12
ربما بدا هذا الرأي لبارت متناقضا مع موقعه في تاريخ النقد الأدبي، وهو موقع متقدم بطبيعة الحال. لكن هذا التناقض سيزول عندما نعلم أن هذا الرفض لعملية التقييم الجمالي هو في الأساس رفض لاختزال العمل الفني وحصره داخل قالب محدد، أو رفض لممارسة وصاية على النص تجعل من الناقد سلطة تفسيرية مهيمنة عليه. والواقع أن هذا النوع من النقد الذي رفضه بارت كان نتاجا للمنطق الذي ساد تاريخ الفكر عموما، والذي انتقل منه إلى مجالي النقد الفني والأدبي؛ منطق الهوية. (1-3) من منطق الهوية إلى منطق الاختلاف
كان لمفهوم التعددية والاختلاف مكانة بارزة في الخطاب الفكري والنقدي الذي ساد في النصف الثاني من القرن العشرين، بحيث يعد هذا المفهوم مفتاحا لفهم النتاج الفكري لهذا الخطاب؛ فالفلسفة ستتحول من كونها أداة نسقية تبتغي الوحدة إلى أداة مهمتها تفتيت الأشياء وتفكيكها . وربما كان السبب الرئيس الذي أحدث هذا التحول هو تلاشي منطق «الهوية» من الخطاب ليحل محله مفهوم «التعددية»؛ التعددية بكل أشكالها، تعددية الخطاب والمعنى والظاهرة والقوى، لا يوجد حدث ولا ظاهرة ولا كلمة ولا فكرة إلا ومعناها متعدد، فأي شيء قد يكون هذا أو ذاك وأحيانا يكون شيئا أكثر تركيبا بحسب القوى التي يحوزها. من هنا لا يوجد معنى حقيقي للشيء الواحد، هناك تعددية، وجهات للنظر، تجاوبات مع الأحداث والوقائع. فالظاهرة الواحدة لها أقنعة عديدة وخلف كل قناع يكمن قناع آخر.
13
وعلى الفلسفة أن تغزو هذه الأقنعة وأن تخترقها لا للوصول إلى جوهرها وأصلها، وإنما لكي تعطي لكل قناع معنى جديدا.
وهذا المعنى تحديدا هو ما أكد عليه بارت في تحليله للعمل الأدبي؛ إذ تمثلت محاولته في فهم آلية توليد المعنى داخل العمل الأدبي إلى التعامل معه لا باعتباره تمثيلا أو تواصلا (بين مرسل ومستقبل) بل كسلسلة من الصور التي تولدت من خلال المؤسسة الأدبية والشفرات الخطابية الثقافية. فلا يتجه التحليل هنا صوب اكتشاف المعاني الكامنة، وهو في الأصل لا يهدف لذلك. لهذا يكتب بارت مشبها العمل الأدبي بالثمرة ذات الطبقات المتعددة «فهو من طبقات (أو مستويات أو نسق)، ولا يحتوي على مركز، أو جوهر، أو سر، أو مبدأ لا يمكن اختزاله، بل لا شيء سوى عدد لا متناه من الأغلفة - التي لا تغلف شيئا سوى وحدة أسطحها.»
14
والتحليل البنيوي لا يقدم «تأويلا» للعمل الأدبي، بل ينطلق من وجهة نظر مبدئية عن محتوى العمل، ومن ثم يتناول الشفرات المكونة لهذا المحتوى، فيحدد علامتها، ويقدم تصورا لتسلسلاتها، ولكنه في الوقت ذاته يسلم أيضا بوجود شفرات أخرى ستنبثق عبر تلك الشفرات الأولى.
كان بارت من دعاة فكر الاختلاف والتعدد، وقد كانت مؤلفاته في مجملها ضد أي محاولة لإقصاء الآخر والاستحواذ عليه أنطولوجيا وإبستمولوجيا وسياسيا، وهذا بخلاف الفكر الكلاسيكي الذي كان سائدا في العصر الحديث. ففي الوقت الذي كان يقر فيه هذا الفكر بأن العالم متعدد ومتنوع، كان يحاول دوما إلغاء تعدده وتنوعه في وحدة معنى يفترض أنها ثابتة. وإذا عرض عليه أن يفكر في المتعدد الاجتماعي فإنه سوف يؤكد أنه غير منسجم في وحدة واحدة، لكنه سيحاول أيضا أن يوحده ويضمه في وحدة الدولة. منطق الفكر الكلاسيكي إذا هو «منطق الهوية»
logique de l’identité ، سواء تعلق الأمر بتطابق الوعي أو الكوجيتو أو الذات أو الدولة. كل هذه المقولات مطلقة وبواسطتها تحول الفكر إلى تقنية لاختزال الفوارق، وأداة نسقية موجهة نحو إلغاء التعارضات.
ناپیژندل شوی مخ