تفسير سورة الحجرات [١ - أ]
1 / 1
ترابط سور القرآن ببعضها
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات:١-٥] .
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فقد تقدم أيها الإخوة الكرام الكلام على هذه السورة الكريمة في مدة زيارة الزائرين في موسم الحج، ولم نكمل الحديث عنها، وفي بداية هذه السورة الكريمة وفي استئناف الحديث عنها نجمل ما تقدم ليرتبط الماضي بالحاضر: تقدم في أول الحديث عنها تنبيه على مدى ربط سور القرآن بعضها ببعض، وهذا جانب عظيم في التفسير الكريم؛ إذ نلحظ جميعًا بيسر وسهولة ربط ما بين سورة الفاتحة وسورة البقرة، وكذلك قصار السور، يظهر ذلك الربط لقصر السور ولوحدة الموضوع فيها.
فتجد في سورة الفاتحة بعد المقدمة بحمد الله وتنزيهه وتمجيده وتكريمه، والاعتراف له بالربوبية وإفراده بالعبودية والاستعانة يأتي قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:٦]، وهذا أعظم طلب يطلبه العبد لأنه يتعلق بأعظم مطلوب؛ لما فيه من سعادة الدنيا والآخرة، وتأتي سورة البقرة بعدها بعد مقدمة قصيرة (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:١-٢] .
فكأنه الجواب على
السؤال
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فيقول تعالى: هذا الكتاب هو الهدى الذي تسألونه فالزموه.
وكذلك نجد الربط بين سورة الحجرات وما قبلها وهي سورة الفتح؛ حيث تتحدث أواخر سورة الفتح على ما وقع في صلح الحديبية، فلما أنهى رسول الله ﷺ ما بينه وبين المشركين في المفاوضة على الرجوع والتحلل في مكانهم ثم العودة بعمرة أخرى من عام قابل، وعظم ذلك وشق على أصحابه أنهم لم يدخلوا مكة، ولكن المصطفى ﷺ قد أعطى وعدًا حتى قال: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) .
وكان المولى ﷾ أراد بهذا الصلح الفتح المبين، وذلك لما سأل عمر رضي الله تعالى عنه أبا بكر عما جاء في الاتفاقية مما ظاهره الحيف والهضم للحق، وإملاء القوي على الضعيف، حيث جاء في الصحيفة: إذا أتانا منكم أحد مرتد عن دينه فلا نرده عليكم، وإذا أتاكم أحد مسلم بدون إذن أهله رددتموه علينا.
فقال عمر لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا عمر! إلزم غرزه إنه رسول الله.
والكل يعلم أنه رسول الله، ولكن المراد بذلك لازم الخبر، فقد عمر يعلم أنه رسول الله، وقد آمن به رسولًا من عند الله، ولكن يريد أبو بكر مقتضى ذلك: وهو أنه يتبع الله فيما يوحي به إليه فالزمه.
فذهب عمر إلى رسول الله، وعرض عليه ما عرض على أبي بكر، وسمع من رسول الله مثل الذي سمع من أبي بكر: (يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدًا)، يقول عمر: فوالله ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق أكفر عن تلك الكلمة؛ لأنني تقدمت بين يدي الله ورسوله باقتراح ما كان لي أن أتقدم به.
ولما أمرهم بالتحلل وحلق الشعر ونحر الهدي، توانوا وكأنهم يتطلعون إلى حل آخر، ودخل ﷺ على زوجه أم سلمة مغضبًا، قالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: (وما لي لا أغضب وأنا آمر أمرًا فلا أُتبع، قالت: يا رسول الله! قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنسانًا، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس) .
فما إن كان من رسول الله ﷺ ذلك إلا وتسابق القوم بالنحر والحلق، وأيقنوا أنه ليس هناك حل آخر، لأن الرسول ﷺ فعل ذلك أمامهم.
فتأتي آخر السورة: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾ [الفتح:٢٧]، لأنهم قالوا: ألم يعدنا رسول الله أنا نأتي البيت؟ فقال لهم أبو بكر: نعم، ونحن آتوه، وهل قال لكم: هذه السنة؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ستأتونه.
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [الفتح:٢٧]، أي: لا مطرودين عنه كهذه السنة ﴿مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾ [الفتح:٢٧]، أي: من دون ذلك الدخول الآمن ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح:٢٧]، ألا وهو صلح الحديبية.
ونزلت السورة الكريمة على رسول الله ﷺ في عودته من الحديبية ليلًا، وكان عمر يمشي في آخر القوم مخافة أن ينزل فيه قرآنًا مما جادل فيه رسول الله، فلم يلبث أن سمع صارخًا: يا ابن الخطاب! أجب رسول الله! ففزع لذلك وظن أنه قد نزل فيه ما يخشى، فلما أتى قال له النبي ﷺ: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
ثم قرأ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح:١]، وقرأ عليه سورة الفتح، فقال عمر: يا رسول الله! أوفتح هو؟ قال: نعم) .
وفي عُرف العالم اليوم: أنه إذا كان هناك نزاع بين دولتين ثم توصلتا إلى المفاهمة، أو الجلوس على مائدة المفاوضات؛ كان ذلك شبه اعتراف من كل منهما بالجانب الآخر، وهنا كان صلح الحديبية بعد ست سنوات فقط من خروج النبي ﷺ مهاجرًا مختفيًا في الغار يسري ليلًا ويختفي نهارًا، فيرجع اليوم يريد مكة فيصل إلى حدودها، وتجلس معه صناديد قريش يفاوضونه على العودة على أن يخلوا له مكة في العام القادم، فيأتي ويعتمر آمنًا ويرجع مطمئنًا.
إنه فتح عظيم، ويقدر علماء التاريخ قيمة هذا الفتح: بأن النبي ﷺ كان معه من المسلمين في صلح الحديبية نحو الألف، فلما وقعت الهدنة، ووقع هذا الصلح والاتفاق، ساح المسلمون والمشركون في الجزيرة، فما لقي مسلم مشركًا عاقلًا يحدثه عن الإسلام إلا دخل فيه، فانتقل وانتشر المشركون في ديار المسلمين، وانتقل وانتشر المسلمون في ديار المشركين، ثم وقع بعد ذلك بسنتين فقط فتح مكة، وخرج ﷺ من المدينة بعشرة آلاف مقاتل.
مرت تسع عشرة سنة من الوحي، وثلاث عشرة سنة منها في مكة، وست سنوات في المدينة؛ كانت حصيلتها ألف مقاتل، وبعد هذا الصلح تكون الحصيلة عشرة آلاف مقاتل.
وفعلًا كان فتحًا مبينًا، فنزلت خاتمة سورة الفتح تبين للمسلمين حقيقة الموقف، ولماذا كف الله أيديهم عنهم: ﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح:٢٥]، أي: أن الله كف أيدي المسلمين عن دخول مكة مقاتلين ولو دخلوا لنصرهم الله، إلا أن في مكة من هو مسلم يخفي إسلامه، فلو دخلوا لقتلوا المسلم مع المشرك وهم لا يعلمون، فرجع المسلمون ونزلت السورة وفيها: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح:٢٧] .
وهنا تأتي افتتاحية سورة الحجرات، وكأنها تتمة أو تعليق أو تنبيه أو تصحيح لما كان من أصحاب رسول الله في تلك الوقعة -أي: في صلح الحديبية- فيبين المولى تعالى ما ينبغي من الأدب مع رسول الله ﷺ إرشادًا لهم ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحجرات:١]، إلزامًا لهم بمقتضى ما آمنوا به وهو أن يقبلوا كل ما جاء به وأن يكونوا تبعًا لله ولرسوله بمقتضى إيمانهم.
1 / 2
التشريع حق لله ورسوله
﴿لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات:١] .
قوله: (تُقَدِّمُوا)، هل هي (تتقدّموا) أو (تقدِّموا)؟ فعلى أنها (تتقدموا) أي: تكونوا أمام رسول الله في الرأي، أو (تُقدِّموا) على أن تقترحوا عليه ﷺ، وكلا الأمرين ممنوع.
1 / 3
لا يجوز تقديم الآراء على شرع الله ورسوله
لا يحق للمسلمين جميعًا ولو اجتمعوا أن يتقدموا على رسول الله بآرائهم ويتركوا رأي رسول الله، ولا يجوز لهم أن يقدموا بين يديه الاقتراحات لأنها مهما كانت فهي نتائج وحصائد عقولهم، أما هو ﷺ فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
﴿لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات:١]، أي: كما قدم عمر، وكذلك الصحابة الذين تأخروا يريدون حلولًا أخرى، وقد أبرم ﷺ الصلح الذي هو فتح مبين.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الحجرات:١]، هذه الآية الكريمة تأديب للأمة كلها في شخصيات أصحاب رسول الله فيما يتعلق بحق التشريع، فإنه لله ولرسوله، فالمعنى: لا تتقدموا بشيء على ما جاء من عند الله في كتاب الله، ولا على ما جاء في سنة رسول الله ﷺ.
ولو أن العالم الإسلامي وقف عند هذه الآية وحقق مدلولها لكفاه ذلك، لأنه لا يحق للمسلمين ولو اجتمعوا أن يشرعوا شيئًا من عقولهم ما دام كتاب الله ورسول الله ﷺ بين أظهرهم.
ولا يحق لأحد أن يتقدم بعمل يرجو ثوابه، ولا بعمل يخشى في تركه عقابه، إلا إذا كان لله ولرسوله، ومن هنا نبه ﷺ على ذلك بقوله: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)، بمعنى أنه مردود عليه، فمهما كان العبد، ومهما كان المسلم، ومهما كان المسلمون جميعًا في عقولهم وذكائهم وفطنتهم، ونظرهم في المصالح، وادعائهم أي دعوى كانت؛ فليس لهم حق أن يرتقوا إلى منصب التشريع، ولا أن يتقدموا بأمر من الأمور إلا إذا كان عليه أمر الله وأمر رسوله ﷺ.
وقوله: (ليس عليه أمرنا)، لأن أمره من أمر الله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء:٨٠]، و﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:٣١] .
إذًا: هذه الآية الكريمة في مستهل هذه السورة الكريمة فيها تأديب للأمة، وتعريف لهم بالحق الواجب عليهم، من حيث الاتباع وحق التشريع، ولا يحق للعالم بأسره أن يشرع ما لم يأت به الله ولا رسوله، ويكفي ذلك تنبيهًا على كل تشريع من شرق أو غرب، من حضارة أو مدنية أو غيرها، فكل ذلك إن لم يكن تابعًا وموافقًا لكتاب وسنة رسوله ﷺ فهو مردود.
1 / 4
اجتهادات العلماء راجعة إلى كتاب الله
الفرعيات والاجتهاديات إذا حدثت وتجددت؛ فإن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين أعطاهم الله البصيرة في دينهم وأنار قلوبهم بالتقوى التي أورِثوها، وبالزهد والورع، وبمخافة الله، وبنور الله في قلوبهم، فإنهم يجتهدون فيما استجد ويردونه إلى الأصول من كتاب الله وسنة رسوله، فهو أيضًا عمل بما جاء عن الله وعن رسول الله ﷺ.
وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) .
فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فهل وجدت ذلك في كتاب الله، قال: أتقرأين كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين -تعني: القرآن- فما وجدت فيه ما تقول.
قال: لئن كنت قرأته أما قرأت: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧]؟ قالت: بلى.
قال: فإنه قد نهى عنه.
قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي فانظري.
فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئًا، فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها.
والشاهد من هذا أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه جعل سنة رسول الله من كتاب الله، ويقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان: السنة بأجمعها قطرة من بحر كتاب الله.
أي في قوله سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧] .
ووقع للشافعي ﵀ أنه وقف في المسجد الحرام، وقال: يا أهل مكة! سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله.
وهذه دعوى عريضة لا يقوى عليها إلا مثله، فقام شخص وقال: أخبرنا عن المُحرِم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ الزنبور حشرة أكبر من النحلة ولسعته شديدة، ويقولون: إن سبعة منه كعقرب، وكما قيل: دويبة حمراء في بردة حبِرة.
فقال: يقول الله ﵎: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧]، ويقول ﷺ: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)، وحدثني فلان عن فلان -وذكر السند إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه-: أنه سُئل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ فقال: لا شيء عليه، فلا شيء على المحرم يقتل الزنبور في كتاب الله.
فانظروا أيها الإخوة! إلى هذه الدرجات وتلك المراتب في الاستدلال والربط والتأكد! فكأن الشافعي ﵀ يقول: أنا من الراسخين في العلم؛ سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله، ولكن كلنا يعلم أن الزنبور ليس في كتاب الله، وكنت حاولت إحصاء ما ذكر من تلك الحشرات والحيوانات والطيور؛ فإذا بها تزيد عن الثلاثين صنفًا ليس منها الزنبور، فمنها العنكبوت والبعوض والذباب والنحل، ولكن كلمة زنبور ليست موجودة في كتاب الله، والشافعي يرد هذه الجزئية التي جاء السؤال فيها على سبيل التعنت إلى كتاب الله؛ لأن السائل رأى دعوى الشافعي في ذلك، فقام وأتاه بما لا يمكن أن يخطر على البال، وكما قيل: لا يفل الحديد إلا الحديد.
فكان موقف الشافعي ﵀ أن يتدرج في مراتب الاستدلال، فيبدأ بكتاب الله، فيجد كتاب الله يحيل على سنة رسول الله، وسنة رسول الله تحيل على الخلفاء الراشدين، ويُروى عن أحد الخلفاء الراشدين الحكم في هذه المسألة، فيعزوه الشافعي إلى كتاب الله.
1 / 5
شروط الإفتاء الذي ينسب إلى الكتاب والسنة
أيها الإخوة! في هذه الآونة قد نسمع ونرى الكثير مما لا ينتهي منه العجب؛ من أن بعض الأشخاص يكون قد بدأ في طلب العلم ولم يبلغ به شأوًا، فإذا به ينصب نفسه للفتوى فيما علِم أو لم يعلم، وما عَلِمَه فلا ندري أيكون علمه فيه صحيحًا أو غير صحيح! ويا ليتهم يقفون عند ذلك في حق أنفسهم، بل يتعدى ذلك إلى الآخرين، فيفتون الآخرين بما يعلمون أو لا يعلمون، ثم يتعدى ذلك إلى أن يعيبوا من يخالف ما هم عليه وإن كانوا هم محدودي العلم والتحصيل وغيرهم أوسع علمًا وأكثر تقوى لله وأكثر تحصيلًا، وأدعى أن يتبع من غيره، وهم أيضًا لا يتورعون أن يبدِّعوا من خالفهم، أو أن يبدعوا من قال بغير قولهم.
وإنا والله لنحزن لذلك، ونسأل الله تعالى لنا ولهم الرجوع إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله ﷺ.
ينقل ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله عن الشافعي ﵀: لا يحق للقاضي أو المفتي أن يقضي أو يفتي إلا إذا عرف حكم الله في كتاب الله وأقوال أهل التأويل في تأويله، وعلم سنة رسول الله وأقوال العلماء فيها، والإجماع والقياس، والخلاف إن وجد وما اختلفوا فيه.
فيا أيها الإخوة! تلك الشروط وهذه المعايير التي ذكرتها عن الشافعي يجب أن تتوفر فيمن نصب نفسه للإفتاء لأنه ليس بالأمر الهين، وإن من عوفي ولم يكلف ذلك من ولي الأمر، ينبغي أن يحمد الله إذ لم يلزم بالإفتاء، وعليه ألا يحمل نفسه ما لا طاقة له به.
1 / 6
تورع العلماء في الفتوى
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يأتيه المستفتي في هذا المسجد فيقول: سل المفتي الرسمي، فإن هناك مفتيًا نصبه ولي الأمر وهو مسئول عن ذلك، أو يقول: سل غيري، فأقول له: إذا لم تفتِه أنت فمن الذي يفتيه؟ إنك تقصد للفتوى في مسجد رسول الله.
فيقول: إذا كنت في عافية من ذلك فما الذي يلزمني؟ وهل أضمن أن أصيب ولا أخطئ؟! وهل أعلم أن سؤاله له دليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله فأجيبه، وكيف أجتهد؟ وهل أضمن في اجتهادي الصواب؟ وجاءه إنسان وألح عليه، وقال: يا شيخ! جئتك أمس فرددتني وطوّفت المسجد فلم أجد من يفتيني، فماذا أصنع؟ قال: سل هذا.
وأشار إلي، وقال: هذا قاض في المحكمة، فسله يفتيك، فقلت: يا شيخ إذا امتنعت أنت عن الفتوى كيف أفتيه أنا؟ قال: لا علي، فقلت: اجلس، أنا سأفتيك والشيخ يسمع، فإن كان صوابًا أقره، وإن كان خطأً فلا يحق له السكوت عليه، ثم أفتيته، فقال الرجل: ماذا تقول يا شيخ في ذلك؟ قال: قد أفتاك القاضي.
قال: أريدك أنت.
قال: خيرًا والحمد لله.
ويذكر العلماء أن الرجل كان في عهد التابعين يسأل فيُحال من عالم إلى عالم -وحسبك بعلماء التابعين- حتى تنتهي به الإحالة إلى الأول، وكلهم كان يفر من الفتوى، ويقولون: أجرأ الناس على الفتوى أجرؤهم على النار.
فنحن نُحذِّر إخواننا وأبناءنا من أن يتسرعوا إلى منصب الفتوى قبل أن يستحقوا ذلك حقًا، وكان مالك ﵀ يقول: ما جلست للفتوى والدرس إلا بعد أن شهد لي سبعون عالمًا في مسجد رسول الله.
1 / 7
أهمية التلقي عن الشيوخ واجتناب الشذوذ
وجاء عن أبي حنيفة ﵀: أنه جاءه رجل وقال: يا أبا حنيفة! في المسجد حلق فتيان يتناظرون في الفقه، قال: ألهم رأس؟ قال: لا، قال: لن يتفقهوا أبدًا.
ويعني بـ (رأس) أي: شيخ أو أستاذ يرجعون إليه فيما يختلفون فيه.
فإنه قد يجتمع جماعة لهم حماس وحسن نية -على ما نحملهم عليه بحسن الظن- وهم راغبون في الخير، ولكن ليس كل راغب في الخير يصيب طريقه، فيجلسون يتذاكرون، ويتحادثون، ويتناقشون، ولكن ليس لهم رأس يرجعون إليه، وليس بين أيديهم كتاب يقرءونه، ويأخذون عن مؤلفه وما يعزوه إلى سلف الأمة.
فما يقع منهم إنما هي حواصل مناظرات أو مدارسات أحصوها، ثم يناقش بعضهم بعضًا، وهذه ليست طريقة علم، ولا سيما إذا ابتلي البعض بتتبع شواذ المسائل.
يقول عمر رضي الله تعالى عنه وهو على المنبر: أحرِّج على كل مسلم -أي: أجعله في حرج وضيق، وأضيق عليه- أن يحدث حديثًا ليس العمل عليه.
لأن في تتبع الشواذ إثارة للفتن، وكما قال ابن عبد البر: ما تتبع إنسان شواذ المسائل إلا وحرم العلم؛ لأنه يقضي حياته في تتبع تلك الشواذ! وللأسف كل الأسف أننا نجد الآن رسائل كتبت في الحج أو في غيره، وفيها أحاديث ينص عليها من رواها بأنه لم يعمل بها أحد -وهذا موجود بأيدي الناس- يفعل ذلك من تتبع الشواذ وعُرِف بذلك.
أيها الإخوة الكرام! لو أن المسلمين التزموا تعاليم هذه الآية فقط لسلموا وبقوا على الصراط المستقيم بعيدين عن الشواذ، بعيدين عن الابتداع.
1 / 8
آداب الأمة مع رسول الله ﷺ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات:١]، أي: لما تقولون ولما تتقدمون به، عليم بما تفعلون وعليم بما تقدمتم به، والله تعالى أعلم.
تأتي الآية الكريمة بعدها بأدب آخر في حق النبي ﷺ، وقد نبهنا سابقًا على أن السورة في مجملها سورة الآداب آداب مع الله آداب مع رسول الله آداب مع نبي الله آداب في حضرته آداب في غيبته آداب معه كربِّ أسرة في حجراته ثم بعد ذلك آداب مع الجماعة الإسلامية، وطوائف المسلمين، ثم آداب الأفراد في حد ذاتهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله؛ فالآية الأولى في بيان الآداب مع الله ورسوله من حيث التشريع والاتباع.
النداء الثاني في الآية الثانية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات:٢] .
في الآية الأولى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات:١]، فوصفه ﷺ بالرسالة، وفي الآية الثانية وصفه بالنبوة: ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات:٢] .
والحكمة أنه في الموقف الأول عُطِف الرسول على الله ﷾ في مجال التشريع وهو منهل واحد، لأنه لا ينطق عن الهوى وإنما يأخذ عن الله، وهذا بجانب الرسالة؛ لأنه يأتي برسالة للأمة، أما الموقف الثاني فهو النبوة، وهو تكريم لشخصه ﷺ بصفته نبيًا بأدبين كريمين: الأول: النهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي حتى ولو كان بقراءة القرآن في مجلسه، أو بندائه ودعائه، بل يغض الصوت فلا يرفع صوته على صوت النبي، فلو كان يتحدث بينهم لا يكون صوت أحدهم أرفع من صوت رسول الله، وهذا غاية في الأدب؛ لأن من يرفع صوته عند غيره لا يكون مؤديًا كل واجبات الأدب بل يكون مخلًا بالأدب والاحترام، ونحن نعلم أو نرى المجالس ذات المستويات العالية فلا نجد إنسانًا مهما كانت مكانته يرفع صوته على كبير المجلس، وهكذا يأمر الله ﷾ الأمة أن تتأدب مع رسول الله في نوعية المحادثة وكيفيتها.
1 / 9
نوع الحديث الذي يطرق مع الرسول ﷺ
ثم يأتي الأدب الثاني: ﴿وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ [الحجرات:٢]، يظن بعض الناس أنهما شيءٌ واحد، ولكن الحقيقة أنهما أمران مختلفان، فالأول: في رفع الصوت من حيث هو، ولو كان بتلاوة القرآن، والثاني: نوعية الحديث ما هي؟ حديث أدبي، ديني، اقتصادي، عائلي، ما هو الموضوع؟ ﴿وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾، أي: لا تجعلوا أحاديثكم مع رسول الله في الأمور التي تجعلونها بين أنفسكم في خلواتكم؛ لأن الإنسان مع صديقه وزميله قد يتحدث في أمور يستحي أن يجهر بها ويعلنها عند من هم أكبر منه سنًا، أو منزلة.
فمثلًا: الأولاد فيما بينهم يتحدثون في أمور بيتهم أو شخصياتهم، فإذا دخل أبوهم غيروا مجرى الحديث، لأنهم لا يريدون أن يسمع الأب ذلك الحديث.
لو كان إنسان في دور الخطوبة والزواج، وجلس مع زملائه الذين سبقوه بالزواج يتحدثون عن آداب الزواج وكيفية المعاشرة وشيء من ذلك، فإذا دخل عليهم رجل كبير ولو لم يكن أب واحد منهم غيروا مجرى الحديث؛ لأن هذا الحديث ينبغي أن يكون سرًا وليس جهرًا.
إذًا فالمعنى: اجعلوا حديثكم مع رسول الله على مستوى عال من مكارم أخلاق، والتعلم في الدين، والاسترشاد في أمور الدنيا، وليس مما تنزلون بمستواه إلى ما لا تحبون أن يسمعه من هو أعلى منكم سنًا أو مرتبة.
ويذكر علماء التفسير أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قادمًا إلى بيت رسول الله، فسمع وهو على الباب قبل أن يستأذن امرأة تشتكي من زوجها فيما يكون من شأن الفراش بين الزوجين، فنادى خالد بن سعيد أبا بكر من عند الباب: يا أبا بكر! ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول الله ﷺ.
لأن الجهر بمثل ذلك لا يليق بالمستوى، مع أنه ﷺ هو المشرع وهو المرجع في كل صغيرة وكبيرة، ولكن لكل مقام مقال.
أيضًا: المرأة التي سألت رسول الله: يا رسول الله! هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فغطت أم سلمة وجهها وقالت: فضحت النساء عند رسول الله؛ سلي بعض زوجاته تسأل لك رسول الله، أي: كيف تجاهرين بهذا مباشرة مع رسول الله؛ لأن الحديث سيأتي بصورة ذهنية عما ذكرته المرأة، فيتصور الإنسان بمخيلته امرأة في فراشها ترى ما يرى الرجل، وهذه الصورة يتأبّى عنها كل أديب وكل ذي خلق كريم، لكنها أدخلتها على ذهنه إجبارًا عليه، ومن هنا قالت أم سلمة: فضحت النساء.
هل نهرها ﷺ؟ لا، لأن عليه البيان، فقال: (نعم، إن هي رأت الماء) .
هذا أمر تشريعي، أم سلمة استحت منه، ولكن لضرورة التشريع لابد منه، لكن إذا لم يكن الأمر مما يستدعي ذلك، وأرادوا الحديث فلا ينبغي هذا.
ومما جاء أيضًا: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان ﷺ في حجرتي، وكان مضطجعًا وفخذه باد، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عثمان فاعتدل وغطى فخذه وأذن له.
تقول عائشة رضي الله تعالى عنه: فلما خرجوا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبي فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عمر فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عثمان فنهضت وسترت فخذك، فلماذا؟ فقال: (ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة)، هذه ناحية، الجواب الثاني وهو عملي، قال: (إن عثمان رجل حيي وإني خشيت أن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته) .
انظروا إلى هذا الحال.
الرسول مع أبي بكر وعمر لكن لما علم من عثمان شدة حيائه خشي أن يرى عثمان ذلك فلا يطلب ولا يسأل حاجته، وربما ينصرف، فقابله بما يمكن أن يكون وسيلة أو طريقة لما يصل بها عثمان إلى حاجته.
إذًا: الأقوال أو المجالس أو الأحاديث تتفاوت، ولكل مقام مقال.
1 / 10
لا يجوز التقدم على سنة رسول الله ﷺ
فالآية الثانية أدب الأمة مع رسول الله كنبي صلوات الله وسلامه عليه في شخصيته وذاته بعدم رفع الصوت، وبعدم الجهر له بالقول، وإذا كان الأمر كذلك في حياته صلوات الله وسلامه عليه؛ فإننا نأتي إلى التطبيق العملي، من إجماع المسلمين من أن الآيتين يجب تطبيقهما بعد مماته كما طبقتا في حياته ﷺ.
فالآية الأولى: ﴿لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ﴾ [الحجرات:١]، فلا يجوز التقدم عليه بشيء، والرسول ﷺ قد قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما)، كذلك لا ينبغي لأحد أن يتقدم على سنة رسول الله التي هي مسطَّرة بأيدي العلماء، وموجودة في سجل السنة المشهورة عند الجميع، فلكأنه ﷺ حيٌ بين أظهرنا بوجود الكتاب والسنة.
وهنا أيضًا: ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ [الحجرات:٢]، نهى عمر رضي الله تعالى عنه عن رفع الصوت في مسجد رسول الله حتى لا يقع من يرفع صوته في نطاق الآية الكريمة، وسَمِع رجلين يتحدثان في المسجد النبوي بصوت مرتفع، فقال: عليّ بهذين، فأُتي بهما ترعد فرائصهما، فنظر إليهما فقال: أغريبان أنتما، قالا: بلى، من أهل الطائف.
قال: لو كنتما من أهل هذه البلدة لأوجعتكما ضربًا، أترفعان أصواتكما عند رسول الله؟ وهذا بعد موته ﷺ.
وكان التحديث سابقًا إذا كثر الطلاب وكان الصوت محدودًا أن يُوقف رجال على منتهى الصوت فيسمعون من المحدث ما يقول ويجهرون به ويسمعون من خلفهم، وهكذا ويتم نقل الحديث عن طريق المبلغين كما كان الحال في المبلِّغة المؤذن يرفع صوته بتكبيرات الإمام لكي يُسمع من في مؤخرة المسجد، فقيل لـ مالك: اتخذ مبلغين فإن الحلقة قد زادت، ومن في آخر الحلقة لا يسمع منك؟ فقال: أخشى أن أدخل في قوله سبحانه: ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات:٢]، مع أن ابن عبد البر بوب في كتابه جامع بيان العلم وفضله: جواز رفع الصوت بالعلم، وذكر قضية إسباغ الوضوء، ونداؤه ﷺ بأعلى صوته، وبعض الأدلة الأخرى.
الذي يهمنا أن هاتين الآيتين محكمتين إلى اليوم، ويجب تطبيقهما عمليًا، سواء من جانب الرسالة أو من جانب النبوة.
ولهذا اتفق العلماء على أن من أراد أن يسلم على رسول الله ﷺ أن يأتي إلى الحجرة الشريفة ويستقبل الوجه الكريم، وأن يسلم بصوت ليس فيه ارتفاع وليس همسًا بحيث يسمع نفسه، أو يسمع من بجواره، ولا يرفع صوته على صوت رسول الله، ويقول مالك ﵀: من ظن أن وفاة رسول الله تنقص منه قدر شعرة فقد كفر بما أنزل على محمد لأن الله سبحانه يخبر عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وما الشهداء جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها إلا حسنة من حسنات رسول الله ﷺ.
وأخبر ﷺ أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن الأنبياء أحياء في قبورهم، ولكنهم في حياة برزخية لا يرتقي العقل إلى كيفيتها، ولا إلى إدراك كنهها، كما قال تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران:١٦٩]، والذي عند ربنا ليس عندنا، ولا نستطيع أن نتصور أي شيء من ذلك.
وعليه فالآيتان محكمتان مطبقتان، ويجب الالتزام بهما إلى اليوم وإلى ما شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.
1 / 11
حبوط الأعمال برفع الصوت عند النبي ﷺ
قال الله تعالى: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات:٢]، العمل لا يحبطه إلا الردة عياذًا بالله، فمن ارتد عن الإسلام حبط عمله، كما قال الله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر:٦٥]، وحاشاه أن يشرك، ولكن هذا خطاب للأمة في شخصيته.
فيقول العلماء: مجرد رفع الصوت عند رسول الله لا يحبط العمل، وقد كان ثابت بن قيس وهو خطيب رسول الله ثقيل السمع فكان يرفع صوته عند رسول الله، وله قصة وذلك أنه لما نزلت الآية دخل بيته وقال لزوجته: سمري علي الباب لقد كنت أرفع صوتي عند رسول الله، فقد حبط عملي وأنا من أهل النار، فافتقده رسول الله ﷺ بعد يومين، فسأل عنه، فقال جار له: أنا آتيك بخبره، فدخل عليه: يا ثابت أين أنت؟ قد افتقدك رسول الله، لماذا غبت عنه؟ قال: ألم تعلم ما أنزل الله في رفع الصوت عند رسول الله، وأنا رجل جهوري الصوت قد حبط عملي وأنا من أهل النار.
فعاد الرجل إلى النبي ﷺ وأخبره بالجواب، فقال رسول الله ﷺ: (بل هو من أهل الجنة) .
فلما أخبره قال: اكسر الباب، وخرج وأتى إلى النبي ﷺ واستشهد وكان من أهل الجنة.
فيقول العلماء: إحباط العمل بأن يرفع صوته وهو يرى أن لنفسه حقًا، أو يرى لنفسه ما يستوجب ذلك، ولربما خطر بباله شيءٌ في شخصية رسول الله بأن يرفع صوته عنده بلا مبالاة، فيكون عندها إحباط العمل.
(وأنتم لا تشعرون): بذلك لأنه أمرٌ خفي ودقيق جدًا، ولهذا يقول سبحانه: ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾ [الحجرات:٢]، بما عساه أن يخطر ببال الواحد منكم في حق رسول الله.
وقد سأل رجلٌ مالكًا ﵀ وقال: أريد أن أحرم من هذا المسجد -والرسول ﷺ أحرم من ذي الحليفة- فقال له مالك: لا تفعل.
قال: لماذا؟ قال: أخشى عليك الفتنة.
قال: وأي فتنة، إنما هي خطوات أزيدها على ميقات رسول الله.
قال: أخشى أن يخطر في بالك أنك زدت خطوات لم يخطها رسول الله في إحرامه، فتظن أن إحرامك خير من إحرام رسول الله فتفتن في دينك.
وهكذا دقة الملاحظة أيها الإخوة، وبالله تعالى التوفيق.
1 / 12
الأسئلة
1 / 13
الفرق بين الرسالة والنبوة
السؤال
ما الفرق بين الرسالة والنبوة في شخص النبي ﷺ؟
الجواب
هذه قضية طويلة يبحثها علماء المصطلح، فكثير من العلماء يقول: إن النبوة والرسالة سواء، ولكن من حيث الاشتقاق اللغوي: النبوة أو النبوأة بالهمز، فالنبوة من النبْوة، والمكان النابي هو المرتفع، والنبوأت من النبأ، والنبأ: الخبر المهم، ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ [النبأ:١-٢]، وكلا المعنيين يصدق على النبي المرسل، والنبيء: الذي يأتي بالنبأ عن غيره إلى غيره، وهو عين الرسول.
فبعض العلماء قالوا: النبي والرسول سواء.
ولكن جرى على ألسنة العلماء أنه ﷺ نُبِّئ باقرأ، وأُرسل بالمدثر، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق:١]، و﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر:١]، فقالوا في الاصطلاح: النبي من قام بدعوة من كان قبله يطبقها.
أي: أنه لم يوح إليه بشيء مستقل، كحواريي عيسى مثلًا، أو عيسى بما جاء في التوراة عن موسى ﵇، والرسول من جاء برسالة مستقلة.
وعلى كل فالمسألة اصطلاحية والخلاف موجود، ولكن التحقيق: أن هناك فرقًا، وفي تتمة أضواء البيان عند سورة (اقرأ) بدا لي -والله تعالى أعلم وأبرأ إلى الله- بأنه أرسل باقرأ، لأنه يقرأ لمن، وعلى من؟ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ [العلق:١-٦] .
وهذه لا تختص به ﷺ، إنما أقرئها ليقرأها على غيره، ولو كانت خاصة به في شخصه لما كانت في كتاب الله، ولا أدرجت في المصحف مع القرآن الكريم، ففي نظري والله تعالى أعلم أنه أرسل من أول يوم بدأه الوحي بسورة اقرأ.
ولكن لا نستطيع أن نقول ذلك؛ لأن العلماء الأجلاء الذين سبقونا ولهم الفضل في ذلك، وأعلم بهذا، إنما فرقوا بين النبوة والرسالة وجعلوا النبوة باقرأ والرسالة بالمدثر، والله تعالى أعلم.
ويقولون في الاصطلاح: كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا.
1 / 14
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ..)
السؤال
ما الراجح في سبب نزول هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ [الحجرات:٢] الآية؟
الجواب
التطلع إلى سبب النزول كما يقول الإمام ابن تيمية ﵀ في رسالة أصول التفسير: يعين على فهم الآية؛ لأن سبب النزول عند الأصوليين قطعي الدخول.
قالوا: جاء وفد وفيهم الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: (يا رسول الله! أمر فلانًا علينا، فقال عمر: لا يا رسول الله! أمر فلانًا) فتلاحى الشيخان ورفعا صوتيهما بين يدي رسول الله، حتى قال القائلون: كاد أن يهلك الشيخان.
وإذا كان سبب النزول في أبي بكر وعمر فهي عامة في جميع المسلمين، والله تعالى أعلم.
1 / 15
تفسير سورة الحجرات [١ - ب]
2 / 1
جزاء امتثال الأمر بغض الصوت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فقد تقدم الكلام على الآيتين الكريمتين في أول السورة الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات:١]، والتي تليها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات:٢]، إلى آخر الآية.
وهنا يأتي قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الحجرات:٣] .
في الآية التي قبلها (لا تَرْفَعُوا)، وهذه الآية بيان لمفهوم المخالفة؛ لأن من لم يرفع صوته يغضه، وهذا في النسق القرآني الكريم يدل على الترابط بين الآي والآي.
ويقول علماء الأصول: إن النهي عن الشيء أمر بضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده، ويمثلون: إذا قلت لإنسان: اسكن، فقد أمرته بالسكون ويتضمن النهي عن الحركة، وإذا قلت له: صم، فإنك أمرته بالصوم ونهيته عن الأكل والشرب ومبطلات الصوم.
ففي الآية الأولى (لا تَرْفَعُوا)، وعكس رفع الصوت غضه.
فالآية الكريمة الثالثة جاءت بنص مفهوم الآية التي قبلها، وبيّن سبحانه مكانة من تأدب بأدب القرآن ونتيجة هذا الامتثال، إذا قيل لهم: (لا ترفعوا أصواتكم)؛ فحالًا يمتثلون ويغضون الأصوات، وبيّن نتيجة هذا الامتثال السريع فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ) .
ومجيء (إن) هنا راجعة لتبعيض الصوت، أو راجعة لتبعيض الغض منه، فقد يضطر الإنسان في حالة شديدة ويرفع صوته ليبلغ مسامع رسول الله ﷺ، وفي هذه الحالة لا يعاب عليه؛ لأنه لا يمكن أن يصل إلى ما يريد إلا بهذا النوع من رفع الصوت، فلا يكون في ذلك ارتكاب للمنهي عنه، أما في الأمور العادية فلا يرفع صوته بل يغض منه.
والغض من الشيء: التنقيص منه، كما في غض البصر، فهو كف البصر عن النظر إلى منتهاه، وإنما يغض بصره ويكفه عما لا يحل له.
2 / 2
حالات جواز رفع الصوت عند رسول الله ﷺ
وفي هذه الآية يبيِّن ﷾ جزاء الذين امتثلوا بالأمر السابق (لا تَرْفَعُوا)، أو بالنهي المتقدم وغضوا أصواتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ) .
إذًا: الظرف هنا معين، بغير ما لو لم يكن عندهم رسول الله، وقد يضطره الرسول بنفسه، وقد يضطره غيره بحضرته ﷺ لمصلحة عامة، كما جاء في غزوة حنين لما فوجئ المسلمون بنبل الأعداء فانصرفوا وولوا الأدبار فوقف ﷺ في أرض المعركة وأعلن ونادى: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) .
وهذا في عرف العسكريين في غير شخصية رسول الله مخاطرة، ولكن هذا من الأدلة على ما كان ﷺ يتمتع به من الشجاعة والقوة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: نُرَى أنه أعطي قوة أربعين رجلًا منا.
والعادة العسكرية أنه حينما ينكشف الجند في المعركة فالقائد يخفي نفسه؛ لأنه المسئول عن سير المعركة، فإذا قُتل القائد ذهبت قوة الجيش واضطربت أموره، فالقائد يكون دائمًا في مؤخرة الجيش أو في مكان آمن، ويخفي نفسه، وقد قيل: إن هتلر كان يدير المعارك في منطقة في الجو.
الذي يهمنا في هذه الحالة: أنه ﷺ بعد قرار أصحابه وانكشافهم عنه، وقف وأعلن عن نفسه: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، ثم قال للعباس: (نادي أصحاب السمرة) .
والسمرة: الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، أي: الذين بايعوا رسول الله على الموت في سبيل الله، وقيل: على أن لا يفروا، وقد ﵃، ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح:١٨]، فنادى العباس بأعلى صوته، فنادى وجهر بالصوت بين يدي رسول الله ﷺ للمصلحة.
ويقولون: إن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذا صاح في البرية ربما فزعت الوحوش من صوته، وإذا وقف في المدينة كانت له أرض بالغابة، وإذا أراد من عماله شيئًا جاء إلى سلع ونادى إلى عماله فبلغ صوته عماله في الغابة.
إذًا: قد يتطلب رفع الصوت في حضرة رسول الله ﷺ للمصلحة.
2 / 3
امتحان الله للمؤمنين بأوامره لهم
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ [الحجرات:٣] .
الامتحان في اللغة: التخليص، ومنه: عرض الذهب على النار؛ لأن الذهب من حيث هو: ذهب معدن نفيس لا تحرقه النار، ولا تنقص من معدنه شيئًا، وإذا ما وضع على النار وأذيب ليست له فقاقيع كالزيت أو كالرصاص أو غيره، إنما يتموج متماسكًا كالزئبق.
والذهب من حيث هو: معدن نفيس لا يصلح للصياغة خالصًا، ولابد أن يضاف إليه معدن فيه صلابة، وهو النحاس، فيضاف مثلًا إلى الثمن ثلاثة قراريط من الأربعة والعشرين؛ حتى يمكن أن يصاغ فيصير صلبًا صالحًا للاستعمال.
ونحن نسمع: عيار (٢١)، وعيار (١٨)، وعيار (٢٠)، فكيف يتوصلون لذلك؟ في دُور الدمغ أو الضرب والصك يأخذون من السبيكة التي وزنها -مثلًا- كيلو جرام، عشرة جرامات أو جرامين فيعرضونها لنار مرتفعة إلى درجة مائتين فهر نهايت، فتذيب الذهب وتحرق ما معه من معدن آخر ويتبخر ويتلاشى، ويبقى المعدن الصافي من الذهب، فيعيدون وزن الباقي، ويقارنون بينه وبين وزنه قبل الاحتراق -كم نقص وتبخر؟ - فيعرفون الجزء المضاف إلى الذهب، ويعرفون كم عيار هذا الموجود، فيكتبون عيار كذا، بنسبة ما فيه من معدن أجنبي عنه، ويقولون لك: عيار كذا، أو كذا.
بقدر ما فيه من ذهب خالص.
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ﴾ بمعنى خلّص، كما أن امتحان الذهب بالنار يخلصه من شوائب أي معدن آخر.
إذًا: قلوبهم أصبحت أوعية للتقوى، وليس في قلوبهم شيءٌ آخر قط غيرها، فطهرت ونقت، وتعطرت واستقبلت التقوى في تربة خصبة خالصة لا تشوبها شوائب أخرى.
بمثل هذا تكون التقوى في قلوبهم ذات فعالية قوية، بخلاف ما إذا كانوا خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فهذا أمر متموج، وبخلاف ما إذا كان خالصًا صافيًا إلى آخر أمره، فهؤلاء بمقتضى صفاء قلوبهم، وما خلصت فيه من التقوى، يكون العكس في ذلك هو غض الصوت عند رسول الله؛ لأن رفع الصوت عند إنسان ليس دلالة على احترامه وتوقيره، وغض الصوت عند إنسان دلالة على توقيره واحترامه، ولو لم يكن له سلطان عليه، ولكن إكرامًا وإجلالًا له، كما قيل: أهابكِ إجلالًا وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها فيهاب ويوقر لا لمخافة ولا لذلة، ولكن توقيرًا ومحبة لمن يهابه ويوقره بغض الصوت عنده، وهذا هو غاية إكرامهم وتأدبهم ومحبتهم لرسول الله ﷺ.
2 / 4
مغفرة الله لذنوب المؤمنين
قال الله: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، إذا كان عظيم يستعظم شيئًا: أيكون هذا الشيء بنفسه عظيمًا أم حقيرًا؟ العظيم لا يستعظم الحقير.
لو أن الحقير استعظم شيئًا نقول: صحيح؛ لأنه أعظم منه؛ لأنه حقير، لكن عظيم يستعظم شيئًا معناه: أن ذلك الشيء هو في ذاته عظيم، فإذا كان المولى يقول: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، لا يقدر قدر هذا الأجر الذي استعظمه الله إلا الله، ويكفي في وصف الجنة قول النبي ﷺ: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) .
والمغفرة: الستر، ومنه المِغفر الذي يغطي به الفارس رأسه عند القتال، فالمغفرة وغفران الذنوب هو تغطيتها وسترها، والعفو إزالتها ومحوها نهائيًا.
فهؤلاء الصنف من الناس الذين تأدبوا بأدب القرآن، وأصبحوا يغضون أصواتهم عند رسول الله لهم هذا الأجر العظيم.
وتعقيبًا على ما تقدم عند السلام على رسول الله ﷺ يجب على الإنسان أن يغض من صوته ولا يرفعه، وسيأتي بيان خلاف ذلك، وماذا قال الله تعالى فيمن يفعل ذلك.
2 / 5