دعا کراوان

طه حسين d. 1392 AH
40

دعا کراوان

دعاء الكروان

ژانرونه

وأمام هذا السيل المنهمر من الحديث، وأمام هذه الأسئلة الملحة، وهذا الحرص الشنيع على الاستطلاع واستكشاف الأسرار، لم يسعني إلا أن أنهض وأعمد إلى حقيبتي فأحملها وأمضي نحو السلم، ولكني لم أكد أبلغه حتى رددت عنه ردا، وحتى كانت حقيبتي قد خطفت مني خطفا، وحتى كانت زنوبة قد أحاطتني بذراعيها المنكرتين، وأخذت تلح علي بالضم والتقبيل تهدئني وتترضاني، وأنا لذلك كارهة أشد الكره، وعلى ذلك ساخطة أشد السخط، ولو استجبت لنفسي لصحت مستنجدة طالبة الغوث؛ فقد أخذت أمقت نفسي وألومها، وألعن هذه اللحظة التي خطر لي فيها أن آوي إلى دار هذه المرأة ريثما أهيئ أمري بعض الشيء وأدبر لي عملا أمضي فيه.

ولكن زنوبة ملحة علي بالرفق والملاطفة، وقد خفت صوتها وعذب حديثها، وأخذت تتحدث إلي بأمور ليس بينها وبين ما كنا فيه صلة، كأنها أعرضت عن كل ما من شأنه أن يسوءني أو يروعني أو يقلقني عن هذه الدار التي اقتنعت زنوبة بأن لا بد من أن يطول فيها مقامي أياما أو أسابيع.

ثم أنظر فإذا نحن قطعنا وقتا غير قليل في حديث هادئ فيه الجد وفيه الهزل، وإذا أنا آنس إلى هذه المرأة وأطمئن إلى ما أحس من عطفها، وأنظر فإذا حياتنا قد مضت في هذه الساعات يسيرة قد زال منها التكلف، وإذا نحن قد تغدينا معا، وإذا كل واحدة منا قد أخذت تتحدث إلى صاحبتها في شيء من السذاجة والثقة غريب، وإذا نحن نستحضر آلامنا وأحزاننا، وإذا كل واحدة منا تستكشف في صاحبتها من وراء هذه الصورة الظاهرة التي يعرفها الناس صورة أخرى خفية من صور البؤس وتمثالا مستترا من تماثيل الشقاء، وإذا كل واحدة منا ترثي لصاحبتها أو تتخذ الرثاء مظهرا من مظاهر الرثاء لنفسها، وإذا نحن نشترك في البكاء ونتعاون عليه كما كنا نشترك منذ حين في الضحك ونستبق إليه، ولم يكد ينصرم النهار ويقبل الليل حتى كانت الألفة بيننا قد انتهت بنا إلى هذا الطور الذي يطمئن فيه الإنسان إلى الإنسان وإن احتفظ بشيء من الاحتياط ... فلم أظهر زنوبة على سري، ولكني أنبأتها بأن أختي قد قضت في الغرب، وزعمت لها أني إنما خرجت من بيت المأمور في إثر مغاضبة كانت بيني وبين الخدم، ثم لم أظفر بما كنت أراني أهلا له من الإنصاف، وقد سمعت مني ما أقول وهي إلى التكذيب أقرب منها إلى التصديق، ولكنها تجنبت الجدال والإلحاح فيه، وأظهرت الرثاء لي والعطف علي، ووعدتني بأنها ستجد لي عملا شريفا مريحا إذا كان الغد، وألحت علي في أن أقضي الليل معها وقد فعلت، وقد أنفقنا جزءا غير قليل من الليل في مثل ما أنفقنا فيه النهار، فلما أصبحنا غابت عني ساعة أو نحو ساعة، ثم عادت إلي متهللة مشرقة الوجه وهي تقول: لقد وجدت عملا ما أشك في أنه سيرضيك، ستعملين حيث كانت تعمل أمك قبل أن ترحلن عن المدينة في بيت فلان، أتذكرين اسمه؟ أتعرفينه؟ إنه رجل من أصحاب الثراء واليسر، وقد لا تجدين في داره مثل ما كنت تجدين في دار المأمور من الترف، ولكنك ستجدين عنده سعة ويسرا، ودماثة في الخلق، وتبسطا في المعاملة؛ فزوجه كريمة النفس، وبناته صالحات لم يفسدهن الذهاب إلى المدارس ولا استقبال المعلمين. فهذا الرجل أمير يضن ببناته على هذا الفساد، ويرسل أبناءه كلهم إلى القاهرة ليتعلموا فيها وليصيروا فيما بعد موظفين كبارا كالمأمور والقاضي والمهندس، وإذا أقبل الصيف وعاد هؤلاء الشبان من القاهرة امتلأ البيت فرحا ومرحا، وأصبحت أيام الأسرة كلها أعيادا، وازداد حظ الخدم من الرغد والسعة ولين العيش. وأنا كثيرة الاختلاف إلى هذا البيت منذ استقرت هذه الأسرة فيه منذ أعوام وأعوام، وقد ربيت أبناءها وبناتها، وقد تبنيت منهم واحدا بعينه هو الآن شاب نجيب سيكون بعد قليل موظفا كبيرا، وهو يعرف لي هذا الحق ويحبني ويكرمني ويؤثرني بالخير والمعروف، قلت: وكيف تبنيته؟

قالت وهي تضحك: أتجهلين هذه العادة؟ لقد أخذته حين كان وليدا فأدخلته من بين ثوبي وبيني، أدخلته من جيبي وأخرجته من تحت ذيلي، فأصبحت كأني والدته، وأصبح لي عليه حق الأمهات وله علي حق الأبناء. ستعملين في هذا البيت وسترضين، وسأراك كل يوم إذا أصبحت وسأراك إذا أمسيت؛ فليس بين هذا البيت وبيننا إلا خطوات، وأنا أعمل فيه ساعات من نهار. وقد تحدثت عنك إلى ربة البيت فعرفتك وعرفت أمك وأختك وقبلتك راضية مسرورة، فهلم بنا فقد تركتها على أن أعود بك إليها بعد لحظات، ولست أخفي عليك أنها كرهت بعض الشيء استخدامك بعد أن خرجت من بيت المأمور لما بين الأسرتين من مودة، ولكنها لم تطب نفسا عن تركك عرضة لما يتعرض له الفتيات من الشر بعد أن عرفت أمك وحمدت عشرتها، فهلم بنا فقد تتاح لنا أوقات طوال يكثر فيها بيننا الحديث.

ونهضت معها وليس في نفسي ريب في أنها قد نصحت لي وأخلصت في النصح والود، وفي نفسي بعض الأمل في أنها ستعينني يوما ما على تحقيق ما أريد.

الفصل التاسع عشر

وأقبلت معها على بيت من بيوت الريف هذه التي يظهر فيها الثراء؛ ويحس أهلها سعة العيش، ولكنهم على ذلك لا يأخذون من ترف الحضارة إلا بأيسره وأهونه، محتفظين بما ألفوا من هذه الحياة الريفية التي لا دقة فيها ولا رقة ولا افتنان في إرضاء الذوق، والتي تكره النظام وتنفر منه، وترى في الترتيب والتنسيق تكلفا وجهدا لا خير فيهما ولا حاجة إليهما، بيت من هذه البيوت التي لا يكاد يدخلها داخل حتى يحس أن أهلها ميسورون ولكنهم فلاحون كما يقال؛ فالمتاع كثير ولكنه مهمل مضطرب لم ينظم ولم ينسق ولم يهيأ، وإنما حمل إلى الدار ثم استقر فيها كما استطاع أن يستقر.

والفرق فيها ملغى أو كالملغى بين حجرات الاستقبال للسيدات وحجرات الاستقبال للسادة، بل بين حجرات الاستقبال وحجرات الطعام، إنما يستقبل أهل الدار حيث توجد المقاعد والكراسي، ويأكل أهل الدار حيث يتفق لهم أن يأكلوا، إلا أن يطرقهم طارق أو يلم بهم ضيف فيكون الطعام حيث يكون الاستقبال، ثم يكون نوم الطارق أو الضيف حيث يكون الطعام والاستقبال أيضا.

في البيت مقاعد وكراسي، ولكن أهل الدار يؤثرون الجلوس على هذه الحصر والأبسطة قد ألقيت على الأرض إلقاء. فإذا طرق الطارق أو أقبل الضيف عرفت الكراسي والمقاعد أن لها في البيت منفعة وعملا.

والفرق ملغى أو كالملغى بين من في الدار من الناس وما في الدار من الحيوان على اختلافه، فالدجاج مطلق يمضي حيث يشاء ويستقر هنا ثم يستقر هناك حاملا معه أقذاره وآثاره، ولا يحمى منه إلا حجرة أو حجرتان، ولا تحميان إلا في مشقة وتكلف للجهد. وقد لا يكره أهل الدار إذا اشتد القيظ أن ينفقوا مساءهم تحت السماء قريبا من البقرة أو الجاموسة أو ما إليهما، يطلبون النسيم حيث يجدونه، لا يتكلفون في ذلك ولا يتصنعون، ولا يجدون في مخالطة الحيوان حرجا ولا أذى. هي الحياة السهلة اليسيرة الغنية همت أن تتحضر وأن تترف، فأخذت من الحضارة والترف بحظ، ثم لم تستطع أن تتقدم فاكتفت بما أخذت، ووقفت عند حد من الحدود لا تعدوه.

ناپیژندل شوی مخ