Encyclopedia of Tafsir Before the Age of Writing
موسوعة التفسير قبل عهد التدوين
خپرندوی
دار المكتبى
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٧ م
د خپرونکي ځای
دمشق
ژانرونه
القسم الأول تفسير القرآن الكريم في العهد النّبويّ
1 / 5
الباب الأول مع القرآن الكريم
1 / 7
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تمهيد
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، ﷺ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الكرام أجمعين، ومن سار على هذا الدرب إلى يوم الدين، وبعد:
فقد أرسل الله رسوله بمهمة تفصيل وتبيان ما أجمل في القرآن الكريم، كما في قول الله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١).
وقوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢).
وجاء في القرآن الكريم توجيهات دقيقة تبين مدى ارتباط القرآن الكريم بالسنّة النبوية، وذلك من خلال ربط طاعة الله بطاعة رسوله ﷺ، كما في قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (٣).
_________
(١) النحل: ٤٤.
(٢) النحل: ٦٤.
(٣) النساء: ٨٠.
1 / 9
وقوله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (١).
لكن الطاعة لا تكون باللسان فحسب، إنما يتعدى ذلك إلى كل جزئيات حركة الإنسان، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (٢).
وهكذا، فمن طاعة رسول الله ﷺ تتبّع ما تحدّث به عن القرآن، أي ما فسره الرسول من القرآن، ذلك لأن أفضل ما يفسّر القرآن القرآن ذاته، ثم ما يفسره رسول الله.
وهذا التفسير النبوي ليس إلا وحيا من الله، وكما قال العلماء:
القرآن وحي مجمل والسنة وحي مفصّل، ولا غنى لأحدهما عن الآخر:
وحي بتفصيل ووحي مجمل ... تفسيره ذاك وحي ثان
وعلى هذا المنوال عاش الرعيل الأول من هذه الأمة مع القرآن وتفسير رسول الله لما أبهم وأجمل وأشكل منه، ولم يعرف عن أحد منهم تفسيره بالرأي، ولم يؤثر عن أحدهم أن له تفسيرا للقرآن الكريم.
ودار الزمن دورته، وإذا بين أيدي المسلمين طائفة كبيرة من كتب التفاسير، زاد بعضها عن عشرات المجلدات، ويتساءل العاقل: كيف حدث هذا التضخّم؟ وماذا حشيت هذه المجلدات؟!
صحيح أن بعضها- وهي القلة- يحوي زبدة الأحكام والقضايا المهمة، لكن الكثير منها يحوي الغث والسمين، ودخلت الإسرائيليات والموضوعات والبدع فيها، واختلط الحابل بالنابل، حتى ضاع الكلم الطيب في هذا الزحام.
_________
(١) النساء: ٦٤.
(٢) النساء: ٦٥.
1 / 10
والطامة الكبرى أن الأمة ابتليت بمن تصدّى لتفسير الكتاب العزيز، وهو لا يرقى إلى فهم مقطوعة من النثر أو الشعر العربي، وفسروا القرآن بعيدا عن السنة، فكان ما كان، ورحم الله القائل:
تصدّر للتأليف كل مهوّس ... جهول يسمى بالفقيه المدرّس
وحقّ لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى استامها كل مفلس
لكن العودة إلى سنة رسول الله لنلتقط منها ما صحّ عن رسول الله في مجال تفسير كتاب الله هو الضابط لكل ما يدور في هذا الحقل، وكان هذا الكتاب المتواضع، سائلا الله القبول والعفو، إنه هو السميع المجيب.
***
1 / 11
الفصل الأول الفرق بين التفسير والتأويل
على الرغم من أن العرب الذين أنزل فيهم القرآن الكريم، كانوا على مستوى رفيع من التذوّق اللغوي، وذلك من خلال اهتمامهم بالشّعر والبلاغة ونحو ذلك، على الرغم من ذلك فإنما احتيج إلى شرح وتأويل للقرآن الكريم، قال الإمام السيوطي: (إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه، أما دقائق معانيه، فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر، مع سؤالهم النبي ﷺ في الأكثر، كسؤالهم لما نزل قوله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (١).
فقالوا: وأيّنا لم يظلم نفسه؟! ففسّره النبي ﷺ، واستدلّ عليه بقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢).
وكسؤال عائشة ﵂ عن الحساب اليسير، فقال: «ذلك العرض».
وكقصة عديّ بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود وغير ذلك، مما سألوا عن آحاد منه، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه،
_________
(١) الأنعام: ٨٢.
(٢) لقمان: ١٣.
1 / 13
وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلّم، فنحن أشدّ الناس احتياجا إلى التفسير، ومعلوم أن تفسير بعضه يكون من قبل بسط الألفاظ الوجيزة، وكشف معانيها، وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض) (١).
وهكذا فمسألة تفسير القرآن وتأويله شرف كبير يؤتيه الله من شاء من خلقه، دليل ذلك قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (٢).
وفسّر الحكمة حبر الأمة عبد الله بن عباس ﵁ بقوله:
المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
ومن طريق آخر قال ابن عباس: يعني تفسير القرآن، فإنه قد قرأه البرّ والفاجر.
وزاد أبو الدرداء فقال: الحكمة هي: قراءة القرآن والفكرة فيه.
قال الأصبهاني: أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن، بيان ذلك أن شرف الصناعة إمّا بشرف موضوعها مثل الصياغة، فإنها أشرف من الدباغة، لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة، وهما أشرف من موضوع الدباغة الذي هو جلد الميتة، وإما بشرف غرضها، مثل صناعة الطب، فإنها أشرف من صناعة الكناسة، لأن غرض الطب إفادة الصحة، وغرض الكناسة تنظيف المستراح، وإما لشدّة الحاجة إليها كالفقه، فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب، إذ ما من واقعة في الكون في أحد من الخلق إلا وهي مفتقرة إلى الفقه، لأن به انتظام
_________
(١) الإتقان في علوم القرآن: ٤/ ١٧٠.
(٢) البقرة: ٢٦٩.
1 / 14
صلاح أحوال الدنيا والدين، بخلاف الطب، فإنه يحتاج إليه بعض الناس في بعض الأوقات.
وعلق الحافظ السيوطي على ذلك بقوله:
إذا عرف ذلك، فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاث، أما من جهة الموضوع، فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلق على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، وأما من جهة الغرض، فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقة التي لا تفنى، وأما من جهة شدة الحاجة، فلأن كل كمال ديني أو دنيوي، عاجلي أو آجلي، مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتابة الله تعالى (١).
واختلف العلماء في التفسير والتأويل، فمنهم من قال: إنها بمعنى واحد، ومنهم من قال: بل إنهما مختلفان في المعنى.
قال العلامة ابن منظور: (الفسر) البيان، فسر الشيء يفسر بالكسر ويفسره بالضم فسرا، وفسره: أبانه، والتفسير مثله.
ثم قال: الفسر: كشف المغطى، والتفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل (٢).
وفي الاصطلاح: عرّفه العلامة الزركشي (ت: ٧٩٤ هـ) بقوله: هو علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد ﷺ، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه (٣).
_________
(١) للتوسّع يراجع: الإتقان في علوم القرآن: ٤/ ١٧٣.
(٢) لسان العرب: ٦/ ٣٦١.
(٣) البرهان في علوم القرآن: ٢/ ٢٨٧.
1 / 15
وعرفه بعضهم بأنه: علم نزول الآيات، وشئونها، وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسّرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها (١).
وأما التأويل فعرّفه ابن منظور بقوله: الأول: الرجوع، آل الشيء يؤول أولا ومآلا: رجع، وأول الشيء: رجعه، وألت عن الشيء:
ارتددت، وفي الحديث الشريف: «من صام الدهر فلا صام ولا آل» أي ولا رجع إلى خير .... ثم قال: وأوّل الكلام وتأوّله: دبره وقدره، وأوله: فسّره (٢).
أما عن الفرق بين التفسير والتأويل: ففي ذلك اختلاف وجهات نظر:
قال بعضهم: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية (٣).
وقال الراغب الأصفهاني: التفسير أعمّ من التأويل، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل في المعاني، كتأويل الرؤيا.
والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهية، والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها، والتفسير أكثره يستعمل في مفردات الألفاظ، والتأويل أكثره يستعمل في الجمل.
فالتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ كالبحيرة والسائبة
_________
(١) الإتقان في علوم القرآن: ٢/ ١٧٤.
(٢) لسان العرب: ١٣/ ٣٤.
(٣) الإتقان: ٢/ ١٧٣.
1 / 16
والوصيلة، أو في تبيين المراد وشرحه، كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (١).
وإما في كلام مضمن بقصة لا يمكن تصوره إلا بمعرفتها، نحو قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) (٢) وقوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) (٣).
وأما التأويل: فإنه يستعمل مرة عاما، ومرة خاصا، نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصة.
والإيمان المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفي تصديق دين الحق تارة، وإما لفظ مشترك بين معان مختلفة، نحو لفظ وجد، المستعمل في الجدة والوجد والوجود (٤).
وقال الماتريدي:
التفسير القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي وهو المنهي عنه، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله (٥).
وعلّل الزركشي سبب الاختلاف فقال: وكان السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط، ليحيل على الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط (٦).
...
_________
(١) البقرة: ٤٣.
(٢) التوبة: ٣٧.
(٣) البقرة: ١٨٩.
(٤) مفردات ألفاظ القرآن: ٤٠٢.
(٥) للتوسع يراجع: الإتقان ٢/ ١٧٣.
(٦) البرهان للزركشي: ٢/ ٢٩١.
1 / 17
الفصل الثاني لماذا العودة إلى العهد الأول؟
في القاعة الأولى من مكتبة الأسد بدمشق، وفي قسم التفسير، يوجد كمية كبيرة من كتب التفسير، منها القديم ومنها الحديث، وفي كل عام تطالعنا المطابع بشيء جديد يتعلّق بأمور التفسير.
ولو استعرضنا بعضا من هذه التفاسير، لرأينا أمرا عجبا!! فبعض هذه التفاسير تكلّمت عن كل شيء، جامعة أمورا كثيرة، لكن كما قال أحد العلماء: فيها كل شيء إلا تفسير القرآن الكريم!!
لكن وقبل الدخول في الحديث التفصيلي عن الأمور التي حشي بها التفسير، نذكر بعض الموجود من التفاسير:
تفسير الإمام الطبري، المسمى جامع البيان في تأويل القرآن، وهو مطبوع (١٢ مجلدا)، وإرشادات العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم للعلامة أبي السعود: (٥ مجلدات)، وتفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري: (٦ مجلدات)، والتفسير الكبير مفاتيح الغيب، للإمام الرازي: (٣٤ مجلدا)، والتفسير الفريد للقرآن المجيد، لمحمد عبد المنعم الجمال: (١٦ مجلدا)، ومحاسن التأويل، للعلامة محمد جمال الدين القاسمي: (١٧ مجلدا)، وتفسير القرآن العظيم، للعلامة عماد الدين بن كثير: (٧ مجلدات)، وتفسير القرآن وإعرابه وبيانه، لمحمد علي طه الدرة: (١٦ مجلدا)، الجامع لأحكام القرآن، للعلامة محمد أحمد الأنصاري القرطبي:
1 / 19
(١٠ مجلدات)، والتفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج للدكتور وهبة الزحيلي، (١٧ مجلدا)، ومدارك التنزيل وحقائق التأويل، للعلامة عبد الله النسفي، (٤ مجلدات)، وتفسير البحر المحيط، للعلامة أبي حيان الأندلسي: (٩ مجلدات)، ومعالم التنزيل، للعلامة أبي محمد الحسين الفراء البغوي: (٤ مجلدات)، والتفسير الحديث، لمحمد عزة دروزة، (١٢ مجلدا)، الدر المنثور في التفسير المأثور، للحافظ السيوطي: (٨ مجلدات)، زاد المسير في علم التفسير، للعلامة ابن الجوزي: (٨ مجلدات)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي: (١٤ مجلدا)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للعلامة الآلوسي: (١٧ مجلدا)، مجمع البيان في تفسير القرآن، للعلامة الطبرسي: (١٠ مجلدات)، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، للإمام الشوكاني (٦ مجلدات)، التبيان في تفسير القرآن، لأبي جعفر الطوسي: (١٠ مجلدات)، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي: (٩ مجلدات)، تفسير التحرير والتنوير، للعلامة محمد الطاهر عاشور: (١٥ مجلدا)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل، للعلامة الزمخشري (٦ مجلدات)، إضافة إلى تفسيرات كثيرة، وخاصة التي تتحدث عن موضوع ما، أو سورة ما، أو زاوية فقهية ما.!!
إذا: لماذا العودة إلى التفسير في عهد النبي ﷺ، وعهد صحابته والتابعين، بعد ما رأينا هذا الكمّ الهائل من كتب التفسير في هذه الأيام؟!
وفي الجواب نقول بحول الله وقوته:
إن في كتب التفاسير بدعا وموضوعات وإسرائيليات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يحتجّ بها واحد من أنصاف المتعلمين، على أن هذه
1 / 20
ليست إلا روايات مبثوثة في كتب التاريخ والتفسير لا تقدّم ولا تؤخر.
ذلك لأن الواقع قد أثبت بما لا شك فيه أبدا أن لهذه الموضوعات والبدع والإسرائيليات آثارا مدمرة فتاكة، بحيث كان لها الدور الكبير في تمزيق المجتمع المسلم إلى أحزاب وفرق وشيع، من حيث الجدل العقيم الذي دار بين المسلمين حول الجبر والقدر والاختيار والحاكمية ونحو ذلك، وما قضية خلق القرآن عن الباحثين ببعيد!!
إضافة إلى تشويش الحركة الثقافية الإسلامية، بحيث أوردها أناس كبار علماء في كتبهم وتفسيراتهم، واحتجّوا بها في محاضراتهم وعلى المنابر وفي مسائل الوعظ، فتلقّفها الناس وخاصة العوام، على أساس أنها من المسلّمات التي لا غبار عليها، وهي في واقع الحال كذب وبدع!!
وكان نتيجة ذلك تراكمات في كتب التفسير، واضطر علماء التفسير إلى نقل بعضها، أو الردّ على بعضها، أو التبرير لبعضها، مما أبعد كتب التفسير عمّا أوجدت من أجله، فأصبح بعضها- كما قيل- يحوي كل العلوم عدا تفسير القرآن الكريم!!
وهكذا فتح باب الدسّ على مصراعيه، لينقضّ المستشرقون والحاقدون على هذا الدين؛ رافعين ألوية التشكيك وزعزعة الثقة بأمثال هذه الكتب، فراحوا يشوهون حقائق الدين مستدلين بأقوال بعض هؤلاء المفسرين- سامحهم الله-.
ثم تلقّف هذه القضية بعض جهلة المسلمين- والذين لا يميّزون بين الغثّ والسمين- فسلّطوا الأضواء الكاشفة على بعض هذه البدع ليستخفّوا من خلالها بما جاء به الإسلام، وليقولوا للناس: إن هذا الدين يخالف المنطق والعقل والعلم!!
أجل: فقد كان لهذه البدع والإسرائيليات والموضوعات أثر عظيم
1 / 21
في تأخّر المسلمين وتخلفهم، وذلك من خلال انشغال كثير من علمائهم بالرد على هذا الهراء، وتبيان الحقيقة الساطعة من خلال الرجوع إلى علوم مضبوطة: كالجرح والتعديل، وروايات التاريخ، وتبيان الصحيح من الموضوع في كتب الأحاديث النبوية، ونحو ذلك.
من هنا نقول:
ما هي الفائدة المرجوة من هذه النقولات الكبيرة والكثيرة، وهي محض افتراء وكذب؟ ولماذا شغل أولئك المفسرون أنفسهم بأمثال هذه الإسرائيليات والبدع في التفاسير والموضوعات، ثم شغلوا من بعدهم بها أيضا؟!
ورحم الله المفسر الكبير أبا حيان الأندلسي الغرناطي (ت:
٧٥٤ هـ) عند ما قال عن كتب التفاسير:
وكذلك ذكروا ما لا يصحّ من أسباب النزول، وأحاديث في الفضائل، وحكايات لا تناسب، وتواريخ إسرائيلية، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير (١).
ثم ما هي الفائدة من ذكر طائفة كبيرة من الروايات- كما في تفسير الطبري- قد يكون بعضها غير صحيح، على الرغم من أنه رحمه الله تعالى ذكر أسانيد الروايات؟!
ما دام أنه لم يبين المجروح من رجال السند ولا المعدّل منهم، فكيف- ونحن في عصر قلّت فيه الخبرة لدى الناس في أمثال هذه العلوم- يتعرّف القارئ في تفسير الطبري على الرواية السقيمة من الرواية الصحيحة؟!
ألا يكفي لمستشرق أو حاقد أو جاهل أن يقول أمرا غير صحيح؟! ألا يكفيه أن يسند رأيه بتفسير جليل لإمام كبير هو تفسير الطبري؟!
_________
(١) البحر المحيط في التفسير: ١/ ٥.
1 / 22
أليس في كتب التراث مرويات صحيحة وحسنة تغني عن أمثال هذه البدع والإسرائيليات؟
ورحم الله الحافظ ابن كثير عند ما قال:
وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة، لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذي ينفون عنها تحريف الضالين، وانتحال المبطلين كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد الذين دوّنوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه، من منكره، وموضوعه ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضّاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي، خاتم الرسل سيد البشر ﷺ، أن ينسب إليه كذب، أو يحدّث عنه بما ليس منه، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم (١).
وإتماما للفائدة، وتنبيها لبعض ما وقع فيه علماء التفسير، سواء كان ذلك عن عمد أو غيره، أسوق بعض الإسرائيليات والموضوعات والبدع، ناقلا إياها من كتب التفسير المطبوعة، راجيا الله تعالى أن يسامح كل من نقل الإسرائيليات والبدع، ولا يتسع المجال لسرد تلكم القصص والخرافات، لذلك سأشير إلى بعض الأماكن التي وردت فيها، وسأنقل بعضها:
١ - قصة مكذوبة عن النبي ﷺ،
وهي حتما من الإسرائيليات التي أوردها الحافظ السيوطي في تفسيره (الدر المنثور): ١/ ٩٧ - ١٠٣.
_________
(١) عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير: اختصار وتحقيق أحمد شاكر، ط ١٩٥٦ دار المعارف: ١/ ١٦ - ١٧.
1 / 23
وهي قصة يرفضها العقل السليم، ويرفضها النقل الدقيق، لذلك حكم السيوطي بوضعها في كتابه: اللئالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: ١/ ٨٢، وكذلك فعل ابن كثير في البداية والنهاية: ١/ ٣٧.
والقصة جاءت في تفسير قوله تعالى: (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (١).
لكن العجيب من واحد كالعلامة الحافظ السيوطي- وهو من هو من العلم والتمحيص والتحقيق- كيف يقبل وضع هذه القصة في تفسيره دون أن يعلّق عليها ولو بكلمة!!
٢ - قصة المسخ:
ينقل الإمام السيوطي في تفسيره الدر المنثور: ١/ ١٠٣ - ١٠٥ رواية عن علي بن أبي طالب ﵁: أن النبي ﷺ سئل عن المسوخ، فقال: هم ثلاثة عشر: الفيل، والدب، والخنزير، والقرد، والجريث، والضب، والوطواط، والعقرب، والدعموص، والعنكبوت، والأرنب، والزهرة، وسهيل.
فقيل: يا رسول الله! وما سبب مسخهن؟ فقال:
أما الفيل: فكان رجلا جبارا لوطيا، لا يدع رطبا ولا يابسا، وأما الدب: فكان مؤنثا يدعو الناس إلى نفسه، وأما الخنزير: فكان من النصارى الذين سألوا المائدة، فلما نزلت كفروا، وأما القردة: فيهود اعتدوا في السبت، وأما الجريث: فكان ديوثا، يدعو الرجال إلى حليلته، وأما الضب: فكان أعرابيا يسرق الحاج بمحجنه، وأما
_________
(١) البقرة: ١٠٢.
1 / 24
الوطواط فكان رجلا يسرق الثمار من رءوس النخل، وأما العقرب:
فكان رجلا لا يسلم أحد من لسانه، وأما الدعموص: فكان نماما يفرّق بين الأحبّة، وأما العنكبوت: فامرأة سحرت زوجها، وأما الأرنب:
فامرأة الزهرة: فكانت لا تطهر من حيضها، وأما سهيل: فكان عشارا باليمن،
وأما الزهرة: فكانت بنتا لبعض ملوك بني إسرائيل افتتن بها هاروت وماروت!!
فهل يقبل مسلم أن تحشى كتب التفسير بأمثال هذه الخرافات وهذا الهراء؛ الذي لا يرقى إلى درجة الخيال العلمي؟! والعجيب أن الحافظ السيوطي ذكر هذه القصة من غير سند، ولم يعلّق عليها بكلمة استنكار!!
٣ - بناء الكعبة:
نقل المفسرون في قضية بناء الكعبة أمورا تشبه الأساطير، وللتوسع يراجع: كتاب الدر المنثور للسيوطي: ١/ ١٢٥ - ١٣٧.
ومن ذلك ما رواه ابن جرير الطبري: عن عطاء بن أبي رباح قال: لما أهبط الله آدم من الجنة: كان رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء (١) يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة، حتى شكت إلى الله في دعائها، وفي صلاتها، فوجه إلى مكة، فكان
_________
(١) رحم الله ابن جرير، كيف لم يحدثنا في هذه الرواية بشكل تفصيلي!! هل كانت رجلاه في الأرض: أهذه هي الأرض التي نعيش عليها؟ ورأسه في السماء: في أي سماء هو؟ في الأولى أم السابعة، وكيف كان وضعه خلال دوران الكواكب والأفلاك؟
مع العلم أن المسافة بين الشمس والمريخ مثلا- (٢٢٨) مليون كم، وبين بلوتو والشمس (٤٠٠٠) مليون ميل، وهكذا في هذا الكون الفسيح، حيث قدّر العلماء أن النور يستغرق (مائة ألف سنة ضوئية) ليصل بين طرفي المجرة اللبنية!! وللتوسّع في ذلك يراجع كتاب (تفكّر ساعة): للمؤلف.
1 / 25
موضع قدمه قرية، وخطوه مفازة حتى انتهى إلى مكة، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن فلم يزل يطوف به، حتى أنزل الله الطوفان فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم ﵇، فبناه، فذلك قوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) (١).
لكن ابن جرير ساق القصة دون أي تعليق، أو تبيان لدرجة الوضع!! ورحم الله الحافظ ابن كثير عند ما قال: ولم يجئ في خبر صحيح عن المعصوم ﷺ أن البيت كان مبنيا قبل الخليل ﵇، ومن تمسك في هذا بقوله: (مَكانَ الْبَيْتِ) فليس بناهض ولا ظاهر، لأن مراده: مكان المقدر في علم الله تعالى، المقرر في قدرته، المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم (٢).
٤ - في هجران المرأة الناشز:
في قوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) (٣)، يقول أحد المفسّرين: معنى (وَاهْجُرُوهُنَّ):
أكرهوهن على الجماع واربطوهن، من هجر البعير إذا شدّة بالهجار!! ويعلّق الزمخشري على ذلك بقوله: وهذا من تفسير الثقلاء (٤).
وهذا أمر من الغرابة بمكان!! فإذا كانت الزوجة ناشزا عاصية زوجها، فكيف يقال له أن يكرهها على الجماع، فإذا أبت وعاندت، فعليه أن يربطها؟!
إنه مخالف لأبسط قواعد الشريعة، والتي أمرت الزوج أن يرسل
_________
(١) تفسير الطبري: ١/ ٤٢٨، والآية من سورة الحج: ٢٦.
(٢) البداية والنهاية: ٢/ ٢٩٩.
(٣) النساء: ٣٤.
(٤) الكشاف: ٢/ ٧٠.
1 / 26
رسولا إلى زوجته قبل أن يواقعها: من كلمة جميلة، وابتسامة بريئة، أو هدية ما أو قبلة ونحو ذلك، وبالتالي فهو مخالف للغة العربية وسياق المناسبة.
فلو قرأ أمثال هذا الهراء مستشرق أو حاقد أو جاهل، أفعليه وزر إن ضرب زوجته أو عدّها في عداد الحيوانات؟!
ومن هنا نفهم السرّ وراء الحملات المسعورة والتي توجّه ضد هذا الدين، وتتهمه في مسألة ظلم المرأة، وللمسلمين دور كبير- وللأسف- في ترويج ذلك كله!!
٥ - قصة القوم الجبّارين:
في تفسير قوله تعالى: (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) (١) أورد المفسرون إسرائيليات وبدعا وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان، من ذلك ما أورده السيوطي عن أبي ضمرة قال:
استظل سبعون رجلا من قوم موسى في خفّ رجل من العماليق!! (٢) وما أورده ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين، فسار بمن معه، حتى نزل قريبا من المدينة، وهي (أريحاء) فبعث إليهم اثني عشر نقيبا، من كل سبط منهم عين، ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة، فرأوا أمرا عظيما من هيبتهم، وجسمهم وعظمهم، فدخلوا حائطا- بستانا- لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجني الثمار، فنظر إلى آثارهم فتبعهم، فكلما أصاب واحدا منهم أخذه، فجعله في كمه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم، فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوه من أمرهم، فقال: اكتموا
_________
(١) المائدة: ٢٢.
(٢) الدر المنثور: ١/ ٢٧.
1 / 27
عنا، فجعل الرجل يخبر أخاه وصديقه، ويقول: اكتم عني، فأشيع في عسكرهم، ولم يكتم منهم إلّا رجلان: يوشع بن نون، وطالب بن يوحنا، وهما اللذان أنزل الله فيهما: (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) (١).
ثم ينقل ابن جرير عن مجاهد أن عنقود عنبهم لا يحمله إلا خمسة أنفس، بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس وأربعة!! (٢)
ويلحق في هذا قصة محشوة بالأباطيل والإسرائيليات، وهي قصة:
عوج بن عوق.
ذكر المفسرون: أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع، وأنه كان يمسك الحوت، فيشويه في عين الشمس، وأن طوفان نوح لم يصل إلى ركبتيه، وأنه امتنع عن ركوب السفينة مع نوح، وأن موسى كان طوله عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع، ووثب في الهواء عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسرا لأهل النيل سنة و.. !!!
فهل يسمى هذا تفسيرا للقرآن وهو يخالف القرآن ذاته؟!
وذلك كلام الله في القرآن وهو يحدثنا عن دعاء نوح على قومه:
(رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا) (٣) ثم يحدثنا عن مصارع الكافرين جميعا: (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) (٤).
ومعلوم أن الله أغرق ابن نوح لأنه عاند وتكبّر ورفض الركوب مع المؤمنين، وهذا ما أكّده القرآن في عدة مواضع، منها قوله تعالى:
_________
(١) المائدة: ٢٣.
(٢) تفسير الطبري: ٦/ ١١٢.
(٣) نوح: ٢٦.
(٤) الشعراء: ١١٩ - ١٢٠.
1 / 28