Factors of Victory and Empowerment in the Prophets’ Missions
عوامل النصر والتمكين في دعوات المرسلين
خپرندوی
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
ژانرونه
دراسات في ضوء القرآن الكريم
عوامل النصر والتمكين
في
دعوات المرسلين
تأليف
أحمد بن حمدان بن محمد الشهري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العزة رب العالمين، ولي التمكين للدين، الملك الحق المبين، خير الناصرين، وأحكم الحاكمين، لا إله إلا هو يقص الحق وهو خير الفاصلين، مجّدَ نفسه في كتابه بامتلاكه وحده لأسباب النصر والتمكين، فقال: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ (١) وقال: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (٢) وصلى الله وسلم على نبيه محمد إمام المرسلين، المقطوع بنصرهم من رب العالمين في قوله - سبحانه -: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ﴾ (٣) ورضي عن الصحابة أنصارهم والمهاجرين، الذين تجردوا من العلائق جادين، فخرجوا من أهلهم وديارهم ينصرون الله ورسوله حتى سماهم الله بالصادقين، أما بعد:-
_________
(١) الأعراف (١٩٧) .
(٢) آل عمران (١٢٦) .
(٣) الصافات (١٧١ - ١٧٢) .
1 / 1
فإن المؤمن إذا عظم إيمانه، وقوي يقينه، وصدقت محبته لخالقه صارت همته المؤكدة، ورغبته الشديدة، وأمنيته العزيزة نصرة هذا الدين ولقد بين ذلك - سبحانه - في كتابه المبين، فقال عن محبة المؤمنين للنصر: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ (١) بل إن السعي لنصرة الدين خصيصة في عظماء الخلق من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين، وصفوة أتباعهم المؤمنين، ومن تأمل في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وجد على ذلك شواهد كثيرة من النصوص الظاهرة، وموضوع تلمس أسباب النصر والتمكين في كتاب الله موضوع نفيس بالغ النفاسة، ولكن أود أن أنبه في هذه المقدمة على نقاط مهمة قبل الشروع فيه:-
١- الموضوع موضوع قرآني بالدرجة الأولى فهو من المواضيع التي تولاها القرآن أكثر من السنة، فإن الله ﷾ ما ذكر دعوة نبي إلا وبين عامل نصرها، وذكر من عادى الدعوة وبين أسباب سخطه عليهم حتى إذا استقصى المستقصي ذلك خرج بمنهج متكامل في أسباب النصر وموجبات الخذلان والعقاب. ٢- عوامل التمكين في دعوات المرسلين:-
_________
(١) الصف (١٣) .
1 / 2
هذا العنوان فيه سجعة جميلة؛ ولكن ليس السبب في اختياره حلاوة السجع؛ ولكن لأن التمكين كلمة أعم وأشمل من النصر وسائر الألفاظ الدالة على الغلبة والقوة؛ لأنها كلمة تدل على التهيئة والتثبيت والقوة والغلبة والنصر العزيز الثابت الراسخ وهذا سر استعمال القرآن لها، أما "دعوات المرسلين" فلأن كل دعوة لرسول قد يظهر فيها عامل من عوامل النصر أكثر من غيره فدعوة نبي الله موسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - ظهر فيها عامل الصبر أكثر من غيره، ولذا قال - سبحانه -: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾ (١) ودعوة نبي الله سليمان - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - جاء فيها عامل تجنيد الجند وتجييش الجيوش، في سبيل نصرة الدين أكثر من أي دعوة أخرى ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ (٢) الآية وأما كلمة المرسلين فلأمرين:-
_________
(١) الأعراف (١٣٧)
(٢) النمل (٣٧) .
1 / 3
الأمر الأول: أن الرسل مقطوع بنصرهم من الله - سبحانه - وعصمتهم من القتل بخلاف الأنبياء ومن تتبع تعبير القرآن رأى عجبًا فإن القرآن إذا قطع بالنصر عبر بلفظ الرسل كقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ (١) ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ (٢) وإذا جاء ذكر القتل عبر بلفظ النبيين ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ،﴾ ﴿وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ والسبب - وعند الله العلم - أن رسول الأمة الأول لا يقتل أبدًا ولا بد من تمكينه ونصره في الدنيا فعلًا، ودليل ذلك قوله - تعالى - في سورة غافر: ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ (٣)، وقوله - جل ذكره - في سورة إبراهيم ﵇: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ (٤)، وقوله في سورة
_________
(١) المجادلة (٢١) .
(٢) الصافات (١٧١)
(٣) سورة غافر (٥) .
(٤) سورة إبراهيم (١٣-١٤) .
1 / 4
الأنبياء: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ (١) .
أما الأنبياء الذين أرسلوا برسالة تجديدية لرسالة رسول الأمة الأول فإنهم قد يقتلون كرسل بني إسرائيل بعد موسى، وهذا ما يحمل عليه قوله - تعالى -: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ (٢) وإذا كان الأمر كذلك فإن من قدر الله أن تكتمل عوامل النصر والتمكين في دعوة رسول الأمة أكثر من النبي المجدد ومن هنا كان الاختيار للعنوان "عوامل التمكين في دعوات المرسلين"
_________
(١) سورة الأنبياء (٩) .
(٢) البقرة (٨٧) .
1 / 5
الأمر الثاني: أن الله ﷾ يوجه رسوله ﷺ إلى أن يترسم مسالك المرسلين قبله في نصرة الدين، ويحذره من المسالك التي عاتب عليها المرسلين قبله كقوله - تعالى -: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ .. (١) الآية، وقوله ﷾: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ .. (٢) الآية، وقوله - تعالى -: في سورة القصص بعد أن ذكر قول نبي الله موسى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ (٣) مخاطبًا نبيه محمدًا ﷺ ﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ﴾ (٤)، وقوله ﷾: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ ... (٥) الآية.
_________
(١) الأحقاف (٣٥) .
(٢) القلم (٤٨) .
(٣) القصص (١٧) .
(٤) القصص (٨٦) .
(٥) سورة هود (١٢٠) .
1 / 6
وبهذا يتبين لنا أن الله ﷾ كان ينهج برسوله ﷺ مناهج المرسلين قبله، ويحدد له معالم تمكين الدين في قصصهم ويأمره باتباعها، وكان ﷺ يتحرى ذلك المنهج في دقائق الأمور من نصرته للدين، فقد قال لعلي بن أبي طالب ﵁ حين تركه بالمدينة في أهله وخرج لغزوة تبوك: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ....) (١) مما يدل على أنه ﷺ في تركه لعلي ﵁ كان يترسم ما فعله موسى ﵇ من استخلاف أخيه، وقوله له: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (٢) وقوله ﷺ حين استشار أصحابه في شأن أسرى بدر: (... «إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ﵇ قال: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (٣)، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (٤)، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح، قال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى
_________
(١) أخرجه البخاري (٣٧٠٦) ومسلم (٢٤٠٤) والترمذي (٣٧٢٤) .
(٢) الأعراف (١٤٢) .
(٣) سورة إبراهيم (٣٦) .
(٤) المائدة (١١٨) .
1 / 7
الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ (١)، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾» (٢) .....) (٣)
٣- في مدارسة موضوع النصر والتمكين من خلال نصوص القرآن روح أيما روح وجنة وارفة من السكينة والإيمان كيف وقد كان ﷺ إذا دارس القرآن مع جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة، ففي مدارسة موضوع تمكين من خلال نصوص القرآن شحذ لعزائم المؤمنين وحفز لأن يجودوا بالغالي والرخيص والنفس والنفيس وصدق الله حين قال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ ... (٤) الآية.
فضلًا عما في مدارسة الموضوع من خلال القرآن من الهداية والتوفيق كما قال - تعالى -: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (٥) إلا أنه ينبغي هنا أن ننبه إلى أن الدخول إلى القرآن من غير السنة ضلالة مهلكة كما قال الإمام مالك - رحمه الله تعالى -: (السنة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق) (٦) .
_________
(١) سورة نوح (٢٦) .
(٢) سورة يونس (٨٨)
(٣) رواه الإمام أحمد في المسند (٣٦٣٢)، وأصل القصة عند الترمذي (١٧١٤) وحسنه، لكنه بدون ذكر هذا.
(٤) الشورى (٥٢) .
(٥) المائدة (١٦) .
(٦) مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة للسيوطي. ص ١٦٢ دار النفائس ١٤١٤ هـ.
1 / 8
٤- ثمة عوامل تستحق الإفراد والتجريد أكثر وهي:
١. التوحيد.
٢. القيادة الراشدة.
٣. الثبات.
ولكن كل هذه العوامل داخلة في مباحث في هذا الكتاب فالتوحيد داخل في مبحث الإيمان الخالص لله.
والقيادة الراشدة داخلة في مباحث الحكمة في الدعوة والتواصي بالحق وأهمية الشورى.
والثبات داخل في مبحث الصبر، وإن كانت قناعتي الآن أن إفرادها بمباحث مستقلة هو الأولى ولكن لعل هذا يتحقق فيما بعد - إن شاء الله.
1 / 9
٥- دعوة خاتم المرسلين ﷺ دعوة خاتمة كاملة وعند دراسة موضوع النصر والتمكين فيها ومقارنتها بدعوات الرسل تجد أن دعوة نبينا ﷺ اشتملت على كافة عوامل النصر والتمكين في جلاء ظاهر وحسن باهر فمن القيادة الراشدة إلى الدعوة الصادقة بيانًا للحق ورحمة بالخلق إلى الصبر والثبات والتهيئة والإعداد والتضحية والجهاد. وعجبًا لمن يسعى لنصرة دين الله دون أن يتأمل السيرة ويتتبع قبل ذلك نصوص القرآن عن غزواته ﷺ ودعوته فقد أطال القرآن في ذلك كثيرًا، وأوسعته السنة تفصيلًا، ولا يتعامى عن هذا المنهج القويم إلا المحجوب بنفسه عن ربه، أو المقدم للعقل على النقل، والله المسؤول أن يهدينا سواء السبيل، وأن يعيذنا شرور أنفسنا وأن ينفعنا بالقرآن كل نفع، ويرفعنا به كل رفع، ويجعله لنا هدى وبشرى، وعظة وذكرى، وأن ينصر من نصر الدين، ويخذل من خذل الإسلام والمسلمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على خاتم النبيين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 10
دلالة التمكين
١ - دلالته في اللغة.
٢ - دلالته في اصطلاح القرآن.
دلالة التمكين في اللغة والقرآن
الدلالة اللغوية لكلمة "التمكين":
"التمكين" مصدر للفعل مكّن وهو من مزيد الثلاثي والأصل "مكَن" وقد وردت مادة "مكن" في كتب اللغة ولم تخرج عن أصل وضعها، قال الجوهري: ("مكن" مكنه الله من الشيء وأمكنه منه بمعنى، واستمكن الرجل من الشيء وتمكن منه بمعنى، وفلان لا يمكنه النهوض: أي لا يقدر عليه.
والمكْن: بيض الضب.. قال الكسائي: أمكنت الضبة جمعت بيضها في بطنها) (١) .
_________
(١) الصحاح (٦ / ٢٢٠٥) .
1 / 11
وقال صاحب اللسان: (وقد مكنت الضبة وهي مكون، وأمكنت وهي ممكن إذا جمعت البيض في جوفها.. وفي حديث أبي سعيد: "لقد كنا على عهد رسول الله ﷺ يهدى لأحدنا الضبة المكون أحب إليه من أن يُهْدى إليه دجاجة سمينة"؛ المكون التي جمعت المكن وهو بيضها، وقيل: الضبة المكون التي على بيضها.. والمَكِنة التمكن؛ تقول العرب: إن بني فلان لذوو مَكِنة من السلطان أي تمكن.. وقال ابن سيده: والمكانة المنزلة عند الملك؛ والجمع مكانات ولا يجمع جمع تكسير وقد مَكُن مكانة فهو مكين، والجمع مكناء، وتمكَّن كَمَكن. وتمكن من الشيء واستمكن ظفر، والاسم من كل ذلك المكانة. قال أبو منصور: ويقال أمكنني الأمر، يمكنني فهو ممكن، ولا يقال: أنا أمكنه بمعنى أستطيعه) (١) .
_________
(١) لسان العرب (١٣ / ٤١٢ـ٤١٥) .
1 / 12
وقال صاحب المفردات عند مادة "مكن": (المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء، وعند بعض المتكلمين أنه عرض وهو اجتماع جسمين حاوٍ ومحويّ، وذلك أن يكون سطح الجسم الحاوي محيطًا بالمحوي، فالمكان عندهم هو المناسبة بين هذين الجسمين، قال: ﴿مَكَانًا سُوًى﴾ - ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا﴾ ويقال: مَكَّنتُه ومكنت له فتمكن. قال: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ - ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ - ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ﴾ - ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ .. وأمكنت فلانا من فلان ويقال: مكان ومكانة، قال - تعالى -: ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ .. وقرئ: "على مكاناتكم". وقوله: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ أي متمكن ذي قدر ومنزلة، ومَكَنات الطير ومَكُناتها مقارُّه..) (١) .
ومما سبق نخلص إلى أن مادة الكلمة قد استعملت بمعانٍ عديدة متقاربة لا تخرج عن أصل الاستعمال فقد استعملت بمعنى القدرة على الشيء والظفر به، وكذلك بمعنى السلطان والقدر والمنزلة.
_________
(١) المفردات (٤٧١) .
1 / 13
التمكين في اصطلاح القرآن الكريم:-
وردت كلمة "التمكين" في القرآن الكريم باشتقاقاتها ثماني عشرة مرة، ولم يحدد لها القرآن اصطلاحًا خاصًّا بل استعملها في المعاني التي ذكرت معاجم اللغة، وباستقراء الآيات التي وردت فيها اشتقاقات الكلمة يتبين لنا أن القرآن استعمل الكلمة على سبعة معانٍ هي الآتي:-
أولًا: التمكين بمعنى الملك والسلطان:-
قال - جل ذكره - في شأن ذي القرنين: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ﴾ .. (١) قال ابن كثير ﵀: (أي أعطيناه ملكًا عظيمًا ممكنًا فيه من جميع ما يُعطى الملوك من التمكين والجنود..) (٢) .
ومن هذا القبيل قوله - تعالى -: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ (٣)، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره: (أي ملكناهم إياها وجعلناهم المتسلطين عليها، من غير منازع ينازعهم، ولا معارض) (٤) .
ثانيًا: التمكين بمعنى المنزلة عند الملك:-
_________
(١) الكهف: ٨٤.
(٢) تفسير ابن كثير (٣ / ٨٩) .
(٣) الحج: ٤١
(٤) تيسير الكريم الرحمن (٥ / ٣٠٢) .
1 / 14
قال - تعالى - في شأن يوسف - على نبينا وعليه الصلاة والسلام -: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ (١)، وقال - تعالى - في جبريل ﵇: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ (٢)، وكذلك قال - تعالى - في شأن يوسف - على نبينا وعليه الصلاة والسلام -: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾ .. (٣)، ويفسر هذا التمكين أنه نصيب من الملك ومنزلة ذات قدر عند الملك قوله - تعالى - في آخر السورة على لسان يوسف - على نبينا وعليه الصلاة والسلام -: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ .. (٤) .
ثالثًا: التمكين بمعنى التهيئة:-
قال - تعالى -: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ .. (٥) أي ألم نجعل حرمًا ذا أمن (٦) .
_________
(١) يوسف: ٥٤
(٢) التكوير: ٢٠
(٣) يوسف: ٥٦
(٤) يوسف: ١٠١
(٥) القصص: ٥٧
(٦) انظر فتح القدير (٤ / ١٧٩) .
1 / 15
وقال - تعالى - في شأن يوسف - على نبينا وعليه الصلاة والسلام -: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ .. (١)، أي جعلنا هذا مقدمة وتهيئة لتمكينه في الأرض من هذا الطريق (٢) .
رابعًا: التمكين في نعم الدنيا ومعايشها:-
_________
(١) يوسف: ٢١
(٢) انظر تيسير الكريم الرحمن (١٥ / ٤) .
1 / 16
قال - تعالى -: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ (١) . وقال - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾ .. (٢)، الآية، قال ابن كثير: ﵀: (يقول - تعالى -: ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبًا منه) (٣) .
خامسًا: التمكين للدين:-
_________
(١) الأنعام: ٦
(٢) الأحقاف: ٢٦.
(٣) ابن كثير (٤ / ١٤٤) .
1 / 17
وهو يعني القدرة على مزاولة شعائره في أمن وإظهارها دون منازع أو مشوش، قال - تعالى - في سورة النور: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ .. (١) .
سادسًا: التمكين بمعنى الظفر:-
قال - تعالى -: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (٢)، فأمكن بمعنى أظفر وأقدر (٣) .
سابعًا: التمكين بمعنى الثبوت والاستقرار:-
قال - تعالى -: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ ﴿فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ (٤) . أي ثابت مستقر.
_________
(١) النور: ٥٥ الآية.
(٢) الأنفال: ٧١.
(٣) راجع لسان العرب (١٣ / ٤١٥) .
(٤) المرسلات: ٢٠ - ٢١.
1 / 18
وعد الرسل بالتمكين ومزاياه:-
لكننا نلحظ في القرآن مجيء الوعد بالنصر والغلبة والعاقبة والتمكين المذكور فيه الرسل أكثر وآكد - بمؤكدات لفظية ظاهرة ومعنوية - من الوعد بالتمكين والنصر المذكور فيه المؤمنون فقط، وما ذاك إلا أن دعوات الرسل خصوصًا من أمر منهم بقتال فلا يمكن أن يغلبه أعداؤه أبدًا ألبتة بل النصر مجزوم به له ولأتباعه وهم الغالبون القاهرون، قال - تعالى -: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (١)
وهنا أكد الله ﷾ غلبة الرسل بمؤكد ما بعده مؤكد فقد عطف الرسل على ذاته العلية «أنا» فتأكدت الغلبة كل تأكيد فالله معهم وهو غالب لا يغلب - سبحانه -، والتحقيق أن الأنبياء الذين ذكر القرآن أن أقوامهم قتلوهم أنهم لم يكونوا في قتال (٢)، أما من قاتل منهم فإنه لا يتصور بحال ولا يليق بحال العزيز القهار ذي الانتقام أن يكلف ويرسل رسولًا ويأمره بقتال ثم يقتل وهو لم ير ما وُعد من نصر والآية المذكورة شاهدة في هذا المعنى بذلك.
_________
(١) المجادلة: ٢١
(٢) راجع بيان ذلك والاستدلال عليه في تفسير أضواء البيان (٧ / ٨٢٤) .
1 / 19
ومما يلحظ كذلك أن الآيات التي جاء فيها الوعد بالتمكين ونحوه وذُكِرَ لفظ الرسل فيها فهي في الغالب تجزم بالوعد دون تعليقه على أي عمل أو شرط أو تقديم يتقدم به الرسل لينالوا الوعد ويتحقق لهم؛ بينما الآيات التي يذكر فيها الوعد بالتمكين ونحوه للمؤمنين يعلق الوعد بالتمكين أو النصر أو نحوهما بأعمال وأحوال إذا هي تحققت تحقق لهم متعلقها من الموعود به من النصر والتمكين وذلك أن الرسل على صلة مباشرة بالوحي فلا حاجة لتنبيههم لحالة أو صفة ليتحلوا بها وهم قد تحلوا بالصفات المؤهلة لنيلهم النصر منذ تأهلوا واستحقوا أن يكونوا موضع رسالات الله ﷾، وكذلك فهم لصلتهم المباشرة بالوحي وعناية الإله ورعايته لدعوتهم لا يمكن أن يخطئوا الطريق أو يعشوا عن عوامل النصر وأسباب تحقق الوعد بالتمكين.
1 / 20