Evolution of Modern Literature in Egypt
تطور الأدب الحديث في مصر
خپرندوی
دار المعارف
د ایډیشن شمېره
السادسة ١٩٩٤
ژانرونه
محتويات الكتاب
...
الصفحة الموضوع
١٣-١٦ مقدمة
١٧-٢٢ تمهيد - الحالة الثقافية والأدبية قبل العصر الحديث
٢٣-٤٢ الفصل الأول - فترة اليقظة
٢٥-٣١ أهم أسباب اليقظة
٢٥- ٢٦ ١- أسلحة علمية للحملة الفرنسية
٢٦-٣١ ٢- أول الاتصال الفعلي بالثقافة الحديثة
٣١-٤٢ الأدب وأولى محاولات التجديد
٣١-٣٧ ١- الشعر
٣٨-٤٢ ٢- النثر
٤٣-٨٧ الفصل الثاني - فترة الوعي
٤٥- ٥٢ أبرز عوامل الوعي
٤٥- ٤٦ ١- اشتداد الصلة بالثقافة الحديثة
٤٦-٤٨ ٢- إحياء التراث العربي
٤٨-٥٠ ٣- مؤسسات سياسية ومجالات ثقافية
٥١-٥٢ ٤- الثورة الأولى
٥٣-٨٧ الأدب وحركة الإحياء
٥٣- ٦٦ أولا- الشعر
٥٣- ٥٨ ١- الاتجاه التقليدي وبعض لمحات التجديد
٥٨-٦٦ ٢- ظهور الاتجاه المحافظ البياني
٦٦- ٨٧ ثانيًا- النثر
٦٦-٦٨ ١- الكتابة الإخوانية واتجاهها إلى التقليد
٦٨-٧٠ ٢- الكتابة الديوانية وميلها إلى الترسل
٧٠-٧٥ ٣- المقالة ونشأتها
1 / 7
الصفحة الموضوع
٧٥-٧٨ ٤- الخطابة وانتعاشها
٧٨-٨١ ٥- الرواية ونشأة اللون التعليمي
٨٢-٨٤ ٦- المسرحية وميلادها
٨٤-٨٧ ٧- كتب الأدب وتجددها
٨٩-٢٢٩ الفصل الثالث- فترة النضال
٩١-١٠٧ حوافز النضال واتجاهاته
٩١-٩٨ ١- من جرائم الاحتلال البريطاني
٩٨-١٠٥ ٢- مراحل النضال وطرائفه
١٠٥-١٠٧ ٣- بعض معالم النضال المشرقة
١٠٨-٢٢٩ الأدب بين المحافظة والتجديد
١٠٨-١٦٥ أولًا- الشعر
١٠٨-١٤٨ ١- سيطرة الاتجاه المحافظ البياني
١١٢-١٣٣ ١- المحافظون والنضال
١١٣-١١٦ من أجل الجامعة الإسلامية
١١٦-١١٨ علاقتهم بالحاكم
١١٨-١٢٩ موقفهم من الإنجليز
١٢٩-١٣٠ في الإصلاح السياسي
١٣٠-١٣٣ من أجل المجتمع
١٣٣-١٣٥ ب المحافظون بين الإسلاميات والذاتيات والمناسبات
١٣٦-١٤٣ جـ عمود الشعر دعامة المحافظين
١٤٣-١٤٨ د تأثيرات حسنة وأخرى سيئة للاتجاه المحافظ
١٤٨-١٦٥ ٢- ظهور الاتجاه التجديدي الذهني
١٥١-١٥٦ أ- ريادة هذا الاتجاه
١٥٦-١٦١ ب- موضوعات هذا الاتجاه
1 / 8
الصفحة الموضوع
١٦١- ١٦٢ جـ أسلوب هذا الاتجاه
١٦٢-١٦٤ د العاطفة في هذا الاتجاه
١٦٤-١٦٥ هـ التجديديون بين النظرية والتطبيق
١٦٥-٢٢٩ ثانيًا- النثر
١٦٥-١٧٤ ١- المقالة وظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث
١٧٤-١٨٢ ٢- الخطابة ونشاطها
١٨٢-٢١٨ ٣- القصص بين استلهام التراث ومحاكاة أدب الغرب
١٨٢-١٩٠ أالرواية الاجتماعية المقامية
١٩٠-١٩٣ ب القصة التهذيبية البيانية
١٩٣-١٩٧ جـ الرواية التعليمية التاريخية
١٩٨-٢٠٤ د ميلاد الرواية الفنية
٢٠٤-٢١٨ هـ ميلاد القصة القصيرة
٢١٨- ٢٢٩ ٤- المسرحية وأولوية الأدب المسرحي
٢٢٢-٢٢٣ أمسرحية المعتمد بن عباد
٢٢٣-٢٢٦ ب مسرحية علي بك الكبير
٢٢٦-٢٢٩ جـ مسرحية أبطال المنصورة
٢٣١-٤٢١ الفصل الرابع - فترة الصراع
٢٣٣-٢٥٥ دوافع الصراع ومجالاته
٢٣٣-٢٣٩ ١- بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية
٢٣٩-٢٤٣ ٢- بين نشوة النصر ومرارة النكسة
٢٤٣-٢٤٨ ٣- نمو الحياة الثقافية
٢٤٨-٢٥٥ ٤- غلبة التيار الفكري الغربي
٢٥٦-٢٦٥ الأدب وغالبة الاتجاه التجديدي
1 / 9
الصفحة الموضوع
٢٦٦-٣٧٠ أولًا: الشعر
٢٦٦-٢٨٨ ١- تجمد الاتجاه المحافظ البياني
٢٦٦-٢٨٣ أمن الناحية الموضوعية
٢٨٣-٢٨٥ ب من الناحية الفنية
٢٨٥-٢٨٨ جـ محاولات تجديدية
٢٨٨-٢٩٧ ٢- انحسار الاتجاه التجديدي الذهني
٣٩٧-٣٧٠ ٣- ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي
٣١٢-٣٢٩ أخصائصه المتصلة بالموضوعات
٣٢٩-٣٤٤ ب خصائصه من حيث الأسلوب
٣٤٤-٣٥٢ جـ خصائصه في موسيقى الشعر
٣٥٢-٣٥٤ د خصائصه من حيث المضمون
٣٥٤-٣٥٨ هـ أهم مصادر تلك الخصائص
٣٥٨-٣٦٠ وريادة هذا الاتجاه
٣٦٠-٣٦٤ ز مقاومة هذا الاتجاه
٣٦٤-٣٧٠ حـ محاولات مسرحية وقصصية
٣٧٠-٤٢١ ثانيًا: النثر
٣٧٤-٣٩٧ ١- المقالة وتميز الأساليب الفنية
٣٧٩-٣٨٣ أطريقة طه حسين
٣٨٣-٣٨٧ ب طريقة العقاد
٣٨٧-٣٩١ جـ طريقة الرافعي
٣٩١-٣٩٣ د طريقة الزيات
٣٩٣-٣٩٧ هـ طريقة المازني
٣٩٧-٤١٣ ٢- الخطابة وازدهارها
1 / 10
الصفحة الموضوع
٤١٣-٤١٧ ٣- القصص واستقرار اللون الفني
٤١٧-٤٢١ ٤- المسرحية وتأصيل الأدب المسرحي
٤٢٢-٤٣٣ المراجع
٤٢٢-٤٣٢ أولًا: المراجع العربية
٤٣٣ ثانيًا: المراجع الأجنبية
1 / 11
مقدمات
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
يبدأ العصر الحديث للأدب العربي في مصر -بل للتاريخ المصري كله- بتلك السنوات التي شهدت خروج البلاد من ظلمات العصر التركي، لتفتح عيونها على نور الحضارة الحديثة، ولتأخذ طريقها في موكب المدنية المتقدمة، وذلك بعد أن أغمضت عيونها عن النور، وعوقت خطاها عن السير زهاء ثلاثة قرون، هي مدة الحكم التركي الكريه.
ومن الممكن تحديد تلك البداية، بسنوات الحملة الفرنسية من سنة ١٧٩٨م إلى ١٨٠١م، أي بأواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر. وليس ذلك باعتبار الحملة الفرنسية خيرًا أسدى إلى مصر، بل باعتبارها عملًا عدونيا مدبرًا، أثار في مصر ما كمن من عناصر القوة، فقد اتخذت الحملة الفرنسية من العلم أسلحة ضمن أسلحتها، ومن العلماء جندًا في عداد جندها، ومن هنا رأى المصريون في تلك الحملة علما غير ما يعرفون، وعلماء غير ما يعهدون، وأدركوا خطورة ذلك كله عليهم أن لم يكن لهم مثله، فتطلعوا إلى نور الحضارة الحديثة، وبدءوا التأهب للسير في موكب المدنية المتقدمة.. وهكذا كانت تلك الحملة تنبيهًا غير مقصود لعناصر القوة في الشعب المصري العظيم، تمامًا كما تنبه عناصر المقاومة في جسم الكائن الحي، حين يتسلل إلى دمه مكروب يريد أن يفتك به، فيتسلح الجسد بما فيه من قوى كامنة، ويقاوم بما احتفظ به من حيوية محجبة، وحينئذ قد يكسب مناعة أقوى مع الزمن، وصحة أتم على الأيام.
وقد تعاقبت السنون منذ تلك البداية إلى عهدنا الحاضر، ومر الأدب -والتاريخ المصري كله- بفترات مختلفة، لكل منها طابع خاص.
1 / 13
ولذا يحسن أن يقسم هذا العصر الحديث الطويل، الذي يبلغ نحو قرن وثلثي قرن إلى فتراته المختلفة، التي يتميز كل منها -إلى حد كبير- بطابعه السياسي والاجتماعي والثقافي، ثم بطابعه الأدبي، نتيجة لذلك كله، وبهذا يتيسر الدرس، ويكون أقرب إلى الدقة، وتلك الفترات هي:
الفترة الأولى: من الحملة الفرنسية إلى ولاية إسماعيل من١٧٩٨ إلى ١٨٦٣.
الفترة الثانية: من ولاية إسماعيل إلى الثورة العرابية من ١٨٦٣ إلى ١٨٨٢.
الفترة الثالثة: من الاحتلال البريطاني إلى نهاية ثورة ١٩ من ١٨٨٢ إلى ١٩٢٢.
الفترة الرابعة: فترة ما بين الحربين من ١٩٢٢ إلى ١٩٣٩.
الفترة الخامسة: من الحرب العالمية الثانية إلى قيام ثورة ٢٣ يولية من ١٩٣٩ إلى ١٩٥٢.
الفترة السادسة: من قيام الثورة إلى اليوم من ١٩٥٢ إلى اليوم.
وإذا تأملنا الفترة التي نعيشها اليوم، وقارناها بما نعرف من تاريخ الفترات السابقة، وجدنا الاختلاف يصل أحيانًا إلى درجة التباين أو التناقض، وخاصة إذا كانت المقارنة بين اليوم والأمس البعيد، وهذا من شأنه أن يثير تساؤلا معقولا، وهو: كيف يمكن أن يندرج مثل هذا التاريخ الطويل المختلف الفترات تحت عصر واحد؟ وكيف يمكن مثلًا أن يسمى كل من نتاج أوائل القرن التاسع عشر، ونتاج الثلث الأخير من القرن العشرين بالأدب الحديث مع ما بينهما من خلاف ليس أقل من الخلاف بين القديم والحديث؟
والجواب أن القديم والحديث من الأمور السنية، فما هو حديث اليوم، وسوف يكون قديمًا في الغد، وما هو قديم اليوم، قد كان حديثًا بالأمس، وكل ما في الأمر أن تاريخنا الأدبي مرتبط بتاريخنا السياسي، وقد اصطلح
1 / 14
على تسمية ذلك العصر الذي سلف تحديده بالعصر الحديث، رغم أن أوائله أوشكت أن تفقد صفة الحداثة.. وإذن فهو عصر حديث؛ لأنه يقابل ما كان من عصور قديمة، ثم؛ لأنه العصر الذي بدأ فيه فعلا ما يسمى بتاريخ مصر الحديث، وأخيرًا؛ لأنه منذ بدايته يخالف في وضوح هذا التخلف المؤلم الذي فرض على الشعب المصري من قبل، خلال العهد التركي.
ومهما يكن من أمر، فالمهم ليس الاسم، وإنما هو الدرس، وما دام أساس الدرس هو التمييز بين فترات ذلك العصر، وتحديد سمات كل فترة وخصائص أدبها، فهذا يكفي.
وسوف أتناول في هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ تطور الأدب الحديث في مصر، من أول هذا العصر الحديث إلى قيام الحرب الكبرى الثانية، أي خلال أربع فترات من هذه التي تؤلف هذا العصر، وقد اتخذت من الحرب العالمية الثانية نقطة انتهاء لهذا الكتاب؛ لأنها -في رأيي- بداية مرحلة جديدة في الحياة الفكرية والأدبية، ففي سنواتها عرف كثير مما كان مجهولًا عن الاشتراكية وفكرها، وأدبها، وفي أعقابها أخذ الاتجاه الواقعي الاشتراكي يجذب طائفة من المفكرين والأدباء المصريين، وهكذا لم يعد الفكر والأدب الغربيان ينفردان بالتأثير، كما كان الحال قبل تلك الحرب، وإنما ظهر مؤثر جديد له قوته، وفعاليته مما سيتضح بجلاء في الأدب المصري بعد تلك الحرب، كل ذلك بالإضافة إلى ما وفد من مذاهب واتجاهات من الغرب، وما نشأ من قيم وأفكار منذ تلك الحرب، التي غيرت الكثير من الغرب، وما نشأ من قيم وأفكار منذ تلك الحرب، التي غيرت الكثير من المقررات والمواضعات، الأمر الذي يجعل منها نقطة لعصر، ونقطة ابتداء لعصر جديد.
وسوف أحاول أن أعرض في هذا الكتاب لكل الأنواع الأدبية التي عاشت خلال كل فترة، وأن أتتبع كل نوع في تطوره من فترة إلى أخرى، وذلك من خلال المؤثرات العامة التي وجهت الأدب كله، ثم من خلال العوامل
1 / 15
الخاصة التي أسهمت في تشكيل كل نوع أدبي على حدة.
ونظرًا لوفرة النتاج القصصي والمسرحي في فترة ما بين الحربين، قد خصصت له كتابًا مستقلًا هو في الواقع مكمل لهذا الكتاب، وقد عرضت في الكتاب الثاني هذا النتاج عرضًا نقديًا يأخذ حقه من التفصيل، بجانب ما اشتمل عليه هذا الكتاب لاأول من عرض تاريخي قضت الضرورة أن يكون على شيء من الإجمال، وهذا الكتاب الثاني هو الأدب القصصي والمسرحي -من أعقاب ثورة ١٩ إلى قيام الحرب العالمية الثانية.
أما ما تبقى من فترات العصر الحديث -منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم- فأرجو أن أوفق إلى إنجاز دراسة عنها قريبًا إن شاء الله.
والله الموفق، ومه يستمد العون.
المؤلف.
1 / 16
تمهيد:
الحالة الثقافية والأدبية قبل العصر الحديث.
كانت القرون الثلاثة التي سيطر فيها الحكم التركي على مصر، قد عملت عملها في إغماض العيون، وتكبيل العقول، وعقل الإرادات، وعقد الألسنة. فقد فرض الأتراك على البلاد نوعا من الاحتلال هو في حقيقته محاولة لقتل البلاد ماديًا وأدبيًا، وذلك أن احتلالهم قد عمل على امتصاص كل خيرات الشعب، ومصادرة جميع موارده، وسجن أروع قدراته، وتعويق أعظم ملكاته. وفي سبيل تنفيذ ذلك قد نقل الأتراك من مصر -أول احتلالهم- كثيرًا من العلماء والفنانين، وعديدًا من الكتب والنفائس١، ثم تركوا الدواوين، وجعلوا أهم الرياسات والأعمال الإدارية في أيدي الأترك، وأذنابهم من المماليك، ثم أكثروا من فرض الضرائب، وأهملوا كل إصلاح، ولم يوجهوا أية رعاية إلى التعليم، حتى لقد أغلقت المدارس بل هدمت وانتبهت٢، وكانت النتيجة أن انطفأت شعلة الحياة العلمية في البلاد، إلا وميضًا ينبعث من الأزهر، الذي ظل الملاذ لما بقي من علوم الدين واللغة، وإن كان يعاني في تلك الآونة كثيرًا من الجمود، ككل مظاهر الحية في ذلك العهد المظلم٣.. كذلك تعطلت الحركة الأدبية بل تحجرت، وانحرفت اللغة العربية بل فسدت، فكثر فيها التركي
_________
١ انظر: بدائع الزهور لابن إياس، وتاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي جـ١ ص٤٢-٤٣.
٢ انظر: تاريخ الحركة القومية للرافعي جـ١، والخطط التوفيقية لعلي مبارك جـ١ ص٨٧.
٣ كانت قد نسيت العلوم الرياضية والطبيعية والعقلية، بل أهمل كل تطوير أو ابتكار في الدراسات اللغوية والشرعية، وأصبح كل النشاط ترديدًا للقديم البالي، ومحاولة من البعض لعلم حواشي وتقريرات، كما فعل الصبان في حاشيته على الأشموني، والزبيدي في تاج العروس.
1 / 17
والعامي، وحادت عن قواعد الإعراب، وابتعدت عن سلامة التركيب العربي الأصيل١.
ومن هنا أصبح الأدب في حالة من السقم تقارب الموت ... فكانت تمثله نماذج نثرية وشعرية هزلية، ليس من وراءها أي صدق إحساس أو فنية تعبير، بل ليس من وراءها حتى تقليد لتلك النماذج الرائعة، من أدبنا في عصور الازدهار، وإنما هي نماذج شاحبة مفتعلة غالبًا، تغطي ركاكتها في أكثر الأحيان ألوان من البديع، كثيرًا ما تبدو كأكفان ذات ألوان وتطاريز، تلف أجداثًا وعظامًا نخرة.
وقد كان أغلب النتاج الأدبي لتلك الفترة، يدور حول الأمداح النبوية، والأمور الإخوانية، والمراثي الباردة، والمواعظ المباشرة، وتسجيل بعض الأحداث في لغة سقيمة، على أن الروح المصرية وبعض ومضاتها الفنية كانت تلوح في بعض النماذج الفصحى حينا، وتنفس عن نفسها عن طريق الأدب الشعبي أحيانًا. وكان هذا الأدب الشعبي ممثلًا في الموال، والأغنية. والسيرة الشعبية، التي كان منها الديني كسيرة السيد البدوي، أو سيرة سيدي إبراهيم الدسوقي أو قصة سيدنا علي ورأس الغول، كما كان منها التاريخي البطولي مثل أبي زيد الهلالي، وعنترة والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن. بل غلب هذا الاتجاه حتى أصبح لقب الشاعر يطلق عادة على شاعر الربابة، الذي قص تلك الأشعار على الناس في المقاهي والمحافل، وهذا يؤكد أن الروح الفنية عاشت كامنة في ضمير الشعب، تنتظر الجو الملائم للانطلاق الرائع.
ويكفي لتصور المستوى العلمي، وما بلغه من تخلف حينذاك، أن نقرأ ما حكاه الجبرتي عن دهشته البالغة هو وبعض إخوانه، خلال زيارتهم
_________
١ اقرأ على سبيل المثال: بدائع الزهور وعجائب الدهور لابن إياس، وعجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي، فالأول يمثل صدر العصر التركي، والثاني يمثل آخره، وكلاهما يكتب بلغة تبعد كثيرًا عن الاستقامة، مما يصور فساد اللغة طيلة هذا العهد المظلم.
1 / 18
لمعمل علمي من معامل الفرنسيين، وحضورهم بعض التجارب هناك، فقد تحدث الجبرتي عن ذلك كله، وكأنه يتحدث عن عمل من أعمال السحر.. يقول الجبرتي في حديثه عن المعمل، وبعض التجارب العلمية التي كان يجريها الفرنسيون: ... وأفردوا مكانًا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي، ومن غريب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك، أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوعة فيها بعض المياه المستخرجة، فصب منها شيئًا في كأس، ثم صب عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعلا الماء، وصعد منه دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس، وصار حجرًا أصفر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا أخذناه بأيدينا ونظرناه، ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرًا ياقوتيا، ثم أخذ مرة شيئًا قليلًا جدًّا من غبار أبيض، ووضعه على السندال، وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة، انزعجنا منه فضحكوا منا ... ولهم فيه أمور وأحوال، وتراكيب غريبة، ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا١.
كذلك يكفي لتصور المستوى اللغوي أن نقرأ بعض ما كتبه ابن إياس٢، أو الجبرتي، وإن كان الجبرتي يمتاز بكثير من الروح المصرية ذات الومضات الفنية، التي تلوح أحيانًا من خلال التهافت اللغوي، ومن ذلك قوله متحدثأ عن بعض الولاة: ومما اتفق له أن بعض التجار أراد الحج، فجمع ما عنده من الذهبيات والفضيات، واللؤلؤ والجوهر ومصاغ حريمه، ووضعه في صندوق وأودعه عند صاحب له بسوق مرجوش، يسمى الخواجا علي الفيومي، بموجب قائمة أخذها مع مفتاح الصندوق، وسافر إلى الحجاز، وجاور هناك سنة،
_________
١ انظر: عجائب الآثار للجبرتي جـ١ ص٣٥-٣٦.
٢ لابن إياس كتابة تقرب من العامية أحيانًا، مثل قوله عن ثورة بعض الجند فصاروا يسبوا ملك الأمراء سبا فاحشًا، وكان سبب ذلك أنه كان لهم ثلاثة أشهر جامكية منكسرة، فنفق عليهم شهرين وتأخر لهم شهرًا واحدًا، فقالوا: ما نسافر حتى ينفق علينا الشهر المنكسر، وإلا نزلنا نهبنا المدينة وشوشنا على الناس، انظر: بدائع الزهور جـ٥ ص٣٠٢.
1 / 19
ورجح مع الحجاج، وحضر إليه أحبابه وأصحابه للسلام عليه، وانتظر صاحبه الحج علي الفيومي فلم يأته، فسأل عنه فقيل له: إنه طيب بخير، فأخذ شيئا من التمر واللبان والليف ووضعه في منديلِ، وذهب إليه ودخل عليه، ووضع بين يديه ذلك المنديل، فقال له: من أنت، فإني لا أعرفك قبل اليوم حتى تهاديني؟ فقال: أنا فلان صاحب الصندوق الأمانة، فجحد معرفته وأنكر ذلك بالكلية، ولم يكن بينه وبين بينة تشهد بذلك، فصار عقل الجوهري، وتحير في أمره، وضاق صدره، فأخبر بعض أصحابه، فقال له: اذهب إلى كجك محمد أوده باشه، فذهب إليه وأخبره بالقصة، فأمره أن يدخل إلى المكان الداخل، ولا يأتي حتى يطلبه، وأرسل إلى الفيوم، فلما حضر إليه بش في وجهه ورحب به وآنسه بالكلام الحلو، ورأى في يده سبحة مرجان فأخذها من يده يقلبها، ويلعب بها ثم قام كأنه يزيل ضرورة، وأعطاها لخادمه وقال له: خذ خادم الخواجا صحبتك، واترك دابته هنا عند بعض الخدم، وذاهب صحبة الخادم إلى بيته، وقف عند باب الحريم وأعطهم السحبة أمارة، وقل لهم: إنه اعترف بالصندوق الأمانة، فلما رأوا الأمارة والخادم، لم يشكوا في صحة ذلك، وعندما رجع كجك محمد إلى مجلسه، قال للخواجا: بلغني أن رجلا جواهرجي أودع عندك صندوقًا أمانة ثم طلبه فأنكرته، فقال: لا وحياة رأسك، ليس له أصل، وكأني اشتبهت عليه، أو أنه خرفان وذهلان، ولا أعرفه قبل ذلك ولا يعرفني، ثم سكتوا، وإذا بتابع الأوده باشه والخادم داخلين بالصندوق على حمار، فوضعوه بين أيديهما، فانتفع وجه الفيومي واصفر لونه، فطلب الأوده باشه صاحب الصندوق، فحضر فقال له: هذا صندوقك؟ قال: نعم، قال له: عندك قائمة بما فيه؟ قال: معي، وأخرجها من جيبه مع المفتاح، فتناولها الكاتب وفتحوا الصندوق، وقابلوا ما فيه على موجب القائمة، فوجدت بالتمام، فقال له: خذ متاعك واذهب، ثم التفت إلى الخواجا الفيومي -وهو ميت في جلده ينتظر ما يفعل به- فقال له: صاحب الأمانة أخذها، إيش جلوسك؟
1 / 20
فقام، ينفض غبار الموت وذهب١.
وأخيرًا يكفي لتصور حال الشعر، وما مني به -في الأعم الأغلب- من هزال وتستر وراء بعض المحسنات، أن نقرأ مثل هذين البيتين لبعض الشعراء في وفاء النيل:
النيل في مصر أوفى ... في توت حادي وعاشر
والناس قد أرخوه ... لله جبر الخواطر٢
فالشاعر ليس عنده شيء يقوله إلا التاريخ للعام الذي أوفى فيه النيل، وكان عام ١١١٧هـ، وهو ما أجهد الشاعر نفسه -وأجهدنا معه- ليرمز إليه بحروف الشطر الأخير من البيتين٣.
على أن بعض نماذج الشعر كانت تخلو من المحسنات التي في مقدمتها التاريخ، وتأتي مجرد سرد مجانب لأبسط مقومات الشعر، بل غير سالم من الانحراف اللغوي، وإن اشتمل أحيانًا على الروح المصري اللطيف، ومن ذلك قول الشيخ حسن البدوي:
كن جار كلب، وجار الشرة اجتنب ... ولو أخا لك من أمٍ يرى وأبِ
_________
١ انظر: عجائب الآثار للجبرتي جـ١ ص٩٧.
٢ انظر: عجائب الآثار للجبرتي جـ١ ص٣٠.
٣ لكل حرف من الحروف الهجائية رقم يقابله؛ فالشاعر يأتي بكلمات ذات حروف يؤدي حاصل جمعها إلى الرقم المطلوب، والحروف الهجائية تقابل بالأرقام هكذا:
أب جـ د هـ وز ح ط ي ك ل م ن س ع
ا ٢ ٣ ٤ ٥ ٦ ٧ ٨ ٩ ١٠ ٢٠ ٣٠ ٤٠ ٥٠ ٦٠ ٧٠
ف ص ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ
٨٠ ٩٠ ١٠٠ ٢٠٠ ٣٠٠ ٤٠٠ ٥٠٠ ٦٠٠ ٧٠٠ ٨٠٠ ٩٠٠ ١٠٠٠
وعلى هذا تكون حروف كلمات الشطر الأخير مقابلة بـ٦٥ + ٢٠٥+ ٨٤٧ والمجموع هو ١١١٧.
1 / 21
ما جار كلب شكا يومًا بوائقه ... إذا شكا غيره من مصمة الوصب
وجانب الدار إن ضاقت مرافقها ... والمرأة السوء، لو معروفة النسب
ومركبًا شر الأخلاق لا سيما ... إن كان ذا قصر أو أبتر الذنب
أو كان ذا بطء سير، والعمائم ما ... تفاحشت كبرًا تبدو كما القبب١
_________
١ انظر: عجائب الآثار جـ١ ص٧٥.
1 / 22
الفصل الأول: فترة اليقظة
أهم أسباب اليقظة
أسلحة علمية للحملة الفرنسية
...
الفصل الأول: فترة اليقظة
من الحملة الفرنسية إلى ولاية إسماعيل ١٧٩٨-١٨٦٣
أهم أسباب اليقظة:
١- أسلحة علمية للحملة الفرنسية:
كانت الحملة الفرنسية ترمي إلى تكوين إمبراطورية شرقية قوية مستقرة١، لذلك اتخذت العلم سلاحًا ضمن أسلحتها، وحشدت العلماء جندًا ضمن جنودها٢، وكان من مظاهر ذلك أن أنشاء العلماء الفرنسيون المصاحبون للحملة في مصر، مراكز للأبحاث الرياضية، ومراصد فلكية، ومعامل كيماوية، كما أنشأوا بعض المصانع ومعملًا للورق، ثم مجمعًا عليمًّا لدراسة أحوال مصر الطبيعية والجغرافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتاريخية والثقافية؛ وكان ذلك أساسًا لإمداد الحكومة الفرنسية بالمعلومات والتوجيهات، والإحصاءات والخرائط، ولتأكيد الوجود الفرنسي في مصر، وإقامته على دعائم من العلم والخبرة.. كذلك أقام الفرنسيون مطبعة عربية، وأصدروا صحيفتين فرنسيتين ونشرة باللغة العربية، كما أقاموا أيضًا مسرحًا للتمثيل، كانوا يقدمون فيه رواية فرنسية كل عشر ليال، وفتحوا مدرستين لتعليم أبناء الفرنسيين، ومكتبة عامة جمعوا فيها ما حملوه معهم من كتب، وماجمعوه من مساجد مصر وأضرحتها.
وكانوا يدعون بعض المصريين إلى مشاهدة ما بها من كتب، كما كانوا يدعونهم إلى مشاهدة بعض تجاربهم العلمية، وذلك لتأليف قلوبهم، وإيهامهم بأنهم جاءوا لتحضيرهم والنهوض بهم٣.
ولعل مما يرتبط بهذه المظاهر، تشكيلهم للديوان، الذي كان يضم تسعة
_________
١ انظر: تاريخ الحركة القومية جـ١ ص٦٦.
٢ انظر: تاريخ الحركة القومية جـ٢ ص٧٩، ١١٨.
٣ اقرأ في الأعمال العلمية والفنية للحملة الفرنسية، تاريخ الحركة القومية جـ١ ص١١٨ إلى ١٥٦.
1 / 25
أعضاء من علماء الأزهر، وذلك للعمل على استتباب الأمن، والتظاهر بأن الشعب يشارك في حكم نفسه١.
ويلاحظ أولًا: أن أغلب تلك المظاهر الثقافية متصل بالعلم العملي، كما يلاحظ ثانيًا، أن جميعها جاءت في صورة عدوانية ضمن الحملة الفرنسية الغازية، ومن هنا لم يكن لها تأثير فعلي في وصل المصريين بالثقافة الأوروبية، وبخاصة الثقافة الأدبية، وإنما اقتصر تأثير كل هذه المظاهر على الإثارة أو الإيقاظ، حتى أحس البعض بوجوب التغيير، وتطلع إلى التسلح بوسائل أفضل، وهذا ما عبر عنه الشيخ حسن العطار٢ بقوله حينذاك: إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد ما بها من العلوم والمعارف٣.
_________
١ انظر: المصدر السابق جـ١ ص٩٥، وما بعدها.
٢ هو من كبار علماء الأزهر، ومم تولوا مشيخته، وقد عاصر الحملة الفرنسية وكان على صلة ببعض علمائها، وهو أستاذ لرفاعة الطهطاوي، وقد توفي سنة ١٨٣٥م.
٣ انظر: الخطط التوفيقية لعلي مبارك جـ٤ ص٣٨.
٢- أول الاتصال الفعلي بالثقافة الحديثة: كان محمد علي جنديًا ألبانيا مغامرًا، قد جاء إلى مصر ضمن الحملة التركية التي اشتركت في إخراج الفرنسيين سنة ١٨٠١م، وقد امتدت أطماعه إلى الاستقلال بمصر أولًا، ثم تأسيس إمبراطورية كبيرة ثانيًا، واستطاع بدهائه ومكره أن يخدع القوى الشعبية التي ظهرت قوتها أثناء مقاومة الفرنسيين، حتى ولته تلك القوى حاكمًا على البلاد سنة ١٨٠٥م، وما لبث أن خان تلك القوى، فاضطهد زعماءها وعلى رأسهم السيد عمر مكرم، كما غدر بالمماليك فنكل بهم في مذبحة القلعة، ورأى أن الحاجة ماسة إلى قوة مسلحة تخمد القوى الشعبية التي يدين لها بعرشه، وترهب بقايا المماليك الذين ينازعونه سلطانه، كما تحميه من تركيا التي تملك عزله، وإنجلترا التي تهدد أطماعه١. فعمد إلى إنشاء جيش قوي، وعمل كل ما من شأنه أن يحيط هذا الجيش _________ ١ اقرأ عن محمد علي بالتفصيل في: تاريح الحركة القومية للرافعي جـ٢ ص٣١١ وما بعدها، وجـ٣.
٢- أول الاتصال الفعلي بالثقافة الحديثة: كان محمد علي جنديًا ألبانيا مغامرًا، قد جاء إلى مصر ضمن الحملة التركية التي اشتركت في إخراج الفرنسيين سنة ١٨٠١م، وقد امتدت أطماعه إلى الاستقلال بمصر أولًا، ثم تأسيس إمبراطورية كبيرة ثانيًا، واستطاع بدهائه ومكره أن يخدع القوى الشعبية التي ظهرت قوتها أثناء مقاومة الفرنسيين، حتى ولته تلك القوى حاكمًا على البلاد سنة ١٨٠٥م، وما لبث أن خان تلك القوى، فاضطهد زعماءها وعلى رأسهم السيد عمر مكرم، كما غدر بالمماليك فنكل بهم في مذبحة القلعة، ورأى أن الحاجة ماسة إلى قوة مسلحة تخمد القوى الشعبية التي يدين لها بعرشه، وترهب بقايا المماليك الذين ينازعونه سلطانه، كما تحميه من تركيا التي تملك عزله، وإنجلترا التي تهدد أطماعه١. فعمد إلى إنشاء جيش قوي، وعمل كل ما من شأنه أن يحيط هذا الجيش _________ ١ اقرأ عن محمد علي بالتفصيل في: تاريح الحركة القومية للرافعي جـ٢ ص٣١١ وما بعدها، وجـ٣.
1 / 26
بأسباب القوة، فأنشأ مدرسة حربية، ثم مدرسة للطب ليقوم أبناؤها بعلاج الجيش، ثم أنشأ مدرسة للصيدلة، وأخرى للطب البيطري -وأخرى للهندسة- كما أنشأ عددًا من المدارس الابتدائية والتجهيزية١.
وقد استقدم محمد علي -أول الأمر- الأساتذة الأجانب للتدريس في المدارس المختلفة، ونظرًا لعدم معرفة هؤلاء بلغة البلاد أو معرفة التلاميذ بلغتهم، فقد استعان بالمترجمين من السوريين والمغاربة، وغيرهم٢.
كذلك أرسل محمد علي البعثات إلى أوروبا، ليقوم أبناؤها فيما بعد بمطالب الجيش، وللتدريس في تلك المدارس التي هي في خدمة الجيش، وقد تعددت البعثات وتنوعت، بين هندسية وطبية وزراعية وصيدلية وقانونية، وسياسية وكيماوية، كما كان منها بعثات للتخصص في الطباعة والحفر، والميكانيكا وغيرها٣.
وهكذا كان أول لقاء عملي بين المصريين والثقافة الغربية في العصر الحديث.
وقد أنتج هذا اللقاء ثمارًا طيبة، فقد عاد هؤلاء المبعوثون بعلم جديد وعقلية جديدة إلى بلادهم، فعلموا في المدارس وعملوا في المصالح، وترجموا وألفوا وخططوا، وبهذا وضعوا أساس الحركة الثقافية والأدبية الحديثة، كما بدءوا تطوير اللغة بما ترجموا إليها من علوم حديثة، وبما أمدوها به من مصطلحات جديدة، ثم بما عبروا عنه من أفكار وموضوعات منوعة، أكثرها يتصل بالحياة، ويرتبط بموكب الثقافة الإنسانية المتطورة.
وكان من أجل مظاهر ذلك، مدرسة الألسن التي اقترح إنشاءها رفاعة الطهطاوي، وعهد إليه بإدارتها، وكانت تعني بدراسة اللغات الفرنسية
_________
١ انظر: تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ٤ ص١٩ وما بعدها، وتاريخ التعليم في عصر محمد علي لأحمد عزت عبد الكريم.
٢ تاريخ آداب اللغة العربية جـ٤ ص٣٠، ١٦٦.
٣ المصدر السابق: ص٢٠-٢١، وتاريخ التعليم في عصر محمد علي لأحمد عزت عبد الكريم ص٤٣٤-٤٥٣.
وانظر كذلك: Studies on he Civiaztion of Islam، Gibb. p ٢٤٧
1 / 27
والإيطالية والتركية والفارسية، إلى جانب آداب اللغة العربية، والتاريخ والجغرافيا والشريعة الإسلامية، والشرائع الأجنبية.
وقد استطاعت مدرسة الألسن بفضل خريجيها، أن تترجم كثيرًا من الكتب القيمة، كما ترجم رفاعة رسائل عديدة في مختلف الفنون والعلوم، وترجم كذلك بعض قطع من الشعر الفرنسي، من بينها نشيد المرسيلييز، وترجم دستور فرنسا وعلق عليه بوعي لمفاهيم الحرية، وحقوق المواطنين ونظام الحكم١.
ولعل من أهم المظاهر الثقافية التي عرفت في تلك الآونة، إنشاء المطبعة الأميرية سنة ١٨٢٢، ثم إصدار صحيفة سميت أولًا باسم جورنال الخديو، ثم أخذت اسم الوقائع المصرية، وكانت تحرر أولًا بالتركية والعربية، ثم صارت تكتب بالعربية وحدها٢.
وليس من شك في أن تلك الألوان الثقافية قد أثمرت ثمارًا طيبة منذ تلك الآونة، رغم ما كان من نكسة للثقافة، وتعويق الفكر في عهد عباس الأول وسعيد، على اختلاف في درجة التعويق، ومظهر النكسة بين هذين الحاكمين الرجعيين٣.
_________
١ تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي جـ١ ص٤٧٨ وما بعدها، واقرأ عن رفاعة في: رفاعة الطهطاوي للدكتور أحمد بدوي، والخطط التوفيقية لعلي مبارك جـ١٣ ص٥٣، وتراجم مشاهير الشرق جـ٣ ص١٩، تاريخ الحركة القومية للرافعي جـ٤ ص٤٧٠، وما بعدها.
٢ تاريخ آداب اللغاة العربية لجورجي زيدان جـ٣ ص٦٣ وما بعدها، وأدب المقالة الصحفية في مصر للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ١ ص١١٠، ١٢٦، ١٢٧. وتاريخ الحركة القومية للرافعي جـ٣ ص٥٣٧-٥٣٨.
٣ أغلق عباس المدارس بما في ذلك مدرسة الألسن، واستدعى أعضاء البعثات، ونفي رفاعه الطهطاوي إلى السودان، وأمر أولًا بقصر الترجمة على التركية، ثم ألغاها نهائيًا. أما سعيد فرغم أنه أتاح بعض الفرص للمصريين بإلغاء نظام الاحتكار، وإباحة الترقي في الجيش إلى رتبة ضابط، فإنه قد ألغى ديوان المدارس،
وأوقف مطبعة بولاق وعطل حركة الترجمة والنشر. اقرأ: تاريخ التعليم في مصر -عصر عباس وسعيد، لأحمد عزت عبد الكريم.
1 / 28
وهناك ملاحظات على تلك الحركة الثقافية التي كانت في عهد محمد علي، منها أنها دارت -قبل كل شيء- حول الجيش، ولم تتجه أساسًا إلى إضاءة الحياة المدنية، ومنها أنه عنيت أولًا بأبناء الأتراك والمماليك، وكان حظ أبناء الشعب منها ضئيلًا، ومنها أنها اهتمت -أكثر ما اهتمت- بالجوانب العملية والمادية، ولم تعط إلا القليل للجوانب النظرية والأدبية.
ولهذا كله لم يكن تأثير تلك الحركة الثقافية على الحياة الفكرية والأدبية قويًّا، وخاصة إذا ذكرنا أن الشعب كان في ذاك العهد يعاني من سوء الحالة الاقتصادية ما لا يمكنه أن يفرغ لفكر أو يقبل على أدب؛ فقد نزع محمد علي الأرض من يد الفلاحين، وأصبح هو المالك لكل شيء، أما الناس عنده فهم أشبه بآلات تعمل لتنتج له ما يرضي طمعه، كما كان الوالي هو صاحب الأمر في كل شيء، وليس للشعب رأي في أمور بلده، بعد نفي الزعامات الشعبية واضطهاد العناصر الوطنية، وحكم الشعب حكمًا استبداديًّا غاشمًا.
وأهم الثمار التي جنيت من هذه الحركة الثقافية هي ظهور جماعة من المثقفين المصريين، الذين نهلوا من ثقافة الغرب وعرفوا لغته وبعض أدبه، وأصبحوا يمثلون -آخر الأمر- لونًا جديدًا إلى جانب اللون التقليدي الممثل في علماء الأزهر حينذاك، وهؤلاء المثقفون الجدد سيقومون هم، وتلاميذهم بريادة التيار الثقافي الجديد، والتبشير بحياة أدبية جديدة، رغم ما حدث من تعويق وانتكاس في عهدي عباس، وسعيد على ما سبقت الإشارة إليه١.
وربما كان من ثمار تلك الحركة كذلك، انتعاش اللغة العربية بعض الانتعاش، وتجددها بعض التجدد، وذلك؛ لأنها أصبحت لغة العلوم الحديثة ولغة الصحافة الجديدة، ووسيلة الأفكار والنظم الوافدة، فاتسعت للمصطلحات العلمية والفنية، ومالت أكثر إلى الموضوعية، وتخلصت نوعًا من الركاكة والتكلف. وربما كانت تلك بداية اللغة العربية الحديثة المتطورة٢.
_________
١ اقرأ الهامش السابق.
٢ تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص٢١.
1 / 29