Explanation of the Creed of the Predecessors and the People of Hadeeth - Al-Rajhi
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث - الراجحي
ژانرونه
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [١]
رسالة عقيدة السلف وأصحاب الحديث لشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني عقيدة شاملة لعقيدة أهل السنة والجماعة، وفق ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم.
1 / 1
نبذة مختصرة عن رسالة عقيدة السلف وأصحاب الحديث
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى أصحابه ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا إن شاء الله بحوله وقوته نشرع في شرح هذه الرسالة المسماة: عقيدة السلف وأصحاب الحديث، للإمام المحدث المفسر شيخ الإسلام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، وهو من علماء القرن الرابع والخامس الهجري، فإن ولادته عام ثلاث وسبعين وثلاثمائة، ووفاته عام تسع وأربعمائة، وهذه العقيدة شاملة، بين فيها المؤلف ﵀ عقيدة السلف وأصحاب الحديث في ألوهية الرب وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأفاض وتوسع في الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع كصفة الكلام، وناقش أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق، وإن القرآن مخلوق، وبين أن هذا كفر وضلال.
كما تكلم عن صفة النزول وبين أن النصوص فيها متواترة في الصحاح والسنن والمسانيد، وأنه يجب إثبات النزول لله ﷿ على ما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك صفة الاستواء وصفة الرؤية، فهذه الصفات: الكلام والعلو والاستواء والرؤية اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع، ولذلك أفاض فيها المؤلف ﵀.
وهذه الصفات الثلاث هي العلامة الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع، فمن أثبتها فهو من أهل السنة ومن أنكرها فهو من أهل البدع.
وكذلك أيضًا بين عقيدة أهل السنة في عذاب القبر ونعيمه، وفي الجنة والنار، وفي الخير والشر، وفي المقتول هل هو مقتول بأجله، وفي القضاء والقدر، وفي الموت.
كذلك شرح عقيدة أهل السنة في الإيمان، وأنه قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، وبين عقيدة أهل السنة والجماعة في أنهم لا يكفرون بالذنب خلافًا للخوارج والمعتزلة.
وكذلك أيضًا بين عقيدة أهل السنة في الصحابة وأنهم يترضون عنهم ويتولونهم وينزلونهم منازلهم التي تليق بهم بالعدل والإنصاف على حسب النصوص لا بالهوى والتعصب، خلافًا للرافضة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وطعنوا فيهم، وعبدوا أهل البيت، وخلافًا للنواصب الذين نصبوا العداوة لأهل البيت.
وكذلك أيضًا بين عقيدة أهل السنة في وسوسة الشياطين وفي السحر والسحرة، وأن السحر له حقيقة وله خيال، خلافًا لمن قال: ليس منه حقيقة وإنما هو خيال.
وبين آداب أصحاب الحديث وبين علامات أهل البدع وعلامات أهل السنة وبين عواقب العباد، ومشيئة الله، وبين الإرادة وأنها تنقسم إلى نوعين، وتكلم عن الخير والشر، وتكلم عن الهداية وأقسامها، وبين أن أفعال العباد مخلوقة لله خلافًا للمعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه.
وكذلك بين عقيدة أهل السنة في الحوض والكوثر، والشفاعة والبعث بعد الموت، وهو أصل من أصول الإيمان، ومن أنكر البعث فهو كافر بنص القرآن.
وذكر عقيدة السلف من الأخبار الواردة في الأسماء والصفات، وأنهم إذا ثبت الخبر والنقل بالعدول الثقات الضابطين واتصل السند فإنه يعمل به ويقبل في العقائد وفي الأعمال وفي كل شيء، فإذا صح سند الحديث وعدلت رواته ولم يكن فيه شذوذ ولا علة فإنه مقبول في العقائد والأعمال والأخلاق وفي كل شيء، فهي عقيدة أهل السنة والجماعة خلافًا لأهل البدع من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون: لا نقبل خبر الآحاد في العقائد، وهذا مذهب باطل مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فهي عقيدة شاملة بين فيها المؤلف ﵀ عقيدة السلف وأصحاب الحديث وفق ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وما أجمع عليه الصحابة.
1 / 2
ترجمة أبي عثمان الصابوني
1 / 3
نسبه
قال المحقق: [هو أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عامر بن عابد الصابوني النيسابوري الحافظ المفسر المحدث الفقيه الواعظ الملقب بشيخ الإسلام.
وأما لفظ الصابوني، فقد ذكر السمعاني في كتاب الأنساب: أنه نسبة إلى عمل الصابون، وقال: هو بيت كبير بنيسابور الصابونية لعل بعض أجدادهم عمل الصابون فعرفوا به].
هذه الطبعة دراسة وتحقيق الدكتور ناصر الجديع.
قال: [وأما نسبه من جهة أمه فقد ذكر تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، نقلًا عن عبد الغافر الفارسي في كتابه السير في تاريخ نيسابور: أنه النسيب المعمم المخول المدلي من جهة الأمومة إلى الحنفية والفضلية والشيبانية والقرشية والتميمية والمزنية والضبية، من الشعب النازلة إلى الشيخ أبي سعد يحيى بن منصور السلمي الزاهد الأكبر على ما هو مشهور من أنسابهم عند جماعة من العارفين بالأنساب بأنه أبو عثمان إسماعيل بن زين اليت ابنة الشيخ أبي سعد الزاهد ابن أحمد بن مريم بنت أبي سعد الأكبر الزاهد.
1 / 4
مولده ونشأته في طلب العلم
ولد في بوشنج من نواحي هراة في النصف من جماد الآخرة، سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة من الهجرة، قال عبد الغافر الفارسي: كان أبوه عبد الرحمن أبو نصر من كبار الواعظين في نيسابور، ففتك به لأجل التعصب والمذهب وقتل، وإسماعيل بعد حول سبع سنين، وأقعد بمجلس الوعظ مقام أبيه، وحضر أئمة الوقت مجالسه، وأخذ الإمام أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي في تربيته وتهيئة أسبابه، وكان يحضر مجالسه ويثني عليه، وكذلك سائر الأئمة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، والأستاذ الإمام أبو بكر بن فورك، وسائر الأئمة كانوا يحضرون مجلس تذكيره، ويتعجبون من كمال ذكائه وعقله وحسن إيراده الكلام عربيه وفارسيه، وحفظه الأحاديث، حتى كبر وبلغ مبلغ الرجال، ولم يزل يرتفع شأنه حتى صار إلى ما صار إليه، وهو في جميع أوقاته مشتغل بكثرة العبادات ووظائف الطاعات، بالغ في العفاف والسداد وصيانة النفس، معروف بحسن الصلاة، وطول القنوت، واستشعار الهيبة حتى كان يضرب به المثل.
1 / 5
أقوال أهل العلم في الصابوني
وصفه عبد الغافر بأنه الإمام شيخ الإسلام الخطيب المفسر المحدث الواعظ، أوحد وقته في طريقته، وعظ المسلمين في مجالس التذكير سبعين سنة، وخطب وصلى في الجامع -يعني: بنيسابور- نحوًا من عشرين سنة.
وقال: كان أكثر أهل العصر من المشايخ سماعًا وحفظًا ونشرًا لمسموعاته وتصنيفاته وجمعًا وتحريضًا على السماع، وإقامة لمجالس الحديث، سمع الحديث بنيسابور وبسرخس وبهراك وبالشام وبالحجاز وبالجبال، وحدث بكثير من البلاد، وأكثر الناس السماع منه.
وقد ذكره السيوطي والداودي في كتابيهما طبقات المفسرين، وأوردا أنه أقام شهرًا في تفسير آية، وهذا يدل على سعة علمه في تفسير القرآن العظيم، وكان الصابوني ﵀ يحترم الحديث، ويهتم بالأسانيد، فقد حكى الفقيه أبو سعيد السكري عن بعض من يوثق بقوله من الصالحين: أن الصابوني قال: ما رويت خبرًا ولا أثرًا في المجلس إلا وعندي إسناده، وما دخلت بيت الكتب قط إلا على طهارة، وما رويت الحديث ولا عقدت المجلس ولا قعدت للتدريس إلا على طهارة.
وكان ﵀ ينظم الشعر أحيانًا، قال عبد الغافر الفارسي: من فضائله نظم الشعر على ما يليق بالعلماء من غير مبالغة في تعمق يلحقه بالمنهي، وهذا نموذج من شعره، قال ﵀: ما لي أرى الدهر لا يشخو بذي كرم ولا يجود بمعوان ومفضال ولا أرى أحدًا في الناس مشتريًا حسن الثناء بإنعام وإفضال صاروا سواسية في لؤمهم شرعًا كأنما نسجوا فيه بمنوال وقال ﵀: إذا لم أصب من مالكم ونوالكم ولم أسل المعروف منكم ولا البَّر وكنتم عبيدًا للذي أنا عبده فمن أجل ماذا أتعب البدن الحرَّ
1 / 6
أسرته
له ﵀ ولدان هما عبد الله أبو نصر مات في حياة والده في بعض ثغور أذربيجان وهو متوجه إلى الحجاز للحج، والآخر هو عبد الرحمن أبو بكر سمع أباه بنيسابور وسمع الحديث وأسمعه، وعقد مجلس الإملاء وتولى القضاء بأذربيجان، مات بأصبهان في حدود سنة خمسمائة، ومع أن كنية الصابوني أبو عثمان إلا أني لم أجد له ولدًا بهذا الاسم في الكتب التي ترجمت له، وله أخ هو إسحاق بن عبد الرحمن الصابوني أبو يعلى الواعظ، ينوب عنه في الوعظ، سمع الحديث بهراة ونيسابور وبغداد.
كان مولده سنة خمس وسبعين وثلاثمائة للهجرة، ووفاته في ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وأربعمائة للهجرة.
ويتضح مما سبق أن عائلة إسماعيل الصابوني عائلة علم ومعرفة وإرشاد؛ حيث كان أبوه من كبار الواعظين، وكان ابنه عبد الرحمن ممن اشتغل بالحديث وتولى القضاء، وكان أخوه إسحاق ينوب عنه في وعظ الناس، وسمع الحديث بعدة نواحي.
أقول: أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني عالم مفسر محدث فقيه، من أهل السنة والجماعة نشأ في بيت علم، وتتلمذ على العلماء، وأخذ عنه العلم عدد من التلاميذ، وهو من أهل السنة والجماعة، ومن العلماء الذين يشار إليهم بالبنان، ﵀ وتغمده بواسع رحمته.
1 / 7
ذكر سند الرسالة إلى أبي عثمان الصابوني
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن بفضلك ورحمتك.
أخبرنا قاضي القضاة بدمشق نظام الدين عمر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح الصالحي الحنبلي إجازة مشافهة، قال: أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب المقدسي إجازة إن لم يكن سماعًا، قال: أخبرنا الشيخان جمال الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر وأبو عبد الله بن محمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسيين قال الأول: أخبرنا إسماعيل بن أحمد بن الحسين بن محمد العراقي سماعًا، قال: أخبرنا أبو الفتح عبد الله بن أحمد الخرقي وقال الثاني: أخبرنا أحمد بن عبد الدائم وأخبرنا المحدث تاج الدين محمد ابن الحافظ عماد الدين إسماعيل بن محمد بن بغدش البعلي في كتابه، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن الخباز شفاهًا قال: أخبرنا أحمد بن عبد الدائم إجازة إن لم يكن سماعًا، قال: أخبرنا الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي قال: أخبرنا الخرقي سماعًا قال: أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن إسماعيل الصابوني قال: حدثنا والدي شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن فذكره.
وأخبرنا قاضي القضاة عز الدين عبد الرحيم بن محمد بن الفرات الحنفي إجازة مشافهة قال: أخبرنا محمود بن خليفة بن محمد بن خلف المنبجي إجازة قال: أخبرنا الجمال عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر بسنده قال].
هذا سند الكتاب إلى المؤلف ﵀، فالرسالة ثابتة للمؤلف ﵀، والمقصود من ذكر السند أن يتحقق لطالب العلم أن هذه الرسالة للمؤلف وأنها ليست منسوبة إليه، وكثير من أهل البدع يشككون في نسبة كثير من المؤلفات إلى العلماء مع ثبوتها؛ لأنهم يريدون أن يطعنوا في معتقد أهل السنة والجماعة، فتجدهم يشككون في رسالة الإمام أحمد في الرد على الزنادقة، وفي ثبوت الرسالة في الصلاة للإمام أحمد، وهكذا.
فهذا السند الآن يبطل دعواهم، ولولا السند -كما قال عبد الله بن المبارك -لقال من شاء ما شاء، ولهذا قال كثير من المحدثين: بيننا وبينكم القوائم، وهي الإسناد، فالإسناد يبطل دعوى كثير من أهل البدع الذين يطعنون في ثبوت الرسائل والعقائد والكتب إلى الأئمة.
فهذه الرسالة ثابتة بهذا السند إلى الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني وهي من كلامه ﵀.
1 / 8
شرح مقدمة رسالة عقيدة السلف وأصحاب الحديث
قال المصنف ﵀: [الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإني لما وردت آمد طبرستان وبلاد جيلان متوجهًا إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، سألني إخواني في الدين أن أجمع لهم فصولًا في أصول الدين التي استمسك بها الذين مضوا من أئمة الدين، وعلماء المسلمين، والسلف الصالحين، وهدوا ودعوا الناس إليها في كل حين].
قوله: (وهدوا) يعني: هم هدوا الناس وهدوا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونهوا عما يضادها وينافيها جملة المؤمنين المصدقين المتقين، ووالوا في اتباعها، وعادوا فيها، وبدعوا وكفروا من اعتقد غيرها، وأحرزوا لأنفسهم ولمن دعوهم إليها بركتها وخيرها].
قوله: (بركتها) في نسخة بين قوسين زيادة (ويمنها).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأفضوا إلى ما قدموه من ثواب اعتقادهم لها، واستمساكهم بها، وإرشاد العباد إليها، وحملهم إياهم عليها].
في نسخة: (وحملهم وحثهم) زيادة بين قوسين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فاستخرت الله تعالى، وأثبت في هذا الجزء ما تيسر منها على سبيل الاختصار، رجاء أن ينتفع به أولو الألباب والأبصار، والله سبحانه يحقق الظن، ويجزل علينا المن بالتوفيق للصواب، والصدق والهداية، والاستقامة على سبيل الرشد والحق بمنه وفضله].
في نسخة: (بالتوفيق للصواب، والصدق والهداية).
1 / 9
حمد الله والثناء عليه
افتتح المؤلف ﵀ هذه الرسالة بالحمد لله اقتداء بالكتاب العزيز؛ فإن الله ﷾ افتتح كتابه العظيم بالحمد لله رب العالمين.
والحمد هو: الثناء على المحمود بالصفات الاختيارية، أما الثناء عليه فهو بالصفات الجبلية التي جبل الإنسان عليها فإنه يسمى مدحًا، ولا يسمى حمدًا، فإن كان الثناء على الصفات الاختيارية التي يفعلها الموصوف باختياره مع حبه وإجلاله سمي حمدًا، وإن كان الثناء عليه بالصفات الجبلية التي جبل عليها فإنه يسمى مدحًا، والحمد أكثر من المدح، ولهذا قال: الحمد لله رب العالمين، ولم يقل: أمدح الله رب العالمين، فالحمد معناه: الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية مع حبه وإجلاله العظيم، فالله تعالى محمود بصفاته لما له من الصفات العظيمة، ولما له من الأسماء الحسنى، ولما له من النعم العظيمة على عباده، فهو الذي خلقهم وأوجدهم من العدم، ورباهم بنعمه، ومنَّ على المؤمنين بالإسلام والإيمان، وهو محمود على صفاته العظيمة، ومحمود على أسمائه، وهو ﷾ المالك لجميع أنواع المحامد، وهو مستحق لها ﷾، فله ﷾ أنواع المحامد كلها لله ملكًا واستحقاقًا، بخلاف الثناء على المحمود بالصفات التي جبل عليها؛ فالأسد إذا مدحته وقلت: إنه قوي، وإنه مفتول الساعدين هذا يسمى مدحًا ولا يسمى حمدًا؛ لأن الأسد جبله الله وخلقه الله على هذا الصفات، كونه قوي يفترس غيره، فهذه القوة التي أعطاه الله إياها، وجبله عليها بخلاف الإنسان إذا مدحته، قلت: فلان كريم، فلان محسن، فلان يحسن إلى الناس، فلان مقدام شجاع، لا يهاب الأعداء، فهذا صفات اختيارية يفعلها باختياره، ويسمى هذا حمدًا.
(الحمد) أل للاستغراق، أي: أن الله تعالى له جميع أنواع المحامد كلها له ﷾، وهو المالك والمستحق لها.
(الله) لفظ الجلالة لا يسمى به غيره ﷾، أعرف المعارف لفظ الله، فالله معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، الذي تألهه القلوب محبة وإجلالًا وتعظيمًا، وأصل الله الإله، ثم سهلت الهمزة ودمجت اللام في اللام، وتأتي أسماء الله كلها صفات له، كما قال ﷾: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الحشر:٢٢ - ٢٤]، فلفظ الجلالة يأتي أولًا ثم تأتي بعدها الأسماء والصفات، فأعرف المعارف لفظ الجلالة ﷾، ولا يسمى به غيره ﷾.
وأسماء الله قسمان: قسم لا يسمى به إلا هو مثل: الله، الرحمن، رب العالمين، خالق الخلق، مالك الملك.
وقسم يسمى به غيره ويشترك، مثل: العزيز والرحيم والحي والسميع والبصير والملك، هذه أسماء مشتركة تطلق على الله وتطلق على غيره: ﴿قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾ [يوسف:٥١]، ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ﴾ [يوسف:٤٣].
وأسماء الله مشتقة مشتملة على معان، وكل اسم مشتمل على صفة، فالله مشتمل على الألوهية، الرحمن مشتمل صفة الرحمة، العليم صفة العلم، القدير صفة القدرة وهكذا فأسماء الله مشتملة على المعاني وعلى الصفات، بخلاف الصفة، مثلًا: صفة العلم ما يشتق منها اسم يقال له عالم، وإنما الأسماء مشتملة على الصفات والمعاني، وكل اسم مشتمل على الصفة فهي مشتقة.
قوله: (رب العالمين) الرب من أسمائه خاصة، فهو مربيهم بنعمه، هو الذي أوجدهم من العدم، ورباهم بنعمه ﷾، فالله هو الرب وغيره المربوب، وهو الخالق وغيره المخلوق، وهو المالك وغيره المملوك، وهو المدبر وغيره المدَبر، فهو رب العالمين.
و(العالمين) كل ما سوى الله يسمى عالم، فالله تعالى رب المخلوقات كلها، وأنت واحد من ذلك العالم، والعوالم في السماوات والأرضين والبحار والجو، هذه المخلوقات كلها عالم، فكل ما سوى الله عالم والله تعالى رب الجميع.
1 / 10
بيان معنى قوله تعالى: (والعاقبة للمتقين)
قوله: (والعاقبة للمتقين) العاقبة يعني: ما يعقب الشيء ويأتي بعده.
والمتقين: جمع متقي، وهو الذي اتقى غضب الله وسخطه وناره بالإيمان والتوحيد، فالمتقون هم المؤمنون الموحدون، سموا متقين؛ لأنهم يتقون غضب الله وسخطه بإيمانهم وتوحيدهم، وأدائهم الواجبات، وتركهم المحرمات؛ فاستحقوا هذا الاسم؛ كما قال سبحانه في أول سورة البقرة: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:٢]، ثم ذكر أوصافهم، فقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة:٣ - ٥].
فالعاقبة الحميدة للمتقين، من اتقى الله ووحده وأخلص له العبادة، واتقى الشرك والمحرمات، وأدى الواجبات، فالعاقبة الحميدة له، لهم في الدنيا النصر والغلبة والتأييد، وفي الآخرة هم أهل الجنة وأهل الكرامة الذين ﵃، وأسكنهم جنته، وأحل عليم رضوانه.
1 / 11
معنى الصلاة على النبي وآله وأصحابه
قوله: (وصلى الله على محمد) صلاة الله على عبده أحسن ما قيل في تفسيرها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية - وهو تابعي جليل- قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، فأنت تدعو الله وتسأله أن يصلي على نبيه، أي: يثني عليه في الملأ الأعلى، تقول: اللهم أثني على عبدك ورسولك محمد في الملأ الأعلى.
وهم الملائكة.
قوله: (وعلى آله) آله هم أتباعه على دينه، ويدخل في الآل ذريته وقرابته والمؤمنون وأزواجه والصحابة كلهم، وتطلق الآل على الذرية الأقارب، ويشمل الأزواج وأتباعه على دينه إلى يوم القيامة، فكل من تبعه على دينه فهو من آله ﵊، والصحابة يدخلون في ذلك دخولًا أوليًا.
قوله: (وأصحابه الكرام) عطف الأصحاب على الآل من عطف الخاص على العام، فالصحابة صلى عليهم مرتين: مرة بالعموم في قوله: (وعلى آله) والمرة الثانية بالخصوص في قوله: (وأصحابه).
قوله: (الكرام) يعني: الذين اتصفوا بصفة الكرم، والصحابة لا شك أنهم أكرم الناس بعد الأنبياء، ومن كرمهم: أنهم سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، وإنفاق أموالهم، وبذلوا علمهم، ونشروا دين الله، وبذلوا أرواحهم رخيصة في الجهاد في سبيل الله، وبذلوا أموالهم في سبيل، هل هناك أعظم من هذا الكرم؟! فالصحابة أكرم الناس بعد الأنبياء، ﵃ وأرضاهم.
1 / 12
المراد بكلمة (أما بعد)
قوله: (أما بعد) هذه كلمة يؤتى بها للدخول في الموضوع الذي يريد أن يتكلم الإنسان فيه، ويؤتى بها للفصل ما بين السابق واللاحق، كأن المؤلف انتقل من الخطبة إلى الدخول في صلب الموضوع.
وكان النبي ﷺ يقول في خطبه الكثيرة: أما بعد، وثبت عنه ﷺ أنه كان يقول يوم الجمعة: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها).
وقد اختلف في أول من قال: أما بعد، فقيل: أول من قالها داود ﵊، وقيل: إنها من فصل الخطاب الذي أوتيه داود ﵊، وقيل: أول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، وعلى كل حال، فأما بعد كان النبي ﷺ يستعملها في خطبه ورسائله، من ذلك: أنه ﵊ لما كتب لملك الروم قال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من ابتع الهدى.
أما بعد: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب! تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا)، فالنبي ﷺ كان يأتي بها في خطبه ورسائله، فينبغي الاقتداء به ﵊، وبعض الخطباء وبعض الكتاب يقول: وبعد، لكن (أما بعد) أحسن.
1 / 13
ذكر سبب تأليف الرسالة
قال المؤلف ﵀ مبينًا سبب تأليفه هذه الرسالة: (فإني لما وردت آمد طبرستان وبلاد جيلان متوجهًا إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه ﷺ، وأصحابه الكرام، سألني إخواني في الدين أن أجمع لهم فصولًا في أصول الدين).
إذًا هذه الرسالة جواب لسؤال موجه من بعض الإخوان في الدين إلى أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، حيث طلبوا منه أن يجمع لهم فصولًا في أصول الدين التي استمسك بها أئمة الدين وعلماء المسلمين، فأجابهم وكتب هذه الرسالة، وبين فيها معتقد أهل السنة والجماعة في ألوهية الله وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان، والجنة والنار، والبعث بعد الموت، والصحابة، والخير والشر إلى غير ذلك.
أما قول المؤلف ﵀: (متوجهًا إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه محمد ﷺ، هذا مما يلاحظ على المؤلف ﵀؛ فإنه لا يشرع شد الرحل إلى زيارة قبر النبي ﷺ، ولا يشرع السفر لزيارة القبر بهذه النية، وإنما المشروع أن يشد الرحل وأن ينوي السفر لزيارة مسجد النبي ﷺ، ثم إذا وصل إلى مسجد النبي ﷺ وصلى فيه ركعتين زار قبر النبي ﷺ وقبر صاحبيه، هذا هو المشروع؛ لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)، والحديث رواه الشيخان وغيرهما، فالسفر إنما ينشأ لزيارة المسجد النبوي، وإن مشى في زيارة المسجد ولزيارة القبر بالنية فلا بأس، أما أن تكون النية لأجل زيارة القبور فقط فهذا ممنوع، وإنما تكون النية لزيارة مسجد النبي ﷺ، وقد ذكر المحقق في هذا كلام شيخ الإسلام ﵀ فقال: بسط شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ هذا الموضوع في مجموع الفتاوى، وفيه قوله: (وما ذكره السائل من الأحاديث في زيارة قبر النبي ﷺ فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم في الحديث، بل هي موضوعة، لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئًا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها، بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة، كره أن يقول الرجل: زرت قبره ﷺ، ولو كان هذا اللفظ معروفًا عندهم أو مشروعًا أو مأثورًا عن النبي ﷺ لما جهله عالم المدينة) انتهى.
فإذًا: الأولى أن يقول المؤلف ﵀: متوجهًا إلى بيت الله الحرام، وزيارة مسجد النبي ﷺ.
قوله: (التي استمسك بها الذين مضوا من أئمة الدين وعلماء المسلمين والسلف الصالحين)، بدأ بالأئمة ثم العلماء ثم السلف، والسلف هم الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهم صدر هذه الأمة.
قوله: (وهدوا) يعني: الذين هداهم الله.
قوله: (ودعوا الناس إليها في كل حين) يعني: لابد أن يوجد في كل زمان من يقوم بالحق ويظهره ويدعو إليه ويستمسك به؛ لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ﵎.
قوله: (ونهوا عما يضادها) يعني: أن هؤلاء الأئمة وهؤلاء العلماء وهؤلاء السلف نهوا عما يضاد أصول الدين، وهي البدع.
قوله: (وينافيها جملة المؤمنين المصدقين المتقين) لأنهم هم الذين يقبلون وينتفعون بخلاف غير المؤمنين فلا يقبلون، وإن كانت الدعوة عامة لكل أحد؛ لكن خص المؤلف ﵀ جملة المؤمنين المصدقين المتقين؛ لأنهم هم الذين يقبلون وينتفعون بالنصائح والمواعظ.
قوله: (ووالوا في اتباعها) يعني: والوا المؤمنين في اتباع هذه الأصول؛ من الإيمان بالله والملائكة، والكتب المنزلة، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والصراط والميزان والحوض والجنة والنار، والإيمان بربوبية الله وألوهيته وأسمائه وصفاته، فهذه الأصول والوا من اتبعها وآمن بها وجعلوه من أحبابهم.
قوله: (وعادوا فيها) أي أن من خالف هذه الأصول وتنكر لها عادوه وأبغضوه.
قوله: (وبدعوا وكفروا من اعتقد غيرها) أي: بدعوا وكفروا من اعتقد من لم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
قوله: (وأحرزوا لأنفسهم ولمن دعوهم إليها بركتها ويمنها وخيرها)، يعني: حصلت لهم البركة والخير والفضل والأجر والثواب بسبب إيمانهم بهذه الأصول، وموالاتهم عليها، ومعاداتهم لمن خالفها.
قوله: (وأفضوا إلى ما قدموه من ثواب اعتقادهم لها، واستمساكهم بها وإرشاد العباد إليها، وحملهم إياهم عليها)، لما توفاهم الله وانتهت آجالهم قدموا على ما قدموا من خير عظيم، ووجدوا ثواب اعتقادهم لها واستمساكهم بها، وإرشاد العباد إليها؛ لأنهم حينما دعوا إلى هذا الخير وانتفع الناس بهم صار لهم مثل أجورهم، يقول النبي ﷺ: (من دعا إلى هدى كان له من الخير مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)، فهؤلاء العلماء والأئمة والسلف الذين دعوا إلى أصول الدين، وإلى الإيمان بما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ مما يجب اعتقاده؛ حصلت لهم بركة هذه الدعوة وخيرها، وأفضوا إلى ما قدموه من ثواب اعتقادهم لها، واستمساكهم بها.
قوله: (فاستخرت الله تعالى، وأثبت في هذا الجزء ما تيسر منها على سبيل الاختصار).
يقول المؤلف ﵀: لما سألني هؤلاء الإخوان أن أكتب لهم أصولًا في الدين التي تمسك بها الأئمة، ودعوا إليها، ونهوا عما يضادها، وأفضوا إلى الثواب والأجر الذي حصل لهم بسبب نشرهم لدين الله، ودعوتهم إلى توحيد الله، استخرت الله، والاستخارة مشروعة في الأمور التي قد يكون فيها إشكال، والنبي ﷺ شرع الاستخارة وقال: (إذا كان لأحدكم أمر فليصل ركعتين من غير الفريضة ثم ليدع، فيقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم إلخ)، فالاستخارة مشروعة في الأمور التي يكون فيها إشكال، أما الأمور الواضحة فليس فيها استخارة، فلا تستخير هل تصلي الجماعة أو ما تصلي، ما تستخير في صوم رمضان في دفع الزكاة في الحج، قال العلماء: إلا إذا كان الحج عن طريق ليس بآمن، فهو يستخير: هل يحج هذا العام أو لا يحج، لكن الأمور التي فيها إشكال تستخير الله: أتتزوج من آل فلان، أتدخل في هذه التجارة مع فلان.
فالمؤلف ﵀ استخار، لكن كونه يكتب عقيدة أهل السنة والجماعة هل فيها إشكال؟ نعم.
قد يقال: إنه يستخير؛ لأن المؤلفات في العقيدة كثيرة، فهو أشكل عليه الأمر هل الكتابة في هذا الأمر لها فائدة أو ليست لها فائدة؟ لأن العلماء كفوا وكتبوا في هذا الموضوع، فأشكل عليه الأمر، فلهذا قال: استخرت الله تعالى، ثم لما استخار ترجح له أن يكتب هذه الرسالة.
فالإنسان يستخير في الشيء الذي يشكل عليه ويستشير أيضًا، ويمضي لما يشرح صدره له؛ وإذا لم يتبين له شيء يعيد الاستخارة ويكررها وهكذا.
المؤلف ﵀ كان أشكل عليه أن يكتب هذه الرسالة في العقيدة؛ لأن العلماء قد كفوه وكتبوا مؤلفات، فهل تكون الرسالة لها فائدة أو لا تكون؟ لأن العلماء كفوه وكتبوا رسائل ومؤلفات، ثم بعد الاستخارة ترجح له أن يكتب؛ لأن هذا الرسالة مختصرة لمعتقد أهل الحديث وأهل السنة، فهي تلخيص لما كتبه العلماء، فلهذا ترجح للمؤلف ﵀ بعد الاستخارة أن يكتب هذه الرسالة؛ لأن الرسائل السابقة قد تكون طويلة، وهذه الرسالة مختصرة يستطيع طالب العلم أن يحفظها ويستوعبها في وقت وجيز، ولهذا ترجح للمؤلف ﵀ الاستخارة فقال: (فاستخرت الله، تعالى وأثبت في هذا الجزء ما تيسر منها على سبيل الاختصار)، فهو اختصر هذه العقيدة ولخصها من كلام أهل العلم.
وقوله: (رجاء أن ينتفع بها أولو الألباب والأبصار) الرجاء الانتفاع، وإذا انتفع بها صار له مثل أجره، فلهذا أقدم المؤلف ﵀ على هذه الكتابة.
قوله: (أولوا الألباب والأبصار) يعني: أصحاب العقول؛ كما قال الله تعالى في كتابه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [الزمر:٢١] فأصحاب العقول السليمة أرشدهم الله إلى توحيده، وإخلاص الدين له، وقبول الحق، وأولو الألباب هم الذين ينتفعون، أما من لم يرد الله هدايته فلا حيلة فيه إن لم يوفق ولم يرزق عقلًا سليمًا ولبًا من الألباب التي يرشده إلى قبول الحق).
قوله: (والله ﷾ يحقق الظن، ويجزل علينا المن بالتوفيق للصواب والصدق والهداية والاستقامة على سبيل الرشد والحق بمنه وفضله) هذا دعاء من المؤلف ﵀ بأن يحقق الله له ظنه، ويجزل عليه المن، فيمن عليه بالتوفيق للصواب فيما كتبه، وأن يمن عليه بالصدق والهداية والاستقامة على سبيل الرشد والحق بمنه وفضله، ونرجو أن الله تعالى قد حقق للمؤلف ما أراد إن شاء الله.
1 / 14
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [٢]
يتميز أهل السنة والجماعة بأنهم يشهدون لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، ويعرفون ربهم بصفاته التي نطق الله بها في الكتاب والسنة، فيثبتون ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله في سنته الصحيحة.
2 / 1
صفات أصحاب الحديث
قال المصنف ﵀: [قلت وبالله التوفيق: إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة -حفظ الله تعالى أحياءهم ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول ﷺ بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم ﷿ بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله].
أو شهد له بها رسوله ﷺ على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له ﷻ ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ، ولا يعتقدون تشبيهًا لصفاته بصفات خلقه.
قوله: (قلت وبالله التوفيق) التوفيق هو أن يوفق الإنسان للصواب، وأن يجعله الله يقول بالحق ويعمل به.
2 / 2
التمسك بالكتاب والسنة
قوله: (إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة) أوحى الله ﷾ إلى نبيه الكريم وحيين: الوحي الأول: القرآن، أوحاه إلى نبيه ﷺ بلفظه ومعناه، فهو كلام الله لفظه ومعناه، والوحي الثاني: السنة المطهرة، وهي نوعان: النوع الأول: الحديث القدسي، وهذا من كلام الله لفظًا ومعنى، كما في حديث أبي ذر عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه ﷿ أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا) فهذا حديث قدسي نسبه النبي ﷺ إلى ربه ﷿، فهو من كلام الله لفظًا ومعنى.
والنوع الثاني: الحديث غير القدسي، فهذا من كلام الله معنى، ومن كلام النبي ﷺ لفظًا، كقوله ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فهذا الحديث وحي من الله، إلا أن لفظ الحديث من النبي ﷺ قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣ - ٤]، فالحديث لفظه من الرسول ﷺ ومعناه من الله، أما الحديث القدسي فلفظه ومعناه من الله، مثل القرآن، إلا أن له أحكامًا تختلف عن القرآن: - فالقرآن يتعبد بتلاوته، والحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته.
- القرآن يقرأ في الصلاة، والحديث القدسي لا يقرأ في الصلاة.
- القرآن معجز بلفظه ومعناه، والحديث القدسي قد لا يكون له وصف الإعجاز.
- القرآن لا يمسه إلا المتوضئ، والحديث القدسي يمسه غير المتوضئ.
أما السنة فلها مع القرآن على أحوال ثلاثة: الحالة الأولى: أنها تبين المجمل، مثل الصلاة: جاء في القرآن: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة:٤٣]، جاءت السنة وفصلت الصلاة، وبينت أن الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة، وبينت عدد ركعات الصلاة؛ إذ ليس في القرآن أن صلاة الظهر أربعًا، وصلاة العصر أربعًا، وصلاة المغرب ثلاثًا فالسنة وضحت وفصلت هذا الإجمال.
كذلك الزكاة أوجبها الله في القرآن، وجاءت السنة وفصلت وبينت أن لا زكاة في المال حتى يحول عليه الحول، وأنه لابد من النصاب.
كذلك الحج جاء في القرآن، وجاءت السنة وفصلت هذه المناسك.
الحالة الثانية: أن تقيد المطلق وتخصص العام.
الحالة الثالثة: أن تأتي بأحكام جديدة ليست في القرآن؛ كتحريم كل ذي ناب من السباع، وتحريم كل ذي مخلب من الطير، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والجمع بين المرأة وخالتها، هذه أحكام ليست في القرآن جاءت بها السنة، فالسنة وحي ثان، قال النبي ﷺ: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه).
قوله: (حفظ الله أحياءهم، ورحم أمواتهم)، هذا دعاء من المؤلف لأهل الحديث بأن يحفظ الله الأحياء ويرحم الأموات.
2 / 3
الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة
قوله: (يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول ﷺ بالرسالة والنبوة).
هذا أصل الدين وأساس الملة، أن تشهد لله تعالى بالوحدانية، ولنبيه ﷺ بالرسالة والنبوة.
ومعنى شاهدة أن لا إله إلا الله أن تشهد لله تعالى بالوحدانية، وأن الله واحد في ربوبيته، وألوهيته وأسمائه وصفاته، فهو ﷾ واجب الوجود بذاته، وهو فوق العرش، وهو الرب وغيره مربوب، وهو الخالق وغيره مخلوق، وهو المالك وغيره مملوك، وهو المدبر وغيره المدبَر، وكذلك تشهد لله تعالى بالوحدانية في أسمائه وصفاته، وأنه ليس له شريك في أسمائه وصفاته، كما قال: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف:١٨٠]، وليس له شريك في أفعاله أيضًا، وليس له شريك في ألوهيته وعبادته، فهو مستحق العبادة وغيره لا يستحق شيئًا من العبادة، فلا يستحق العبادة أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وتشهد لنبيه الكريم ﵊ بالرسالة والنبوة، ومن لم يشهد لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة فليس بمؤمن.
ومعنى أن تشهد لله تعالى بالوحدانية: أن تنطق بلسانك وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وتعتقد بقلبك وتصدق بأن الله هو الرب وغيره مربوب، وأنه الخالق وغيره مخلوق، وأنه المالك وغيره مملوك، وأنه المدبر وغيره المدَبر، وتشهد بأن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى التي لا يشاركه فيها أحد، وتشهد بأن الله هو مستحق العبادة بجميع أنواعها، لا يستحقها غيره لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فالله تعالى هو المعبود بالحق، هو الذي يدعى ولا يدعى غيره، يذبح له وينذر ويتوكل عليه ويرجى ويخاف منه، والعبادة حق الله لا يستحقها النبي ﷺ ولا جبريل ولا غيره، ومن صرف شيئًا من أنواع العبادة لغيره فهو مشرك كافر وتنتقض عليه الشهادة، فمن قال: لا إله إلا الله، ثم دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، بطلت شهادته.
الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه ﷺ بالرسالة أصل الدين وأساس الملة، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، تشهد بربوبية الله، وبألوهيته، وبأسمائه وصفاته، فلا تصرف شيئًا منها لغير الله، ولا يقع في عمل الشرك حتى لا تنتقض عليه العبادة، الشهادة لله تعالى بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله بشرط ألا يفعل الإنسان ناقضًا من نواقض الإسلام، فإن فعل ناقضًا من نواقض الإسلام بطلت هذه الشهادة؛ كما يتوضأ الإنسان أحسن الوضوء يتطهر أحسن الطاهرة ثم خرج منه بول أو غائط أو ريح فقد بطلت الطهارة، فكذلك إذا شهد لله تعالى بالوحدانية، ثم دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو فعل ناقضًا من نواقض الإسلام بأن اعتقد أن الصلاة غير واجبة، أو الحج غير واجب، أو الصوم غير واجب، أو أن الزنا ليس بمحرم، أو أنكر تحريم الربا أو الزنا أو الخمر أو عقوق الوالدين أو ما هو معلوم من الدين بالضرورة بطلت الشهادة وانتقضت.
2 / 4
الشهادة للنبي بالرسالة
ومعنى الشهادة للنبي ﷺ بالرسالة والنبوة: أن تشهد أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العربي المكي ثم المدني هو رسول الله حقًا، وأن رسالته عامة للعرب وللعجم وللجن والإنس، وأنه خاتم النبيين ليس بعده نبي، فمن قال: إن رسالته خاصة بالعرب أو بالإنس أو بعده نبي فهو كافر بإجماع المسلمين ولا تنفعه، وتبطل شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن من شرط الشهادتان: أنه لابد منهما جميعًا، فهما متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فمن شهد: أن لا إله إلا الله، ولم يشهد أن محمدًا رسول لم تقبل منه، ومن شهد: أن محمدًا رسول الله، ولم يشهد أن لا إله إلا الله لم تقبل منه، حتى يشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمدًا رسول الله، فمن قال: إن محمدًا ﵊ ليس بعده نبي، أو ليست رسالته عامة، لا تنفعه شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأنه لم يأت بشرطها، ولذلك لما أنكر اليهود والنصارى رسالة محمد ﷺ وهم يزعمون أنهم يؤمنون بالله، بين الله أن إيمانهم لا شيء، وأنه لا قيمة له، فقال سبحانه: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة:٢٩]، فنفى عنهم الإيمان وقال: «لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»، وهم يزعمون أنهم يؤمنون بالله، لكن لما لم يؤمنوا بمحمد ﷺ نفى الله عنهم الإيمان.
كذلك يشهدون أن محمدًا رسول الله، ويصدقونه في أخباره ﵊، ويمتثلون أوامره، ويجتنبون نواهيه، ويتعبدون لله بما شرعه.
2 / 5
معرفة صفات الله بوحيه وتنزيله
قوله: (ويعرفون ربهم ﷿ بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله)، من عقيدة أصحاب: الحديث أنهم يعرفون ربهم بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، فالله تعالى وصف نفسه بأنه الحي القيوم، وأنه الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، ووصف نفسه بالعلم والسمع والبصر والقدرة قال الله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الحشر:٢٢]، يعرفون ربهم بأنه ﷾ لا إله إلا هو، لا معبود بحق سواه، وأنه عالم الغيب والشهادة، وأنه الرحمن الرحيم: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر:٢٣]، يعرفونه بأسمائه: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الحشر:٢٣ - ٢٤] يؤمنون بذلك.
قوله: (أو شهد له بها رسوله ﷺ على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه)، فما ورد في السنة من الأسماء والصفات يجب إثباتها لله ﷿، فإذا ثبت وصح سند الحديث، وعدلت الرواة، ولم يكن شاذًا ولا معللًا فيجب إثبات ما ورد في السنة من أسماء الله وصفاته، ولذلك قيد المؤلف الأخبار -يعني: الأحاديث- بالصحاح، وهي جمع صحيح، يعني: الحديث الصحيح، أما الحديث الضعيف فلا، كما لو كان الحديث في سنده انقطاع أو راو ضعيف في الحفظ أو الديانة فلا يصح الحديث ولا يقبل ما دل عليه، لابد أن يكون الحديث صحيحًا.
وشروط الحديث الصحيح عند المحدثين: أن يكون متصل السند، وأن يكون الرواة عدول ثقات ضابطين، وألا يكون الحديث فيه شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة ولأصول الشريعة، وألا يخالف الثقة من هو أوثق منه، وألا يكون الحديث فيه علة قادحة ظاهرة أو خفية، فإذا وجدت هذه الشروط فإن الحديث صحيح، ويجب قبوله، والعمل بما دل عليه في العقائد والأخلاق والأعمال وكل شيء، خلافًا لأهل البدع من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون: إنما يقبل خبر الآحاد في الأعمال، أما العقائد فلا يقبل فيها أخبار الآحاد، وهذا منهج باطل.
ولقد بوب البخاري ﵀ في صحيحه بابًا سماه: باب أخبار الآحاد، وذكر نصوصًا كثيرة في قبول خبر الآحاد، والنبي ﷺ كان يرسل كتبه إلى الملوك والرؤساء، والذي يرسله واحد، ومع ذلك يقبل خبر الواحد.
2 / 6