى اتفق أمرهم على أن يصير إلى قرطبة قصبة الملك ، فصار ودخلها يوم منى ثامن ذي الحجة سنة عشرين وأربعمائة ، ولم يبق إلا يسيرا حتى قامت عليه فرقة من الجند فخلع ، وجرت أمور يكثر شرحها ، وانقطعت الدعوة الأموية من يومئذ فيها ، واستولى على قرطبة جهور بن محمد المذكور آنفا ، وكان من وزراء الدولة العامرية ، قديم الرياسة ، موصوفا بالدهاء والعقل ، لم يدخل في أمور الفتن قبل ذلك ، وكان يتصاون عنها . فلما خلا له الجو وأمكنته الفرصة وثب عليها فتولى أمرها واستضلع بحمايتها ، ولم ينتقل إلى رتبة الإمارة ظاهرا ، بل دبرها تدبيرا لم يسبق إليه ، وجعل نفسه ممسكا للموضع إلى أن يجيء مستحق يتفق عليه ، فيسلم إليه . ورتب البوابين والحشم على أبواب تلك القصور على ما كانت عليه أيام الدولة ، ولم يتحول عن داره إليها ، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك ، وهو المشرف عليه ، وصير أهل الأسواق جندا ، وجعل أرزاقهم """""" صفحة رقم 204 """"""
رؤوس أموال [ تكون بأيديهم محصلة عليهم يأخذون ربحها فقط ورؤوس الأموال ] ( 1 ) باقية محفوظة يؤخذون بها ، ويراعون في الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها . وفرق السلاح عليهم وأمرهم بتفرقته في الدكاكين وفي البيوت ، حتى إذا دهم أمر في ليل أو نهار كان سلاح كل واحد معه . وكان يشهد الجنائز ويعود المرضى ، جاريا في طريقة الصالحين ، وهو مع ذلك يدبر الأمور تدبير السلاطين المتغلبين ، وكان مأمونا وقرطبة في أيامه حرما ( 2 ) يأمن فيه كل خائف من غيره ، إلى أن مات في صفر سنة خمس وثلاثين واربعمائة . وتولى أمرها بعده ابن أبو الوليد محمد بن جهور على هذا التدبير إلى أن مات ، فغلب عليها بعد أمور جرت هنالك الأمير الملقب بالمأمون صاحب طليطلة ، ودبرها مدة يسيرة ومات فيها ، ثم غلب عليها صاحب إشبيلية الأمير الظافر ابن عباد ، فهي الآن بيده على ما بلغنا ( 3 ) . وبقي هشام بن المعتد معتقلا ، ثم هرب ولحق بابن هود بلا ردة ، فأقام هنالك إلى أن مات سنة سبع وعشرين وأربعمائة ، ولا عقب له ، وانقطعت دولة بني مروان جملة ، إلا أن إشبيلية ومن كان على رأيهم من أهل تلك البلاد ، لما ضيق عليهم يحيى بن علي الحسني وخافوا أمره ، أظهروا أن هشام بن الحكم المؤيد حي ، وأنهم ظفروا به فبايعوه وأظهروا دعوته ، وتابعهم أكثر أهل الأندلس . وبقي الأمر كذلك إلى حدود الخمسين وأربعمائة ( 4 ) ، فإنهم أظهروا موت هشام المؤيد الذي ذكروا أنه وصل إليهم ، وحصل عندهم ، وانقطعت الخطبة لبني أمية من جميع أقطار الأندلس من حينئذ وإلا الآن . وأما الحسنيون فإنه لما قتل يحيى بن علي كما ذكرنا لسبع خلون من المحرم سنة سبع وعشرين ، رجع أبو جعفر أحمد بن أبي موسى المعروف بابن بقنة ، و" نجا " الخادم الصقلبي ، وهما مدبرا دولة الحسنيين ، فأتيا مالقة وهي دار مملكتهم ، فخاطبا أخاه إدريس بن علي ، وكان بسبتة وكان يمتلك معها طنجة ، واستدعياه فأتى إلى مالقة ، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة ، ولم يبايعا واحدا من ابني يحيى وهما : إدريس وحسن لصغرهما ، فأجابهما إلى ذلك ، ونهض " نجا "
مخ ۲۰۴