Exemption from Fasting During Ramadan Travel and Its Consequences
رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار
خپرندوی
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ژانرونه
رُخصَة الفِطر في سَفر رَمَضَانَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الآَثَارِ
لفضيلة الدكتور أحمد طه ريان الأستاذ المساعد بكلية الحديث
الحلقة الأولى
تقديم:
الحمد لله رب العالمين، وسعت رحمته كل شيء من خلقه، وتجلت رأفته لأهل طاعته ومحبته، حيث وفقهم لعبادته، ثم أحسن إليهم بقبولها، وأجزل لهم المثوبة عليها، ففازوا بالسعادتين نعمة الطاعة في الدنيا، ونعمة الرضا والتكريم في دار النعيم، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإننا سنعرض في هذا التقديم -بإيجاز- لبيان أهمية هذا البحث ثم لدور السنة فيه، ثم بعد ذلك نعالج موضوع البحث في ثلاثة أصول، يشتمل كل منها على عدة مطالب، نتناول في الفصل الأول: رخصة الفطر في السفر، مبينًا كل جوانبها الهامة، ثم نتناول في الفصل الثاني: كيفية العمل بهذه الرخصة من بداية السفر إلى نهايته، وبعد ذلك نتناول في الفصل الثالث: بيان أهم الآثار المترتبة على الآخذ بهذه الرخصة، ثم نختم البحث بذكر أهم النتائج التي أمكن الوصول إليها من خلال هذا البحث، فتقول: وبالله التوفيق.
أهمية هذا البحث: تتبين أهمية هذا البحث من خلال ارتباطه بالأمور الثلاثة الآتية:
أهمية هذا البحث: تتبين أهمية هذا البحث من خلال ارتباطه بالأمور الثلاثة الآتية:
49 / 82
الأمر الأول:
إنه يتناول بالتفصيل رخصة الفطر في السفر باعتبارها تطبيقًا جزئيًا لقاعدة هامة من قواعد الشريعة الإسلامية، ألا وهي قاعدة رفع الحرج، تلك القاعدة التي تعتبر من الحصون المنيعة التي أقامها رب العزة ﵎ للدفاع عن الشريعة الإسلامية ضد أعدائها الرامين لها بكثرة التكاليف وشدتها، كما أنها من جملة البراهين الساطعة الدالة على سماحة تعاليم الإسلام ويسرها، ومناسبتها لكل الظروف والأحوال، لذلك كانت هذه القاعدة وما تشتمل عليه من تطبيقات جديرة بأن يسجلها القرآن الكريم في كثير من آياته، مثل قوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة/٢٨٦)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج/٧٨)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (البقرة/١٨٥)، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ (النساء/١٠١) وقوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ (النساء/١٧٩) .
الأمر الثاني:
إن هذا البحث يتناول أهم الأحكام المتصلة بجانب حيوي من جوانب الحياة الإنسانية، وهو السفر، وهو جانب لا يمكن الاستغناء عنه، وكيف يمكن الاستغناء عنه وقد جعله الإسلام واجبًا في كثير من التشريعات العملية، فالحج فريضة على كل مسلم مستطيع، ولا يمكن تأديته لأكثر المسلمين إلا بالسفر، والوسيلة إلى تحقيق الواجب واجبة، ويقال هذا أيضا في الجهاد لمن تعين عليه.
كما أن السفر ضرورة من ضرورات الحياة، إذ هو الوسيلة لتنمية التجارات، وتشغيل الصناعات، وطلب العلوم والمعارف، كما أنه من أهم الوسائل الموصلة إلى العلم بالله والتعرف على آياته، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..﴾ (العنكبوت/٢٠) .
ومع ضرورته ولزومه، فإنه لا يمكن فصله أو تجريده من المشقات التي تصاحبه في كل مرحلة من مراحله، من بدء التفكير فيه إلى الانتهاء منه، لذلك منَّ الله على الخلق بتهيئة السبل والوسائل التي تيسر لهم تحقيق غايتهم منه، قال تعالى: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (النحل/٧) .
فلولا ما اقتضته رحمته تعالى بخلقه ورأفته بهم، من شرعية هذه التيسيرات –المتمثلة
49 / 83
في رخصتي الفطر والقصر وما يتعلق بهما- لقعد المسلمون عن السفر، وتعطلت كثير من الفرائض، وكسدت التجارات وجمدت العقول.
ثم يأتي الأمر الثالث:
والذي يمسس هذا البحث جانبًا هامًا منه وهو الصوم، تلك الشعيرة الربانية، والعبادة الصمدانية، التي أضافها الرب ﵎ إلى نفسه تعظيمًا لها، وتشريفًا لفاعلها، ووعد المتصفين بها، بأنه سيتولى مثوبتهم بنفسه، ولن يوكل أمرهم إلى أحد من ملائكته.
فهذه العناية الإلهية بأمر الصوم والصائمين، تلزم أهل العلم -كل على قدر طاقته- أن يعطوا هذه الفريضة ما تستحقه ما اهتمام سواء بإيضاح ما تنطوي عليه من أسرار عظيمة، أو ببيان ما تشتمل عليه من أحكام جزئية، أو مسائل فرعية.
لذلك كله وغيره كان هذا الموضوع جديرًا بما يبذل فيه من جهد أو ينفق فيه من وقت، ونسأله سبحانه أن يجعله عملًا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يوفقنا إلى تحقيق الغاية المرجوة منه وأن ينفع المسلمين به.
دور السنة في هذه الرخصة: تعتبر آية البقرة: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ الآية، هي الأصل الأصيل لهذه الرخصة، ولم يقتصر دورها على التأصيل والتأسيس، بل إننا سنرى ضوؤها يشع في كثير من الفروع والآثار التي انبثقت عنها أو ترتبت عليها. أما دور السنة في هذه الرخصة، فقد كان في أكثر الأحايين هو التبيين والتوضيح لما أجملته الآية السابقة من قواعد وأحكام، كبيان المراد من السفر الذي يباح فيه القصر أو الفطر، أو دور التقييد والتخصيص لما جاء مطلقًا أو عامًا من الفروع والجزئيات، كتحديد بداية العمل بالرخصة ونهايته. كما أننا سنجد أنها قامت بدور التأكيد لما أفادته الآية، فقد جاء في حديث حمزة ابن عمرو الأسلمي حينما سأل النبي ﷺ عن الصيام في السفر قال: "هي رخصة من الله" ١، وهو نفس المعنى المستفاد من الآية السابقة. وأخيرا فإننا سنجد أنها قامت بدور التأسيس أو الإنشاء لأحكام لم تستفد من الآية٣ _________ ١ صحيح مسلم ج١ ص ١٤٥ دار التحرير- القاهرة.
دور السنة في هذه الرخصة: تعتبر آية البقرة: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ الآية، هي الأصل الأصيل لهذه الرخصة، ولم يقتصر دورها على التأصيل والتأسيس، بل إننا سنرى ضوؤها يشع في كثير من الفروع والآثار التي انبثقت عنها أو ترتبت عليها. أما دور السنة في هذه الرخصة، فقد كان في أكثر الأحايين هو التبيين والتوضيح لما أجملته الآية السابقة من قواعد وأحكام، كبيان المراد من السفر الذي يباح فيه القصر أو الفطر، أو دور التقييد والتخصيص لما جاء مطلقًا أو عامًا من الفروع والجزئيات، كتحديد بداية العمل بالرخصة ونهايته. كما أننا سنجد أنها قامت بدور التأكيد لما أفادته الآية، فقد جاء في حديث حمزة ابن عمرو الأسلمي حينما سأل النبي ﷺ عن الصيام في السفر قال: "هي رخصة من الله" ١، وهو نفس المعنى المستفاد من الآية السابقة. وأخيرا فإننا سنجد أنها قامت بدور التأسيس أو الإنشاء لأحكام لم تستفد من الآية٣ _________ ١ صحيح مسلم ج١ ص ١٤٥ دار التحرير- القاهرة.
49 / 84
كتحديد المدة التي إذا أجمع المسافر على إقامتها في مكان ما من سفره، فإن حكم السفر يرتفع عنه.
لذلك كان دخول هذا البحث ضمن نطاق فقه السنة أولى من دخوله في مجال فقه الكتاب العزيز، إذ هي تشمل ما جاء في الكتاب الكريم وزيادة.
الفصل الأول: رخصة الفطر في السفر معنى الرخصة لغة وشرعا: يقال رخص له في الأمر، أذن له فيه بعد النهي عنه، والاسم: الرخصة والرخصة -بتسكين الخاء وضمها- والرخصة- ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه١. ومن هنا أطلق الفقهاء لفظ الرخصة على كل معنى خاص -روعي في تشريعه التخفيف سبب ما- إذا ما كان هذا المعنى مستثنى من حكم عام، وذلك كإباحة الفطر في السفر بسبب المشقة، وهذا الأمر مستثنى من الحكم العام، وهو وجوب الصوم على كل مسلم بالغ صحيح مقيم. وعلى هذا فالرخصة شرعًا مستعملة في نفس المعنى اللغوي التي وضعت له. _________ ١ لسان العرب ج ٨ ص ٣٠٦ مصورة من طبعة بولاق. مادة رخص.
معنى السفر لغة وشرعا: السفر -بفتح السين والفاء- يطلق في اللغة على عدة معان، من بينها: الكشف والذهاب والسعي بالإصلاح، يقال: سفر شعره: استأصله وكشف عن رأسه، وسفرت الريح التراب والورق كنسته وذهبت به كل مذهب، وسفرت المرأة وجهها إذا كشفت النقاب عنه، وسفرت بين القوم أي سعيت بينهم بالإصلاح، ومنه قول علي لعثمان ﵄: إن الناس قد استسفروني بينك وبينهم، والجمع أسفار وسافرة وسفر وسفار، وفي الحديث: "صلوا أربعا فإنا قوم سفر" ٢ والرجل المسفر كثير الأسفار القوي عليها، والأنثى مسفرة، وقد اشتق لفظ السفر المستعمل في لسان الشرع، وهو الضرب في الأرض من هذا المعنى. وقد ربط الأزهري بين المعنى اللغوي والشرعي للسفر بقوله: لكشفه قناع الكن عن _________ ٢ لسان العرب ج ٦ ص ٣١ مادة سفر.
الفصل الأول: رخصة الفطر في السفر معنى الرخصة لغة وشرعا: يقال رخص له في الأمر، أذن له فيه بعد النهي عنه، والاسم: الرخصة والرخصة -بتسكين الخاء وضمها- والرخصة- ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه١. ومن هنا أطلق الفقهاء لفظ الرخصة على كل معنى خاص -روعي في تشريعه التخفيف سبب ما- إذا ما كان هذا المعنى مستثنى من حكم عام، وذلك كإباحة الفطر في السفر بسبب المشقة، وهذا الأمر مستثنى من الحكم العام، وهو وجوب الصوم على كل مسلم بالغ صحيح مقيم. وعلى هذا فالرخصة شرعًا مستعملة في نفس المعنى اللغوي التي وضعت له. _________ ١ لسان العرب ج ٨ ص ٣٠٦ مصورة من طبعة بولاق. مادة رخص.
معنى السفر لغة وشرعا: السفر -بفتح السين والفاء- يطلق في اللغة على عدة معان، من بينها: الكشف والذهاب والسعي بالإصلاح، يقال: سفر شعره: استأصله وكشف عن رأسه، وسفرت الريح التراب والورق كنسته وذهبت به كل مذهب، وسفرت المرأة وجهها إذا كشفت النقاب عنه، وسفرت بين القوم أي سعيت بينهم بالإصلاح، ومنه قول علي لعثمان ﵄: إن الناس قد استسفروني بينك وبينهم، والجمع أسفار وسافرة وسفر وسفار، وفي الحديث: "صلوا أربعا فإنا قوم سفر" ٢ والرجل المسفر كثير الأسفار القوي عليها، والأنثى مسفرة، وقد اشتق لفظ السفر المستعمل في لسان الشرع، وهو الضرب في الأرض من هذا المعنى. وقد ربط الأزهري بين المعنى اللغوي والشرعي للسفر بقوله: لكشفه قناع الكن عن _________ ٢ لسان العرب ج ٦ ص ٣١ مادة سفر.
49 / 85
وجهه، ومنازل الحضر عن مكانه، ومنازل الخفض عن نفسه: وبروزه إلى الأرض الفضاء ... ولأنه يسفر عن وجزه المسافرين وأخلاقهم فيظهر ما كان خافيًا منها١.
_________
(والكن: الستر والوقاية، والخفض: الدعة والراحة والاطمئنان) .
المطلب الأول: الفطر في السفر رخصة عامة يرى جمهور أهل العلم أن الفطر في السفر رخصة عامة، سواء حضر المسلم بداية الشهر مقيمًا أو مسافرًا، وقد نقل هذا القول عن مالك وأبي حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد، والعلماء كافة ما عدا بعض التابعين. وقد استند الجمهور فيما ذهبوا إليه على ما يلي: ١- قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ الآية، وجه الدلالة: أن الله ﷾: قد أعطى الإذن في الفطر لكل مريض أو مسافر على أن يقضي الأيام التي أفطرها بعد ذلك. ٢- ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي ﵁ أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله ﷺ: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" ٢. وجه الدلالة: قوله ﷺ هي رخصة.. إلى آخره. يفيد العموم، لأن الشأن في الرخصة العموم، كما أنه عبر "بمن" المفيدة للعموم في جانب المستفيدين بالرخصة. ٣- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ "خرج إلى مكة في رمضان فصام، حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس"٣. وجه الدلالة: أن الرسول ﷺ خرج إلى مكة خلال شهر رمضان، أي بعد أن استهل عليه الشهر وهو مقيم صائم بالمدينة المنورة، ومع ذلك أفطر في بعض مراحل سفره. _________ ٢ صحيح مسلم ج ٣ ص ١٤٥ دار التحرير. القاهرة. ٣ صحيح البخاري ج ١١ ص ٤٥ مع شرحه عمدة القاري. دار الفكر ببيرو. والكديد: بفتح الكاف وكسر الدال الأولى: موضع بينه، وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينه وبين مكة نحو مرحلتين.
المطلب الأول: الفطر في السفر رخصة عامة يرى جمهور أهل العلم أن الفطر في السفر رخصة عامة، سواء حضر المسلم بداية الشهر مقيمًا أو مسافرًا، وقد نقل هذا القول عن مالك وأبي حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد، والعلماء كافة ما عدا بعض التابعين. وقد استند الجمهور فيما ذهبوا إليه على ما يلي: ١- قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ الآية، وجه الدلالة: أن الله ﷾: قد أعطى الإذن في الفطر لكل مريض أو مسافر على أن يقضي الأيام التي أفطرها بعد ذلك. ٢- ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي ﵁ أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله ﷺ: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" ٢. وجه الدلالة: قوله ﷺ هي رخصة.. إلى آخره. يفيد العموم، لأن الشأن في الرخصة العموم، كما أنه عبر "بمن" المفيدة للعموم في جانب المستفيدين بالرخصة. ٣- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ "خرج إلى مكة في رمضان فصام، حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس"٣. وجه الدلالة: أن الرسول ﷺ خرج إلى مكة خلال شهر رمضان، أي بعد أن استهل عليه الشهر وهو مقيم صائم بالمدينة المنورة، ومع ذلك أفطر في بعض مراحل سفره. _________ ٢ صحيح مسلم ج ٣ ص ١٤٥ دار التحرير. القاهرة. ٣ صحيح البخاري ج ١١ ص ٤٥ مع شرحه عمدة القاري. دار الفكر ببيرو. والكديد: بفتح الكاف وكسر الدال الأولى: موضع بينه، وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينه وبين مكة نحو مرحلتين.
49 / 86
المخالفون ووجهتهم:
نقل عن أبي مجلز التابعي أن من أدركه الشهر مقيمًا فعليه أن يتمه مقيمًا صائمًا، ولا يسافر في أثنائه، فإنه إن سافر لزمه الصوم وحرم عليه الفطر١.
وما نقله عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني -بفتح العين-: من سافر في رمضان وكان قد صام أوله مقيما فليصم آخره، ألا تسمع أن الله يقول: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة/١٨٥) .
كما نقل هذا القول أيضا عن سويد بن غفلة٢.
وما نقله عبد الرزاق عن معمر عن أيوب، أن أم ذر دخلت على عائشة تسلم عليها وذلك في رمضان فقالت لها عائشة: "أتسافرين في رمضان؟ ما أحب أن أسافر في رمضان، ولو أدركني وأنا مسافرة لأقمت"٣.
وما نقله أيضا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال علي ﵁: "لا أرى الصوم عليه -أي على من بدأه مقيمًا صائماُ- إلا واجبًا قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ ٤.
وقد نقل البيهقي الأثر السابق عن عبيدة السلماني بسنده.. إلى أبي البختري بنفس اللفظ السابق تقريبًا إلا أنه عقبه بقول أبي البختري: قال ابن عباس -وكان أفقه منا- من شاء صام ومن شاء أفطر٥.
وقد حرصت على نقل أسماء القائلين بهذا الرأي مع ذكر وجهتهم بالسند الصحيح إليهم، لأن ما ذكر عن هذا الرأي وعن القائلين به ووجهتهم لم يكن محققًا، ولنأخذ على سبيل المثال ما ذكره صاحب الفتح نقلًا عن ابن المنذر "روي عن علي بإسناد ضعيف، وقال به عبيدة بن عمرو وأبو مجلز وغيرهما، ونقله النووي، عن أبي مجلز وحده"٦.
واضح من رجال السند إلى علي ﵃ أنهم ثقات: فقد قال الحافظ ابن حجر في كل من معمر وقتادة: إنه ثقة ثبت٧ وأما عبد الرزاق صاحب المصنف فهو معروف. وقد
_________
١ المجموع ج ٦ ص ٢١٦- مطبعة المدني بالقاهرة.
٢ المجموع ج ٦ ص ٢١٦.
٣ المصنف ج ٤ ص ٢٧٠ الطبعة الأولى. المكتب الإسلامي ببيروت.
٤ المصنف ج ٤ ص ٢٦٩.
٥ السنن الكبرى ج ٤ ص ٢٤٦ -دار الفكر.
٦ فتح الباري ج ٥ ص ٨٣ مطبعة مصطفى الحلبي.
٧ تقريب التهذيب ج ٢ ص١٢٣، ٢٦٦ دار المعرفة ببيروت.
49 / 87
قال فيه ابن حجر: إنه ثقة حافظ١. كما أن النووي لم يقتصر في نقله عن أبي مجلز وحده، بل نقله أيضًا عن أبي عبيدة السلماني وسويد بن غفلة كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
ويتلخص مستند هذا الفريق في الاستدلال بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ . ووجه الدلالة، أن من شهد الشهر حاضرًا مقيمًا وجب عليه صومه، ولفظ الشهر يطلق على الكل وعلى البعض، فيكون المعنى، فمن شهد منكم الشهر -كله أو بعضه- حاضرًا مقيمًا صائمًا فإنه يجب عليه تكملة صيامه سواء أكمله حاضرًا أم مسافرًا.
ولكن الجمهور: يرون أن المعنى أن من أدرك الشهر أي حضره كله حاضرًا غير مسافر وجب عليه صومه. وأما المسافر فله حكم آخر جاء به في الجزء التالي في الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ الآية٢.
ولكني أرى -والله أعلم- أن المعنى: أن كل من شهد الشهر وجب عليه صومه سواء شهده مقيمًا أو مسافرًا، صحيحًا أو مريضًا، ثم استثنى الله ﷾ من هذا العموم المريض والمسافر واختصهما بحكم خاص بهما، وهو إباحة الفطر لمن شاء منهما على أن يقضيه بعد ذلك في أيام أخر.
وهذا المعنى وإن كان يتفق مع المعنى الذي قصده الجمهور. لكنه يختلف عنه من حيث الدلالة فإن الآية على تقدير الجمهور: نزلت بحكمين مختلفين كل جزء منها نزل بحكم خاص منقطع الصلة عن الجزء الآخر، الجزء الأول نزل بحكمٍ للمقيم والصحيح، والجزء الآخر نزل بحكمٍ للمسافر والمريض. مع أن لفظ (من) في قوله تعالى ﴿فَمَنْ شَهِدَ﴾ بفيد العموم، و(شهد الشهر) بمعنى حضره أي أدركه، وكل حي موجود يدرك هذا الشهر لا فرق بين مقيم ومسافر وصحيح ومريض، فمن أين لهم قصر معنى (من) على بعض الأفراد وهم المقيمون دون غيرهم ممن أدرك الشهر.
ويمكن أن يعتذر لهم بأنهم لجأوا إلى هذا التقدير ليتفقوا مع ما قاله أهل اللغة في الآية، فقد جاء في لسان العرب: تعليقًا على الآية السابقة: "معناه: من شهد منكم المصر في الشهر -لا يكون إلا ذلك٣- لأن الشهر يشهده كل حي فيه، قال الفراء: الشهر نصب بنزع الصفة ولم ينصب بوقوع الفعل عليه، المعنى: فمن شهد منك في الشهر أي كان حاضرًا غير غائب في سفرة"٤ والتكلف هنا ظاهر.
_________
١ تقريب التهذيب ج ١ ص ٥٠٥.
٢ تفسير فتح القدير للشوكاني ج١ ص١٨٢ درا المعرفة ببيروت.
٣ الإشارة إلى المعنى الذي قدره.
٤ لسان العرب ج٤ ص٢٢٧ مادة شهد.
49 / 88
أما على تقدير: بأن كل من شهد الشهر وجب عليه صومه إلا المسافر والمريض فقد رخص لهما في فطره، فهو متفق مع سياق المعنى في الآية، وربما يعترض على هذا التقدير: بالصبي والمجنون ونحوهما من غير المكلفين إذ هم يشهدون الشهر، ومع ذلك لا يجب عليهم صومه، فيجاب عن ذلك: بأن أمثال هؤلاء يخرجون من الوجوب بنصوص أخرى، مثل قوله ﷺ في الحديث المشهور: "رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ" وغيره.
وعلى فرض أن الآية تحتمل التأويلين، فإن الرسول ﷺ قد بين المراد منها بفعله في غزوة الفتح، إذ صام أول الشهر بالمدينة، وخرج منها صائمًا حتى بلغ الكديد ثم أفطر، قال الزهري -في رواية أخرى لحديث ابن عباس السابق-: "فصبح رسول الله ﷺ مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان"١.
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري -ولعله في غزوة بدر- قال: "غزونا مع رسول الله ﷺ لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم"٢.
وفعله ﷺ في غزوة الفتح -وكانت في العام الثامن من الهجرة- يعتبر من التشريعات المحكمة لما جاء في حديث ابن عباس السابق -في رواية ثالثة له-: "أن رسول الله ﷺ خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر، قال وكان صحابة رسول الله ﷺ يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره"٣.
فهذه الأحاديث الواردة في محل النزاع تقطع كل احتمال يتوهمه البعض من الآية وترفع كل لبسة قد يحوم حول دلالتها على عموم الرخصة، سواء لمن شهد بداية الشهر مقيمًا أو مسافرًا فقد قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر/٧)، وقال جل من قائل: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل/٤٤) .
لذلك كان هذا هو الرأي المختار والله أعلم.
أما ما نقل عن علي ﵁ من القول بوجوب إتمام الشهر صائمًا فلعله كان
_________
١ صحيح مسلم ج٣ ص١٤١ دار التحرير - القاهرة.
٢ صحيح مسلم ج٣ ص١٤٢.
٣ مسلم ج٣ ص١٤٠.
49 / 89
اجتهادًا منه، ومعلوم أن النص الثابت عن رسول الله ﷺ قولًا أو فعلًا أقوى من اجتهاد الصحابي مهما كان قدره.
ومما يقوي أنه كان اجتهادًا منه، إشارته للآية بعد قوله بالوجوب مما يدل على أن ذلك كان استنباطًا منه للحكم من نص الآية. وقد قلنا: إن الآية وإن كان فيها احتمال لكن السنة قد رفعت عنها هذا الاحتمال.
أما ما نقل عن السيدة عائشة ﵂ من كراهتها للسفر في رمضان، فلما في صومه من عظيم الثواب، وما في قيام ليله من المغفرة والرحمة فالمسافر وإن رخص له في الفطر، لكنه سيفوته ثواب الصيام في نفس الشهر، وسيفوته قيام ليله المؤدي للمغفرة والرحمة، مما ينبغي الحرص عليه.
وهذا في حق من كان يمكنه تأجيل سفره، أما من كان لا يمكنه، وكان التأجيل سيترتب عليه ضرر كبير على المسلم في أهله أو ماله، فليس هناك ما يمنعه، وما قلناه في حق علي ﵁، يقال فيما نقل عن عبيدة السلماني وغيره من التابعين رضي الله تعالى عنهم.
49 / 90
المطلب الثاني: في بيان مقدار المسافة المرخص فيه بالفطر
...
رخصة الفطر في سفر رمضان وَمَما يَتَرَتب عَلَيهَا مِن الآثارِ
الحلقة الثانية
للدكتور أحمد طه الريان الأستاذ المساعد بكلية الحديث
(المطلب الثاني): في بيان مقدار المسافة في السفر المرخص فيه بالفطر:
اختلفت النقول عن السلف رضي الله تعالى عنهم، في تحديد المسافة التي يباح الفطر فيها لمن أراد قطعها أو تجاوزها، اختلافا كثيرًا، فقد نقل عن دحية بن خليفة «أنه خرج من قرية بدمشق إلى قرية عقبة من الفسطاط١ وذلك ثلاثة أميال في رمضان، ثم أنه أفطر وأفطر معه أناس، فكره ذلك آخرون، فلما رجع إلى قريته، قال: والله قد رأيت أمرا ما كنت أظن أني أراه، إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله ﷺ، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك ٢.
ونقل ابن حزم بسنده إلى اللجلاج قال: كنا نسافر مع عمر بن الخطاب ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة ويفطر ويقصر٣. كما نقل بسنده إلى وكيع عن مسعد بن كدام عن محارب بن دثار قال سمعت ابن عمر يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر٤ وأيضا بما رواه بسنده إلى سحيم عن ابن عمر: لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة٥.
_________
١ قرية عقبة: اسم للمكان دفن فيه عقبة بن عامر الجهني، الصحابي المعروف والذي كان واليا لمعاوية على مصر، والفسفاط: مكان آخر بمصر كان قد نصب عمرو بن العاص عليه خيامه حين فتحه لمصر.
٢ السنن الكبرى للبيهقي جـ٤ص٢٤١ دار الفكر ببيروت
٣ المحلى جـ ٦ص١١
٤ المحلى جـ ٦ص٣٦٦
٥ المحلى جـ ٦ص٣٦٦
50 - 51 / 121
كما روى بسنده إلى يزيد بن أبي حبيب، أن كليب بن ذهيل الحضرمي أخبره أن عبيد بن جبر، قال كنت مع أبا بصرة الغفاري صاحب رسول الله ﷺ في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع- وفي رواية: فدفع- ثم قرب غذاءه، قال اقترب، فقلت: ألست ترى البيوت؟ فقال: أترغب عن سنة رسول الله ﷺ؟ فأكل، ثم قال ابن حزم: «والروايات في هذا كثيرة» ١.
ونقل عن عمر بن الخطاب ﵁ أنه قصر الصلاة في سفره إلى ذي الحليفة- وهى على ستة أميال من المدينة- ونسب ذلك إلى إقتدائه بالنبي ﷺ، فقد قال جبير بن نفير «خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا، فصلى ركعتين فقلت له: فقال رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله ﷺ يفعل» ٢.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر قصر الصلاة إلى خيبر ٣، كما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قصر الصلاة إلى خيبر. وقال: هذه ثلاث قواصد يعنى ثلاث ليال ٤، وروى نافع عن سالم بن عبد الله أن أباه عبد الله بن عمر: ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك، قال مالك وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد ٥.
كما روى مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسير ذلك، قال مالك: وذلك نحو من أربعة برد ٦، وقررت هذه المسافة في المصنف لعبد الرزاق بمقدار ثلاثين ميلا ٧، ولكن ابن عبد البر قد رجح تقدير مالك بكونها أربعة برد، يعني أنها ثمانية وأربعون ميلا ٨.
وعن مالك بلغه: أن عبد الله بن عباس كان يقوله: تقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وجدة، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، قال مالك: وذلك أربعة برد ٩.
_________
١ المحلى جـ ٦ص ٣٦٧.
٢ صحيح مسلم جـ ٢ص ١٤٥.
٣ السنن الكبرى للبيهقي جـ ٣ص ١٣٦ والموطأ جـ ١ص ٢٩٨ من شرح الزرقاني عليه.
٤ المصنف جـ ٢ص ٥٢٣. السنن الكبرى جـ ٣ص ١٣٦.
٥ السنن الكبرى جـ ٣ص١٣٦ والموطأ جـ ١ص ٢٩٨. من شرح الزرقاني عليه.
٦ السنن الكبرى جـ ٣ص ٣٣٦ والموطأ جـ ١ص ٢٩٨ من شرح الزرقاني عليه.
٧ المصنف جـ ٢ص ٥٢٥.
٨ شرح الزرقاني على الموطأ جـ ١ص ٢٩٨.
٩ السنن الكبرى جـ ٢ص ١٣٧ والموطأ جـ ١ص ٢٩٩ مطبوع مع شرح الزرقاني عليه.
50 - 51 / 122
وقد روى الشافعي عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أنه سئل: أتقصر إلى عرفة؟ فقال: لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف، وزاد في المصنف فإن قدمت على أهل لك أو على ماشية فأتم الصلاة ١.
وروى مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة ٢، وعن عطاء بن أبي رباح أن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس ﵄ كانا يصليان ركعتين ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك ٣.
تعليقات هامة حول هذه النقول عن السلف رضى الله عنهم: (أ) يتبين من هذه النقول لأول وهلة أن مسألة تحديد المسافة، التي هي مناط الرخصة في القصر والفطر، ليست سهلة كما يظن بعض أهل العلم من المعاصرين، بل هي مسألة قد تباينت فيها آراء السلف تباينا كبيرا، فقد ترواحت تقديراتهم من ثلاثة أميال إلى مسيرة ثلاثة أيام كما أوضحتها هذه النقول:- (ب) إن تحديد هذه المسافة هي مناط الرخصة في القصر والفطر، فما يصلح دليلا لقصر الصلاة يصير تلقائيا دليلا على تحقق رخصة الفطر في السفر، فقد قال عطاء: تفطر إذا قصرت وتصوم إذا أوفيت الصلاة ٤. كما صرح بذلك كثير من أهل العلم ٥. (جـ) كثرة هذه الآراء في تحديد مسافة الفطر في السفر تشير بوضوح إلى أنه لم يرد دليل صريح من السنة يحدد هذه المسافة التي تناط فيها الرخصة، وكل ما ورد في ذلك، أمران: أولهما: ما ورد في غزوة الفتح من حديث جابر بن عبد الله ﵄ أن رسول الله ﷺ "خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كُراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال:" أولئك العصاة أولئك العصاة " ٦. _________ ١ المصنف جـ ٢ص ٥٢٤ والسنن الكبرى جـ ٣ص ١٣٧. ٢ الموطأ جـ١ ص ٢٩٩ من شرح الزرقاني عليه. والمصنف جـ ٢ص ٥٢٣. السنن الكبرى جـ ٣ص ١٣٧. ٣ السنن الكبرى جـ ٣ص ١٣٧. ٤ المصنف جـ ٣ص ٢٧٠. ٥ المجموع جـ ٦ص ٢١٧ ونيل الأوطار جـ ٤ص ٢٥٣ والمحلى جـ ٦ص ٣٦٥ ٦ صحيح مسلم جـ ٣ص ١٤١. والكراع بضم الكاف وفتح العين، واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع وهو جبل أسود متصل به، والكراع: كل أنف سال من جبل أو حرة. شرح عمدة القارئ جـ ١١ص ٤٦ دار الفكر.
تعليقات هامة حول هذه النقول عن السلف رضى الله عنهم: (أ) يتبين من هذه النقول لأول وهلة أن مسألة تحديد المسافة، التي هي مناط الرخصة في القصر والفطر، ليست سهلة كما يظن بعض أهل العلم من المعاصرين، بل هي مسألة قد تباينت فيها آراء السلف تباينا كبيرا، فقد ترواحت تقديراتهم من ثلاثة أميال إلى مسيرة ثلاثة أيام كما أوضحتها هذه النقول:- (ب) إن تحديد هذه المسافة هي مناط الرخصة في القصر والفطر، فما يصلح دليلا لقصر الصلاة يصير تلقائيا دليلا على تحقق رخصة الفطر في السفر، فقد قال عطاء: تفطر إذا قصرت وتصوم إذا أوفيت الصلاة ٤. كما صرح بذلك كثير من أهل العلم ٥. (جـ) كثرة هذه الآراء في تحديد مسافة الفطر في السفر تشير بوضوح إلى أنه لم يرد دليل صريح من السنة يحدد هذه المسافة التي تناط فيها الرخصة، وكل ما ورد في ذلك، أمران: أولهما: ما ورد في غزوة الفتح من حديث جابر بن عبد الله ﵄ أن رسول الله ﷺ "خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كُراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال:" أولئك العصاة أولئك العصاة " ٦. _________ ١ المصنف جـ ٢ص ٥٢٤ والسنن الكبرى جـ ٣ص ١٣٧. ٢ الموطأ جـ١ ص ٢٩٩ من شرح الزرقاني عليه. والمصنف جـ ٢ص ٥٢٣. السنن الكبرى جـ ٣ص ١٣٧. ٣ السنن الكبرى جـ ٣ص ١٣٧. ٤ المصنف جـ ٣ص ٢٧٠. ٥ المجموع جـ ٦ص ٢١٧ ونيل الأوطار جـ ٤ص ٢٥٣ والمحلى جـ ٦ص ٣٦٥ ٦ صحيح مسلم جـ ٣ص ١٤١. والكراع بضم الكاف وفتح العين، واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع وهو جبل أسود متصل به، والكراع: كل أنف سال من جبل أو حرة. شرح عمدة القارئ جـ ١١ص ٤٦ دار الفكر.
50 - 51 / 123
قال القاضي عياض: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر ﷺ فيه، والكل في قضية واحدة، وكلها متقاربة، والجميع من عمل عسفان ١. يشير القاضي عياض إلى رواية ابن عباس السابقة والتي تفيد أنه أفطر بالكديد. وهذه الرواية التي تنص على أنه أفطر بكراع الغميم وغير ذلك من الروايات، إلا أن هذه الاختلافات لا تأثير لها على الحكم؛ لأن هذه المواضع كلها كما قالت القاضي عياض: من عمل عسفان، وعسفان على سبعة مراحل من المدينة المنورة، وقد ظل ﷺ صائما منذ خروجه من المدينة حتى أفطر قرب عسفان، ولا يمكن أن تعتبر هذه المسافة هي مناط الرخصة؛ لعدم وجود ما يدل على نفي الفطر فيما دونها، ولما ثبت أن الرسول ﷺ قد عمل بالرخصة في الصلاة عند وصوله إلى ذي الحليفة، خارجا من المدينة، ومقدار المسافة التي تناط بها الرخصة في الصلاة والصوم واحدة.
الأمر الثاني: ما ورد من حديث أنس ﵁: "كان رسول الله ﷺ إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ (شعبة الشاك) صلى ركعتين" ٢. وقد فهم منه أكثر العلماء: على أن هذه المسافة هي ابتداء العمل بالرخصة يعني أن الرسول ﷺ كان إذا خرج من المدينة إلى سفر بعيد كان يبدأ القصر للصلاة بعد مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ من المدينة ٣، وسيأتي لهذا الحديث مزيد بيان أثناء الكلام على رأي الظاهرية في تحديد مسافة القصر. إن شاء الله.
(د) بناء على ما سبق يمكن القول: أن الاجتهاد من الصحابة ﵃ كان له مجال في تحديد هذه المسافة التي تناط بها الرخصة، فمنهم من اعتمد على عموم لفظ السفر في الآية فأجاز الأخذ بالرخصة مطلقا، ومنهم من أخذ ببيان المراد من السفر من وقائع أخرى: مثل قوله ﷺ في حديث أبي هريرة وبن عمر ﵃: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم" ٤، فاعتبر مسيرة اليوم والليلة، هي التي يطلق عليها اسم السفر التي تناط به الرخصة وهكذا.
(هـ) اختلاف السلف على هذا النحو المتقدم انعكس أثره على مواقف أهل العلم من الأئمة المجتهدين فيما بعد والذي سنبينه فيما يلي:-
_________
١شرح عمدة القارئ جـ ١١ص ٤٦.
٢ صحيح مسلم جـ ٢ص ١٤٥.
٤ نيل الأوطار جـ ٣ص ٢٣٤.
٤ صحيح مسلم جـ٤ ص١٠٣، صحيح البخاري جـ١٣ ص١٢٨ ص١٢٩ مع شرحه عمدة القارئ.
50 - 51 / 124
مواقف أهل العلم من تحديد المسافة التي تناط بها الرخصة وأدلتهم:
الأول: موقف ابن حزم الظاهري:
يرى ابن حزم: أن من سافر ميلا أو تجاوزه أو قاربه، فإنه يجب عليه الفطر، وقد بطل صومه بمجرد بلوغه نهاية الميل ١.
وقد استند إلى إطلاق لفظ السفر في الآية ... ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، وعدم وجود ما يدل على تحديد للمعنى المراد من لفظ السفر الوارد في السنة المطهرة، وكل ما يستفاد من حديث ابن عباس وحديث جابر في غزوة الفتح- وقد سبقت الإشارة إليهما قريبا- وحديث أنس المتقدم: هو جواز القصر في هذه المسافات. وليس في هذه الأحاديث، ولا في غيرها ما يفيد المنع من الفطر أو القصر في أقل من هذه المسافات، وقد جاءت في التحديد روايات مختلفة عن الصحابة ﵃ ليس بعضها أولى من بعض ٢.
ويناقش مستند ابن حزم هذا، بأن لفظ السفر وإن جاء مطلقا في الكتاب الكريم، وفي السنة المطهرة، إلا أن الرسول ﷺ أوضح المراد منه، في منعه المرأة من السفر بدون زوج أو محرم ثلاثة أيام، حسب ما جاء في روايات أبي هريرة السابق، فعلم من ذلك أن أدنى المسافة التي يطلق عليها لفظ السفر، هي مسيرة هذه المدة من الزمن. وقد فهم كثير من الصحابة والتابعين ﵃ هذا المعنى، فقد روى عبد الرزاق عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى، قال: سمعت سويد بن غفلة يقول: إذا سافرتَ ثلاثا فاقصر الصلاة٣.
كما روى عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنت مع حذيفة بالمدائن فاستأذنت أن آتى أهلي بالكوفة فأذن.. وشرط على ألا أفطر، ولا أصلى ركعتين حتى أرجع إليه٤.
وعن مجاهد أن ابن عباس ﵄ قال: إذا سافرتَ يوما إلى العشاء فأتم الصلاة. فان زدت فأقصر ٥
_________
١المحلى جـ ٦ص ٣٦٤.
٢ المحلى جـ ٦ص ٣٦٥.
٣ المصنف جـ ٢ص ٥٢٦.
٤ الصنف جـ ٢ص ٥٢٧.
٥ المصنف جـ ٢ص ٥٢٥.
50 - 51 / 125
وما يضعف قول ابن حزم ﵀: أن رسول الله ﷺ كان يخرج إلى قباء والى أحد وإلى بني سلمة وإلى غير ذلك من المواضع حول المدينة، وكل هذه الأماكن على مسافة تزيد كثيرا عن الميل، ولم يثبت عنه أنه قصر الصلاة أو أفطر في رمضان حينما كان يخرج إلى أي من هذه الأماكن.
كما أن الصحابة ﵃ كانت لهم مزارع في الجرف والعقيق والغابة وغيرها، بل كان بعضهم يسكن الجرف والعوالي بل وذا الحليفة ولم يصل إلى علمي أن أحدا منهم قصر الصلاة أو أفطر حينما كان يأتي إلى المدينة.
الثاني: موقف الظاهرية: يرى الظاهرية- ما عدا ابن حزم- أن المسافة التي تتحقق بها الرخصة في الفطر والقصر، مقدارها ثلاثة أميال ١.
وقد استدل لهم بحديث أنس ﵁: "كان رسول الله ﷺ إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين" شعبة الشاك ٢
ومما رواه عبد الرزاق بسنده إلى أبي سعيد ﵁، قال: "كان رسول الله ﷺ إذا سار فرسخا نزل يقصر الصلاة" ٣
ولعل حديث أبي سعيد قد بين المراد من أحد التقديرين اللذين تردد بينهما شعبة ورجح بأن المسافة التي كان يحدث فيها القصر، هي ثلاثة أميال؛ لأن الفرسخ الوارد في حديث أبي سعيد، مقداره ثلاثة أميال.
وهذا المستند وإن كان قويا، لأنه نص صحيح صريح في الموضوع إلا أن المناقشة التي أشرنا إليها من قبل- والتي تتلخص في أن هذا المقدار كان بداية العمل بالرخصة. أي أنه ﷺ كان إذا بدأ سفرا بعيدا ابتدأ القصر بعد مسيرة ثلاثة أميال- تقلل من شأن الاستدلال به، وتجعل الاعتماد عليه في القول بهذا التقدير، محل نظر.
وقد استبعد الحافظ ابن حجر هذا الاحتمال الوارد في المناقشة السابقة. وقوى هذا البعد بما جاء عند البيهقي، عن يحي بن يزيد الهنائي: قال سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة- يعنى من البصرة- فأصلى ركعتين حتى أرجع، فقال أنس، كان رسول الله ﷺ إذا خرج ... الحديث ٤.
_________
١نيل الأوطار جـ ٣ص ٢٣٤.
٢ صحيح مسلم جـ ٢ص ١٤٥.
٣ المصنف جـ ٢ص٥٢٩.
٤ السنن الكبرى جـ ٣ص ١٤٦.
50 - 51 / 126
يشير الحافظ بذكر هذا السياق: إلى أن أنس كان يقصد أن القصر كان يحدث ولو كان السفر قصيرا كثلاثة أميال.
لكن مع ذلك: فالاحتمال ما زال واردا، إذ يحتمل أن أنسا يريد من الرجل ألا يبدأ القصر إلا بعد ثلاثة أميال من المكان الذي خرج منه. ولم يرد ببيان مقدار مسافة القصر.
ومما يقوى هذا الاحتمال -في نظري على الأقل- ما روى عن أنس بن مالك ﵁ قال: "صليت مع رسول الله ﷺ بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذل الحليفة ركعتين وكان خرج مسافرا"١.
وعند البخاري بلفظ "صلى النبي ﷺ بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهل"٢. أي أن الرسول ﷺ كان يبدأ القصر عملا بالرخصة حينما كان يصل إلى ذي الحليفة وهو في طريقه إلى مكة. ومعلوم أن ذا الحليفة على بعد فرسخين أو ثلاثة من المدينة.
وما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني ابن المنكدر عن أنس بن مالك "أنه صلى مع النبي ﷺ بالمدينة الظهر أربعا وصليت معه بذي الحليفة العصر ركعتين والنبي ﷺ يريد مكة"٣.
لذلك أرى- والله أعلم- أن مقدار الثلاثة أميال أو الثلاثة فراسخ الواردة في حديث أنس هي بداية القصر وليست هي مقدار المسافة التي تناط بها الرخصة، وإنما حديث أنس المشتمل على بيان هذا المقدار، وإن ورد مطلقا عند مسلم، لكنه جاء مقيدا عند البخاري وغيره، بأن ذلك كان بداية القصر أو بداية العمل بالرخصة.
الثالث: موقف الأوزاعي ومالك: نقل عن الأوزاعي ومالك، أن حدّ المسافة التي يباح فيها الفطر وتقصر فيها الصلاة، تقدر بمسيرة يوم وليلة، وهو اختيار البخاري، حيث ذكر بعد ترجمته للباب بقوله: باب: في كم يقصر الصلاة- وسمى النبي ﷺ السفر يوما وليلة٤.
ومستند هذا الرأي هو حديث أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال النبي ﷺ: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها
_________
٣ المصنف جـ ٢ص ٥٢٩.
١ صحيح البخاري جـ ٩ص ١٠ مع شرحه عمدة القارئ.
٢ المصنف جـ ٧ص ١٢٤ دار الفكر.
٣ صحيح البخاري جـ ٧ص ١٢٤ دار الفكر.
50 - 51 / 127
حرمة"١ حيت أطلق ﷺ السفر على مسيرة يوم وليلة وبمعنى أوضح: أن لفظ السفر وإِن جاء مجملا في الآية وبعض الأحاديث النبوية، إلا أن هذا الحديث وما ورد في معناه يعتبر مفسرا له.
ولم ينقل عن الأوزاعي تحديدًا لمسيرة اليوم والليلة بالأميال أو بالفراسخ، كما أنه لم يوضح فيه كيفية السير، هل هي بالإبل المثقلة، أو بالأقدام أو بغير ذلك.
وقد قدر مالك مسيرة اليوم والليلة أو اليوم التام -كما يسميه-: بأربعة برد، وقد قيد بعض علماء المالكية كابن المواز وغيره هذا التقدير بأن مسيرة اليوم التام: أيضا تقدر بأربعة برد، إذا كان ذلك في وقت الصيف وكان، لسير جادا٢.
وقد نقل عن مالك بعد ذلك، أنه ترك التحديد بمسيرة اليوم التام وتمسك بتحديد المسافة بأربعة برد، فقد سئل عن الرجل يخرج إلى ضيعته على ليلتين أيقصر صلاة؟ قال: نعم، وأبين من ذلك، البرد والفراسخ والأميال، على كم ضيعته منه من ميل أو فرسخ؟ فقال: على خمسة عشر فرسخا فذلك خمسة وأربعون ميلا، فقال: نعم أرى أن تقصر الصلاة إلى مسيرة ذلك ٣.
والحقيقة أن مالكًا قد أخذ هذا التقدير مما نقل عن ابن عباس وابن عمر ﵃، فقد قال البخاري في صحيحه- تعليقا بصيغة الجزم- (وكان ابن عمر وابن عباس ﵃ يقصران ويفطران في أربعة برد وهى ستة عشر فرسخا) ٤ وقد أخرج البيهقى هذا الأثر موصولا عن عطاء بن أبي رباح أن عبد اللِّه بن عمر وعبد الله بن عباس ﵃ كانا يصليان ركعتين ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك ٥ ويناقش مستند هذا الفريق بما يلي:
أولا: أنا الاستدلال بحديث أبي هريرة وابن عمر ﵃ في هذا الموضع لا يتم، لأن هذا الحديث وارد في حق المرأة إذا عزمت على السفر مسيرة يوم وليلة، فإنه لا يحق لها الشروع في ذلك إلا إذا صحبها زوجها أو محرم. بينما المستدل عليه هو تحديد مسافة السفر الذي شرع فيه القصر أو الفطرة وشتان بين الأمرين، فخروج المرأة منفردة في
_________
١ صحيح البخاري باب في كم يقصر الصلاة جـ ٧ص ١٢٩ مع شرحه عمدة القارئ.
٢ شرح الزرقاني على الموطأ جـ ١ص ٢٩٩.
٣ حاشية الرهوني على الزرقاني جـ ٢ص ١٢٢.
٤ صحيح البخاري باب في كم الصلاة انظر مع شرحه عمدة القارئ جـ ٧ص ١٢٥.
٥ السنن الكبرى جـ ٣ص ١٣٧.
50 - 51 / 128
مثل هذه المسافة يترتب عليه مفاسد كثيرة نظرا لأنها ستمر بطرق منقطعة، كما أنها ستضطر للمبيت في بعض الطريق، وفي هذا ما فيه.
أما المسافر فقد شرع له الفطر والقصر دفعا للمشقة الحاصلة من السفر والمشقة قد تحصل بدون ذلك.
ثانيا: أن الحديث قد ورد بيوم وليلة ويومين وثلاثة أيام، فاختيار رواية اليوم والليلة دون اليومين أو الثلاثة تحكم.
ثالثا: تقدير مسيرة اليوم التام- أو اليوم والليلة- بأربعة برد أيضا فيه تحكما لاختلاف الناس والدواب من حيث الجد في السير وعدمه والقدرة على تحمل سير المسافات الطويلة ودون ذلك، فقد تقطع هذه المسافة في أقل من يوم بالدواب السريعة النشيطة ومن باب أولى إذا كان السفر بالسيارة أو الطائرة، وقد يبطئ في السير فيقطع هذه المسافة في أكثر من هذه المدة.
ويجاب عن هذه المناقشات بما يلي:
بالنسبة للمناقشة الأولى: بأن الاستدلال بحديث ابن عمر وأبي هريرة- الوارد في حق منع المرأة من السفر يوما وليلة إلا إذا كان معها محرم- هو استدلال تام وفي موضعه، لأن القصد من الإتيان به، ليس هو قياس السفر الذي تناط به الرخصة على سفر المرأة، حتى يقال بوجود الفارق بين الأمرين، بل المراد منه هو تفسير لفظ السفر، بأنه ما كان مسيرة يوم وليلة، أي أن لفظ السفر الوارد في الآية كان محتملا لسير المسافات البعيدة القريبة دون تحديد فجاء هذا الحديث وأطلق لفظ السفر على ما كان مسيرة يوم وليلة. أي أن المسافة إذا كانت تقطع في أقل من هذا الزمن عادة بالدابة المتوسطة، فلا يطلق على من قطعها أنه سافر سفرا تتحقق فيه رخصة الفطر أو القصر.
وبالنسبة للمناقشة الثانية، فان اختيار رواية يوم وليلة دون بقية الروايات الأخرى الواردة في حق سفر المرأة ليس فيه تحكم؛ لأن ما ورد في هذه الهواية هو أقل ما يطلق عليه لفظ السفر الذي تناط به الرخصة؛ لأن هذا الحديث يعتبر مبينا للمعنى المراد من السفر ومحددا له. والحدود يؤخذ فيها بأقل ما قيل فيها، كما يقال إن أقل الجمع ثلاثة، وفي لسان الشرع: الجماعة اثنان فما فوقهما وهكذا.
وبالنسبة للمناقشة الثالثة: فإن اختيار مقدار الأربعة برد لتقاس بها مسيرة اليوم والليلة، إنما روعي فيه العادة بالنسبة للدابة الوسط وقد كانت ركوبة أكثر الناس. فالقياس عليها أولى من القياس على الدابة السريعة أو البطيئة. والله أعلم.
50 - 51 / 129
الرابع: ما نقل عن الشافعي، ومالك، وأصحابهما، وأحمد، وإسحاق، والليث، كما نقل عن الأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم، من أن الرخصة في الفطر أو القصر لا تتحقق إلا في مسيرة مرحلتين قاصدتين١، وحددت مسافتهما بثمانية وأربعَّين ميلًا هاشمية ٢.
وقد حمل بعض العلماء ما نقل عن مالك هنا بأنه قول آخر له، إلا أن بعض علماء المالكية قد جمع بين قوليه، بأن مسيرة اليوم والليلة إذا كانت الدابة سريعة مع الجد في السير وكان الوقت صيفا، وأما مسيرة اليومين والليلتين، فهو إذا ما كانت ثقيلة بطيئة ولم يكن هناك جد في السير؛ ويؤيد هذا الجمع بأن مالكا لم يختلف تقديره للمسافة في القولين، إذ حددها في كليهما بثمانية وأربعين ميلا ٣.
وقد استدل لهذا الرأي بحديث أبي سعيد: "لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها" ٤، وقد قدرت مسيرة هذا الزمن بثمانية وأربعين ميلا. وبذلك يلتقي هذا الرأي مع الرأي السابق في تقدير المسافة التي يباح الفطر فيها للمسافر، إذا عزم على بلوغ نهايتها أو تجاوزها، بالرغم من الاختلاف في مقدار الزمن، إلا أنه يمكن الجمع بين اختلاف المقدار في الزمن بين هذا الرأي والرأي السابق بما جمع به بعض علماء المالكية بين قولي مالك في المسألة. وقد أشرنا إلى ذلك قريبا.
ويناقش مستند هذا الفريق بعدد من المناقشات، من أهمها ما يلي:
أولا: أنّ الاستدلال بحديث أبي سعيد هنا لا يتم، لما قلناه سابقا، من أنه وارد في منع المرأة من السفر بدون محرم لها أو زوج مدة يومين، بينما المستدل عليه هو السفر المبيح للفطر، وهناك فارق كبير بين الأمرين، فخروج المرأة منفردة في مثل هذه المسافة يترتب عليه مفاسد كثيرة ... أما المسافر فقد شرع له الفطر والقصر دفعا للمشقة الحاصلة من السفر، والمشقة قد تحصل بدون ذلك.
ثانيا: أن الأحاديث الواردة في منع المرأة من السفر وردت باليوم، واليومين. والثلاثة، فاختيار حديث اليومين دون غيره تحكم.
_________
١ هكذا نص عليه الشافعي. وهو النص المتفق عليه بين أصحابه. من نصوصه الأخرى في الموضوع إذ حدد بستة وأربعين. وحده بأكثر من الأربعين. وبأربعين وبيومين وليلتين وبيوم وليلة. وبعض أصحابه حاول أن يجمع بينها وقال إنها كلها ترجع إلى معنى واحد وهو ثمانية وأربعين ميلا. المجموع جـ ٤ص١٩٠.
٢ الهاشمية: نسبة إلى بني هاشم؛ وذلك احترازا عن الأميال الأموية فإنها تقدر المسافة بأربعين ميلا لأن الأميال الأموية أكبر من الهاشمية إذ كل ستة أميال هاشمية تقدر بخمسة أميال أموية. المجموع جـ٤ ص١٩٠
٣ الزرقاني على الموطأ جـ ١ ص ٢٩٩.٢٩٨. والمجموع جـ٤ ص ١٩٠.١٨٩. والمغني جـ٢ ص١٨٩. وحاشية الرهوني جـ٢ ص١٢٢.
٤ صحيح مسلم جـ٣ ص١٠٢.
50 - 51 / 130
ثالثا: تقدير مسيرة اليومين بأربعة برد يتساوى مع تقدير مسيرة اليوم والليلة، بهذا المقدار، مع أن ما يقطعه المسافر في اليومين والليلتين، ضعفه ما يقطعه في اليوم والليلة ...
ويجاب عن هذه المناقشات بما يلي:-
بالنسبة للمناقشة الأولى:-
فيجاب عنها بما أجيب به سابقا، وهو أننا لا نستدل بالحديث لأجل قياس السفر الذي تتعلق به الرخصة على سفر المرأة، بل إنما يستدل به من حيث إطلاق لفظ السفر على مسيرة اليومين. أي أن الاستدلال بهذا الحديث في هذا الموضع هو من قبيل التفسير والبيان لتحديد المراد من لفظ السفر الوارد في الآية..
ويجاب عن المناقشة الثانية:
بأن اختيار حديث اليومين ليس من قبيل التحكم، لأنه أوسط الأزمان الثلاثة الواردة في الموضوع. وأعدل الأمور هو أوسطها..
أما المناقشة الثالثة:
فيجاب عنها بما أشرنا إليه سابقا، من أن لا يقطع من المسافة في مسيرة اليومين بالدابة البطيئة، مع عدم الجد في السفر وكون الوقت شتاء فإنه يتساوى مع ما يقطع منها في اليوم والليلة، إذا كانت خفيفة سريعة مع الجد في السير وكان الوقت صيفا.
الخامس: موقف أبي حنيفة ومن معه: يرى أبو حنيفة والثوري والشعبي والنخعي والحسن بن صالح: أن المسافر إذا عزم على السفر وكان سفره مسيرة ثلاثة أيام بلياليها، سيرا وسطا على الدواب المحملة أو بالأقدام، فإنه يرخص له في الفطر.
ويرى أبو يوسف تقدير المدة، بيومين وأكثر اليوم الثالث.
والتقدير بالزمن هو الصحيح عند علماء الحنفية، ومقابله: التقدير بالفراسخ، فقيل بأحد عشر فرسخا، وقيل بثمانية عشر وقيل بخمسة عشر، وكل من قدر بقدر منها أعتقد أنه مسيرة ثلاثة أيام..
وإنما صح عندهم التقدير بالزمن فقط دون التقدير بالأميال أو الفراسخ لأنه لو كان الطريق وعرا، بحيث لو قطع في ثلاثة أيام أقل من خمسة عشر فرسخا فإنه يقصر بالنص، وإذا جرى على هذه التقديرات فإنه لا يقصر، فيكون معارضا للنص، وعلى ذلك فلا يعتبر إلا التقدير بسير الثلاثة أيام.
50 - 51 / 131