Encyclopedia of Scientific Miracles in the Quran and Sunnah
موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
خپرندوی
دار المكتبي-سورية-دمشق-الحلبوني
د ایډیشن شمېره
الثانية ١٤٢٦ هـ
د چاپ کال
٢٠٠٥ م.
د خپرونکي ځای
جادة ابن سينا.
ژانرونه
ـ[موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة]ـ
المؤلف: محمد راتب النابلسي.
الناشر: دار المكتبي - سورية - دمشق - الحلبوني - جادة ابن سينا.
الطبعة: الثانية ١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م.
عدد الأجزاء: ٢
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع]
ناپیژندل شوی مخ
المقدمات
الإعجاز
إنّ اللهَ خلَقَ الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ، وكرّمه أعظمَ تكريم، وسخّر له الكونَ تسخيرَ تعريفٍ وتفضيلٍ، ووهبَه نعمةَ العقلِ، وفطَرَه فطرةً تنزعُ إلى الكمالِ، وأودعَ فيه الشهوات ليرقى بها صابرًا أو شاكرًا إلى ربّ الأرضِ والسماواتِ، ومنحَه حريّةَ الإرادةِ ليجعلَ عملَه ثمينًا، وأنزلَ كُتبًا أحلّ له فيها الطيباتِ، وحرّم عليه الخبائثَ، كلُّ ذلك ليعرفَ ربّه فيعبدَه، ويسعدَ بعبادتِه في الدنيا والآخرةِ.
إنّ الحقَّ لابَسَ خلْقَ السماواتِ والأرضِ، وهو الشيءُ الثابتُ، والهادفُ، بخلافِ الباطلِ، فإنه الشيءُ الزائلُ والعابثُ، إنّ الحقَّ دائرةٌ تتقاطعُ فيها أربعةُ خطوطٍ؛ خطُّ النقلِ الصحيحِ، وخطُّ العقلِ الصريحِ، وخطُّ الفطرةِ السليمةِ، وخطُّ الواقعِ الموضوعيِّ، فالنقلُ الصحيحُ كلامُه ﷾، مع بيانِ المعصومِ ﷺ، والعقلُ الصريحُ ميزانٌ مِن خَلْقِ اللهِ أودعه اللهُ في الإنسانِ ليتعرّفَ من خلاله إلى الله، والفطرةُ ميزانٌ آخرُ متطابِقٌ مع الشرعِ الإلهيِّ، وهو مركوزٌ في أصلِ كيانِ الإنسانِ ليكتشفَ من خلالها خطأَه، والواقعُ خَلْقُ الله تحكُمُهُ القوانينُ التي قنّنها اللهُ ﷻ، فإذا كانت هذه الفروعُ الأربعةُ من أصلٍ واحدٍ فهي متطابقةٌ فيما بينها.
يقومُ دِين الله بشرائِعه المتعددةِ على أصلين لا ثالثَ لهما، قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون﴾ [الأنبياء: ٢٥] .
فالأصلُ الأولُ: معرفةُ اللهِ موجودًا، وواحدًا، وكاملًا، وهو ذو الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العلا، (وهذا هو التوحيد)، والأصلُ الثاني: معرفةُ منهجه من أجْلِ عبادته التي هي علّةُ وجودِ الإنسانِ، وهي طاعةٌ طوعيةٌ، ممزوجةٌ بمحّبةٍ قلبيةٍ، أساسُها معرفةٌ يقينيةٌ، تُفضِي إلى سعادةٍ أبديةٍ، (وهذه هي العبادةُ) ... فالتوحيدُ قمّةُ العلمِ، والعبادةُ قمّةُ العملِ.
1 / 1
إنّ اللهَ ﷻ خلَقَ الكونَ بسماواتِه وأرضِه، وخلَق العوالمَ، وعلى رأسِها الإنسانُ وَفْقَ أنظمةٍ بالغةِ الدّقةِ، ومِن أبرزِ هذه الأنظمةِ نظامُ السّببيةِ، وهو تلازمُ شيئين وجودًا وعدمًا، أحدُهما قَبْلَ الآخر، فنسمِّي الأولَ سببًا، ونسمِّي الثانيَ نتيجةً، وممّا يكمِّلُ هذا النظامَ الرائعَ أنّ العقلَ البشريَّ يقومُ على مبدإِ السببيّةِ، أي إنّ العقلَ لا يفهمُ حدثًا من دونِ سببٍ، ومن رحمةِ اللهِ بنا أنّ هذا النظامَ في الكونِ، وذلك المبدأَ في العقلِ يقودُنا برفقٍ إلى معرفةِ اللهِ مسبِّبِ الأسبابِ، الأقدامُ تدلُّ على المسيرِ، والماءُ يدلُّ على الغديرِ، أفسماءٌ ذاتُ أبراجٍ، وأرضٌ ذاتِ فِجاجٍ، ألا تدلاَّنِ على الحكيمِ الخبيرِ؟.
ومِن رحمةِ الله بنا أيضًا أنّ تلازُمَ الأسبابِ مع النتائجِ يُضفي على الكونِ طابعَ الثباتِ، ويمهِّدُ الطريقَ لاكتشافِ القوانينِ، ويعطي الأشياءَ خصائصَها الثابتةَ ليسهُلَ التعاملُ معها، ولو لم تكن الأسبابُ متلازمةً مع النتائجِ، ولو لم تكن النتائجُ بقدْرِ الأسبابِ لأخذَ الكونُ طابعَ الفوضى والعبثِيّةِ، ولَتَاهَ الإنسانُ في سبُلِ المعرفةِ، ولم ينتفعْ بعقلِه، لكن من اعتقدَ أنّ الأسبابَ وحدَها تخلُق النتائجَ، ثمّ اعتمدَ على الأسبابِ وحدها فقدْ أشركَ، لذلك يتفضَّل اللهُ على هذا الإنسانِ الذي وقعَ في الشركِ الخفيِّ فيؤدِّبُه بتعطيلِ فاعليةِ الأسبابِ التي اعتمدَ عليها، فيُفاجَأ بنتائجَ غيرِ متوقّعةٍ، ومَن تركَ الأخذَ بالأسبابِ متوكِّلًا - في زعْمهِ - على اللهِ فقد عصَى، لأنه لم يعبأْ بهذا النظامِ الذي ينتظمُ الكون، ولأنه طمعَ - بغيرِ حقٍّ - أن يخرِقَ اللهُ له هذه السننَ، أمّا المؤمنُ الصادقُ فيأخذُ بالأسبابِ دونَ أنْ يعتقدَ أنّها تصنعُ النتائجَ، وبالتالي دونَ أنْ يعتمدَ عليها، يأخذُ بها، وكأنّها كلُّ شيءٍ، ويعتمدُ على اللهِ، وكأنّها ليست بشيءٍ، معتقدًا أنه ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنّ الأسبابَ وحدها لا تقودُ إلى النتائجِ إلا بمشيئةِ اللهِ، وهذا هو التوحيدُ الإيجابيُّ الذي يغيبُ عن كثيرٍ من المؤمنين، فضلًا عن غيرِ المؤمنين، قال تعالى:
1 / 2
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ [يوسف: ١٠٦] .
لكنَّ هذا النظامَ نظامَ السببيةِ يُخرَقُ أحيانًا ... متى وكيف؟
حينما يأتي إنسانٌ ويقول: إنّه رسولٌ مِن عندِ الله جاءَ ليبلِّغَ منهجَ الله فلا بدَّ مِن أنْ يطالبَه الناسُ ببرهانٍ على أنه رسولُ الله، وعلى أنّ الكتابَ الذي جاء به هو مِن عندِ الله، وهنا تأتي المعجزةُ لتكونَ برهانًا على صدقِ إرسالِ النبيِّ، ومصداقيةِ منهجِه، والمعجزةُ في بعضِ تعاريفِها خرقٌ لنواميسِ الكونِ ولقوانينِه، ولا يستطيعُها إلا خالقُ الكونِ، لأنه هو الذي وضعَ القوانينَ والنواميسَ، يعطيها لرُسُلهِ لتكونَ برهانًا على صدْقِهم في إرسالهِم، وصدقِهم في إبلاغِهم عن ربِّهم، والمعجزةُ مُمكِنةٌ عقلًا غيرُ مألوفة عادةً، فهناك فرقٌ بين أنْ يحكُمَ العقلُ على شيء باستحالتِه، وأنْ يعلنَ عجزَه عن فهمِ هذا الشيءِ، فعدمُ العلمِ بالشيءِ لا يلزم العلمَ بعدمِه.
ولكنْ لا معنى للحديثِ عن المعجزاتِ التي هي خرقٌ للنواميسِ والعاداتِ، وعن جزئياتِها، وعن وقوعِها، أو توهُّمِها، إذا كان أصلُ الدِّينِ الذي يتلخّصُ في الإيمانِ بالله، موجودًا، وواحدًا، وكاملًا، والإيمانُ أنّه بكلِ شيءٍ عليمٌ، وعلى كل شيء قديرٌ، وفعّالٌ لِمَا يريدُ، إذا كان هذا الأصلُ محلَّ إنكارٍ أو شكٍّ فلا معنى للحديثِ عن المعجزاتِ أصلًا، فالناس يخاطبُون عادةً بأصولِ الدِّين، والمؤمنون يخاطَبون بفروعِ الدينِ، والحديثُ عن المعجزاتِ من فروعِ الدينِ، فإذا كان الأصلُ مهتزًّا فلا جدوى من الحديثِ عن المعجزاتِ.
1 / 3
ثم إنّ الكونَ بمجرّاتِه وكازاراتهِ، بكواكِبه ومذنّباتِه، بالمسافاتِ البَيْنِيةِ، والسرعاتِ الضوئيةِ، بحجومِ النجومِ، بدورانِها، وتجاذبِها، وإنّ الأرضَ بجِبالِها، ووديانِها، وسهولِهَا، وقفارِها، ببحارِها، وبحيراتِها، بينابيعِها، وأنهارِها، بحيواناتِها، ونباتاتِها، بأسماكِها، وأطيارِها، بمعادنِها، وثرواتِها، وإنّ الإنسانَ بعقلِه، وعاطفتِه، وأعضائِه، وأجهزتِه، بفطرتِه، وطباعِه، بزواجِه، وذريّتِه؛ هذه كلُّها معجزاتٌ، وأيّةُ معجزاتٍ، وبكلامٍ مُجمَلٍ: الكونُ بسماواته وأرضِه هو في وضْعِه الراهنِ، من دونِ خرْقٍ لنواميسِه، ومن دونِ خروجٍ عن نظامِه، هو في حدِّ ذاتِه معجزةٌ، وأيّةُ معجزة! والدليلُ قولُه تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب * الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩٠-١٩١] .
غيرَ أنّ الإنسانَ لانهماكِه بمشاغلِه، وغفلتِه عن خالقِه، ولطُولِ أُلْفَتِهِ لِمَا حولَه ينسَى وجْهَ الإعجازِ في الكونِ، ويغفلُ عن عظمةِ الخالقِ فيما خَلَقَ، فيحسبُ جهلًا منه، وغرورًا أنّ المعجزةَ هي تِلْكُمُ التي تخالِفُ ما أَلِفَه واعتادَه، ثم يمضي هذا الإنسانُ الجاهلُ فيتّخذُ ممّا أَلِفَه واعتاده مقياسًا لإيمانِه بالأشياءِ، أو كفْرِه بها، وهذا جهلٌ عجيبٌ في الإنسانِ، على الرّغمِ مِن ارتقائِه في مدارجِ المَدَنيَّةِ والعلمِ، فتأمّلٌ يسيرٌ مِن الإنسانِ يوضحُ له بجلاءٍ أنّ الخالقَ جلّ وعلا الذي خَلَق هذه الكونَ المعجزَ ليس عسيرًا عليه أنْ يزيدَ فيه معجزةً أخرى، أو أن يبدِّلَ، أو أن يغيِّرَ في بعضِ أنظمتِهِ التي خلَق العالَمَ وَفْقَهَا.
1 / 4
يقول بعضُ العلماءِ الغربيّين: "القدرةُ التي خَلَقت العالَمَ لا تعجزُ عن حذفِ شيءٍ منه، أو إضافةِ شيءٍ إليه، ولو لم يكن هذا العالَمُ موجودًا"، ولو قيل لرجلٍ ممّن ينكر المعجزاتِ والخوارقَ: "سيُوجَد عالَمٌ صفتُه كذا وكذا، فإنه سيجيبُ فورًا: هذا غيرُ معقولٍ، ولا متصوَّر، ويأتي إنكارُه هذا أشدَّ بكثير من إنكارِ بعضِ المعجزاتِ".
والشيءُ المهمُّ هنا أن نعلمَ أنّ الرُّسلَ السابقين بُعِثوا لأقوامهم ليس غير، فكانت معجزاتُهم حسيّةً محدودةً بالزمانِ والمكانِ الذي بُعِثوا فيه، إذنْ معجزاتُهم كتألُّقِ عودِ الثّقابِ، وقعتْ مرةً واحدةً، وأصبحتْ خبرًا يصدِّقُه مَن يصدِّقه، ويكذِّبه مَن يكذِّبه.
أمّا نبيُّنا محمّد ﷺ، الذي هو خاتَمُ الأنبياءِ والمرسلين، وأُرسِلَ إلى الناسِ كافةً بشيرًا ونذيرًا، فينبغي أنْ يكونَ مِن معجزاتِه ما هو مستمِرٌّ، ولذلك كانت آياتُ الإعجازِ العلميِّ في الكتابِ والسُّنةِ معجزةً علميةً نَصّيَّةً.
ففي القرآنِ الكريمِ ألفٌ وثلاثُمئة آيةٍ تتحدّثُ عن الكونِ، وعن خَلقِ الإنسانِ، وهذه الآياتُ تقتربُ مِن سدُسِ القرآنِ، وإذَا كانَت آياتُ الأمرِ تقتضِي الطاعةَ، وآياتُ النهيِ تقتضي التركَ، فماذا تقتضِي آياتُ الكونِ؟ إنها تقتضي التفكُّرَ، لذلك وردَ في الأثرِ: "تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ".
ولحكمةٍ إلهيةٍ بالغةٍ لم يفسِّر النبيُّ ﷺ هذه الآياتِ؛ إمّا باجتهادٍ منه، أو بتوجيهٍ مِن اللهِ جلّتْ حكمتُه، لأنّه لو فسَّرها على نحوٍ يناسِبُ فهْمَ مَن حَوْله لأنكرَ هذا التفسيرَ مَن سيأتي بَعْدَه، ولو فسّرها تفسيرًا يفهمُه مَن سيأتي بَعْده لاستَغْلقَ هذا التفسيرُ على مَن حَوْله.
لذلك تُرِكتْ هذه الآياتُ للعصورِ اللاّحقةِ، ليكشفَ التقدُّمُ العلميُّ في كلّ عصرٍ جوانبَ الإعجازِ فيها، وبهذا يكونُ القرآنُ الكريمُ، بما فيه من آياتٍ كونيةٍ معجزةً مستمرّةً إلى يومِ القيامةِ.
1 / 5
العلم
والعلمُ كما يَرَى بعضُ العلماءِ؛ علمٌ باللهِ، وعلمٌ بأمرِه، وعلمٌ بخَلْقه، أو علمٌ بالحقيقةِ، وعلمٌ بالشريعةِ، وعلمٌ بالخليقةِ، والعلمُ باللهِ أصلُ الدِّينِ، والعلمُ بأمْرِه أصلُ العبادةِ، والعلمُ بخَلْقِهِ أصلٌ في صلاحِ الدنيا.
لقد دعا الإسلامُ إلى العلمِ بالله، من خلالِ التفكُّرِ في خَلقِ السماواتِ والأرضِ، حيث تَتَابَعَ الأمرُ به في سُوَرِ القرآنِ، وعُدَّ الأساسَ الأولَ لبناءِ دعائمِ العقيدةِ والإيمانِ.. قال تعالى:
﴿فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب﴾ [الطارق: ٥-٧] .
وقال تعالى:
﴿فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَآئِقَ غُلْبًا﴾ [عبس: ٢٤-٣٠] .
وقال أيضًا:
﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ * وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: ١٧-٢٠] .
وقال تعالى: ﴿قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ١٠١] .
1 / 6
والتفكّرُ في خَلقِ السماوات والأرضِ نوعٌ من العباداتِ، بل هو مِن أرقى العباداتِ، ففي صحيح ابن حبان عن عطاء أنّ عائشة ﵂ قالت: " ... أَتَانِي النَّبِيُّ ﷺ فِي لَيْلَتِي، وَقَالَ: ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ لِرَبِّي ﷿، فَقَامَ إِلَى القِرْبَةِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ سَجَدَ حَتَّى بَلَّ الأَرْضَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَىَ جَنْبِهِ، حَتَّى أَتَى بِلاَلٌ يُؤْذِنُهُ بِصَلاَةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا يُبْكِيكَ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا بِلاَلُ، وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَبْكِيَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب﴾ ".
انظرْ إلى الشمسِ، وَسَلْ مَن رَفَعَها نارًا، ومن نَصبَها منارًا، ومن ضَرَبها دينارًا، ومَن علّقها في الجوّ ساعةً، يَدِبُّ عقربَاها إلى قيامِ السّاعةِ، ومَن الذي آتاها مِعراجَها، وهَداها أدراجَها، وأحلّها أبراجَها، ونقَّلَ في سماءِ الدنيا سِراجَهَا، الزمانُ هي سببُ حصولِه، ومنشعبُ فروعِه وأصولهِ، وكتابهِ وفصولهِ، لولاها ما اتّسَقتْ أيّامُه، ولا انتظمتْ شهورُه وأعوامُه، ولا اختلف نورُه وظلامُه، ذهبُ الأصيلِ مِن مناجِمِهَا، والشفقُ يسيلُ مِن محاجمِها، تحطّمتِ القرونُ على قرنِها، ولم يَمْحُ التقادمُ لمحةَ حُسْنِها.
لقد صدق اللهُ العظيمُ إذ يقولُ:
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق﴾ [فصلت: ٥٣] .
1 / 7
وانظرْ إلى القلبِ، في فعلِه وأثرِه، وغرضِه ووطرِه، وقدْرِه وقَدَره، وحيطانِه وجُدُره، ومنافذِه وحُجِرِه، وأبوابِه وسُتُرِه، وكهوفِه وحفرِه، وجدولِه وغديرِه، وصفائِه وكدَره، ودأْبِه وسهرِه، وصبرِه وحذرِه، وعظيمِ خطرِه، لا يغفلُ ولا يغفو، ولا ينسى ولا يسهو، ولا يعثر ولا يكبو، ولا يخمدُ ولا يخبو، ولا يملّ ولا يشكو، وهو دائبٌ صبور، بأمرِ الذي أحسنَ خِلقَتَه، وأعدَّ له عُدّته، وأوقد فيه جَذوتَه، وقدّر له أجَلَه ومدّته، يعمل من دونِ راحةٍ، ولا مراجعةٍ ولا توجيه.
لقد صدق اللهُ العظيمُ إذ يقولُ:
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق﴾
وانظر مع سيّدنا علي ﵁.. (انظرْ إلى النملةِ في صِغرِ جثّتِها، ولطافةِ هيئتِها، لا تكادُ تُنالُ بلَحْظِ البصرِ، ولا بمُستدرَكِ الفِكَرِ، كيفَ دبّتْ على أرضِها، وصُبَّتْ على رِزقِها، تنقلُ الحبّةِ إلى جُحرِها، وتعدُّها في مستقرِّها، تجمع في حرّها لبَرْدِها، وفي وِرْدِها لصَدرِها، مكفولةٌ برِزقها، مرزوقةٌ بوسقِها، لا يغفلُها المنَّان، ولا يحرمُها الدَّيَّان، ولو في الصفا الوابدِ، والحجرِ الجامدِ، ولو فكّرتَ في مجاري أكْلِها، في عُلْوِها وسُفلِها، وما في الجوفِ من شراسيفِ بطْنِها، وما في الرأسِ من عَينِها وأذنِها، لرأيتَ من خَلْقها عجبًا، ولقيتَ من وَصفِها تعبًا، فتعالى الذي أقامها على قوائمِها، وبناها على دعائمِها، لم يشرِكْه في فِطرتها فاطرٌ، ولم يُعِنْهُ على خَلْقها قادر) .
لقد صدق اللهُ العظيمُ إذ يقولُ:
﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨] .
هذا عن العلمِ باللهِ، علمِ الحقيقةِ، فماذا عن العلمِ بأمرِ اللهِ، علمِ الشريعةِ؟
1 / 8
إنّ الإنسانَ إذا تفكّر في خَلقِ السماواتِ والأرض، فعرفَ اللهَ خالقًا ومربّيًا ومسيّرًا، وعرفَ طَرفًا من أسمائِه الحسنى، وصفاتِه الفضلى، يشعرُ بدافعٍ قويٍّ إلى التقربِ إليه مِن خلالِ امتثالِ أمْرِه، واجتنابِ نهْيِه، عندها يأتي علمُ الشريعةِ ليبيّنَ أمْرَ اللهِ ونهيَه، في العباداتِ والمعاملاتِ والأخلاقِ.
والشريعةُ عدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالحُ كلُّها، وحكمةٌ كلُّها، فكلُّ مسألةٍ خرجتْ عن العدلِ إلى الجورِ، وعن الرحمةِ إلى ضدّها، وعن المصلحةِ إلى المفسدةِ، وعن الحكمةِ إلى العبثِ، فليست من الشريعةِ، وإن أُدخِلَتْ عليها بألْفِ تأويلٍ وتأويلٍ.
قال ﵊ فيما رواه البخاري في صحيحه: "مَنْ يُرِدُ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ".
بقي علمُ الخليقةِ، لقد دعا الإسلامُ إلى العلمِ بطبائعِ الأشياءِ وخصائصِها، والقوانينِ التي تحكمُ العلاقةَ بينَها، كي نستفيدَ منها، تحقيقًا لتسخيرِ اللهِ جلّ وعلاَ الأشياءَ لَنا.. قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: ٢٠] .
﴿وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد: ٢٥] .
وتعلُّم العلومِ الماديةِ يحقِّق عمارَة الأرضِ عن طريقِ استخراجِ ثرواتِها، واستثمارِ طاقاتها، وتذليلِ الصعوباتِ، وتوفيرِ الحاجاتِ، تحقيقًا لقوله تعالى:
﴿وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ [هود: ٦١] .
وتعلُّمُ العلومِ الماديّةِ، والتفوُّقُ فيها قوّةٌ، يجبُ أنْ تكونَ في أيدي المسلمين، ليجابِها أعداءَهم، أعداءَ الحقِّ والخيرِ والسلامِ، وتحقيقًا لقوله تعالى:
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] .
1 / 9
ولأنّ قوةَ هذا العصرِ في العلمِ، بلِ إنّ الحربَ الحديثةَ ليست حربًا بين سَاعِدَيْن، بل هي حربٌ بين عَقْلَيْنِ، فينبغي أنْ يكونَ المسلمُ قويًّا، لأنّ الحقَّ الذي يحملُه يحتاجُ إلى قوّةٍ، فقد قال ﵊: "المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ".
في القرآن والسنة
إنّ معجزةَ القرآنِ العلميةَ لتظهَرُ لأهلِ العلمِ في كلِّ مجالٍ من مجالاتِه، فهي ظاهرةٌ في نَظْمه، وفي إِخبارِه عن الأوّلِين، وفي إنبائِه بحوادثِ المستقبلِ، وفي ظهورِ حِكَمِ التشريعِ وغيرِها، ولقد شاعَ مصطلحُ الإعجازِ العلميِّ في عصرِنا، للدَّلاَلةِ على أَوْجُهِ الإعجازِ في القرآنِ والسُّنةِ، والتي كشفتْ عنها العلومُ الكونيةُ، والمعجزةُ في اصطلاحِ العلماءِ: أمرٌ خارِقٌ للعادةِ، مَقرونٌ بالتحدِّي، سالِمٌ مِنَ المعارضةِ.
وإعجازُ القرآنِ يُقصَد به تحدِّي القرآنِ الناسَ أنْ يأتوا بمثلِه، ووصفُ الإعجازِ هنا بأنّه علميٌّ نسبةً إلى العلم، الذي هو حقيقةٌ، مقطوعٌ بها، تُطابِقُ الواقعَ، عليها دليلٌ، فإذا لم يكن مقطوعًا بها كانت وَهْمًا، أو شكًا، أو ظنًّا، وإذا لم تطابِقِ الواقعَ كانت جهلًا، وإذا افتقرتْ إلى الدليلِ كانت تقليدًا.
والإعجازُ هو إخبارُ القرآنِ الكريمِ أو السُّنَّةِ النبويةِ بحقيقةٍ أثْبتَها العلمُ التجريبيُّ، وثبتَ عدمُ إمكانيةِ إدراكِها بالوسائلِ البشريةِ، في زمنِ الرسولِ ﷺ، ممّا يُظهِرُ، ويؤكِّدُ صِدْقَه فيما أخبرَ به عن ربِّه ﷾، والمعجزةُ القرآنيةُ - بما تتضمنه من حقائقَ علميةٍ - دليلٌ على عالَميةِ الرِّسالةِ الإسلاميةِ.
1 / 10
لمّا كان الرُّسُلُ قبْل محمَّدٍ ﷺ يُبعَثون إلى أقوامِهم خاصّةً، ولأزمنةٍ محدودةٍ، فقد أيّدهم اللهُ ببيناتٍ حسيةٍ، مثلُ: عصا موسى ﵇، وإحياءِ الموتى بإذنِ الله على يدِ عيسى ﵇، وتستمرُّ هذه البياناتُ الحسِّيّةُ محتفِظةً بقوّةِ إقناعِها في الزمنِ المحدّدِ لرسالةِ كلِّ رسولٍ، حتى إذا تطاولَ الزمنُ، وتقادمَ، وتكدّرَ نبعُ الرسالةِ الصافي، اختفتْ قوّةُ الإقناعِ الحسِّيةُ، وبَعث الله رسولًا آخرَ بالدِّينِ الذي يرضاه، وبمعجزةٍ جديدةٍ، وبيِّنةٍ مشاهَدَةٍ، ولمّا خَتَمَ اللهُ النبوةَ بمحمّدٍ ﷺ ضَمِنَ له حِفْظَ دِينِه، وأيّده ببيّنةٍ كبرى، تَبقى بين أيدي الناسِ إلى قيامِ الساعة، قال تعالى:
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هاذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩] .
وقال تعالى: ﴿لاكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ﴾ [النساء: ١٦٦] .
وفي هاتين الآيتين اللتين نَزَلَتا ردًا على تكذيبِ الكافرين بنبوّةِ محمَّدٍ ﷺ بيانٌ لطبيعةِ المعجزةِ العلميةِ التي تبقى بين أيدي الناسِ، وتتجدَّدُ مع كلِّ فتحٍ بشريٍّ، في آفاقِ العلومِ والمعارفِ، ذاتِ الصلةِ بمعاني الوحيِ الإلهيِّ.
وهكذا تَسْطَعُ بيِّنةُ الوحيِ المنزَّلِ على محمَّدٍ ﷺ بما نَزَل فيه مِن علمٍ إلهيٍّ يدرِكُه الناسُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ويتجدَّد على مرِّ العصورِ والدهورِ، ولذلك قال ﵊: "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُه آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّما كَانَ الَّذِي أَوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامةِ".
1 / 11
قال ابنُ حجرٍ عند شرحه لهذا الحديث: "رتّبَ هذا الكلامَ على ما تقدَّم مِن معجزةِ القرآنِ المستمرةِ لكثرة فائدتِه، وعمومِ نفعِه، لاشتمالِه على الدعوة والحُجّةِ والإخبارِ بما سيكونُ فعمَّ نفعُه مَن حَضَرَ، ومَن غابَ، ومَن وجدَ، ومن سيُوجد فَحَسُنَ ترتيب ذلك ... وقيلَ: المرادُ أنّ معجزاتِ الأنبياءِ انقرضتْ بانقراضِ أعصارِهم فلم يشاهدْها إلا مَن حَضَرَها، ومعجزةُ القرآنِ مستمرةٌ إلى يومِ القيامةِ، وخرقُه للعادةِ في أسلوبِه، وبلاغتِه، وأخبارِه بالمغيّباتِ، فلا يمرُّ عصرٌ من الأعصارِ إلاَّ ويظهرُ فيه شيءٌ ممّا أخبرَ به أنه سيكونُ يدلُّ على صحةِ دعواه ... ".
ولأنّ القرآنَ معجزةٌ مستمرّةٌ لكلِّ الخَلْقِ إلى يومِ القيامةِ، فإنّ بينةَ القرآنِ العلميةَ يدرِكُها العربيُّ والأعجميُّ على حدٍّ سواءٍ، وتبقى ظاهرةً متجدِّدةً إلى قيام السّاعةِ، ففي القرآن أنباءٌ نعرفُ المقصودَ منها لأنّها بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، لكنّ حقائقَها وكيفياتِها لا تتجلَّى إلا بعدَ حينٍ، قال تعالى:
﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ﴾ [ص: ٨٧-٨٨] .
وشاءَ اللهُ أنْ يجعلَ لكلِّ نبإ زمنًا خاصًّا يتحقّقُ فيه، فإذا تَجَلَّى الحَدَثُ ماثلًا للعيانِ أشرقَتِ المعاني التي كانت تدلُّ عليها الحروفُ والألفاظُ في القرآنِ، كما في قوله تعالى:
﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٦٧] .
ويبقَى النبأُ الإلهيُّ محيطًا بكلّ الصورِ التي يتجدّدُ ظهورُها عبْرَ القرونِ.
قال تعالى: ﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨] .
لقد نزلَ القرآن في عصرِ انتشارِ الجهلِ وشيوعِ الخرافةِ، والكهانةِ، والسِّحرِ، والتنجيمِ في العالم كلِّه، وكان للعربِ النصيبُ الأوفى مِن هذه الجاهليةِ والأميّةِ كما بيَّن القرآنُ ذلك بقوله:
﴿هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الجمعة: ٢] .
1 / 12
في ذلك العصرِ، وعلى تلك الأمّةِ نزَلَ الوحيُ، وفيه علمُ اللهِ، ويصفُ أسرارَ الخَلقِ في شتّى الآفاقِ، ويجلِي دقائقَ الخلْق في النفسِ البشريةِ، ويقرِّر البِدايَة في الماضي، ويصفُ أسرارَ الحاضرِ، ويكشفُ غيبَ المستقبلِ، الذي ستكونُ عليه سائرُ المخلوقاتِ.
وعندما دخلَ الإنسانُ في عصرِ الاكتشافاتِ العلميةِ، وامتلكَ أدَقَّ أجهزةِ البحثِ العلميِّ، وتمكَّنَ من حشدِ جيوشٍ من الباحثين في شتّى المجالاتِ، يبحثون عن الأسرارِ المحجوبةِ في آفاقِ الأرضِ والسماءِ، وفي مجالاتِ النفسِ البشريةِ، يجمعون المقدِّماتِ، ويرصُدون النتائجَ، في رحلةٍ طويلةٍ عبْرَ القرونِ، ولمّا أخذتِ الصورةُ في الاكتمالِ، والحقيقةُ في التجلِّي، وقعتِ المفاجأةُ الكبرى بتجلِّي أنوارِ الوحيِ الإلهيِّ، الذي نَزل على محمَّدٍ ﷺ قبْلَ أكثرَ من ألفٍ وأربعمئة عامٍ، بذكرِ تلك الحقيقةِ في آيةٍ مِنَ القرآنِ أو بعضِ آيةٍ، أو في حديثٍ أو بعضِ حديث، بدقّةٍ علميةٍ معجزةٍ، وبعباراتٍ مشرِقةٍ، وبهذا أنبأنا القرآنُ الكريمُ فقالَ:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٢-٥٣] .
وقال أحدُ العلماءِ: "وأمّا الطريقُ العيانِي فهو أن يرَى العبادُ مِن الآياتِ الآفاقيةِ والنفسيةِ ما يبيِّنُ لهم أنّ الوحيَ الذي بلَّغتْهُ الرسلُ عن اللهِ حقٌّ"، وقال عالِم آخرُ: "الآفاق: تعني أقطارَ السماوات والأرض؛ من الشمسِ والقمرِ والنجومِ والليلِ والنهارِ، والرياحِ والأمطارِ، والرعدِ، والبرقِ، والصواعقِ، والنباتِ والأشجارِ، والجبالِ، والبحارِ، وغيرها"، ورُوِيَ هذا عن عددٍ من أئمّةِ التفسيرِ.
فهذه آياتُ اللهِ في كتابِه تتحدّثُ عن آياتِه في مخلوقاتِه، وتتجلّى بمعجزةٍ علميةٍ بيّنةٍ تسطعُ في عصرِ الكشوفِ العلميةِ في آفاقِ الكونِ.
1 / 13
إنّنا على وعدٍ مِن اللهِ ﷿، بأنْ يُرِيَنَا آياتِه، فيتحقَّقُ لنا بهذه الرؤيةِ العلمُ الدقيقُ بمعاني هذه الآياتِ، كما قال تعالى:
﴿وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾ [النمل: ٩٣] .
وممّا سبَقَ يتبيّنُ لنا أن البشريةَ على موعدٍ من اللهِ، متجدّدٍ ومستمِرٍّ، بكشفِ آياتِه في الكونِ، وفي كتابِه، أمامَ الأبصارِ، لتقومَ الحجّةُ والبرهانُ، وتظهرَ المعجزةُ للعيانِ.
والفرقُ بين التفسيرِ العلميِّ والإعجازِ العلميِّ، هو أنّ التفسيرَ العلميَّ كشفٌ عن معانِي الآيةِ أو الحديثِ، في ضوءِ ما ترجَّحَتْ صحّتُه مِن حقائقِ العلومِ الكونيةِ.
أما الإعجازُ العلميُّ فهو إخبارُ القرآنِ الكريمِ، أو السنّةِ النبويةِ بحقيقةٍ أثبتَها العلمُ التجريبيُّ أخيرًا، وثبتَ عدمُ إمكانيةِ إدراكِها بالوسائلِ البشريةِ، في زمنِ الرسولِ ﷺ.
قواعدُ وأسسُ أبحاثِ الإعجازَ العلميِّ:
١- علمُ اللهِ، هو العلمُ الشاملُ المحيطُ الذي لا يعترِيه خطأٌ، ولا يشوبُه نَقصٌ، وعلمٌ الإنسانِ محدودٌ، وقابلٌ للازديادِ، ومُعَرَّضُ للخطإِ.
٢- هناك نصوصٌ من الوحيِ قطعيةُ الدَّلالةِ، كما أنّ هناك حقائقَ علميةً كونيةً قطعيةً.
٣- في الوحيِ نصوصٌ ظنيةٌ في دَلالتِها، وفي العلمِ نظرياتٌ ظنّيةٌ في ثبوتِها.
٤- لا يمكنُ أنْ يقعَ صِدامٌ بين قَطعِيٍّ مِن الوحي وقطعيٍّ مِن العلمِ التجريبيِّ، فإنْ وَقَعَ في الظاهرِ فلا بد أن هناك خلَلًا في اعتبار قطعيةِ أحدِهما، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ قرَّرَها علماءُ المسلمين، وقد أَلَّفَ غيرُ واحدٍ مِنَ العلماءِ كُتبًا تؤكِّدُ حتميةَ توافُقِ العقلِ مَع النقلِ.
عندما يُرِي اللهُ عبادَه آيةً من آياتِه في الآفاقِ أو في الأنفس مُصَدِّقَةً لآيةٍ في كتابِه، أو حديثٍ مِن أحاديثِ رسولِه ﷺ يتّضحُ المعنى، ويكتملُ التوافقُ، ويستقرُّ التفسيرُ، وتُحدَّدُ دَلالاتُ ألفاظِ النصوصِ بمَا كُشِفَ من حقائقَ علميةٍ، وهذا هو الإعجازُ.
1 / 14
إنّ نصوصَ الوحي قد نزلتْ بألفاظٍ جامعةٍ، فقد قال ﷺ: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ ... " ممّا يدلُّ على أنّ النصوصَ التي وردتْ عن النبيِّ ﷺ بكلِّ المعاني الصحيحةِ في مواضيعِها التي قد تَتَابَعَت في ظهورِها جيلًا بعد جيلٍ.
إذا وقعَ التعارضُ بين دَلالةٍ قطعيةٍ للنصِّ، ونظريةٍ علميةٍ، رُفِضَتْ هذه النظريةُ، لأنّ النصَّ وحيٌ مِن الذي أحاطَ بكلِّ شيء علمًا، وإذا وقعَ التوافقُ بينهما كان النصُّ دليلًا على صحةِ تلك النظريةِ، وإذا كان النصُّ ظنيًا، والحقيقةُ العلميةُ قطعيةً يُؤَوَّلُ النصُّ بها، وحيث لا يوجد مجالٌ للتوفيقِ فيُقدَّمُ القطعيُّ.
منهجيةُ أبحاثِ الإعجازِ العلميِّ في ضوءِ منهجِ السلفِ وكلامِ المفسِّرين:
إنّ كلامَ الخالقِ سبحانه عن أسرارِ خلْقِه في الآفاقِ وفي الأنفسِ غيبٌ قبْل أن يُرِيَنَا اللهُ حقائقَ تلك الأسرارِ، ولا طريقَ لمعرفةِ كيفياتها وتفاصيلِها قبلَ رؤيتِها، إلاَ ما سمعْنَا عن طريقِ الوحيِ، وكان السلفُّ لا يتكلَّفون ما لا علمَ لهم به.
إنّ معانيَ الآيات المتعلِّقةِ بالأمورِ الغيبيةِ، ودِلالتَها اللغويةَ معلومةٌ، ولكنّ الكيفيَّاتِ والتفاصيلَ محجوبةٌ، وإنّ مَن وَصَفَ حقائقَ الوحيِ الكونيةَ بدقائِقها وتفاصيلِها بعدَ أنْ كشَفها الله وجلاّها للأعينِ غيْرُ مَن وَصَفها مِن خلالِ نصٍّ يسمعُهُ، ولا يَرَى مدلولَه الواقعيَّ، لأنّ وصفَ من سَمع وشاهَدَ غيرُ مَن سَمِعَ فقط.
ولقد وُفِّقَ السلفُ الصالحُ من المفسِّرين كثيرًا في شرحِهم لمعنى الآياتِ القرآنيةِ على الرّغم من احتجابِ حقائِقها الكونيةِ، مع أنّ المفسِّرَ الذي يَصفُ حقائقَ وكيفيَّاتِ الآياتِ الكونيةِ في الآفاقِ والأنفسِ، وهي محجوبةٌ عن الرؤيةِ في عصرِه، قياسًا على ما يَرَى من المخلوقاتِ، وفي ضوءِ ما سمعَ مِنَ الوحيِ، يختلفُ عن المفسِّرِ الذي كُشِفتْ أمامه الآيةُ الكونيةُ، فجمعَ بين ما سَمع من الوحيِ، وما شاهدَ في الواقعِ.
1 / 15
ونظرًا لعدمِ خطورةِ ما يتقرّرُ في مجالِ الأمورِ الكونيةِ على أمرِ العقيدةِ يوم ذاك، لم يقف المفسِّرون بها عند حدودِ ما دلّت عليه النصوصُ، بل حاولوا شرْحَها بما يسَّرَ اللهُ لهم من الدرايةِ التي أُتيحَتْ لهم في عصورهم، وبما فَتَحَ اللهُ به عليهم من أفهامٍ، وكانت تلك الجهودُ العظيمةُ التي بَذَلَها المفسِّرون عبْرَ القرونِ لشرحِ نصوصِ الوحيِ المتعلِّقةِ بالأمورِ الكونيةِ - التي لم تُكشَفْ في عصرِهم - مبيّنَةً لمستوى ما وصلَ إليه الإنسانُ مِن علمٍ، في تلك المجالاتِ، ومبيِّنةً لمدى توفيقِ اللهِ لهؤلاءِ المفسِّرين، فإذا ما حانَ حينُ مشاهدةِ الحقيقةِ في واقعِها الكونيِّ، ظهرَ التوافقُ الجليُّ بين ما قرّره الوحيُ وما شاهدَتْه الأعينُ، وظهرتْ حدودُ المعارفِ الانسانيةِ المقيَّدةِ بقيودِ الحسِّ المحدودِ، والعلمِ البشريِّ المحدودِ بالزمانِ والمكانِ، وازدادَ الإعجازُ تَجَلِّيًا وظهورًا.
وكَتَبَ اللهُ التوفيقَ للمفسِّرين فيما شرحوه من آياتٍ وأحاديثَ متعلقةً بأسرارِ الأرضِ والسماءِ، بفضلِ اهتدائهِم بنصوصِ الوحيِ المنزَّلِ، ممّن يعلمُ السرَّ في الأرضِ والسماءِ، ومسترشدين بما علَّمهم مِن دَلالاتِ الألفاظِ ومعاني الآياتِ.
أوجُهُ الإعجازِ العلميِّ:
١- التوافقُ الدقيقُ بين ما في نصوصِ الكتابِ والسُّنةِ، وما كشفَه علماءُ الكونِ من حقائقَ وأسرارٍ كونيةٍ لم يكن في إمكان بشرٍ أنْ يعرفَها وقتَ نزولِ القرآنِ.
٢- تصحيحُ الكتابِ والسنةِ لِما شاعَ بين البشريةِ في أجيالِها المختلفةِ من أفكارٍ باطلةٍ حولَ أسرارَ الخَلقِ.
٣- إذا جُمِعَتْ نصوصُ الكتابِ والسنةِ الصحيحةِ المتعلِّقةُ بالكونِ وجدتَ بعضَها يكمِّلُ الاَخرَ، فتتجلَّى بها الحقيقةُ، مع أنّ هذه النصوصَ قد نزلتْ مفرَّقةً في الزمنِ، وفي مواضِعها من الكتابِ الكريمِ، وهذا لا يكونُ إلاّ مِن عندِ اللهِ الذي يعلمُ السرَّ في السماواتِ والأرضِ.
٤- سنُّ التشريعاتِ الحكيمةِ، التي قد تخفَى حكمتُها على الناسِ وقتَ نزولِ القرآنِ، وتكشِفُها أبحاثُ العلماءِ في شتَّى المجالاتِ.
1 / 16
٥- عدمُ الصِّدامِ بين نصوصِ الوحيِ القاطعةِ التي تصفُ الكونَ وأسرارَه - على كثرتِها - والحقائقِ العلميةِ المكتشفةِ - على وفرِتها - مع وجودِ الصِّدامِ الكثيرِ بين ما يقولُه علماءُ الكونِ من نظرياتٍ تتبدَّلُ مع تقدُّمِ الاكتشافَاتِ، ووجودِ الصِّدامِ بين العلمِ، وما قرّرتْه سائرُ الأديانِ المحرَّفةِ والمُبَدَّلةِ.
ضوابطُ البحثِ في الإعجازِ العلميِّ في الكتابِ والسُّنةِ:
١- أنْ تراعَى معاني المفرداتِ كما كانت في اللغةِ إبّانَ نزولِ الوحيِ، وأن تراعَى القواعدُ النحويةُ ودَلاَلاتُها، وأنْ تراعَى القواعدُ البلاغيةُ وخصائصُها، ولاسيّما قاعدةُ: "أَلاّ يخرجَ اللفظُ مِنَ الحقيقةِ إلى المجازِ إلا بقرينةٍ كافيةٍ".
٢- البعدُ عن التأويلِ في النصوصِ المتعلِّقةِ بالإعجازِ العلميِّ في القرآنِ الكريمِ، ودَلالةِ نبوّةِ النبي ﷺ.
٣- ألاَّ تُجعَلَ حقائقُ القرآنِ موضعَ نظَرٍ، بل أنْ تُجعَلَ الحقائقُ هي الأصل: فما وافقَها قُبِلَ، وما عارضَها رُفِضَ.
٤- ألاّ يُفَسَّرَ القرآنُ إلا باليقينِ الثابتِ مِنَ العلمِ، لا بالفروضِ والنظرياتِ التي ما تزالُ موضعَ فحصٍ وتمحيصٍ، أمّا الحدسيّاتُ والظنّياتُ فلا يجوزُ أنْ يُفَسَّرَ بها القرآنُ، لأنها عرضةٌ للتصحيحِ والتعديلِ، بل للإبطالِ في أيِّ وقتٍ.
وإذا كانَ النقصُ يعتري بعضَ الدراساتِ في مجالِ الإعجازِ العلميِّ في القرآنِ والسُّنةِ، فلا يصحُّ أنْ يكون ذلك حُكْمًا ينسحِبُ عليها جميعِها، وإنّ هذا ليوجِبُ على القادرينَ مِن علماءِ الإسلامِ أنْ يسارِعوا إلى خدمةِ القرآنِ والسُّنةِ في مجالِ العلومِ الكونيةِ، كما خدَمَها السلفُ في مجالِ اللغةِ، والأصولِ، والفقهِ، وغيرِها من مجالاتِ العلومِ الشرعيةِ، فنحن أمامَ معجزةٍ علميةٍ كبرى تنحنِي أمامَها جِبَاهُ المنصفين من قادةِ العلومِ الكونيةِ في عصرِنا.
1 / 17
والطرَفُ الآخرُ مِن أعداءِ الإسلامِ اتّخذوا مِنَ المقولاتِ المرتجَلَةِ، والمتسرِّعةِ في موضوعِ الإعجازِ العلميِّ في الكتابِ والسُّنّةِ ذريعةً لا تُقَدَّرُ بثمنٍ - بالنسبةِ إليهم - لنقضِ آياتِ القرآنِ وأحاديثِ النبي ﷺ، مِن خلالِ نقضِ النظريةِ العلميةِ الفجّةِ التي لم تثبتْ، فينبغي للباحثِ في الإعجازِ العلميِّ في الكتابِ والسنّةِ أنْ يبالغَ في التحقُّقِ والتثبُّتِ والتريُّثِ قبلَ أن يربطَ آيةً في كتابِ اللهِ، أو حديثًا لرسول الله ﷺ بمقولةٍ يتوهّمُ أنّها نتنمي إلى العلمِ، والعلمُ منها بَراءٌ.
ومجمَلُ القولِ: إنّ التفسيرَ العلميَّ للقرآنِ والسنةِ مرفوضٌ إذا اعتمدَ على النظرياتِ العلميةِ التي لم تثبتْ، ولم تستقِرَّ، ولم تصلْ إلى درجةِ الحقيقةِ العلميةِ المقطوعِ بها، ومرفوضٌ إذا خرجَ بالقرآنِ عن قواعدِ اللغةِ العربيةِ، ومدولولاتِ مفرداتها في زمنِ النبي ﷺ، ومرفوضٌ إذا صَدر عن خلفيةٍ تعتمدُ العلمَ أصلًا، وتجعلُ القرآنَ تابعًا، مرفوضٌ إذا خالفَ ما دلَّ عليه القرآنُ في موضعٍ آخرَ، أو دلّ عليه صحيحُ السنّةِ، وهو مرفوضٌ ممّن هبَّ ودبَّ مِن الذين لم يتحقّقوا في أخذِهم، ولم يتثبَّتُوا في إلقائِهم، وهم يزعمون أنهم على علمٍ، والعلمُ منهم بَراءٌ؛ وهو مقبولٌ بعْد ذلك ممّن التزمَ القواعدَ المعروفةَ في أصولِ التفسيرِ والتزمَ ما تفرضه حدودُ اللغة، وحدودُ الشريعةِ، وامتازَ بالتحرِّي، والاحتياطِ، والضبطِ الذي يلزم كلَّ ناظرٍ في كتابِ اللهِ، وهو مقبولٌ ممّن رَزَقه اللهُ علمًا بالقرآنِ والسنةِ، وعلمًا بالسننِ الكونيةِ معًا، فلا بد من أن يكونَ النصُّ الذي هو موضعُ الإعجازِ قطعيَ الثبوتِ والدَّلالةِ، وأنْ يكونَ الجانبُ العلميُّ مقطوعًا بصحّتِه، وأنْ يكونَ التطابقُ عفويًا وتامًّا، لا مفتعلًا أو متكلَّفًا.
أهميةُ أبحاثِ الإعجازِ العلميِّ وثمارُها:
1 / 18
إذا كان المعاصرون لرسولِ اللهِ ﷺ قد شاهَدوا بأعينِهم كثيرًا مِن المعجزاتِ، فإنّ اللهَ أَرَى أهلَ هذا العصرِ معجزةً لرسولِه تتناسبُ مع عصرِهم، ويتبيَّنُ لهم بها أنّ القرآنَ حقٌّ، وتلك البيِّنةُ هي بيِّنةُ الإعجازِ العلميِّ في القرآنِ والسُّنّةِ، وأهل عصرِنا لا يذعنون لشيءٍ كإذعانِهم للعلمِ، على اختلافِ أجناسِهم وأديانِهم.
لقد جعلَ اللهُ النظرَ في ملكوتِ السماواتِ والأرض، الذي تقومُ عليه العلومُ التجريبيّةُ طريقًا إلى الإيمانِ به، وطريقًا إلى الإيمانِ برسولِه، وطريقًا إلى الإيمانِ بدينِه الحقِّ، الذي يدعو إلى العلمِ، والعلمُ يدعو إليه.
وإنّ بإمكان المسلمين أنْ يتقدَّموا لتصحيحِ مسارِ العلمِ في العالَمِ، ووضعِه في مكانِه الصحيحِ، وجعلِه طريقًا إلى الإيمانِ باللهِ ورسولهِ، ومصدّقًا لِما في القرآنِ، ودليلًا على أحقِّيَّةِ الإسلامِ.
إنّ التفكُّرَ في خلقِ السماواتِ والأرضِ عبادةٌ من أجلِّ العباداتِ، والتفكُّرَ في معاني الأحاديثِ عبادةٌ مِن أرفعِ المستويات، وتقديمَها للناسِ دعوةٌ خالصةٌ إلى اللهِ خالقِ الأرضِ والسماواتِ، وهذا كلُّه متحقّقٌ في بحوثِ الإعجازِ العلميِّ في القرآنِ والسنّةِ، وهذا مِن شأنِه أيضًا أنْ يحفّزَ المسلمين إلى اكتشافِ أسرارِ الكونِ، بدوافعَ إيمانيةٍ تعبُرُ بهم فترةَ التخلُّفِ التي عاشوها حقبةً من الزمنِ في هذه المجالاتِ، وسيجدُ الباحثون المسلمون في كلامِ الخالقِ عن أسرارِ مخلوقاته أدلّةً تهديهم في أثناءِ سَيْرِهم في أبحاثهم، تقرِّبُ لهم النتائجَ، وتوفِّرُ لهم الجهودَ.
إذَا علِمنَا أهميَّةَ هذه الأبحاثِ في تقويةِ إيمانِ المؤمنين، ودفعِ الفتنِ التي أَلْبَسها الإلحادُ ثوبَ العلمِ عن عقولِ المسلمين، وفي دعوةِ غيرِ المسلمين إلى هذا الدِّينِ القويم، وفي فهْمِ ما خُوطِبْنَا بهِ في القرآنِ الكريمِ والسنّة الصحيحةِ، وفي حفزِ المسلمين إلى الأخذِ بأسبابِ النهضةِ العلميةِ التي تتوافقُ مع الدين؛ تبيَّنَ مِن ذلك كلِّه أنّ القيامَ بهذه الأبحاثِ مِن أهمِّ فروضِ الكفاياتِ.
1 / 19