154

دروب ما بعد الحداثه

دروب ما بعد الحداثة

ژانرونه

إن مفهوم فوكو للسلطة يتجاوز المجال السياسي كما يتجاوز المجال الأيديولوجي؛ إذ هي ليست جهازا بل علاقة، وهي غير مستقرة ومتمركزة في مكان محدد، بل توجد مبعثرة في كل أنحاء الجسد الاجتماعي، إنها توجد في كل الأمكنة وخصوصا في تلك التي لا يعتقد أنها من الممكن أن توجد بها. إنها كما يقول فوكو «توجد في كل مكان ولا مكان بعينه»، لا مركز لها ولا أطراف لها، تحكم سيطرتها على كل شيء، وهي سيرورة بدون ذات، وليست مفعولا لذات فردية أو جماعية أو تاريخية أو رمزية، بل هي مفعول لنسيج من العلاقات والمؤسسات، مثل الأسرة والسجن والعيادة والمدرسة والحزب والمذهب ... إلخ.

في كتابه تاريخ الجنسانية

The History of sexuality

يذكر فوكو أن النموذج القانوني للقوة نلاحظه في صورة الأمير الذي يحدد الحقوق، والأب الذي يمنع أفراد العائلة، والمراقب الذي يلزم بالصمت ... في جميع هذه الحالات تتخفى القوة بصيغ قانونية، وفي جميع هذه الحالات يكون المطلوب هو الطاعة. فالفرد الذي يواجه القوة/القانون، هو الذات المطيعة. بكلمة أخرى، هناك قوة شرعية في جانب، وإنسان مطيع خاضع في جانب آخر. هذه القوة المطابقة للقانون هي قوة كبح أو قوة قمعية. إنها قوة سلبية مانعة، القوة التي تقول لا، فليس غريبا أن يكون رمزها السيف أو النسر أو الأسد.

كان ذلك في الماضي، في القرن الثاني عشر وعبر القرون التالية، غير أنه في القرن السابع عشر، وما تلاه، ظهر نوع جديد من القوة مضاد للنوع القديم الذي ارتبط بمفهوم سيادة الملك. هذا النوع الجديد يسميه فوكو «قوة النظام» وهو في رأيه من أعظم إنجازات المجتمع البورجوازي. وهو غير مرتبط بصورة القانون، ونقول: لا يمثله قانون من القوانين. وهو بالإضافة إلى ما تقدم، لا يقدر نظام الكبح أو القمع أن يصفه. هذا النوع الجديد من القوة لا يثبته مفهوم الحق، بل مفهوم التكنيك، ولا يفهم بالإشارة إلى القانون، بل بواسطة التطبيع، ولا بالعقاب، بل بالمراقبة والضبط؛ أي بطرق ووسائل تتعدى الدول وأجهزتها. هذا النوع من القوة لا يملكه فرد أو مجموعة من الأفراد؛ أي أنه ليس له مركز أو محل معين، إنه علاقة قوة تمارس مع لغة الصدق وإنتاج الصدق. يقول فوكو: «يجب تحليل هذه باعتبارها قوة دائرة أو بالأحرى كشيء لا يقوم بوظيفة إلا بصورة مسلسلة، فلا يمكن موضعتها هنا أو هناك، أو في يد إنسان، أو اعتبارها بضاعة، أو جزءا من ثروة. هذه القوة تستخدم أو تمارس عبر تنظيم يشابه الشبكة. والأفراد لا يدورون بين خيوطها فقط، إنهم دائما بوضع فيه يخضعون لهذ القوة ويمارسونها. وهذه القوة لا تفهم بتصور قانوني كعلاقة بين حاكم سيد ورعاياه، ولا بفكرة التضاد بين الدولة والمجتمع.»

باختصار نقول: إن فوكو قد استبدل المفهوم القانوني للقوة بما يسميه علاقة القوة الموجودة في كل ناحية من نواحي المجتمع؛ لأنها تنطلق من كل ناحية من نواحيه، كأنما شبكتها والمجتمع على هوية واحدة. وشبكة القوة هذه في المجتمع الحديث تقوم بالتطويع؛ أي بإخضاع الأفراد وصياغتهم وفقا للمعارف الجديدة؛ ففي كتابه النظام والعقاب: ولادة السجن، الذي هو أول كتاب يشرح فيه نظريته في القوة، يقول فوكو: «إن علوم الجريمة والطب والنفس والتربية والاجتماع ... وغيرها من العلوم الإنسانية، تنتج آليات وفنونا للمراقبة والفحص والتصنيف وصياغة الأفراد وتطويعهم وتطبيعهم وفقا لأنظمتها المعرفية.»

87

وبناء على ذلك يفترض فوكو أنه لا توجد معرفة لا تفترض وجود قوة وراءها، وليست هي مؤلفة لقوة في الوقت ذاته. والخلاصة أن فوكو يكشف القناع عن أن المجتمع المدني عبارة عن ذوات خاضعة لعلاقات القوة/المعرفة المتعددة المراكز في طول المجتمع وعرضه. •••

من ضمن القضايا التي اهتم بها ميشيل فوكو، وهي غير منفصلة عن تحليله لمفهوم السلطة، قضية العلاقة بين الصورة واللغة أو ما هو مرئي وما هو منطوق، وقد خصص فوكو كتابه الكلمات والأشياء لمناقشة تلك القضية، وقد ناقش الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بتوسع تلك الإشكالية في كتابه «المعرفة والسلطة» 1987م، والذي خصصه عن فوكو، وبحيث يمكن القول إن «التيمة الرئيسة لهذا الكتاب، هي التفرقة بين نظام المرئيات ونظام العبارات، وهي نفس تيمة كتاب «الكلمات والأشياء» لفوكو.»

88

ناپیژندل شوی مخ