131

دروب ما بعد الحداثه

دروب ما بعد الحداثة

ژانرونه

والواقع أن مقولة الاختلاف ستحتل مكانة هامة في فكر بارت؛ إذ إن النتيجة الرئيسة التي ترتبت على إعلانه موت المؤلف تمثلت في تخليص النصوص من معناها الأحادي الذي كانت أسيرة له وانفتاحها على المعنى في تعدديته واختلافه، فليس ثمة جوهر واحد للنص ينبغي على القارئ اقتناصه ليزعم بعد ذلك أنه يمتلك الحقيقة والمعنى، بل ثمة معان مختلفة ومنظورات متعددة لا تتعامل مع النص على أنه وحدة منغلقة لها معنى واحد ووحيد، بل تتعامل معه بوصفه «عملا مفتوحا» على حد تعبير أمبرطو إيكو،

15

مفتوحا على عوالم عديدة يصعب حصرها أو حتى توقعها.

يبدو أن كل الطرق لفهم النتاج الفكري لمفكري النصف الثاني من القرن العشرين تفضي بالضرورة إلى نيتشه. كان نيتشه يصف نفسه بأنه «ديناميت»، والواقع أن هذا الديناميت قد تضاعف حتى انفجر في النصف الثاني من القرن العشرين محدثا دويا هائلا. لقد قدم نيتشه نقدا لمفهوم الحقيقة، كان مؤثرا بقوة في التصور الذي قدمه بارت لطبيعة النص؛ فقد رأى نيتشه أن هناك فهما ميتافيزيقيا مضللا لمفهوم الحقيقة؛ فالشيء الحقيقي هو الخير والعام والواضح والنافع والجميل، وقد سعى الفلاسفة حول هذا الوهم طوال تاريخ الفلسفة محاولين الوصول إلى ما هو حقيقي. لكن السؤال الذي تناساه هؤلاء: من يملك تحديد الحقيقي؟ وما هو هذا الحقيقي؟ وليست المشكلة عند نيتشه متعلقة بالبحث عن الحقيقة أو محاولة الكشف عنها، بل المشكلة أن كلمة الحقيقة نفسها مضللة؛ فهي تنفي الاختلاف الذي هو من صميم الحياة. ولم يتوقف مفكر من قبل للتساؤل عن كنه الحقيقة، بل كانت كل الأسئلة متمحورة حول كيفية بلوغها أو شروط إمكانها. فكل الفلسفات اعتبرت أن مسألة الحقيقة ليست في حاجة إلى ما يبررها. بل وأكثر من ذلك، غدت مسألة الحقيقة هي المنطلق والأساس الذي تتأسس عليه كل فلسفة، وبالتالي أصبحت الحقيقة صنما أو إلها يقدسه الفكر باحثا عن كل سبيل لبلوغه. في مقابل هذا الفهم، ينظر نيتشه للحقيقة على أنها حشد من الاستعارات والكنايات التي تكونت عبر التاريخ، وتم التعامل معها بعد ذلك بوصفها بديهيات أو حقائق.

16

إن هذا المعنى النيتشوي لمفهوم الحقيقة سيجد تجلياته في النص البارتي. لهذا نجد بارت يفرق منذ البداية بين الأثر والنص، ويدعو للانتقال من الأول إلى الثاني؛ «فالأثر لا يزعج فلسفات الهوية، والتعدد عند تلك الفلسفات هو الشر بعينه.»

17

الأثر له معنى متوارث مغلق لا يقبل التجديد، بل يعتبر التجديد فيه نوعا من الهرطقة، أما النص فهو متعدد. ولا تعني صفة التعدد التي يحوذها النص أنه يحتوي فقط على معان عدة، وإنما يحقق تعدد المعاني ذاته؛ «فالنص ليس تعددا لمعان، بل هو مجاز وانتقال. وبناء على ذلك لا يمكن أن يخضع لتأويل، وإنما لتفجير وتشتيت.»

18

ويمكن تحديد الاختلافات التي يسوقها بارت بين الأثر والنص في الآتي:

ناپیژندل شوی مخ