59

دموع البلياتشو

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

ژانرونه

أحس فجأة بأن هناك من يقف قريبا منه يتطلع إليه، شاب متوسط العمر عليه بذلة رمادية خفيفة وفي يده اليمنى حقيبة بنية تظهر منها الكتب والأوراق، وقبل أن يسأل نفسه من أين خرج وإلى أين يذهب بادره الشاب بالسؤال: حضرتك غريب عن البلد؟ التفت إليه ضاحكا وهو لا يخفي رغبته في الحديث معه: بل سقطت رأسي هنا كما يقال، في هذا البيت الذي تراه يصارع الرياح! اقترب منه الشاب متوددا: سيد عبد العال، مدرس مواد اجتماعية في الثانوية الجديدة. وحضرتك؟ قال محمود مبتسما وهو يمد يده إليه: مواد اجتماعية؟ إذن فلسنا غريبين كما تتصور، اسمي محمود بسيوني مؤرخ على المعاش! فتح الشاب فمه دهشة وهتف: الدكتور بسيوني، صاحب العالم القديم وسقوط قرطاج والمدن الغارقة! قال محمود مبتسما: المحترقة. ألم أقل لسنا غريبين؟ قال الشاب: تشرفنا يا بيه! صحيح لم أتشرف بالتتلمذ عليك، لكنني قرأت لك كثيرا. ضحك محمود معبرا عن رغبته في الخروج عن الموضوع: الحمد لله أنك قرأت كتبي ولم أقررها عليك! أتعلم أن كل شيء يتغير بسرعة؟ رد عليه الشاب مؤكدا قوله: البركة في الطبقة الجديدة، أمثالنا لا يتغير حالهم كثيرا.

قال محمود مؤمنا على كلامه: ومن سمعك أيضا، وربما يسوء كل يوم. استطرد الشاب كأنه يقف على منبر: نحن يا دكتور في عصر الجيوب والبطون، حضرتك تفهم ما أعنيه، أموال النفط والانفتاح والسمسرة والمقاولات والعمولات، أمثالنا للأسف ينقرضون، هذه المباني والتوسعات الجديدة، إنه غزو، غزو المغول أو التتار، غزو الصحارى لوديان الأنهار.

سأله محمود في هدوء: هل تقصد الخضرة أم القيم التي انهارت؟

أمسك الشاب الخيط وشده بعنف: والأنا التي اكتسحت كل شيء! هل تصدق أنه ليس بين هذه الإنشاءات وغيرها مبنى واحد للصالح العام، لا ملجأ ولا مستشفى ولا حديقة ولا مساكن للفقراء واللاجئين الذين ملئوا البلد ولا ... قال محمود وهو ينظر إليه في عطف أبوي: المهم أن القيم لا تحترق بسهولة وسط حرائق المدن والحضارات، قل لي يا أستاذ سيد!

قال الشاب بعد أن استرد أنفاسه ونظر في ساعته: تحت أمرك. قال محمود وهو يشير بعيدا إلى الجنوب: سراي الباشا التي كانت هناك، كانت لها وللباشا قصص طويلة، هل سمعت شيئا عنها؟

قال الشاب وهو يتحرك حركة تنبئ بأنه يتأهب للانصراف: كما قلت لحضرتك، تاجر مخدرات معروف دفع فيها مليون دولار، هي الآن مجمع تجاري ضخم وسوق يؤجر فيه المحل بالشيء الفلاني، المتر وصل ألفي جنيه!

ضحك محمود كأنه يعزيه: أي مرتبنا معا في شهرين! هل تذهب إلى المدرسة في هذا الوقت؟

قال الشاب وهو يصافحه ويشد على يده: كما يقول إخواننا في الخليج: إيش نسوي؟! لا بد أيضا أن نعيش، مجموعات مسائية للتقوية ودروس خصوصية و... كنت أتمنى أن يطول اللقاء.

قال محمود وهو يربت على ذراعه: توكل أنت على الله، سنلتقي حتما. قال الشاب وهو ينصرف: وستوقع لي بنفسك على أحد كتبك الخالدة.

ضحك حامد ضحكة عالية ثم وضع يده على فمه وقال في أسى كأنه يخاطب نفسه: وما زلت تعتقد أنه سيبقى منا شيء؟

ناپیژندل شوی مخ