رددت عليهم آمنة الحزينة دائما، الواجمة في أكثر الوقت حتى كأنها بلهاء غافلة، رددت عليهم آمنة التي رأت الشر بشعا والإثم عريان والجرم منكرا، فملأت نفسها من هذا كله وإذا هي سيئة الظن بكل إنسان، وإذا هي شديدة الإشفاق من كل شيء ومن كل إنسان، وإذا هي عابسة للنهار إذا أشرق عابسة لليل إذا أظلم، وقد اتخذت لنفسها من ظلمة الليل الحالكة ثوبا كثيفا ضافيا فأسبغته عليها إسباغا وحالت به بينها وبين كل نور وأمل وابتهاج وابتسام.
نعم، رددت عليهم آمنة هذه التي لا تمسك الدموع إلا ريثما ترسلها، ولا تبسط الوجه إلا ريثما تقبضه، ولا تقبل على شيء إلا ريثما تنصرف عنه، ولا ترى في اللعب إلا ثقلا، ولا ترى في الخدمة والدرس إلا عناء وجهدا. ويح أهل الدار! أيقبلون مني هذه الفتاة التي رددتها عليهم ويتسلون عن تلك الفتاة التي أخذتها منهم؟ ويحي أنا من أهل الدار إن لم يعرفوني ولم يألفوني كما عرفوا تلك الفتاة وألفوها! ولكنهم قوم كرام لا يضيقون بي ولا ينفرون مني ولا يلقونني إلا بالعناية والرعاية والعطف، أولم أتحدث إليهم بذلك المصاب العظيم الذي قد ألم بنا فملأ قلوبنا حزنا وبؤسا؟ وإذن فهم يعزونني ويأسون جراح قلبي، وهم لا ينظرون إلي كما ينظرون إلى خادم يجب أن يعمل أو إلى رفيقة يجب أن تعين فتاتهم على ما في الحياة من جد ولعب، وإنما ينظرون إلى فتاة بائسة قد آوت إليهم فهم يؤوونها مكرمين لها مشفقين عليها، يؤثرونها بالرحمة والراحة والهدوء.
وخديجة ... ويح خديجة! ما كنت أحسب أن فتاة نشأت في مثل ما نشأت فيه من نعيم، ودرجت على مثل ما درجت عليه من ترف وتعودت ألا تعيش إلا فرحة ومرحة، ما كنت أحسب أن هذه الفتاة تعرف كيف تصل إلى أعماق هذا القلب الحزين، وكيف تبلغ بغريزتها ما لم يكن بد من التجربة الطويلة العسيرة لبلوغه بالعقل والإرادة، إنها لتفهمني في غير سؤال، إنها لترحمني في غير تكلف، إنها لترثي لي في غير كبرياء، إنها لتنصرف بي عما ألفت من فرح ومرح ومن دعابة ولعب، إنها لتتحدث إلي حديث الفتاة العاقلة الرشيدة، إنها تشغلني عن همي بما تقص علي من أمرها أثناء غيبتي وبما تقرأ علي مما قرأت أثناء هذه الغيبة وبما تقرئني مما لم أشاركها في قراءته، إنها لتفتح لي أبوابا ما كانت لتخطر لي على بال، إنها لتنبئني بنبأ عجيب لم أفهمه إلا بعد مشقة وجهد وتكرار! تنبئني بأنها قد أخذت تتعلم لغة أخرى تسميها الفرنسية فلا أفهم منها شيئا، لغة أخرى! وكيف يكون ذلك؟ إني أعرف أن هناك لغة الريف التي كنت أتحدثها، ولغة القاهرة التي تتحدثها خديجة، ولغة ثالثة نقرؤها في الكتب فلا نعجز عن فهمها وإن وجدنا فيه بعض العسر، فكيف توجد لغة أخرى، وما عسى أن تكون، وكيف يتعلمها الناس؟ إنها تظهر لي كتبا ما كنت أقدر أن أراها، وإني لأنظر هذه الكتب فلا أفهم منها إلا بعض الصور، وإني لأحاول النظر في الحروف فلا أعرف لها أولا ولا آخرا، ولا أعرف لها رأسا ولا ذيلا، وإنها لتضحك في رفق وإنها لتحس شيئا من الكبرياء لأنها تعلم ما لا أعلم، وإنها لتحاول القراءة في هذه الكتب فتبلغ من ذلك ما لا أبلغ، وإنها لتترجم بعض ما تقرأ فأفهم عنها ما تقول بالعربية وأدهش وينتهي بي الدهش إلى أقصاه ...
وهذا أستاذها السوري قد أقبل وإنها لتلقاه فيتحدث إليها وترد عليه بهذا الذي لا أفهمه فأزداد بها وبه إعجابا وفتنة، وهذه خديجة تكبر في نفسها وتكبر في نفسي وتقوم مني مقام المعلم، وإذا هي تقرؤني هذه الحروف التي لم أكن أقرؤها، وتعلمني هذه اللغة التي لم أكن أعلمها، وإذا أنا تلميذة لها في الصباح وتلميذة معها في المساء، وإذا المعلم بارع وإذا التلميذة على حظ من ذكاء، وإذا أنا أجد في هذه الحياة الجديدة وفيما نقرأ معا وما نتعلم معا عزاء أي عزاء، ونسيانا أي نسيان؟ وإذا الأستار تلقى شيئا فشيئا بيني وبين هذا الماضي البشع القريب، وإذا كل شيء في هذا الماضي ينمحي قليلا قليلا إلا شخصين اثنين لا ينمحيان ولا يتضاءلان، وإنما يرتسمان في نفسي ارتساما قويا ويتمثلان أمامي تمثلا متصلا ملحا، وهما شخص أختي صريعا يتفجر من صدرها الدم في الفضاء العريض، ويغمغم فمها بكلمات لا أفهمها، وشخص ذلك المهندس الشاب الذي أغواها ودفعها دفعا إلى ذلك الفضاء العريض الذي صرعت فيه.
الفصل الرابع عشر
نعم! ذلك المهندس الشاب الذي أغواها ودفعها دفعا إلى ذلك الفضاء العريض الذي صرعت فيه. لقد منحها الحياة، ولقد قضى عليها بالموت. وهل ذاقت البائسة من لذة الحياة ونعيمها إلا هذه الثمرات الحلوة المرة التي جنتها في هذه الدار القائمة من دارنا غير بعيد؟! إلى هذه الدار دفعت حين هبطت من أقصى الريف، فأخذت تعرف الحضارة وتألفها وتبلو من طيباتها ما رقق لها العيش وقد كان غليظا، وحبب إليها الدهر وقد كان بغيضا.
فيها عرفت الترف واطمأنت إلى النعيم! ولم تكد تنشأ وتنمو حتى مد لها الحب ذراعين فيهما النعيم والبؤس، وفيهما الرحمة والعذاب، فأسرعت إلى ما كان يتراءى لها من ذلك جاهلة له، مفتونة به، متهالكة عليه، ثم انصرفت كارهة عما بلت، وما أدري ماذا كان يحزنها ويمزق فؤادها تمزيقا حين كانت تقص علي أنباءها وتحدثني بأحاديثها! أهو الندم على ما قدمت من ذنب واقترفت من خطيئة، أم هو الأسف على ما فارقت من لذة وحرمت من نعيم؟ وما أدري ما الذي كان يملأ قلبها فرقا ورعبا حين كانت تتراءى لها تلك الأشباح الحمراء! أهو الموت الذي كانت ترى نذيره منكرا بشعا ومسمعه صارخا ملحا، أم هو اليأس الذي كان يقطع الأسباب بينها وبين هذا المهندس الشاب، ويلقي بينها وبين الحب ولذاته وآلامه حوائل وموانع لا سبيل إلى أن تجتاز؟
نعم! هذا المهندس الشاب! لقد ارتسم شخصه في نفسي ارتساما قويا ملحا ليس إلى محوه من سبيل. ولقد كنت أرى أختي فإذا هو ملازم لها كأنه الظل، بل كأنه ظل من هذه الظلال الحمراء التي كانت تلازمها حين كنت أراها أثناء العلة وحين كانت تعرض لي في الطريق! بل لقد تفرقت عن أختي كل هذه الظلال وانمحت انمحاء، ولم يبق معها إلا هذا الظل الذي لا أكاد أراه حتى تضطرب نفسي اضطرابا عنيفا، وحتى يثور في قلبي شعور قوي مختلط غريب شديد التعقيد، شعور فيه الخوف والرغبة، وفيه البغض، وشيء يشبه الحب، أو حب الاستطلاع على أقل تقدير ...
من هذا الشاب؟ أو من عسى أن يكون؟ وكيف يمكن أن يكون؟ أي شيء فيه أغوى هذه الفتاة البائسة ودفعها إلى ما دفعت إليه؟ ما عسى أن يكون حظي منه إن لقيته، وأن يكون حظه مني إن لقيني؟ أوأحبه أم أبغضه؟ أيحبني أم يبغضني؟ ما هذه الغواية التي أفسدت على أختي أمرها وأفسدت علينا جميعا أمرنا، وقضت على أختي بالموت ونغصت علينا جميعا لذة الحياة؟
خواطر كانت تملأ قلبي إذا أصبحت، وكانت تملؤه إذا أمسيت، وكانت تلح عليه بين ذلك فلا ترد عنه إلا في شيء من الجهد والعنف حين تلح علي خديجة في الحديث أو في القراءة أو في مشاركتها فيما كانت تحرص على أن أشاركها فيه من الدرس والاستظهار.
ناپیژندل شوی مخ