[فاعلم أنه لا إله إلا الله - الصاوي]
فاعلم أنه لا إله إلا الله
مخ ۱
د/ صلاح الصاوي مقدمة في توحيد الربوبية مقدمة في توحيد الربوبية
تمهيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
أما بعد ...
فإن الأدلة على وجود الله بعدد مخلوقات الله، فكل ما خلق الله في السماوات والأرض يحمل بذاته أبلغ الأدلة على وجود الله عز وجل، وعلى علمه المطلق، وقدرته التامة، وحكمته البالغة، بدءا من أصغر ذرة في الأرض إلى أكبر مجرة في السماء.
ولقد ظل هذا المعنى بدهيا في فطرة الإنسان عبر التاريخ البشري مهما ارتكس في ظلمات الشرك أو هوى إلى دركات سحيقة من الضلالة، ولهذا لم يكن رسل الله بحاجة إلى أن يخوضوا معركة كبرى في هذا المجال لفرط وضوحه وبداهته، بل كانت تكفي الإشارة إليه والتنبيه عليه، ثم الانطلاق منه بعد ذلك لتقرير بقية حقائق التوحيد والإيمان.
مخ ۳
ونحن لا ننكر أن شذاذا في تاريخ الأمم تنكروا لهذه الحقيقة وجحدوا بها، ولكنهم كانوا من الشذوذ والقلة بحيث لا يشكلون ظاهرة عامة تتنزل من أجلها الكتب وتبعث من أجلها الرسل، وتخاض من أجلها المعارك، ومن أجل ذلك خلت كتب السلف الصالح من علماء المسلمين من التناول المفصل لهذه القضية وإفرادها بمؤلفات خاصة، فلم يكن للملاحدة من الوجود الفكري أو السياسي ما يحفز إلى التصدي والمواجهة.
ولكن شذاذ الأمس وحثالات الأمم الماضية قد أصبحوا في هذا الزمن وإلى وقت قريب أمة قائمة: يشيدون على الإلحاد دولا، ويبنون على أساسه تاريخا وحضارة، بل ويقيمون له المعاهد العلمية التي تعمل على تأصيل الإلحاد وترسيخ قواعده وإعطائه صبغة العلم والتقدمية، وإن كان نجمهم قد أخذ مؤخرا في الأفول بعد أن زالت إمبراطوريتهم ومزقوا في الأرض كل ممزق.
ومن هنا مست الحاجة إلى أن يهتم المسلمون بإبراز الآيات الدالة على وجوده جل وعلا، والتي تبرهن على كثير من أسمائه وصفاته، دحضا لشبه المبطلين، وقياما بحجة الله على العالمين، وحماية للأمة من أن يصيبها رذاذ هذا الإلحاد الفاجر، استجابة لأمر الله لهم بالنظر والتفكر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء!
مخ ۴
وسوف نتناول في هذه العجالة دلالة الخلق على الحق من خلال العناصر الآتية:
- دلالة الفطرة.
- دلالة المعجزة.
- دلالة الآيات.
- دلالة إجماع الأمة.
- دلالة العقل.
دلالة الفطرة
إن معرفة الخالق جلا وعلا والإقرار بربوبيته أمر فطري ضروري يحسه في نفسه البر والفاجر، فهو شعور غامر يملأ على الإنسان أقطار نفسه، إقرارا بخالقه، وتألها له، لا يستطيع دفعه ولا يملك رده، فهو أشد رسوخا في النفس من مبدأ العلم الرياضي كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين، وغير ذلك من الحقائق والمسلمات.
قال تعالى: {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} [إبراهيم: 10].
وهو استفهام تقريري يتضمن تقرير الأمم على ما هم ما مقرون به من أنه ليس في الله شك.
مخ ۵
وإن هذه المعرفة الضرورية لمحض هبة من الله عز وجل لعباده، فهي ليست من صنع حجة أو قياس، ولم تنشأ عن نظر أو تفكر، بل هي أسبق من هذا كله، وأبلغ من هذا كله! لأنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، والحنيفية التي خلق عليها عباده كلهم، وهي التي كان يشير إليها كثير من السلف بقولهم،» عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي! «فهي معرفة لا تنشأ بالنظر والتفكر وإنما تزداد بذلك.
ففي الحديث القدسي:» إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ثم جاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم «، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
وإن هذا الإقرار الفطري بالخالق الحكيم ليولد مع الإنسان منذ البداية، ويظل يصحبه في مختلف أطوار حياته ما لم تفسد فطرته وتنتكس بفعل العوارض والأهواء، فالكفر طارئ عرض، فإذا تاب منه صاحبه فقد رجع إلى الفطرة التي فطر عليها، وإلى الأصل الذي شذ عنه وخرج عليه.
وهذه الفطرة عند كثير من المفسرين هي الميثاق الذي أخذه الله بربوبيته على بني آدم قبل أن يوجدوا، وجعل منه حجة قائمة عليهم لا يسعهم جهلها أو التنكر لها اعتذارا بتقليد الآباء والأجداد.
قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا ... غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} [الأعراف: 172 - 173].
مخ ۶
ولقد طابت نفوس العارفين بهذه المعرفة الضرورية الفطرية، وقرت بها عيونهم، وقنعوا بها عن أقيسة المناطقة والمتكلمين، حتى قيل لأحدهم يوما: إن فلانا من علماء الكلام قد أقام على وجود الله ألف دليل، فقال: لأن في نفسه ألف شبهة!!.
وقد قيل لابن عباس بم عرفت ربك؟، فقال: من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس، خارجا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج؛ عرفته بما عرف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه.
فأخبر أن معرفة القلب حصلت بتعريف الله وهو نور الإيمان، وأن وصف اللسان حصل بكلام الله وهو نور القرآن.
وقد يحجب هذا الشعور الفطري إقبال الرخاء والعافية، أو سيطرة الذهول والغفلة، ولكن سرعان ما يتهاوى ذلك كله تحت مطارق الشدائد، فينقلب الملحد الكفور ضارعا لربه منيبا له.
وقال تعالى: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ... ما كانوا يعملون} [يونس: 12].
وقال تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين} [يونس: 22].
مخ ۷
وقال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} [لقمان: 32].
وقد سأل رجل الإمام جعفر الصادق عن الله، فقال له: ألم تركب البحر؟، قال: بلى، قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟، قال: نعم، قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟
قال: نعم، قال: فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟، قال: نعم، قال جعفر: فذلك هو الله.
وإن العتاة الغلاظ من أكابر الملاحدة والكافرين لم يستطيعوا دفع هذه الحقيقة عن أنفسهم، ولا جحدها بأفئدتهم، وإن جحدتها ألسنتهم ظلما وعلوا. كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [النمل: 14].
بل إن فرعون على ما كان عليه من عتو وطغيان لم يستطع أن يدفع عن نفسه هذه المعرفة الضرورية وكان أول من يعرف عن نفسه كذبها في دعوى الألوهية: ويتجلى ذلك من محاجته لموسى، ومن قول موسى له فيما يحكيه عنه القرآن الكريم: {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض ... بصائر} [الإسراء: 102]. بل ومن قوله حين أدركه الغرق حيث لا ينفعه إيمان، ولا تقبل له توبة: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ... وأنا من المسلمين} [يونس: 90].
مخ ۸
دلالة الآيات
إن في خلق السماوات والأرض، وما بث فيهما من دابة لآيات بينات تحرق كل شبهة، وتخرس كل كفور، وترغم كل مكابر ومعاند، لما تتضمنه من الشهادة لله بالربوبية والألوهية على الخلق أجمعين، فهي بعددها أدلة على ثبوت خالقها جل وعلا.
فهذه المخلوقات على ما هي عليه من العظمة والتسوية لم تخلق من غير شيء، كما أنها لم تخلق نفسها، وذلك مما استقر بالفطر، وعلم بالضرورة والبداهة، فلم يبق إذن إلا أنها خلقت بتقدير العزيز العليم، الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى.
وإن إثبات الصانع في القرآن بنفس آياته التي يستلزم العلم بها العلم به، كاستلزام العلم بالشعاع العلم بالشمس، من غير احتياج إلى قياس ولا غيره.
قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35].
قال جبير بن مطعم: لما سمعتها أحسست بفؤادي قد تصدع، وفي هذه الآية استفهام إنكاري يقول: هل وجدوا من غير مبدع؟ أم هم الخالقون لأنفسهم؟ والنتيجة معلومة بالفطرة والضرورة، فلا يحتاج أن يستدل عليها: بأن كل كائن محدث، أو كل ممكن لا يوجد بنفسه ولا يوجد من غير موجد، قال تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت} [الغاشية: 17 - 19].
مخ ۹
وقال تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} [البقرة: 21 - 22].
وقال تعالى حاكيا قول موسى عندما سأله فرعون: {قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما ... إن كنتم موقنين} [الشعراء: 23 - 24].
فقد جعل نفس هذه المخلوقات آية لله عز وجل من غير احتياج إلى مقدمات ونتائج.
دلالة المعجزة
وهذه إحدى الطرق القرآنية في إثبات الربوبية، ذلك أن المعجزة كما تدل على صدق الرسل، فإنها تدل أيضا على ربوبية المرسل وألوهيتة وذلك لما يأتي:
أولا: أن المعجزة تدل بنفسها على ثبوت الصانع كسائر الحوادث، بل هي أخص من ذلك؛ لأن الحوادث المعتادة ليست في الدلالة كالحوادث الغريبة، ولهذا يسبح الرب عندها ويمجد ويعظم ما لا يكون عند المعتاد، ويحصل بها في النفوس ذلة من ذكر عظمته ما لا يحصل للمعتاد، إذ هي آيات جديدة فتعطى حقها.
ثانيا: أنه إذا تقررت بها النبوة والرسالة فقد تقررت بها الربوبية كذلك، إذ لا يكون هناك نبي ولا رسول إلا وهناك مرسل، فالإقرار بالرسالة يتضمن الإقرار بالربوبية بلا نزاع.
مخ ۱۰
ثالثا: إن النبوة إذا ثبتت بالمعجزة، فقد صارت أصلا في وجوب قبول جميع ما دعا إليه النبي من حقائق الربوبية والألوهية وغيرها.
وقد جاء القرآن بهذه الطريقة في قصة فرعون، فإنه كان منكرا للرب جلا وعلا، فحاجه موسى في ذلك، ثم عرض عليه الحجة البينة التي جعلها دليلا على صدقه في كونه رسول رب العالمين، وفي أن له إلها غير فرعون، فاستدل بالمعجزة على كلا الأمرين: ربوبية الله جل وعلا، وكونه مرسلا من عنده تعالى.
قال تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أولو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} [الشعراء: 23 - 33].
فقد أقام عليه الحجة أولا بالآيات التي يستلزم العلم بها العلم بالخالق جل وعلا، فلما عاند وكابر رده إلى دلالة المعجزة التي هي أبلغ في الدلالة على المقصود ليثبت بها كلا الأمرين: الربوبية والرسالة.
وقال تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون} [هود: 13 - 14].
مخ ۱۱
فبين أن المعجزة تدل على الرسالة والوحدانية، فإذا أثبتت المعجزة أحدها فقد أثبتت الآخر.
إجماع الأمم
ومن الأدلة على وجود الخالق جلا وعلا إثبات الأمم كلها له، وإجماعهم على ذلك، بحيث لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم اللهم إلا شذاذ وحثالات لا يعتد لمثلهم بخلاف، ولا يؤبه لمثلهم بقول.
وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات فلم ينقل عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق المخلوقات، ولا مماثل له في جميع الصفات، فضلا عن إنكار الربوبية بالكلية، ولهذا فإن ظاهرة الإلحاد لم تكن فيما مضى إلا شذوذا تخلف به أصحابه عن مواكب العقلاء، وهووا به إلى دركات سحيقة من الضلالة والبهتان.
فقد كفروا بما استكن في الفطر، وتقرر في بداهة العقول، واستفاض في حقائق التاريخ الثابتة والتواتر المضطرد جيلا بعد جيل، فلم يبق عندهم ما نحاكمهم إليه أو نعول في حجاجهم عليه، فضلا عن أنهم لا يملكون على بهتانهم هذا دليلا ولا أثارة من دليل، فالأدلة على بطلان مزاعمهم عدد الرمل والحصى والنجوم، بل عدد ما خلق الله في السماوات والأرض.
فإن حاكمتهم إلى الفطر التي جبلت على الإقرار بخالقها، بحيث لا تملك لذلك دفعا تبين لك ما هم فيه من كفر وعمى.
مخ ۱۲
وإن حاكمتهم إلى بداهة العقول التي تجزم بضرورة الخالق لاستحالة وجود خلق بغير خالق تبين لك ما هم فيه من جحود ومكابرة.
وإن حاكمتهم إلى إجماع الأمم واتفاقها على معرفة الله والإقرار به تبين لك ما هم فيه من شذوذ ومراغمة.
وإن حاكمتهم إلى حقائق التاريخ التي تقطع ببعثة الرسل وتأييد الله لهم بالخوارق تبين لك ما هم فيه من بهت وضلال، فأية شقاوة تعدل هذه الشقاوة؟!، وأي خذلان يعدل هذا الخذلان؟!.
لقد رد هؤلاء الملاحدة فكرة الألوهية من حيث المبدأ، وزعموا أنها فكرة رأسمالية ابتدعها المتسلطون من الأغنياء ليسيطروا بها على الفقراء والكادحين.
ثم نسبوا الخلق إلى الطبيعة، فقالوا إن خلق الإنسان وغيره جاء نتيجة لتفاعلات كيميائية بين المواد المختلفة، وأن هذه التفاعلات قد حدثت صدفة، فإلى الطبيعة والتفاعلات الكيميائية والمصادفة يرد خلق كل شيء.
فما هي الطبيعة إذن، ذلك الوثن الجديد؟!.
الجواب: إنها جماع الأوثان السابقة التي عبدتها الوثنيات الأولى، ذلك إنها هي هذه المخلوقات بما أودع فيها من خصائص وصفات، كالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والبحار والأنهار، فهي إذن ليست إلا وثنا جديدا جمع الأوثان السابقة.
مخ ۱۳
والسؤال الآن:
لقد خلق الإنسان ذا علم وتدبير وإرادة وقدرة، فهل تملك هذه الطبيعة الجامدة العلم والتدبير والقدرة حتى تكون هي التي منحت ذلك للإنسان؟!
وما الفرق بين هذا القول وبين من يزعم أن اللات والعزى وهبل ومناة هي التي خلقت الإنسان، وزودته بكل ما تميز به عن غيره من المخلوقات؟!.
قال تعالى: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} [مريم: 41 - 42].
وإذا كانت الطبيعة هي الخالقة فكيف سخرت للإنسان، وأصبح سيدا عليها يبني ويهدم ويتصرف بأجزائها كيف يشاء؟! وهي لا تقاوم سيطرة الإنسان، ولا تتمرد عليه، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا!.
قال تعالى: {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون} [الأعراف: 191 - 192].
وقال تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الجاثية: 13].
وقال تعالى: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [لقمان: 20].
مخ ۱۴
إن في القول بأن التفاعل الكيميائي هو الذي جاء بالإنسان مسخا للإنسانية كلها، ذلك أن التفاعل الكيميائي محدود الزمن والنتائج، فمعنى ذلك أن يصبح قيام الإنسان وقعوده وضحكه وبكاؤه ورضاه وغضبه أعمالا ميكانيكية بحتة، تبدأ عند وجود التفاعل الكيميائي اللازم لوجودها وتنتهي بانتهائه، ويقف الإنسان جنبا إلى جنب مع بقية الآلات الميكانيكية التي تتحرك بالأزرار، وتتوقف بالأزرار. بلا عقل ولا إرادة ولا اختيار.
بل ولا معنى إذن لأن يثاب الإنسان على خير، أو يعاقب على شر، لأن الأمر ليس إلا تفاعلات كيميائية أوجدت ما عمل من خير أو من شر.
أما القول بأن ذلك كله قد حدث صدفة فهو من أبين الباطل وأمحل المحال، ذلك أن الصدفة تتنافى مع مبدأ الإحكام والتقدير والتدبير الذي يشهد به كل شيء في هذا الوجود من الذرة إلى المجرة، بل يشهد به واقع القوم أنفسهم، فلو قيل لهم إن كل ما تطلقونه من الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية قد حدث صدفة نتيجة لبعض التفاعلات الكيميائية بين بعض المواد الخام الموجودة بالصدفة في بلادكم من غير تقدير منكم ولا تدبير، فهو لا يشهد لكم بتقدم علمي أو حضاري لفغروا أفواههم دهشة وعجبا، وأوشكوا أن يفتكوا بمن يقول لهم ذلك.
فيا عجبا للإنسان عندما تتخطفه الشياطين! لا يقر للصدفة بخلق مركبة فضائية وتوجيهها إلى الفضاء، ويقر لها بخلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة!.
مخ ۱۵
ومن ناحية أخرى فإن للمصادفة قانونا رياضيا عقليا لا تنفك عنه ولا يمكن الخروج عليه وهو:» أن حفظ المصادفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الإمكانات المتكافئة المتزاحمة «، فكلما قل عدد الأشياء المتزاحمة ازداد حظ المصادفة من النجاح، وكلما كثر عددها قل حظ المصادفة، ويظل يقل حتى يصبح في حكم العدم أو المستحيل، ولنتأمل هذا المثال:
لو أن مطبعة بها نصف مليون حرف مفرقة في صناديقها، فأصابتها هزة أرضية قلبت صناديق هذه الحروف وبعثرتها وخلطتها، فجاء من يخبرنا بأنه قد تألف من اختلاط الحروف بالمصادفة عشر كلمات متفرقة غير مترابطة المعاني، فإن القضية هنا تبدو معقولة وقابلة للتصديق، ولو قيل لنا إن الكلمات العشر ألفت جملة مفيدة كاملة، فإننا نستبعد ذلك ولكن لا نراه مستحيلا.
أما لو قيل لنا إن حروف المطبعة بكاملها تشكلت وكونت عند اختلاطها بالمصادفة كتابا كاملا من 500 صحيفة يتضمن قصيدة واحدة، تؤلف بمجموعها وحدة كاملة مترابطة، منسجمة بألفاظها وأوزانها، لا شك أننا في هذه الحالة نرى الاستحالة بدهية واضحة، والسبب في رؤية الاستحالة يعود إلى قانون الصدفة نفسه.
هذا مع مراعاة أن حروف المطبعة موجودة ومصفوفة في صناديقها، أما القضية في موضوع الكون فإنها من التعقيد لدرجة لا تستطيع أن تحيط بها عقول البشر كافة، مما يجعل الصدفة مستحيلة التصور في حد ذاتها بلة الوقوع.
مخ ۱۶
دلالة العقل
لقد دل القرآن الكريم على الأدلة العقلية التي بها يعرف الخالق وتوحيده وكثير من صفاته جل وعلا، ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام الناس، بل عامة ما يأتي به حذاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها وبما هو أحسن قال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} [الفرقان: 33].
وقد أخطأ من ظن أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين بمجرد الخبر أو بطريقة خطابية بل فيهما من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية ما يقوض كل شبهة، ويذهب كل ريبة، ويبني اليقين في النفوس بعيدا عن سفسطة الفلاسفة وتعقيدات المتكلمين!.
قال الرازي: تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما وجدتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.
هذا وقد سبق أن الأدلة على وجود الله بعدد مخلوقات الله، وأن هذه الأدلة المشاهدة في المخلوقات تقوم على أسس ثلاثة شهد بها العقل، ودل عليها الكتاب والسنة، ولا يمكن لأحد أن يخالف فيها مهما كان دينه أو جنسه أو علمه.
فما هي هذه الأسس؟ وكيف ترغم المكابر على الإقرار بوجود الله؟ (¬1).
مخ ۱۷
الأساس الأول: لكل فعل فاعل
فالعدم لا يخلق شيئا، وهذه ضرورة عقلية وحقيقة شرعية، شهدت بها بداهة العقول، وأثبتها كتاب رب العالمين.
قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون} [الطور: 35 - 36].
وكيف يمكن لعاقل أن يجحد هذه الحقيقة وقد شهد بها حذاؤه الذي ينتعله، والثوب الذي يلبسه، والسيارة التي تقله، والمظلة التي تقيه حر الشمس، بل وطعامه وشرابه وكل شيء حوله، فهو لا يعقل وجود شيء من هذه الأشياء بدون صانع أوجده وهيأه لما أعد له من منفعة.
وإننا إذا طبقنا هذا الأساس، وشاهدنا ما لا يحصى من الأحداث التي تقع كل يوم في هذا الكون الفسيح، أيقنت عقولنا بأن لكل فعل منها فاعلا لا محالة.
الأساس الثاني: الفعل مرآة لقدرة فاعله وبعض صفاته
ذلك بأن بين الفعل والفاعل علاقة قوية، فلا يكون شيء في الفعل إلا ولدى الفاعل قدرة على فعله، فإذا شاهدنا مصباحا كهربائيا عرفنا أن لدى صانع ذلك المصباح زجاجا وأسلاكا، وأن لديه قدرة على تشكيل الزجاج والأسلاك في الشكل الذي نراه في المصباح، وأن لديه خبرة بالكهرباء.
مخ ۱۸
وإذا شاهدنا سيارة متحركة تسير في الطرقات المعبدة وتتحرك عند اللزوم، وتتوقف في المكان المعلوم، وتدور في المكان المعد للدوران، عرفنا أن سائق السيارة عاقل مفكر، وأن له إرادة حكيمة أحكمت توجيه السيارة، وأنه عليم بطرق قيادة السيارات.
وهكذا عرفنا شيئا من قدرة الصانع والسائق وصفاتهما من الآثار المشاهدة لأفعالهما أمامنا، وبهذا كان الفعل مرآة لقدرة فاعله وبعض صفاته.
وقد دلنا القرآن الكريم على هذا الأساس العقلي، فحثنا على النظر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، لكي نتعرف من خلال هذا النظر على كثير من صفات الخالق الحكيم جل وعلا.
قال تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون * وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين * فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير} [الروم: 48 - 50].
مخ ۱۹
فظاهرة تكون المطر، ثم سوقه إلى الأرض الميتة، ثم حياة الأرض به من بعد موتها، تدل على وجود الصانع وعموم قدرته، خاصة على إحياء الموتى، كما تدل على رحمته جل وعلا، ولهذا قال تعالى بعد ذكر هذه الظواهر: {فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل ... شيء قدير} [الروم: 50]، فالتعرف على بعض صفات الفاعل من خلال مشاهدة أفعاله وآثاره منهاج عقلي وشرعي، يحسه العقل بالضرورة، وتحث عليه النصوص الشرعية، وتعتمده أساسا هاما تقيم عليه كثيرا من حقائق الإيمان، وبتطبيق هذا الأساس نجد أن هذا الكون الكبير.
- يشهد بوجوده على أنه من صنع موجود دائم.
- وبعظمة تكوينه على أنه من صنع عظيم قدير.
- وبما فيه من حياة على أنه صنع حي دائم.
- وبما فيه من إحكام وتناسق وترابط على أنه من صنع حكيم عليم.
- وبنظامه الموحد وقوانينه الثابتة على أنه من صنع حاكم واحد مهيمن.
وبذلك تقدم لنا هذه المخلوقات شهادة يقينية على أنها من صنع موجود حكيم عليم عظيم قدير حي دائم لا يعجزه شيء، وبهذا نكون قد انتهينا إلى تقرير الملحد بوجود خالق حكيم عليم قدير عظيم حي مهيمن لا يعجزه شيء.
ولكنه قد يقول: سلمت لكم بوجود خالق لهذا الكون، ولكن هذا الخالق هو الطبيعة كما يقول العلم، وليس هو الله كما يقول الخرافيون من أتباع الأديان!!.
وهنا نأتي إلى الأساس الثالث الذي يقوض آخر معقل للالحاد ويأتي على بنيانه من القواعد!.
الأساس الثالث: لا ينسب الفعل إلى من هو عاجز عنه
وهذه ضرورة عقلية شهد بها العقل ودلت عليها النصوص الشرعية، فلا يعقل أن ينسب إلى الأخرس فصاحة اللسان، وحسن البيان، وإلقاء الخطب البليغة التي تأخذ بمجامع القلوب.
مخ ۲۰
ولا يعقل أن ينسب إلى حيوان لا يعقل أو إلى جاهل غبي أنه قام بإطلاق مركبة فضائية لغزو الفضاء الخارجي والتعرف على كثير من حقائقه.
ولا يعقل أن ينسب إلى بدوي يعيش في مجاهل الصحراء يرعى إبله وغنمه أنه قام بإجراء عملية دقيقة في المخ لاستئصال بعض الأورام الخبيثة، أو أنه ألف كتابا حول الذرة يشرح فيه بالوثائق العلمية كل ما يتعلق بها من حقائق.
كما لا يعقل أن ينسب إلى حجارة صماء القدرة على الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإيصال النفع والضر إلى من تشاء.
قال تعالى: {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين * ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون * إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين * والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولآ أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [الأعراف: 191 - 198].
وقال تعالى: {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} [الفرقان: 3].
مخ ۲۱