الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)
الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)
خپرندوی
عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،الرياض
د ایډیشن شمېره
الثانية
د چاپ کال
١٤١١ هـ/١٩٩١م
د خپرونکي ځای
المملكة العربية السعودية
ژانرونه
مقدمة
...
الشبهات التي أثيرت حول دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب والرد عليها
للأستاذ / عبد الكريم الخطيب
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، والتابعين، ومن تأسى بسيرته، واهتدى بهديه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الجهاد في سبيل الله والذياد عن شريعته، والغيرة على حرماته، أمانة في عنق كل من آمن بالله، ودخل في جماعة المؤمنين، فأبصر مكانه بينهم، وعرف وظيفته فيهم، وعد نفسه عضوًا في الجسد العام الجامع لهم، يسعد لسعادتهم ويشقى لشقائهم، كما يقول الرسول الكريم، صلوات الله وسلامه عليه: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" ١ رواه مسلم عن النعمان بن بشير. وفي رواية: " المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " ٢.هكذا يفعل الإيمان الحق في نفوس المؤمنين بالله، حيث تفيض مشاعر المؤمن بالولاء للمؤمنين من كل جنس ولون، مهما تباعدت الديار، واختلفت الأجناس والألوان، وذلك بهذا النسب الجامع بينه وبين المؤمنين جميعا، أحياء وأمواتا. والله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
_________
١ البخاري: الأدب ٦٠١١، ومسلم: البر والصلة والآداب ٢٥٨٦، وأحمد ٤/٢٦٨،٤/٢٧٠،٤/٢٧٦،٤/٢٧٨،٤/٣٧٥.
٢ البخاري: الأدب ٦٠١١، ومسلم: البر والصلة والآداب ٢٥٨٦، وأحمد ٤/٢٦٨،٤/٢٧٠،٤/٢٧١،٤/٢٧٤،٤/٢٧٦،٤/٢٧٨،٤/٣٧٥.
1 / 101
١.ويقول جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ٢.ومن هذا الإيمان الوثيق بالله تنبعث في قلب المؤمن مشاعر الولاء والحب للمؤمنين فلا يبيت المؤمن على جناح أمن وطمأنينة وفي المؤمنين من يتهددهم عدو من خارج أوطانهم، أو من داخلها. فإذا كان هناك عدو من خارج أوطان الإسلام، كان الجهاد فريضة على المسلم فيجاهد بنفسه وماله، وبكل قوة تصل إليها يده.. ثم لا تسقط عنه هذه الفريضة، حتى يذهب خطر العدو، أو يقتل هو شهيدًا في ميدان الجهاد. أما إذا كان العدو من داخل أوطان المسلمين، مثل دعوة إلى فتنة، أو إثارة لفرقة، أو نشر لبدعة - فإن هذا يحتاج إلى جهاد أكبر، وعزم أشد، وإرادة أقوى مع بصيرة نافذة، تكشف عن هذا الخطر الذي يتدسس إلى عقول الناس وقلوبهم ويخالط مشاعرهم ووجداناتهم، بحيث لا ينتبه له ولا يقدر آثاره المدمرة إلا ذوو البصائر المشرقة بنور الله الساهرة على حرمات الله، والحافظة لحدوده الناصحة لله ولرسوله وللمؤمنين. وأكثر ما يتمثل هذا الخطر الذي يغزو المسلمين من داخل أوطانهم، هو فيما يشيع فيهم من بدع تدخل عليهم باسم الدين، وما يتولد من هذه البدع من منكرات وضلالات تشيع في المسلمين، فتشوه معالم الدين في عقولهم وقلوبهم، وتغير حقائقه في أقوالهم وأفعالهم، وإذا هم مسلمون ولا إسلام، وذلك هو الخطر أعظم الخطر حيث يخيل إليهم أنهم على دين، وأنهم على الصحة والسلامة من هذا الدين، في حين أن المرض يفتك بهم، والعلة تغتال كل صالحة فيهم!! ولو كان هؤلاء المسلمون، ولا إسلام معهم - لو كانوا على غير دين أصلا، لكانت بليتهم أخف ومصيبتهم أهون؛ لأن من كان على غير دين، يرجى منه أن يصبح يوما وهو
_________
١ سورة الحجرات آية: ١٠.
٢ سورة التوبة آية: ٢٣.
1 / 102
على دين صحيح سليم، أما من كان على دين قد اختلط فيه الحق بالباطل، والهدى بالضلال، فعسير جدًا أن يلتقي بالدين الصحيح. إنه أشبه بالمنافق الذي يلبس من الدين أكثر من ثوب، فهو مؤمن، وكافر وملحد، ومشرك في كل وقت وفي كل حال.. ولهذا جعل الله تعالى المنافقين في الدرك الأسفل من النار تطأ رءوسهم أقدام الكافرين، وأهل النار جميعا، كما يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا﴾ ١.وكما أن لآفات الأبدان، وعلل الأجسام أساة دفعت بهم سنن الله الكونية لمعالجة هذه الآفات والاستشفاء من هذه العلل، فكذلك كان من السنن الكونية أن يقوم في الناس الهداة والمصلحون الذين يعالجون ما فسد من النفوس، ويعمرون ما خرب من القلوب، وهم الذين أشار إليهم الحق سبحانه. في قوله: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ٢ وفي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ ٣.ويقول الرسول - صلوات الله وسلامه عليه: " الدين النصيحة. الدين النصيحة. الدين النصيحة " ٤ قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم " ٥ رواه البخاري ومسلم
_________
١ سورة النساء آية: ١٤٥.
٢ سورة البقرة آية: ٢٥١.
٣ سورة الحج آية: ٤١.
٤ مسلم: الإيمان ٥٥، والنسائي: البيعة ٤١٩٧،٤١٩٨، وأبو داود: الأدب ٤٩٤٤، وأحمد ٤/١٠٢.
٥ مسلم: الإيمان ٥٥، والنسائي: البيعة ٤١٩٧،٤١٩٨، وأبو داود: الأدب ٤٩٤٤، وأحمد ٤/١٠٢.
1 / 103
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معلم من معالم الأمة الإسلامية، وسمة من سماتها، فلا يخلو زمان، أو مكان في مجتمع المسلمين من آمرين بالمعروف، وناهين عن المنكر، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ ١.ويلاحظ في الآية الكريمة، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تقدما على الإيمان بالله، وفي ذلك إشارة إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فطرة مستقرة في الإنسان، إذا نزعت إليها النفس استقام طريقها إلى الإيمان بالله والتقت به من قريب.. فكانت أشبه بالأرض الطيبة المتعطشة إلى الماء فإذا أصابها الماء.. اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج كريم، وإذا هي تلك الأرض الخاشعة أي الضارعة إلى الله، الطالبة لحياتها من الماء كما يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ٢.فإذا كان هذا الجماد يخشع ضارعا لله، يلتمس رحمته، إذا حل به ما يعطل وظيفته أفلا يتجه الإنسان إلى ربه خاشعا ضارعا، إذا تعطلت معطيات إنسانيته، وانحرفت عن سواء السبيل؟ ولكن ما أكثر الناس الذين تذهب معالم إنسانيتهم، وتتعطل معطيات الخير فيهم ثم لا يشعرون مع هذا إلى ما أصابهم، فأصبحوا دون عالم الجماد إحساسا وشعورا. وفي هؤلاء يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا
_________
١ سورة آل عمران آية: ١١٠.
٢ سورة فصلت آية: ٣٩.
1 / 104
لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ ١.وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم الماء الذي يمسك الحياة على الأحياء من الناس، ويبعث الحياة فيمن أوشكوا أن تزايلهم الحياة! ومن هنا كانت رسالة أهل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مجددة لرسالات الأنبياء، وذلك بالتذكير بها، والحفاظ عليها، والوقوف في وجه المنحرفين عنها والمعتدين على حرماتها، ثم كان لهؤلاء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر نصيبهم من تحمل ما حمل الأنبياء ﵈ على طريق دعوتهم إلى الله من سفه السفهاء وحمق الحمقى، والصبر على ما يصيبهم في أنفسهم وأموالهم.. فذلك هو قدر المجاهدين في سبيل الله، والداعين إلى الحق والخير. والله تعالى يقول: ﴿لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ ٢ ويقول سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ ٣.ويقول جل شأنه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾
_________
١ سورة البقرة آية: ٧٤.
٢ سورة محمد آية: ٣١.
٣ سورة آل عمران آية: ١٤٢.
1 / 105
١.ويقول تبارك اسمه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ ٢.إنه ابتلاء، وامتحان.. وبهذا الابتلاء وبذلك الامتحان تنكشف معادن الناس ويعرف مكان الإيمان منهم، وإلا لكانوا على حال سواء.
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر، والإقدام قتال
وفي هذا المقام من الابتلاء، تختلف بأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المواقف، وتتمايز المنازل والدرجات حسب ما في قلوبهم من إيمان بما يدعون إليه، وبما عندهم من رصيد العزم والصبر على المكاره. فهم -وإن كانوا جميعا على طريق الجهاد، وفي مواقع الابتلاء- ليسوا على سواء في الصبر على الشدائد، وتحمل البلاء.. بل ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ ٣.فأكثر دعاة الخير بلاء وأوفرهم نصيبا من الضر والأذى في سبيل دعوته، هو من كان أوثقهم بالله إيمانا، وأقربهم إلى الله منزلة. فعن سعد بن أبي وقاص ﵁ أنه قال: " قلت يا رسول الله. أي الناس أشد بلاء؟ فقال ﷺ: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى الرجل حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه.. فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة " ٤ أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن.
_________
١ سورة العنكبوت آية: ٢-٣.
٢ سورة البقرة آية: ٢١٤.
٣ سورة آل عمران آية: ١٦٣.
٤ الترمذي: الزهد ٢٣٩٨، وابن ماجه: الفتن ٤٠٢٣، وأحمد ١/١٧٢،١/١٧٣،١/١٨٠،١/١٨٥، والدارمي: الرقاق ٢٧٨٣.
1 / 106
وإذا كان الصدر الأول للإسلام، قد سجل صحفا خالدة رائعة للبطولة العزيزة النادرة، في مختلف ميادين الجهاد، من داخل النفس وخارجها، وما احتمل هؤلاء الأبطال المجاهدون من شدائد، وما ركبوا من أهوال في سبيل الحق الذي آمنوا به وارتضوه رفيق حياتهم، فبذلوا النفوس بذل السماح في غبطة ورضى، وفي هؤلاء الأبطال المجاهدين الصادقين يقول الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ ١.وهم الذين أشار إليهم وإلى من أخذ الطريق معهم ﷾ في قوله الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ ٢.وفي قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
_________
١ سورة الأحزاب، آية: ٢٣-٢٤.
٢ سورة التوبة آية: ١١١.
1 / 107
١.نقول: إذا كان الصدر الأول للإسلام قد قدم تلك النماذج الإنسانية العظيمة الخالدة في الثبات على الحق، والاستمساك به، والذياد عن حرماته، والتفدية له بالنفس والأهل والمال - فإن مسيرة الأمة الإسلامية من مطلع الدعوة إلى اليوم لم يخل ميدانها أبدا من الأبطال المؤمنين المجاهدين في سبيل الله، العاملين على التمكين لدين الله في الأرض، الذائدين عن حرماته، مستعذبين في ذلك العذاب الدنيوي من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، والقضاء على الآفات التي تتدسس إلى كيان الأمة الإسلامية، من الأهواء والبدع التي يسوقها إليها المضللون والمبتدعون، لتطمس معالم الطريق إلى الله ولتطفئ جذوة الإيمان المتقدة في صدور المؤمنين، بما يهب عليها من أعاصير البدع، وعواصف الفتن، وإذا المؤمنون في ليل بهيم، لا يعرفون إلى أي متجه يتجهون! ولكن الله تعالى ذو فضل على المؤمنين، حيث يهيئ لهم من بينهم من يقوم لكشف هذه الغواشي عنهم، ويستنقذ سفينتهم من أن تغرق ويغرقوا معها في متلاطم هذه الأمواج العاتية، وإذ هم على مرفأ الأمن والسلامة. ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ٢.وها هي ذي صحف التاريخ الإسلامي، حتى تلك الصحف التي غلب عليها سواد الفتن التي تلاطمت أمواجها في محيط العالم الإسلامي - هذه الصحف لم تخل أية صفحة منها من سطر أو سطور، مشرقة لداعية أو دعاة من أبطال الإسلام قاموا في الناس مقام الأنبياء في أقوامهم الذين تغشتهم غواشي الضلال، وانعقدت فوقهم ظلمات الليل الطويل، حتى كادوا يغرقون في أوحال الرجس والرذيلة - فدعوا فيهم بدعوة الله ورفعوا لهم منارات الطريق إلى الله. ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ ٣.
_________
١ سورة آل آية: ١٤٦-١٤٧-١٤٨.
٢ سورة آية: ٣٢-٣٣.
٣ سورة الأنفال آية: ٤٢.
1 / 108
وقد أقام الله الحجة على عباده بهؤلاء الدعاة إلى الله مؤكدا بها الحجة بما بعث من رسول، وبما أنزل معه من كتاب: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ ١.ونذكر هنا في هذا المقام -بعد عصر الصحابة والتابعين- الإمام أحمد بن حنبل ﵁، وموقفه الرائع المجيد، وجهاده الصادق المبرور، من فتنة القول بخلق القرآن. وقد ظهرت هذه الفتنة في خلافة المأمون، الخليفة العباسي في أوائل القرن الثالث الهجري، حيث دعا المأمون بتلك البدعة، بأن القرآن مخلوق، ودعا العلماء إلى القول بها وحمل المسلمين عليها.. فكانت فتنة عمياء، دخل فيها كثير من علماء الدولة، الذين ناصروا الخليفة في القول بها، على حين أنكرها وتصدى لدفعها كثير من العلماء أول الأمر، ثم رجعوا عن موقفهم هذا واحدا واحدا، تحت سطوة الخليفة.. وبقى أحمد بن حنبل ﵁ وحده في مواجهة الخليفة المأمون، ومن جاء بعده من الخلفاء حتى خلافة المتوكل سنة ٢٣٢ هـ حيث ماتت تلك الفتنة. ولقد لقي أحمد بن حنبل في سبيل موقفه هذا ألوانا من البلاء في السجن، والضرب بالسياط على الملأ، وهو صامد صمود الجبل، حتى مات متأثرا بلهيب السياط التي مزقت جسده، مضافا إلى سجل الشهداء المجاهدين في سبيل الله، فرضى الله تعالى عنه وأرضاه. وأنه لولا موقف هذا المجاهد العظيم وصبره على البلاء لظلت هذه الفتنة تدور في تلك الأمة الإسلامية إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم، وليعلم الله ما كان يتولد منها من فتن، وما يتهدد الأمة الإسلامية منها من بلاء! كما نذكر هنا أيضا الإمام الليث بن سعد، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وما كان لهم وللمجاهدين من مواقف رائعة في وجه الفتن المتدفقة على المسلمين من السلاطين والأمراء، ومن انضوى تحت لوائهم من علماء السوء الذين
_________
١ سورة النساء آية: ١٦٥.
1 / 109
اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة حيث زينوا للحكام المنكرات، وأحلوا لهم الحرام، فباءوا بأخسر صفقة، وكانوا من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ ١.ولا ننسى في هذا المقام، مقام الجهاد في سبيل الله، والنصح لله، ولرسوله ولكتابه وللمؤمنين - ما كان للأئمة الأربعة؛ أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، ومالك بن أنس، وتلاميذهم، من جهاد مبرور في حفظ الشريعة وحمايتها من كل دخيل يدخل عليها من البدع، والأهواء والتأويلات المفسدة لكتاب الله وسنة رسوله.. فعلى طريق هؤلاء الأئمة سار عامة المسلمين على هدى وبصيرة من دين الله، وأحكام شريعته، كما لا ننسى في هذا المقام أيضا مقام هذا الجهاد لحماية دين الله ما قام به أئمة الحديث من تدوين السنة النبوية الشريفة، وتحقيق الصحيح منها، وعزل الموضوعات عنها، فرضوان الله عليهم أجمعين. فإذا نحن انتقلنا إلى عصرنا الحاضر، وما لأئمة الجهاد فيه من بلاء عظيم وجهاد صادق في الذود عن دين الله والنصح لله ولرسوله ولكتابه وللمؤمنين- وجدنا لهذا العصر مقدمات مباركة، من جهاد المجاهدين الصادقين الذين لا تزال أنفاسهم الطاهرة المباركة تعطر أجواء الحياة من حولنا، وتمد الأجيال المعاصرة بأمداد طيبة من الزاد الذي يقوي عزائم المؤمنين المجاهدين، ذوى الغيرة على دين الله من أن يتصدع بنيانه، أو تتداعى أركانه. وهكذا تتصل حلقات المجاهدين بسلسلة طويلة متينة من أئمة الجهاد الذين يضمهم هذا الركب المبارك من مطلع الدعوة إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولاشك أن على رأس عصرنا هذا من أئمة المجاهدين الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي طلع على الأمة الإسلامية بعد نوم طويل ثقيل، وفي وطأة كابوس كئيب، تعوي فيه ذئاب البدع والضلالات، فصرخ من أعماقه تلك الصرخة المدوية
_________
١ سورة البقرة آية: ١٦.
1 / 110
التي أيقظت كل نائم ونبهت كل غافل، وأزعجت المتسلطين على الناس بسلطان الدنيا أو من جهة الدين، فكان مما حملت صرخته تلك: أيها المسلمون، استيقظوا فإن الهلاك لكم بمرصد، إن لم تعودوا إلى دينكم الذي هجرتموه فهجركم، وإنكم إن لم تسرعوا، وتمسكوا به، وتشدوا أيديكم عليه، أفلت منكم، وذهب إلى غيركم: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ ١.وقد كان لهذه الصرخة الصادقة المدوية بليل آثارها العظيمة المباركة، فهب لها النيام، واستيقظ الغافلون وسرعان ما امتلأ ميدان الجهاد بالمجاهدين في كل قطر من أقطار الإسلام. فها هو ذا جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وتلاميذهما، وأشياعهما في مصر.. والسنوسي في أقطار المغرب، والشوكاني باليمن، والسيد أحمد خان بالهند، والمهدي بالسودان، وعبد الرحمن الكواكبي بالشام. فهؤلاء وتلاميذهم وأشياعهم، كانوا ثورات إصلاحية لدنيا المسلمين ودينهم جميعا، وذلك بإصلاح ماديات المسلمين ومعنوياتهم، حتى يأخذوا مكانهم عاليا شامخا مضيئا بين الأمم. فإذا أصلح المسلمون موقفهم من دينهم، واستظلوا بظل مبادئه وأحكامه، صلحت دنياهم، وعز مكانهم بين الناس.. ولن يكون إصلاح دين المسلمين إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ومجانبة كل ما دخل على دين الله من بدع غطت وجه الدين وحجبت خيره عن أولئك الذين لم يعزلوا تلك البدع عنه. وإذا كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵁ هو باعث تلك الحركة الإصلاحية المعاصرة، والداعية إلى الاستمساك بدين الله، واتخاذ كتابه وسنة رسوله دستورا قائما عليهم، وسلطانا حكما بينهم في أفرادهم وجماعاتهم وشعوبهم -إذا كان ذلك كذلك- وهو الحق المشهود- فإن من حق هذا المصلح العظيم أن يحتفى به، وأن تعرض صفحات من جهاده تكشف عن بلائه وصدق عزيمته، وصبره على المكاره، احتسابا لله،
_________
١ سورة محمد آية: ٣٨.
1 / 111
وابتغاء لمثوبته ورضوانه، بالنصح للمسلمين، وردهم من متاهات الطرق التي شردوا فيها عن دين الله، حتى ضعف شأنهم ووقعوا فريسة ليد أعداء الله وأعداء دين الله وأعداء المؤمنين بالله. فحق الشيخ محمد بن عبد الوهاب معقود في عنق كل مسلم حريص على الخير لنفسه وللمسلمين، أن يدرس سيرة هذا البطل المجاهد، وأن يتعرف إلى أسلوب دعوته، ومضامينها، وأن يشهد صورا من جهاده وبلائه وصبره، وأن يرى كيد الشيطان وأولياء الشيطان لدعوة الحق، وللداعين بها، ثم ليعرف آخر الأمر أن النصر للحق وأن العاقبة للمتقين، ثم ليكون هذا أسوة للمتأسين وطريقا للمجاهدين: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ ١. وإذا كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العصر الذي سبق عصرنا هذا - فإننا إذ نخصه بهذا الاحتفاء، فما ذلك إلا لأنه لم يجئ من بعده من يرتفع إلى منزلته أو يقف إلى جواره وإن كان هناك كثير من المصلحين قد جاءوا من بعد إلا إنهم كانوا تلاميذ له، أو متأثرين بدعوته، سائرين على مواقع أقدامه، دون أن يلحقوا به! وبحثنا هذا الذي نديره حول سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب إنما يتناول جانبا واحدا من جوانب سيرته الرحبة العظيمة، وجهاده المتسع الميادين، وذلك الجانب هو: "الشبهات التي أثيرت حول دعوته". تلك الشبهات التي قامت بواعثها على مدعيات باطلة ومنازع فاسدة؛ لأسباب سياسية أو لدوافع شخصية، من علماء الدنيا، المتجرين بالدين، أو عن جهل غلب عليه الحمق والحسد الأعمى دون نظر أو تثبت.. إلى كثير من بواعث الهوى، التي فضحها الإمام في حياته برسائله وكتبه ثم فضحتها الأيام بعد
_________
١ سورة الممتحنة آية: ٦.
1 / 112
مماته؛ لأن الحق وإن شوش عليه الباطل يوما، فإن سلطان الحق المستمد من سلطان الله تعالى لا يلبث حتى يزهق الباطل، ويخمد أنفاسه: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ ١.نسأل الله العون والتوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
_________
١ سورة الأنبياء آية: ١٨.
1 / 113
تمهيد
...
مدخل إلى البحث
عرفت الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، معرفة صحبة ملازمة، منذ نحو عشرين عاما، وكان ذلك في شهر فبراير سنة ١٩٥٩ م حيث كنت قد انتزعت من بين أهلي في منتصف ليل التاسع من هذا الشهر، ثم ألقي بي في السجن الحربي نحو ثمانية أشهر بين زبانية هذا السجن الجهنمي، وما معهم من كلاب، وحيات يطلقونها على ضيوف هذا السجن الرهيب. وكانت محنة قاسية ضاقت بها نفسي، وخانني فيها صبري، وتغشتني فيها غواشي الوحشة المرة، والألم الأليم الممض.. وليس من عزاء إلا الرجاء في رحمة الله والطمع في فواضل رحمته وإحسانه. ذلك أني وقعت ليد باغية متسلطة، أعادت في مصر سيرة فرعون وجبروته الذي سجل عليه القرآن الكريم قولته الضالة الآثمة يهتف بها في قومه، من كرسي عرشه: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ ١ ثم يتبعها قولته الفاجرة: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ ٢.نعم لقد وقعت ليد فرعونية، إن لم يجهر صاحبها بادعاء الألوهية، فإن هذا الادعاء كان يعيش في ضميره ويتسلط على عقله، ويتحكم في أقواله وأفعاله.. فكلمته حكم، وأمره قضاء، ومشيئته قدر.. فكان نصيبي من هذه المحنة، هو نصيب كل مصري عاش
_________
١ سورة النازعات آية: ٢٤.
٢ سورة القصص آية: ٣٨.
1 / 114
تحت حكم هذا الفرعون، وإن اختلفت حظوظهم من تلك المحن الواقعة بهم.. فهم جميعا عند قول الشاعر:
من لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد
وأنه لا يأس من روح الله! ففي زحمة هذه الخواطر السوداء التي كانت تتعاوى في مشاعري كقطيع من ذئاب مسعورة تطلب صيدا، وتتربص بفريسة، رأيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، يدخل علي في مزدحم هذه الخواطر، من غير معرفة سابقة به، ولا استدعاء له، إذ لم يكن له عندي إلا صورة باهتة من سيرته، عفى عليها النسيان وعلاها كثير من الغبار الذي أثاره في وجه دعوته كثير من أعداء الحق، وطلاب المناصب والجاه من علماء السوء.. نعم، دخل على خواطري في تلك الحال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵁ جليسا مؤنسا، وإذا كل هذه الخواطر السوداء تتبدد، وتفر هاربة، وإذا الشيخ -رضوان الله عليه- يملأ فراغ نفسي، ويأخذ مكانا متمكنا من قلبي، وإذا برد السكينة والأمن يثلج صدري المهموم المحموم!! وأسأل نفسي: ما لهذا الشيخ بي؟ ولم يكن هو الطارق لباب وحدتي وهمومي، إن في الأمر سرا، لا بد أن تكشف عنه الأيام. ثم لقد غلبني النوم، فنمت بعد ليال لم أذق فيها للنوم طعما، وهل ينام من تعضه الكلاب وتنهشه الحيات، وتصك أذنيه صرخات المعذبين، وأنين الجرحى؟ وكان مساء، وكان صباح!! وما كدت استيقظ صباح ليلتي تلك، حتى وجدتني أعود إلى ترديد هذا السؤال ما لهذا الشيخ بي؟ وما شأنه معي؟ ومن لي في هذا السجن المطبق علي بأن أجد كتابا أو كتبا لأعرف شيئا أكثر وأصدق عن هذا الشيخ الذي لم أكن أعرف عنه إلا أخلاطا من الآراء المتضاربة المتناقضة، التي لم أقف عندها، ولم أعمل على تحقيقها وتمحيصها؟
1 / 115
وهكذا عشت فترة اعتقالي في السجن الحربي، وأنا مشغول بهذا الشيخ الذي لم تكد تفارقني أنفاسه ليلة واحدة خلال تلك الفترة. ثم خرجت من هذا السجن أو القبر إلى عالم متجهم لي، أنكرني فيه القريب وتجافاني الصديق؛ خوفا من أن تلحظه عين من تلك العيون المسلطة علي، تتبع خطواتي، وتتسمع همسي، وتختطف كل من تحدثه نفسه ببسمة للقائي، أو بهمسة عزاء في أذني. ومن أول يوم من خروجي إلى عالم ما وراء السجن الحربي، وأنا في لهفة إلى لقاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيما كتب الكاتبون عن دعوته من أولياء وأعداء. وكان من هذا أن أخرجت للناس أول كتاب من سلسلة مؤلفاتي التي جاوزت الستين مؤلفا إلى يومي هذا.. وكان هذا الكتاب، أو الكتيب تحت عنوان: الدعوة الوهابية ١ محمد بن عبد الوهاب، العقل الحر، والقلب السليم. وكان هذا الكتاب فاتحة خير لي، وبركة علي، إذ فتح الله علي بعده بهذه المؤلفات العديدة، التي كانت ذكرى الشيخ تلازمني دائما أثناء إعدادها. وقد نشر هذا الكتيب عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رجب سنة ١٣٧٩ هـ، الموافق يناير سنة ١٩٦٠ م أي بعد أربعة أشهر من خروجي من السجن! فرحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة واسعة، وأجزى له المثوبة، بما هدى من ضلال، وما أزال من شبهات، وكشف من ظلمات، وبما مهد من طرق لدعاة الخير ومريدي الإصلاح.
_________
١ نسبة الدعوة إلى الوهابية نسبة خطأ. لم أنتبه إليها في حينه، فما هي إلا دعوة إسلامية، مجددة لما اندثر أو كاد من معالم الإسلام، بما دخل عليه من بدع ومنكرات، لبس بها المسلمون أثواب الشرك.
1 / 116
هذا وقد أعيد طبع هذا الكتيب في ربيع الآخر ١٣٩٤ هـ الموافق إبريل ١٩٧٤ م، بعد أن التقيت في الرياض بالأستاذ الجليل سماحة الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، حفيد الإمام صاحب الدعوة، الذي صحح لي بعض المفاهيم عن دعوة الشيخ الإمام، وكان قد اختلط علي بعضها، في مزدحم المقولات التي قيلت في الدعوة مما ينقض بعضها بعضا. فتقبلت هذه التصحيحات راضيا شاكرا، وأثبتها في صلب الكتاب -في طبعته الثانية تلك- وعلقت على بعضها بما رأيت من فهم لي. وها أنذا، أشرع في الكتابة عن الشيخ الإمام ودعوته، متناولا جانبا واحدا من جوانب دعوته، وهو جانب المتصدين لدعوته، المحاربين لها بالمفتريات والأباطيل، دفاعا عن سلطانهم القائم على العامة بهذه المفتريات وتلك الأباطيل.. وإذا كان الحق قد انتصر، وكشف الزمن عن صدق الدعوة وإخلاص الداعية وسقوط ادعاءات المدعين، وضلالات المضللين، الأمر الذي يغني عن النظر إلى هذه الترهات وتلك المفتريات -فإن من الخير- مع ذلك- أن نعيد عرض هذه المواقف التي وقفها علماء السوء من دعوة الحق؛ ليكون فيها الدرس النافع والعبرة الزاجرة لمن يقفون من دعوات الإصلاح هذا الموقف الذي تباع فيه الضمائر وتسترخص فيه القيم لقاء شيء من حطام هذه الدنيا من مال، أو جاه، أو سلطان!! وإذن فعلى بركة الله نمضي، وبعونه نستعين.
لاهم هب لي بيانا أستعين به ... على قضاء حقوق نام قاضيها
وصلى الله على سيدنا محمد، إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه والتابعين. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 117
الفصل الأول: الحياة.. وهذا الصراع بين الأحياء
الحركة هي مبعث القوة العاملة في هذا الوجود، وهي المولد الديناميكي لكل الطاقات العاملة في مسرح الحياة، وهي سر هذا التفاعل المتصل بين الكائنات جميعها، من الذرة إلى الجبل، ومن قطرة الماء إلى المحيط، ومن الجنة إلى الشجرة. فهذه التي تخلع على الحياة في كل لحظة حللا مختلفة الأشكال والأصباغ، إنما هي من نسيج الحركة، ومن صنع يديها، وأنه لولا هذه الحركة الدائبة الشاملة في هذا الكون الرحيب، لجمدت الموجودات، ولأكلها الصدأ كما يأكل الحديد، ولتحللت كما يتحلل الجسد ويتهرأ، حين تزايله الحياة، ويستولي عليه الخمود والسكون. والحركة في مظهرها صراع عنيف متصل بين الموجودات، كل موجود يريد أن يحقق ذاته، ويبرز شخصيته على نحو ما.. فبعض الموجودات يكون تحقيق ذاتها بإفناء غيرها فيها، حين يأكل الحي غيره، ويغتذي به. وبعضها يكون تحقيق ذاتها بإفناء وجودها لإحياء غيرها، كما يرى ذلك في مواقف التضحية والفداء والاستشهاد من أجل الجماعة، أو الانتصار لمبدأ كريم.. وبعض ثالث من الموجودات يكون تحقيق ذاتها بالاجتماع مع أشباهها، والانتظام معها في حركة واحدة تنتج خيرا يتقاسمه الجميع بينهم. وهكذا تتعدد صور الصراع بين الموجودات إلى أعداد لا حصر لها، حتى يكون الصراع بين الإنسان ونفسه حين تهجم عليه بأهوائها وشهواتها، تريد مسخ إنسانيته، واغتيال فطرته، فيلقاها مغالبا لها، فيغلب حسب ما عنده من رصيد الإيمان، وقوة العزيمة أو ضعفها.
1 / 118
والصراع الذي يدخل فيه المؤمن، هو صراع الخير الذي ينشده، ويسخر له قواه، لخيره وخير الجماعة معه، وبين الشر الذي يزحمه في طريق حياته، وفي ميادين عمله، يريد أن يصرفه عن وجهته، وأن يسخره للشر، وموالات الأشرار. والإسلام في نظرته للخير والشر لا ينكر واقع الحياة، ولا يجاوز الحدود التي تجري عليها سننها.. فالإسلام يعترف بما في الحياة من خير وشر، كما يعترف بأن الإنسان في معرض الخير والشر، وأنهما يتنازعانه دائما كل منهما يريده إلى جانبه.. كما يعترف الإسلام بأن في كيان الإنسان من القوى المدركة العاقلة ما يفرق به بين الخير والشر ويميز به الطيب من الخبيث، كما يفرق بحواسه بين النور والظلام، والحلو والمر، والجميل والقبيح.. كذلك يعترف الإسلام بأن في كيان الإنسان نفسا أمارة بالسوء، وشيطانا يوسوس له بالمنكر، ويزينه له، ويعرض له الشر في صورة الخير. والخير في نظر الإسلام حق ثابت، والشر زيف عارض، أو بمعنى آخر، أن الخير يقوم على دعائم قوية ثابتة من الحق، ويستند على أسس وطيدة منه، وأن الشر ينبت من حبات الباطل، ويغتذي من سراب الزور والبهتان.
وبما أنه لا يمكن أن يأتلف الخير والشر، ويتآخى الحق والباطل، فقد كان لكل موقعه، ولكل أهله ومريدوه من الناس.. ومن هذا كان ذلك الصراع المحتدم بين الناس - أفرادا وجماعات- كل يناصر الموقع الذي أخذه من هذين الموقعين المتضادين، المتنازعين. ودعوات الرسل والأنبياء والمصلحين الراشدين من الناس، إنما هي وقوف إلى جانب الحق والخير وانتصار لهما، واستنفار لمن يستجيبون لدعوتهم، أن يكونوا تحت راية الحق والخير، وأن يعملوا بكل قواهم لهزيمة الشر والباطل، ولو وقعوا شهداء في ميدان المعركة،
1 / 119
حتى يطيب للناس المقام في هذه الحياة وتظلهم الطمأنينة والأمن والسلام.. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ١.ذلك أن من فضل الله على الناس، ورحمته بهم، وإحسانه عليهم، أن ندب فيهم للحق رجالا يحمون حماه، ويدفعون أهل الباطل أن يستعملوا على أهل الحق، حتى لا تفسد حياة الناس، وتتغشاها غواشي الظلم، والبغي، والعدوان.. ولأن أهل الخير ينتصرون للحق، ولأن الحق اسم من أسماء الله الحسنى، فإن الله تعالى ينتصر لمن يلوذ بحمى الحق، ويكون وليا لله مستعينا به فيجد من الله العون والنصر.. وفي هذا يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ ٢.
ونصر الحق من أنصار الحق، إنما يكون بالقول والعمل. فبالقول يكشف وجه الحق، وتشرق أنواره، وتتضح معالم الطريق إليه لمن غاب
_________
١ سورة البقرة آية: ٢٥١.
٢ سورة الحج آية: ٣٨-٣٩-٤٠-٤١.
1 / 120