46

دموع البلياتشو

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

ژانرونه

وابتسم لنفسه وهو يؤكد لها أن البعث حقيقة مؤكدة، وأن معجزته ستلمس أرض الحديقة وأحواضها وممراتها وتعريشة العنب المتداعية، وستحيي الذكريات القديمة وتنفخ في أشلائها أنفاس الحياة عندما يلتئم شمل العائلة، أو ما بقى منها، ويمثل الماضي حيا مشخصا أمام عينيه، ولم يتعجب في هذه اللحظة أن تبرز له صورة تل العمارنة التي يعد كتابه الجديد عنها، وأن يرى الملك الحزين يتقدم نحوه بوجهه الضامر المستطيل وشفتيه المتدليتين وبطنه المنتفخ وهو يمد إليه يده التي تقبض على علامة الحياة ومن خلفه الأطلال والأحجار المتفحمة في المدينة المحترقة - ومد يده ليتلقى العلامة المقدسة، وقبل أن يتأكد من أنه يقبض على الفراغ قال للملك المكتئب: أنا أيضا أحمل علامة الحياة للحديقة المحترقة - وحياتها في الخضرة والحلم بالغد الأخضر.

ورجع الصوت الذي خيل إليه أنه سمعه قبل قليل فنفذ في سمعه أحد من وخز الشوك الذي يملأ أرض الحديقة، لم يكن في حاجة إلى التنصت، إذ جاءه صوت زوجته عاليا من الشرفة الصغيرة الشبيهة بالمشربية في الدور الثاني للبيت، البيت الذي يطل عليه في ضوء الشمس البازغة كعجوز طويل ونحيف ومقوس الظهر: محمود! محمود! قام من مجلسه بسرعة حتى صار تحت الشرفة مباشرة: خير! خير! صاحت أنيسة بنفس النبرة الحادة التي كان يحاول في كل مرة أن يخلصها من القلق: نورة حرارتها نار، فتشت عنك في البيت كله وأنت في الحديقة ولا على بالك! قال لها وهو يضحك ضحكته المجلجلة التي كانت تغيظها كثيرا: حاضر، حاضر، اهدئي فقط وسوف نتصرف. لاحقته أجراس الصوت المذعورة وهو يدفع الباب الخشبي الصغير ويتجه إلى السلم: الله يصبرني على عيشتك!

واتسعت ابتسامته الطيبة وهو يصعد السلم ويقول: معك حق، كهل متقاعد، ومؤرخ مغمور، وشاعر لم يحس به أحد، وبيت وحديقة مهجوران من الزمن والبشر! الله يصبرك!

2

وضع يده المرتعشة على جبين نورة وخديها فلسعته السخونة اللافحة، وتبخرت سحب الأحلام والذكريات الوردية تاركة مكانها للسؤال الملح: ما العمل الآن؟ أحست زوجته بعلامات الحيرة والسرحان المعتاد فأنقذته منهما قائلة: أرسلت أم عبده إلى صادق. سارع يقول لها: الله يطمئنك. كنت أنوي أن أذهب إليه فورا وخشيت من إزعاجه في هذه الساعة المبكرة. قالت زوجته وهي تغتصب الضحكة المرة: لن يتأخر، المهم ألا تتركا البنت وتندمجا في حديث الشعر والتاريخ والذكريات. عاد يتحسس وجه البنت الراقدة أمامه كزهرة لم تلفحها بعد شمس المراهقة وهو يقول لنفسه: من أول ليلة يا نورة؟ ألم نتفق على أن نعمر البيت والحديقة بضحكاتك وجريك ولعبك، وأن أحكي لك عن جدك وجدتك وعماتك وعمك الذين لم تريهم ولم تعرفي شيئا عنهم؟ وتقلبت البنت وزفرت تنهيدة حارقة فقال كأنه يطمئنها: هو تعب الأمس، أنت أيضا لا ترحمين نفسك، أكان من الضروري أن تقفي معنا وسط الغبار وتصعدي السلم وتنزلي عليه مائة مرة؟!

قالت زوجته وهي تجري نحو باب الشقة: صادق حضر، يا رب اجعله خير، واستقبلت شقيقها وهي ترتمي على صدره شاهقة، فضمها بحنان إلى صدره وأسرع إلى حجرة النوم قائلا: خير، خير إن شاء الله، يجوز ناموسة أرادت أن تحيي نورة بقبلة حارة، لا تقلقوا! لم أنس إحضار الفليت معي. صاحت أنيسة وهي تقوده إلى فراش نورة: والله لو كانت ملاريا فسوف أحمل ابنتي وحقيبتي ونسافر اليوم في الحال. ثم ناظرة إلى زوجها وهي تتوعده بإشارة حازمة: أنت السبب! وسوف توصلنا بنفسك!

ضحك محمود كعادته لكي يطفئ النار قبل اشتعالها، وأخذ بين أحضانه الدكتور صادق الذي غزته ملامح طبيب الأرياف: السمنة والكرش الكبير والحلة القديمة المهملة التي تفوح منها رائحة تشبه رائحة وحل خفيف تجمعت فيها ذرات الغبار وقطرات العرق المالح. وهتف صادق وهو يربت على ظهر محمود: والله وبقينا على المعاش. قال محمود ضاحكا: أنتم السابقون. كلانا يهبط الآن إلى السفح. رد صادق وهو يجلس على طرف السرير الصغير ويضع السماعة على أذنيه: مع الفارق يا محمود، واحد يهبط التل إلى الشيخوخة والمرض وجيبه ثقيل، وواحد يصعده وهو مفلس ليجني أزهار الشعر وعبر التاريخ!

هتفت أنيسة لاهثة: طمئني يا صادق، طمئني! ورفع صادق رأسه بعد أن فرغ من فحص البنت ووضع داخل فمها ملعقة خشبية كبيرة تأوهت لها بشدة: خير، خير، احتقان شديد في اللوز، هل شكت منها قبل هذا؟ قالت أنيسة: أبدا أبدا، المهم ألا تكون حمى. قال صادق وهو يثبت عينيه في وجهها المتوتر كالعادة ويبتسم كم يشك في الأمر: وحتى لو كانت، أين نحن؟ عملت حساب كل شيء.

ستأخذ هذا اللبوس على الفور، وحبتين كل ست ساعات من الشريط، تعالي نغلي الحقنة.

انفرد بابنته بعد أن أفاقت تماما من نومها ووضع لها اللبوس بحنو بالغ، فلم تتمنع ولم تصرخ كما كانت تفعل كل مرة. قال لها وهو يقبلها على جبينها وخديها رغم تحذيرها له من العدوى: والآن يا حبيبتي، قولي ماذا جعلك تصرخين هكذا؟ قالت: حلم يا بابا، حلم فظيع! قال وهو يمسك يدها: أنت التي أرهقت نفسك فوق الطاقة، اسمه كابوس! قالت نورة مؤكدة : نعم كابوس، كابوس .

ناپیژندل شوی مخ