المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل للعاشقين بأحكام الغرام رضا وحبب إليهم الموت في حب من يهوونه فلا تكن يا فتى بالعدل معترضًا فكم فيهم من عاشق ومحب صادق:
رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا ... فسام صبرًا فاعيًا نيله فقضا
أحمده من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى وشبب يذكر محبوبه إن كان تهاميًا في حجازًا وشاميًا في نوى:
طور إيمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معديًا فعدناني
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحميد المجيد شهادة من أصبح موته لبعده أقرب من حبل الوريد وقال لعاذله لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وأنك لتعلم ما نريد:
ولو أن ما بي من حبيب مقنع ... عذرت ولكن من حبيب معمم
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله شهادة من أخلص في موالاته وتبرأ من الإثم حين تولى عنه محبوبه بخاتم ربه وبراءته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين يحبهم ويحبونه ويقفون عند ما أمرهم ولا يتعدونه ما ذر شارق وهام عاشق.
أما بعد فإن كتابنا هذا كما قيل.
كتاب حوى أخبار من قتل الهوى وسار بهم في الحب في كل مذهب مقاطعيه مثل المواصيل لم تزل تشبب فيه بالرباب وزينب فهم ما هم تعرفهم بسيماهم قد تركهم الهوى كهشيم عقال المحتظر وأصبحوا من علة الجوى على قسمين فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر فهم ما بين قتيل وشهيد وشقي وسعيد على اختلاف طبقاتهم وأشكالهم وتباين مراتبهم وأحوالهم وغير ذلك مما تصبح به أوراقه يانعة الثمر وتمسي به صفحاته في كل ناحية من وجهها قمر فإذا نظرت إلى الوجود بأسره شاهدت كل الكائنات ملاحًا على أن جماعة من العصريين غلبوا من تقدم بالتأليف في هذا الباب ولم يفرق غالبهم في التشبيب بين زينب والرباب:
وكل يدعى وصلا بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا
فربع كتابنا هذا بذكر العامرية مغمور وهو بالنسبة إلى ما ألفه الشهاب محمود مشكور ومن وقف عليه علم صحة هذا الكلام وأنشدني تصديق هذه الدعوى إذا قالت حذام مؤلف طوق الحمامة بالنسبة إلى حجلته يحجل وصاحب منازل الأحباب ممن عرف المحل فبات دون المنزل.
وعذرت طيفك في الجفاء ... يسري فيصبح دوننا بمراحل
آخر
فيا دارها بالخفيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
فإن قلت الفضل للمتقدم وهل غادر الشعراء من متردم قلت نعم في الخمر معنى ليس في العنب وأحسن ما في الطاوس الذنب فدع كل صوت بعد صوتي فأنني أنا الصائح المحكي والآخر الصدا فكم ترك الأول للآخر ولا اعتبار بقول الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يالفة الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل
فقد سقط في يديه وقيل في الرد عليه:
أفخر بآخر من كلفت بحبه ... لا خير في الحبيب الأول
أتشك في أن النبي محمدًا ... ساد البرية وهو آخر مرسل
وقال ديك الجن الحمصي يرد على حبيب قوله المتقدم:
كذب الذين تحدثوا عن الهوى ... لا شك فيه للحبيب الأول
ما لي أحن إلى خراب مقفر ... درست معالمه كأن لم يوهل
فقال حبيب حين بلغه قول ديك الجن المذكور:
كذب الذين تخرصوا في قولهم ... ما الحب إلا للحبيب المقبل
أفطيب في الطعم ما قد ذقته ... من مأكل أو طعم ما لم يؤكل
فقال ديك الجن أيضًا حين بلغه قول حبيب هذا:
أرغب عن الحب القديم الأول ... وعليك بالمستأنف المستقبل
نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى ... كهوى جديد أو كوصل مقبل
وقال أبو البرق وسلك بينهما جادة الإنصاف وبقوله يجب الاعتراف لأنه أحسن في المقال حيث قال:
زادوا على المعنى فكل محسنٍ ... والحق فيه مقالة لم يجهل
الحب للمحبوب ساعة وصله ... ما الحب فيه لآخر ولأول
1 / 1
على أنني لم أجحد ما في منازل الأحباب من ذكر حبيب ومنزل ولا تحملت على مصنفه فوا عجبًا من قلبي المتحمل ولكن قصدت التنبيه على أن حسن التأليف مواهب وأن للناس فيما يعشقون مذاهب ومعلوم أن الجنون فنون وكل حزب بما لديهم فرحون ولم يزل كتابنا هذا في مسوداته منذ حجح وبيوته من بحورها في لجج لا أبيح ما فيه من منازل الأحباب لساكن ولا أمكن عاشقًا من المرور بتلك الأماكن:
أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذارًا وخوفًا أن تكون لحبه
حتى برز لطلبه المرسوم الشريف الملكي الناصري أدام الله نشر إعلامه ولا أخلى كنانة من سهامه ما نفذت مراسيم سهام المقل وتثني قوام الحبيب الذي طاب به الزمان واعتدل فبادرت إلى تجهيزه وسبك إبريزه حسب المرسوم والمعدن الشريف من غير تسويف ولا تكليف ولم أبح زهر منثوره لغير حضرته الشريفة من الأنام لأنه كان يقال كل ما يصلح للمولى على العبد حرام لا جرم أنه جاء بنظره السعيد نزهة للنظر وقال الواقف على عتبة بابه أن السعادة لتلحظ الحجر فهو للسلطان بستان وللعاشق سلوان وللمحب الصادق جبيب موافق وللمهجور نجوة وللنديم قهوة وللناسي تذكرة وللأعمى تبصرة وللشاعر المجيد بيت القصيد وللأديب الماهر مثل سائر وللمحدث قصص وللحاسد غصص وللفقيه تنبيه وللحبيب بالقمر تشبيه:
تبادره بالبدر منه بوادره ... وتحلو له عند المرور نوادره
ففيه له في كل يوم وليلة ... حبيب ملم أو نديم يسامره
ولي فيه نظم أن تضوع نشره ... ففي طيه حلو الكلام ونادره
ولي فيه منثور غدا في مقامه ... وعرف سناه مشرق الروض عاطره
ولي فيه من سحر البيان رسائل ... إذا ما جفاني أحور الطرف ساحره
ولي فيه أسرار الحروف لأنه ... ينقطه دمعي فتبدو سرائره
فنثور دمعي مثل نظيم سطوره ... خدودي إذا ما خط فيها دفاتره
تمد مداد الدمع أقلام هديه ... فدمعي حبري والسواد محابره
خدمت بديوان الصبابة عاملا ... فباشر قتلي من سباتي ناظره
فلولا الهوى ما مات مثلي عاشق ... ولا عمرت بالعامري مقابره
وفي غزلي ذكر الغزال ومربع ... تطار حتى فيه الحديث جآذره
أنزهه عن وصف خدر عنيزة ... ومنزل قفر سرن عنه اباعره
تجر قوافيه معال غدا بها ... جرير كعبدًا وثقته جرائره
يشيب بها فود الوليد لأنه ... يسير وجنح الليل سود ضفائره
ولست أرى يومًا بدارة جلجل ... سوى شاعر دارت عليه دوائره
إذا ما نسي ذكر حبيب ومنزل ... فإني لمن أهواه ما عشت ذاكره
أجاور في سفح المقطم جيرة ... فيا حبذا المحبوب حين تجاوره
فيا طيف من أهواه طرفي إن غفا ... أتهجره بالله أم أنت زائره
وحقك لو سايرته بعض ليلة ... لسايرت صيامات في الحب سائرة
ويا تيه طيف من خيالك طارق ... فيطرق إجلالًا كأنك حاضرة
وبي من يحج الغصن رمح قوامها ... إذا بات في الروض النضير بناظره
إذا قبلت في الحلي والطيب قيل لي ... حبيبك بستان تضوع أزاهره
وإن رمت منها وهي غضبى التفاتة ... ثنت عواطفها نحو الغزال تشاوره
أيبرد ما ألقاه من حر هجرها ... وقد حميت يومًا علي هواجره
تحصنت في حصن الهوى من عواذلي ... وبات لقلبي جيش هم يحاصره
ولو لم يكن أعمى البصيرة عاذلي ... لما عميت عمن هويت نواظره
يشبهها بالغصن والغصن عندها ... يشاهدها يغضي ويطرق ناظره
أللغصن خد كالشقيق إذا بدا ... وشعر كجنح الليل سود غدائره
1 / 2
لئن طاب ذلي في هواها فإنني ... وحقك ممن عز في مصر ناصره
مليك يهز الرمح أعطاف قده ... كما اهتز غصن طار في الحب
مليك تريه قبل ما صار هو كائن ... بصيرته أضعاف ما هو ناظره
يليك إذا ما جئته حسن اللقا ... مجبل المحيا بارع الحسن باهر
مليك إذا ما صار كالبدر في الدجى ... فأولاده مثل النجوم تسايره
مليك أرى من حوله كل عالم ... يذكره في العلم ما هو ذاكره
مليك له في كل يوم ولية ... بشير توالت بالهناء بشائره
مليك أسود الغاب تحذر بأسه ... لأن ملوك الأرض طرا تحاذره
تروعهم شهب السماء وبروقه ... وما هي إلا سمره وبواثره
إذا افترعت أشكال حال اجتماعهم ... فأي ضمير لم يدس فيه ضامره
أي كماة لم بحرها يرعهم نزاله ... وأيّ مكان ما علته منابره
وأي قصيد بخرها لم يرق له ... وغائص فكري ناظم الدر ناثره
ولي فيه من غر التصانيف خمسة ... وهذا الذي طوق الحمامة عاشره
يضوع به المنثور كالزهر عندما ... تراوحه ريح الصبا وتباكره
فكم فيه لي من مرقص حول مطرب ... بتشبيبه في الحي يطرب زامره
ولو لم يكن مثل السكر دان ما غدا ... بحضرته يومًا تطيب حواضره
نعم الفته باسم مولانا السلطان على ... الوجه المشروح وتوليت لأجله
عمله بنفسي فجاء كما قيل عمل ... ... .... ... ... ... الروح للروح
أهيم بمن هام الحبيب بحبه ... ألا فاعجبوا من ذا الغرام المسلسل
وسلكت في تأليفه الاختصار ... والاقتصار على النوادر القصار
لأنه كان يقال الوضع وضعان ... وضع له افتخار ووضع له نجار
وقال يحيى بن خالد لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون واحفظوا أحسن ما تكتبون وحدثوا بأحسن ما تحفظون وخذوا من كل شيء طرفًا فإنه من جهل شيئًا عاداه. وسميته ديوان الصبابة ليصبح الواقف عليه مولهًا ويعلم أنه إن لم أكن أنا للصبابة من لها:
ما يعلم الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
أي والله
قلما يبرح المطيع هواه ... كافا ذا صبابة وجنون
1 / 3
ورتبته على مقدمة وثلاثين بابًا وخاتمة أما المقدمة ففي ذكر حد العشق واشتقاقه وما قيل في وسمه ورسمه وأسبابه وعلاماته ومراتبه وأسمائه ومدحه وذمه وذكر اختلاف الناس فيه هل هو اختياري واضطراري ونحو ذلك وأما الأبواب فالباب الأول في ذكر الحسن والجمال وما قيل فيهما من تفصيل وإجمال والباب الثاني في ذكر المحبين والظرفاء من الملوك والخلفاء. والباب الثالث في ذكر من عشق على السماع ووقع من النزوع إلى الحبيب في نزاع. والباب الرابع في ذكر من نظر أول نظرة فاحترق من خد الحبيب بجمرة. والباب الخامس في ذكر تغير الألوان عند العيان من صفرة ووجل وحمرة وخجل وما في معنى ذلك من عقد اللسان وسحر البيان. والباب السادس في ذكر الغيرة وما فيها من الحيرة وقرع سن ديك الجن. والباب السابع في ذكر إفشاء السر والكتمان عن أبناء الزمان. والباب الثامن في ذكر مغلطة الحبيب واستعطافه وتلافي غيظه وانحرافه والباب التاسع في ذكر الرسل والرسائل والتلطف في الوسائل. والباب العاشر في ذكر الاحتيال على طيف الخيال وغير ذلك مما قيل فيه اختلاف معانيه. والباب الحادي عشر في ذكر قصر الليل وطوله وخضاب شفقه ونصوله وما في معنى ذلك. والباب الثاني عشر في ذكر قلة عقل العزول وما عنده من كثرة الفضول. والباب الثالث عشر في ذكر الإشارة إلى الوصل والزيارة. والباب الرابع عشر في ذكر الرقيب والنمام والواشي الكثير الكلام. والباب الخامس عشر في ذكر العتاب عند اجتماع الأحباب وما في معنى ذلك من الرضا والعفو عما مضى. والباب السادس عشر في ذكر إغاثة العاشق المسكين إذا وصلت العظم السكين. والباب السابع عشر في ذكر دواء علة الجوى وما يقاسيه أهل الهوى. والباب الثامن عشر في ذكر تعنت المعشوق على الصب المشوق وغير ذلك من أقسام الهجر وصبر النابض فيه على الجمر. والباب التاسع عشر في ذكر الدعاء على المحبوب وما فيه من الفقه المقلوب. والباب العشرون في ذكر الخضوع وانسكاب الدموع. والباب الحادي والعشرون في ذكر الوعد والأماني وما فيهما من راحة العاني. والباب الثاني والعشرون في ذكر الرضا من المحبوب بأيسر مطلوب. والباب الثالث والعشرون في ذكر اختلاط الأرواح كاختلاط الماء بالراح. والباب الرابع والعشرون في ذكر عود المحب كالخلال وطيف الخيال وما في معنى ذلك من رقة خصر وتشبيه الردف بالكثيب. والباب الخامس والعشرون في ذكر ما يكابده في طلب الأحباب من الأمور الصعاب. والباب السادس والعشرون في ذكر طيب ذكرى حبيب. والباب السابع والعشرون في ذكر طرف يسير من المقاطيع الفائقة والأغزال الرائقة مما اشتمل على ورد الخدود ورمان النهود وغير ذلك مما هنالك. والباب الثامن والعشرون في ذكر طرف يسير من أخبار المطربين المجيدين من الرجال وذوات الجمال وما في معنى ذلك من ذكر موالاتهم ووصف آلاتهم. والباب التاسع والعشرون في ذكر من ابتلى من أهل هذا الزمان بحب النساء والغلمان. والباب الثلاثون في ذكر من اتصف من العفاف بأحسن الأوصاف. وأما الخاتمة ففي ذكر من مات من حبه وقدم على ربه من غني وفقير وكبير وصغير على اختلاف ضروبهم وتباين مطلوبهم ولأجل ذكرهم أسست قواعد هذا الكتاب ودخلت فيه من باب وخرجت من باب ومن هنا نشرع في ذكر ما يجلب الراحة كمراوح الخيش وتكون عند المطالعة كالطليعة للجيش وهذه المقدمة في ذكر رسم العشق ووسمه ومدحه وذمه وذكر اختلاف الناس فيه هل هو اختياري واضطراري ويشتمل ذلك على خمسة فصول:
الفصل الأول
رسم العشق ورسمه وما قيل في اسمه
أقول هذا الفصل عقدناه لذكر رسم العشق وحده وجزر بحره المتلاطم ومده وما للناس فيه من الكلام الباين والقول المتباين إذ فيهم من التبس عليه فسماه باسم سببه أو باسم ما يؤول لغيه وغير ذلك مما التبس عليهم فيه الجواب وإصابة الصواب وعذرهم الظاهر قول الشاعر:
يقول أناس لو نعت لنا الهوى ... والله ما أدري لهم كيف أنعت
فليس لشيء منه حد أحده ... وليس لشيء منه وقت مؤقت
1 / 4
فمن حدود المليحة ورسومه الصحيحة قول فيثاغورث الذي أخذ عن أصحاب سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام فيما ذكره صاعد في كتاب الطبقات العشق طمع يتولد في القلب ويتحرك وينمو ثم يتربى وتجتمع إليه مواد من الحرص وكلما قوي زاد صاحبه في الاهتياج واللجاج والتمادي في الطمع والفكر والأماني والحرص على الطلب حتى يؤديه ذلك إلى الغم المقلق ويكون احتراق الدم عند ذلك باستحالة السوداء أو التهاب الصفراء وانقلابها إليها ومن طبع السوداء إفساد الفكر يكون زوال العقل ورجاء ما لا يكون وتمنى ما لا يتم حتى يؤدي ذلك إلى الجنون فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه وربما مات غمًا وربما نظر إلى معشوقه فمات فرحًا وربما شهق شهقة فتختنق روحه فيبقى أربعًا وعشرين ساعة فيظنون أنه مات فيدفنونه وهو حي وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه وينضم عليها القلب ولا ينفرج حتى يموت وتراه إذا أذكر من يهواه هرب دمه واستحال لونه قال الإمام ابن الإمام محمد بن داود الظاهري وتكرار وإذا كان ذلك كذلك فإن زوال المكروه عمن هذه حالته لا سبيل إليه بتدبير الأدوية ولا شفاء له في نسخة وقال فزاري إلا بلطف رب العالمين وذلك إن المكروه العارض من سبب واحد قائم بنفسه يتهيأ التلطف فيه بزوال سببه فأما إذا وقع السببان وكان كل واحد منهما سببًا فإذا كانت الصوداء سببًا لاتصال الفكر وكان اتصال الفكر سببًا لاحتراق الدم والصفراء وقلبهما إلى تقوية السوداء فهذا هو الداء العضال الذي يعجز عن معالجته الأطباء ومنها قول أفلاطون الآخذ للحكمة عن فيثاغورس المتقدم ذكره العشق قوة غريزية متولدة من وسواس الطامع وأشباح التخيل نام بإيصال الهيكل الطبيعي محدث للشجاع جنبًا وللجبان شجاعة يكسو كل إنسان عكس طباعه حتى يبلغ به المرض النفساني والجنون الشوقي فيؤديانه إلى الداء العضال الذي لا دواء له. ومنها قول ارسطاطاليس الآخذ للحكمة عن أفلاطون المتقدم ذكره العشق عمى العاشق عن عيوب المعشوق وهذا كقوله ﷺ حبك الشيء يعمي ويصم وقول الشاعر:
فلست براء عيب ذي الود كلّه ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيًا
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقول لآخر
وعين السخط تبصر كل عيب ... وعين أخي الرضا عن ذاك عميا
ومنها ما مشى عليه أبو علي بن سينا وغيره من الأطباء العشق مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والتماثيل وقد يكون معه شهوة جماع وقد لا يكون وقال بعض الأدباء الظرفاء العشق عبارة عن طلب ذلك الفعل المخصوص من شخص مخصوص وهذا ظريف وقال الجنيد العشق ألفة رحمانية وإلهام شوقي أوجبها كرم الله تعالى على كل ذي روح لتحصل به اللذة العظمى التي لا يقدر على مثلها إلا بتلك الألفة وهي موجودة في الأنفس بقدر مراتبها عند أربابها فما أحد إلا عاشق لأمر يستدل به على قدر طبقته من الخلق ولأجل ذلك كان أشرف المراتب في الدنيا مراتب الذين زهدوا فيها مع كونها معاينة ومالوا إلى الآخر مع كونها مخبرًا لهم عنها بصورة اللفظ وقال الأصمعي سألت إعرابية عن العشق فقالت: جل الله عن أن يرى وخفى عن أبصار الورى فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وقال بعضهم إن الجنون فنون والعشق فن من فنونه واحتج بقول قيس:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
إني جننت فهاتوا من جننت به ... إن كان ينفي جنوني لا تلوموني
1 / 5
وقيل لأبي زهير المدايني ما العشق فقال: الجنون والذل وهو داء أهل الظرف وقيل لأبي وائل الأوضاحي ما تقول في العشق فقال: إن لم يكن طرفًا من الجنون فهو عصارة من السحر وقالت إعرابية: هو تحريك الساكن وتسكين المتحرك وقال المأمون ليحيى بن أكثم ما العشق فقال: سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه وتؤثر بها نفسه فقال له تمامة: أسكت يا يحيى إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم صاد صيدًا فأما هذه فمن مسائلنا نحن فقال له المأمون: قل يا تمامة قال: العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب مالك وملك قاهر ملك مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائرة ملك الأبدان وأرواحها والقلوب وخواطرها والعيون ونواظرها والعقول وآراءها قد أعطى عنان طاعتها وقوة تصرفها وقياد ملكها وتوارى عن الأبصار مدخله وعمي عن القلوب مسلكه فقال له المأمون أحسنت يا تمامة وأمر له بألف دينار وهذا القدر كاف في معرفة العشق ورسمه.
الفصل الثاني
أسبابه وعلاماته
أقول هذا الفصل عقدناه للكلام على أسباب العشق النفسانية وعلاماته الجسمانية على أن هذا النوع الأخير كثير والمتصف به من المحبين جم غفير وسنورد من ذلك ما يعذب وروده وتخفق كقلب العاشق بنوده إن شاء الله تعالى قال بعض الأطباء سبب العشق النفساني الاستحسان والفكر وسببه البدني ارتفاع بخار رديء إلى الدماغ عن مني محتقن ولذلك أكثر ما يعتري العزاب وكثرة الجماع تزيله بسرعة وقال ابن الأكفاني في كتابه غنية اللبيب عند غيبة الطبيب إن أكل الطيور المسموعة يورث العشق وقال أيضًا في الخلاصة علامته نحافة البدن وخلاء الجفن للسهر وكثرة ما يتصعد إليه من الأبخرة وغور العين وجفافها إلا عند البكاء وحركة الجفن ضاحكة كأنه ينظر إلى شيء لذيذ ونفس كثير الانقطاع والاسترداد والصعداء ونبض غير منتظم لا سيما عند ذكر أسماء وصفات مختلفة فأيها اشتد عنده اختلاف النبض وتغير الوجه فهو وقال أرسطاطاليس الفلكي للعشق من النجوم زحل وعطارد والزهرة جميعًا ولذلك إذا اشتركوا في أصل المولد أو اجتمعوا وتناظروا في أشكال محمودة وقع بينهم العشق والمحبة في بيت أحدهم أو في حده وكان رب البيت أو صاحب الحد ناظرًا إليه أو كانت الكواكب المذكورة ناظرة في أشكال محمودة أو متقارنة فزحل يهيئ الفكرة والتمني والطمع والهم والهيجان والأحزان والوسوسة والجنون وعطارد يهيئ قول الشعر ونظم الرسائل والملق والخلاعة وتنميق الكلام والتذلل والتلطف والزهرة تهيئ للعشق والوله والهيمان والرقة وتبعث في النفس التلذذ بالنظر والمؤانسة بالحديث والمغازلة التي تبعث على الشبق والغلمة وتدعو إلى الطرب وسماع الأغاني وما شابهه وقال بطليموس سببه أن تكون الشمس والقمر في برج واحد أو متناظرين من تثليث أو تسديس فمتى كان كذلك كانا مطبوعين على مودة كل واحد منهما لكون سهمي سعادتهما في مولديهما في برج واحد أو يتناظر السهمان من تثليث أو تسديس بعد أن يكون نظر صاحب سهم المحبة والصداقة فذلك يدل على أن هذين المولودين محبتهما من جهة المنفعة ومنفعتهما من جهة واحدة وإن أحدهما ينتفع بمودة صاحبه فتجلب المنفعة ما بينهما المحبة والمودة ويمتزجان ويؤيد هذا قول الخيزارزي:
ولكن أرواح المحبين تلتقي ... إذا كانت الأجساد عنهن نوّما
وأحسب روحينا من الأصل واحدًا ... ولكنه ما بيننا منقسما
ولو لم يكن هذا كذا ما تألّمت ... له مهجتي بالغيب لما تألما
ومن علاماته إغضاء المحب عند نظر محبوبه إليه ورميه بطرفه نحو الأرض وذلك من مهابته له وحيائه منه وعظمته في صدره ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم بل يكون خافض الطرف إلى الأرض قال الله تعالى مخبرًا عن كمال أدب نبيه ﷺ في ليلة الإسراء ما زاغ البصر وما طغى وهذا غاية الأدب فإن البصر لم يزغ يمينًا ولا شمالًا ولا طمح متجاوزًا إلى ما وراء ومنها اضطراب يبدو للمحب عند رؤية من يشبه محبوبه أو عند سماع اسمه كما قيل:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من مني ... فهيج أشجان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرًا كان في صدري
دعا باسم ليلى أسخن الله عينه ... وليلى بأرض الشام في بلدٍ قفر
1 / 6
ومنها أنه يستدعي سماع اسم محبوبه ويستلذ الكلام في أخباره ويحب أهل محبوبه وقرابته وغلمانه وجيرانه ومن ساكنه كما قال الشاعر:
فيا ساكني أكتاف دجلة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
وقال آخر:
أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب
ومنها كثرة غيرته عليه ومحبة القتل والموت ليبلغ رضاه والإنصاف لحديثه إذا حدث واستغراب كل ما يأتي به ولو أنه عين المحال وتصديقه وإن كذب وموافقته وإن ظلم والشهادة له وإن جار وأتباعه كيف يسلك والإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه والتعمد للقعود بقربه والدنو منه واطراح الأشغال الشاغلة عنه والزهد فيها والرغبة عنها والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى مفارقته والتباطئ في المشي عند القيام عنه وجوده بكل ما يقدر عليه مما كان يتمتع به قبل ذلك حتى كأنه هو الموهوب له وهذا قبل استعار نار الحب فإذا تمكن أعرض عن ذلك كله وبدله سؤالًا وتضرعًا كأنه يأخذه من المحبوب حتى أنه يبذل نفسه دون محبوبه كما كانت الصحابة يفدون النبي ﷺ في الحرب بنفوسهم حتى يصرعوا حوله كما قيل:
بفديك بالنفس صب لو يكون له ... أعز من نفسه شيء فداك به
ومنها الانبساط الكثير الزائد والتضايق في المكان الواسع والمحاربة على الشيء يأخذه أحدهما وكثرة الغمز الخفي والميل والتعمد للمس اليد عند المحادثة ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة وشرب ما أبقى المحبوب في الإناء قلت ومنها تقبيل نعله في غيبته وقد رأيت من فعل هذا فعنفته على ذلك فقال: أسكت يا فلان ما تعلم ما في هذا من اللذة ثم أني وجدت هذا المذكور بمكة وأرسل معي كتابًا إلى محبوبه المذكور لأنه جاور فقلت له: كيف أمكن الصبر يا زيد عن عمرو فأنشد:
ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب
ومنها تقبيل جدار الدار كما قيل:
أقبِّل ذا الجدار وذا الجدار ... أمر على الديار ديار ليلى
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
ومنها الاتفاق الواقع بين المحب والمحبوب ولا سيما إذا كانت المحبة محبة مشاكلة ومناسبة فكثيرًا ما يتكلم المحبوب بكلام أو يريد أن يتكلم به فيتكلم المحب به بعينه وكثيرًا ما يمرض المحب بمرض محبوبه قلت وقد اتفق هذا غير مرة للسلطان الملك الناصر أحمد لما كان بالكرك مع محبوبه الشهيب فإنه كان يمرض لمرضه ويصح لصحته أخبرني بذلك من لا ارتاب في قوله ممن كان في خدمته ملازمًا له وأما وقوع ذلك للمتقدمين فكثير فمن ذلك ما حكى عن أبي نواس أنه مرض فدخل عليه بعض أصحابه يعودونه فوجدوا به خفة قال فانبسط معنا وقال: من أين جئتم فقلنا: من عند عنان جارية الناطقي فقال: أو كانت عليلة قلنا: نعم وقد عوفيت الآن فقال: والله لقد أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سببًا غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت طمعًا أن يكون الله عافاه منها قبلي ثم دعا بدواه وكتب إلى عنان:
إني حممت ولم أشعر بحماك ... حتى تحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحمى لتطرقني ... من غير ما سبب إلا بحماك
وخصلةٍ كنت فيها غير متهم ... عافاني الله منها حين عافاك
حتى إذا اتفقت نفسي ونفسك في ... هذا وذاك وفي هذا وفي ذاك
1 / 7
ومنها أنه إذا سئل عن أمر أجاب بخلافه وكثرة التثاؤب والتمطي والتكسل إذا نظر إلى محبوبه ونكثه في الأرض بإبهام رجله. وهذا كثير ما يقع للنساء وعضها على شفتها السفلى وضربها على عضديها أو ثدييها وإظهار محاسنها لمن تهواه توهمه أنها ترى ذلك لبعض أهلها ونظرها إلى أعطافها ووضعها الحديث في غير موضعه - إياك أعني واسمعي يا جارة - ومنها الانقياد للمحبوب في جميع ما يختاره من خير وشر فإن كان المحبوب مشغوفًا بالعلم اجتهد المحب في طلبه أشد من اجتهاده وإن كان مشغوفًا بالنوادر والحكايات الحسان والأخبار المليحة المستحسنة بالغ المحب في طلبها وحفظها وإن كان مشغوفًا بحرفة أو صناعة اجتهد في تعلمها أن أمكنه ذلك فالمحبة النافعة أن يقع الإنسان على عشق كامل يحمله عشقه على طلب الكمال والبلية كل البلية أن يبتلي الإنسان بمحبة فارغ بطال صفر من كل خير فيحمله حبه على التشبه به. وفي أخبار العشاق أن عاشقًا عشق السراويلات من أجل سراويل معشوقته فوجد في تركته اثنا عشر حملًا وفردة من السراويلات ذكره الصيمري وعشق آخر الهاونات من أجل صوت هاون محبوبته فوجد في تركته عشرة آلاف منها وقد وقفت من هذا على أشياء كثيرة والجنون فنون.
الفصل الثالث
مراتبه وأسمائه
أقول هذا الفصل عقدناه لذكر مراتب الحب وسياقه وأسمائه واشتقاقه على اختلاف لغاته وانفاق رواته ومن المعلوم أن الشيء إذا كان عند العرب عظيمًا وخطره جسيمًا كالهزبر والرمح والخمر والسيف والداهية والمحبة المحرقة وما أدراك ماهية وضعوا له أسماء كثيرة وكانت عنايتهم به شهيرة ولا شيء يعدل اعتناءهم بالحب الذي يسلب اللب فأول مراتبه الهوى وهو ميل النفس وقد يطلق ويراد به نفس المحبوب. قال الشاعر:
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب كما قال الشاعر:
ولقد أردت الصبر عنك فعاقني ... علق بقلبي من هواك قديم
وسميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب ثم الكلف وهو شدة الحب وأصله من الكلفة وهي المشقة يقال كلفة تكليفًا إذا أمره بما يشق عليه فكان الحبيب يكلف المحب ما لا يطيق ويتغافل عن قوله تعالى لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها وقيل هو مأخوذ من الأثر وهو شيء يعلو الوجه كالسمسم والكف أيضًا لون بين المواد والحمرة وهي حمرة كدرة ثم العشق وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب وفي الصحاح العشق فرط الحب وهو عند الأطباء من جلة أنواع الماليخوليا والمراد بالماليخوليا تغير الظنون والفكر عن المجرى الطبيعي إلى الفساد وهو أمر هذه الأسماء وقلما نطقت به العرب وكأنهم ستروا اسمه وكنوا عنه بهذه الأسماء فلم يكادوا يفحصون به ولا تكاد تجده في شعرهم القديم وإنما أولع به المتأخرون ولم يقع هذا اللفظ في القرآن ولا في السنة إلا في حديث ابن داود الظاهري كما يأتي بيانه وقال ابن سيده العشق عجب المحب بالمحبوب يكون في عناف الحب وذعارته وقيل العشق الاسم والعشق المصدر وعشيق كثير العشق وامرأة عاشق وشجرة يقال لها. وقيل عاشقة تخضر ثم تدق وتصغر قال الزجاجي واشتقاق العاشق من ذلك وقال الفراء العشق نبت لزج فسمى العشق الذي يكون بالإنسان لزوجته ولصوقه بالقلب.
1 / 8
وقال ابن الأعرابي العاشقة اللبلابة تحضر وتصفر وتعلق بالذي يليها من الشجرة فاشتق من ذلك العاشق ذكره في ديوان العاشقين والعشيق يكون للفاعل والمفعول وجمع العاشق عشق وعشاق ويقال في المرأة عاشقة وامرأة عاشق أيضًا وقد تقدم ذكر ذلك والله أعلم ثم الشغف قال العزيزي في غريب القرآن شغفها حبًا أصاب حبه شغاف قلبها والشغاف غلاف القلب ويقال هو حبة القلب وهي علقة سوداء في صميمه وشغفها حبًا ارتفع حبه إلى أعلى موضع في قلبها مشتق من شغاف الجبال أي رؤسها وقولهم فلان مشغوف أي ذهب به الحب أقصى المذاهب وأما الشعف بالعين المهمله فهو إحراق الحب القلب قال في الصحاح شعفه الحب أي أحرق قلبه وقد قرى بهما جميعًا شغفها حبًا وشغفها وكذلك اللوعة واللاعج أعني مثل الشغف في الإحراق فاللاعج اسم فاعل من قولهم الضرب لعجه إذا آلمه وأحرق جلده ويقال هوى لاعج لحرقة الفؤاد من الحب وفي الصحاح لوعة الحب حرقته فهذا هو الهوى المحرق ثم الجوى وهو الهوى الباطن وفي الصحاح الجوى الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن ثم التتيم وهو أن يستعبد الحب ومنه سمي تيم الله أي عبد الله ومنه قيل رجل متيم ثم التيل وهو أن يسقمه الهوى ومنه رجل متبول وفي الصحاح تبلهم الدهر واتبلهم إذا أفناهم ثم التدلة وهو ذهاب العقل من الهوى ويقال دلهه الحب أي حيره ثم الهيام وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه ومنه رجل هائم والهيام بالكسر الأبل العطاش وقوم هيم أي عطاش والصبابة رقة الشوق وحرارته والمقة المحبة والوامق المحب والوجد والحسران الحزن وأكثر ما يستعمل في الحزن والدنف لا تكاد تستعمله العرب في الحب وإنما ولع به المتأخرون وإنما استعملته العرب في المرض والشجو حب يتبعه هم وحزن الشوق سفر القلب إلى المحبوب قال في الصحاح الشوق والاشتياق نزاع النفس إلى الشيء وقد جاء في السنة وأسألك النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك واختلف في الشوق هل يزول بالوصال أو يزيد فقالت طائفة يزول لأنه سفر القلب إلى المحبوب فإذا وصل إليه انتهى السفر فألقت عصاها واستقر بها النوى.
كما قر عينًا بالإياب المسافر وقالت طائفة بل يزيد واستدلوا بقول الشاعر:
وأعظم ما يكون العشق يومًا ... إذا دنت الخيام من الخيام
قالوا الآن الشوق هو حرقة المحبة والتهاب نارها في حرقة المحبة والتهاب نارها في قلب المحب وذلك مما يزيده القرب والمواصلة والصواب أن الشوق الحادث عند اللقاء والمواصلة غير النوع الذي كان عند الغيبة عن المحب قال ابن الرومي:
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول صبابتي ... فيشتد ما القي من الهيمان
كان فؤادي ليس يشفى غليله ... سوى أن ترى الروحين يمتزجان
والبلبال الهم ووسواس الصدر والبلابل جمع بلبلة يقال بلابل الشوق وهي وساوسه والتباريح الشدائد والدواهي يقال برح به الحب والشوق إذا أصابه منه البرح وهو الشدة والغمرة ما يغمر القلب من حب أو سكر أو غفلة والشجن الحاجة حيث كانت وحاجة المحب أشد إلى محبوبه. وقال الراجز:
إني سأبدي لك في ما أبدي ... لي شجنان شجن بنجد
؟ وشجن لي ببلاد السند
وقال آخر:
تحمل أصحابي ولم يجدوا وجدي ... وللناس أشجان ولي شجن وحدي
والوصب ألم الحب ومرضه فإن أصل الوصب المرض والكمد الحزن المكتوم والكمد تغير اللون. والأرق والسهر وهو من لوازم المحبة والحنيني الشوق أصل مادته الستر والحب المفرط يستر العقل فلا يعقل المحب ما ينفعه ولا ما يضره فهو شعبة م الجنون ومن الحب ما يكون جنونًا والود خالص الحب وألطفه وأرقه وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة والخلة توحيد المحبة فالخيل هو الذي يوحد حبه لمحبوبه وهي مرتبة لا تقبل المشاركة ولهذا اختص بها من العالم الخليلان إبراهيم ومحمد صلوات الله عليهما كما قال واتخذ الله إبراهيم خليلًا وصح عن النبي ﷺ أنه قال إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا وفي الصحيح عنه لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا وقيل إنما سميت خلة لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح.
قال الشاعر:
1 / 9
قد تخللت موضع الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
زعم من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل وقال محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله وهذا الزعم باطل لأن الخلة خاصة وهي توحيد المحبة كما تقدم والمحبة عامة قال الله تعالى أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقد صح أن الله تعالى اتخذ نبيًا خليلًا فحصل من أنعام الحب العام على الخاص والعام:
حللت بهذا حلةً ثم حلة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما
والغرام الحب اللازم يقال رجل مغرم بالحب وقد لزمه الحب. وفي الصحاح الغرام الولوع والغريم الذي يكون عليه الدين وقد يكون الذي له الدين: قال كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
والوله ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد، وله أسماء غير هذه أضربت عنها خوف الإطالة والمحبة.
أم باب هذه الأسماء كلها وقيل الشوق جنس والمحبة نوع منه، ألا ترى أن كل محبة شوق وليس كل شوق محبة وخالف ذلك صاحب المنظوم والمنثور. فقال: زعموا أن العشق والوجد والهوى أن يهوى الشيء فيتبعه غيًا كان أو رشدًا والحب حرف تنتظم هذه الثلاثة فيه، وقد يقال للعاشق والواجد والذي يهوى الأمر محب وللناس في حد المحبة كلام كثير فقيل: هي الميل الدائم بالقلب الهائم وقيل: هي قيامك لمحبوبك بكل ما يحبه منك. وقيل: ذكر المحبوب على عدد الأنفاس كما قال المتنبي:
يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل
وقيل هي مصاحبة المحبوب على الدوام كما قيل:
ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وقيل هي حضور المحبوب عند المحب دائمًا كما قال الآخر:
خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فاين تغيب
وفي اشتقاقها أيضًا أقوال فقيل هي مشتقة من حبة القلب وهي سويداؤه، ويقال ثمرته فسميت المحبة بذلك لوصولها إلى حبة القلب وقيل هي مشتقة من اللزوم والثبات ومنه أحب البعير إذا برك فلم يقم وقيل من حباب الماء فتح الحاء وهو معظمه أو يعلو الماء عند المطر الشديد فعلى هذا المحبة غليان القلب وقيل: من حب الماء الذي يوضع فيه لأنه يمسك ما فيه من الماء ولا يسع غيره إذا امتلأ به كذلك إذا امتلأ القلب من الحب فلا اتساع فيه لغير المحبوب وعلى ذكر حب الماء الذي يسميه المصريون الزير ما أحسن قول القاضي محيي الدين عبد الظاهر ملغزًا في كوز الزير وفيه اعتراض يشينه وحسن نظم يزينه.
وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب
إذا استولى على حب ... فقل ما شئت في الصب
الفصل الرابع
مدحه وذمه
أقول هذا الفصل عقدناه لمدح العشق وذمه وترياقه وسمه فكم مدحه عاقل وذمه متعاقل هيهات فات من ذمه المطلوب ومن أي للوجه المليح ذنوب فمن خصاله المحمودة وفضائله الموجودة ما قاله العلامة قدامة العشق فضيلة تنتج الحيلة وتشجع الجبان وتسخي كف البخيل وتصفي ذهن الغبي وتطلق بالشعر لسان العجم وتبعث حزم العاجز وهو عزيز يدل له عز الملوك وتضرع له صولة الشجاع وهو داعية الأدب وأول باب تفتق به الأذهان والفطن وتستخرج به دقائق المكايد والحيل وإليه تستريح الهمم وتسكن نوافر الأخلاق والشيم يمتع جليسه ويؤنس أليفه وله سرور يجول في النفوس وفرح يسكن في القلوب وقيل لبعض العلماء أن ابنك قد عشق فقال الحمد لله، الآن وقت حواشيه ولطفت معانيه وملحت إشاراته وظرفت حركاته وحسنت عباراته وجادت رسائله وجلت شمائله فواظب على المليح واجتنب القبيح وقيل لآخر كذلك فقال لا بأس إذا عشق لطف وظرف ودق ورق وقيل للبزرجمهر متى يكون الفتى بليغًا فقال إذا صنف كتابً أو وصف هوى أو حبيبًا وقد صدق فيما قال العباس ابن الأحنف:
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ... ولا خير فيمن لا يحب ويعشق
وقال غيره:
وما سرني أني خلى من الهوى ... ولو أن لي ما بين شرق ومغرب
وقال آخر:
ولا خير في الدنيا بغير صبابة ... ولا في نعيم ليس فيه حبيب
وقال آخر:
اسكن إلى سكن تلذ بحبه ... ذهب الزمان وأنت خالٍ مفرد
وقال آخر:
1 / 10
إذا لم تذق في هذه الدار صبوة ... فموتك فيها والحياة سواء
وقال آخر:
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيبًا ولا وافى إليك حبيب
وقال آخر:
ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها ... فيما مضى أحد إذا لم يعشق
وقال المتنبي:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق
وقلت أنا مضمنًا لقول المتنبي هذا مع زيادة التورية:
إن تسألوا عما لقيت من الهوى ... فأنا الذي مارسته وعرفته
خالفت في رشف الرضاب وطعمه ... وعذلت أهل العشق حتى ذقته
حكي أن الملك بهرام جور كان له ولد واحد فأراد ترشيحه للملك بعده فوجده ساقط الهمة دنيء النفس فسلط عليه الجواري والقيمان فعشق منهن واحدة فأعلم الملك بهرام بذلك ففرح وأرسل إلى التي قيل أنه عشقها أن تجني عليه وقولي أني لا أصلح إلا لشريف النفس عالي الهمة ملك أو عالم فلما قالت ذلك راجع العلم وما عليه الملوك من شرف الهمة حتى برع في ذلك وتولى الملك فكان من خيرهم وأثبت ذلك في حكمة إلى كسرى إن الملك لا يكمل إلا بعد عشقه وكذلك العالم قالوا والعشق المباح مما يؤجر عليه العاشق كما قال شريك وقد سئل عن العشاق فقال أشدهم حبًا أعظمهم أجرًا.
قالوا وأرواح العشاق عطرة لطيفة وأبدانهم ضعيفة وأرواحهم بطيئة الانقياد لمن قادها حاشي سكنها الذي سكنت إليه وعقدت حبها عليه وكلام العشاق ومنادمتهم تزيد في العقول وتحرك النفوس وتطرب الأرواح وتجلب الأفراح وتشوق إلى مساع أخبارهم الملوك فمن دونهم ويكفي العاشق المسكين الذي لم يذكر مع الملوك ومع الشجعان الأبطال أنه يعشق ويشتهر بالعشق فيذكر في مجالس الملوك والخلفاء فمن دونهم تدور أخباره وتروى أشعاره ويبقى له العشق ذكرًا مخلدًا ولولا العشق لم يذكر له اسم ولا جرى له رسم ولا رفع له رأس ولا ذكر مع الناس وقال المرزباني سئل أبو نوفل: هل سلم أحد من العشق فقال: نعم الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم فأما من في طبعه أدنى ظرف أو معه دمائة أهل الحجاز وظرف أهل العراق فلا يسلم منه وقال بعضهم لا يخلو أحد من صبوة إلا أن يكون جافي الخلقة ناقصًا أو منقوص البنية أو على خلاف تركيب الاعتدال:
وا عجبًا للدهر لم يخل مهجة ... من العشق حتى الماء يعشقه الخمر
ويكفي العاشق أنه يرتاح للمعروف وإغاثة الملهوف كما قيل:
يرتاح للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يومًا عند ليلى شمائله
وقال أبو النجاب رأيت في الطواف فتى نحيف الجسم بين الضعف يلوذ ويتعوذ ويقول:
وددت بأن الحب يجمع كله ... فيقذف في قلبي وينفلق الصدر
لا ينقضي ما في فؤادي من الهوى ... ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر
فقلت يا فتى أما لهذه البنية حرمة تمنعك من هذا الكلام. فقال بلى والله ولكن الحب ملأ قلبي فتمنيت المني والله ما سرني ما بقلبي منه ما فيه أمير المؤمنين من الملك وإني أدعو أن يثبته الله في قلبي عمري ويجعله ضجيعي في قبري دريت به أم لا أدري هذا دعائي وله قصدت وفيه ترغبت مما يعطي الله سائر خلقه. ثم مضى قلت: ذكرت هنا ما قاله الأخطل وقد لامه عبد الملك على الخمر، فقال:
ليت شعري ما يعجبك فيها ... وأولها مرارًا وآخرها خمار
فقال لكن بينهما والله نشوة لا أبيعها بخلافتك يا أمير المؤمنين أخذه الشاعر فقال:
إن يكن أول المدام كريهًا ... أو يكن آخر المدام صداعًا
فلها بين ذا وذاك هنات ... وصفها بالسرور لن يستطاعا
وأما ما جاء في ذمة وسريان سمه فأكثر من أن يحصر فكم ترك الغنى صعلوكًا والمالك مملوكًا كما قيل:
ظل من فرط حبه مملوكا ... وقد كان قبل ذلك مليكا
تركته جآذر القصر صبا ... مستهامًا على الصعيد تريكا
وهذه الأبيات لبعض ملوك الأندلس وسيأتي ذكرها في الباب الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه ووقع فيما يأباه أي والله.
والعشق يجتذب النفوس إلى الردى ... بالطبع واحسدي لمن لم يعشق
1 / 11
قالوا وكم عاشق هرب من الحب إلى مواقف التلف ليتخلص من التلف بالتلف. وعلى هذا حكاية دعبل الشاعر. قال: كنت بالثغر فنودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا أنا بفتى يجر رمحه بني يدي. فالتفت فنظر إلي فقال: أنت دعبل. قلت: نعم. قال: اسمع مني ثم أنشد:
أنا في أمري رشاد ... بين حب وجهاد
بدني يغزو وعدوي ... والهوى يغزو فؤادي
ثم قال كيف ترى. قلت: جيد والله. قال: فوالله ما خرجت إلا هاربًا من الحب ثم قاتل حتى قتل وقال الواوا الدمشقي:
سبيل الهوى وعر وحلو الهوى مرّ ... وبرد الهوى حر ويوم الهوى دهر
وقال غيره:
العشق مشغلة عن كل صالحة ... وسكرة للعشق تنفي سكرة الوسن
وقال عبد المحسن الصوري:
كان ابتداء الذي بي مجونًا ... فلما تمكن أمسى جنونًا
وكنت أظن الهوى هينا ... فلاقيت منه عذابًا مهينا
وقال محمد اليزيدي:
كيف يطيق الناس وصف الهوى ... وهو جليل ما له قدر
بل كيف يصفو لحليف الهوى ... عشق وفيه البين والهجر
وما أحسن قول عبد الله بن إسباط القيرواني:
قال الخلي الهوى محال ... فقلت لو ذقته عرفته
فقال هل غير شغل قلب ... إن أنت لم ترضه صرفته
وهل سوى زفرة ودمع ... إن لم ترد جريه كففته
فقلت من بعد كل وصف ... لم تعرف الحب إذ وصفته
تنبيه، الهوى أكثر ما يستعمل في الحب المذموم. قال الله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " وقد يستعمل في الحب الممدوح استعمالًا مقيدًا ومنه الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به ". وقال ابن عباس: الهوى إله معبود وقرأ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه فتلخص من الآية الكريمة. والحديث الشريف أن الهوى ينقسم إلى قسمين: هوى محمود وهو في الخير والصلاح، وهوى مذموم وهو في الشر والفساد، وفي كتاب السهل المواتي في فضائل ابن مماتي: أن بعض الصوفية قال: إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه إلى النار. قلت: لو قال يهوى بصاحبه إلى الهاوية لكان أنسب. وقال بعضهم الهوى الهوان زيدت فيه النون كما قيل:
فسألتها بأشارة عن حالها ... وعلي فيها للوشاة عيون
فتنفست صعدًا وقالت ما الهوى ... إلا الهوان أزيل عنه النون
وقوله تعالى: " أخلد إلى الأرض واتبع هواه " قيل أخلد إلى الأرض أي سكن إليها ونزل بطبعه عليها وكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض يهبط من السماء. قال سهل قسم الله للأعضاء من الهوى لكل عضو حظًا فإذا مال عضو منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب وللنفس سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية فكلما دفن العبد نفسه أرضًا أرضًا سما قلبه سماء سماء فإذا دفن النفس تحت الثرى وصل قلبه إلى العرش وحاصل القضية أن العشق والهوى أصل كل بلية وفيه ذل كل نفس أبية. وقد قال النبي ﷺ " لا ينبغي للمرء أن يذل نفسه ". قال الإمام: أحمد تفسيره أن يتعرض من البلاء لما لا يطيق وهذا مطابق لحال العاشق فإنه أذل نفسه لمعشوقه كما قيل:
اخضع وذل لمن تحب فليس فيّ ... شرع الهوى أنف يشال ويعقد
وقال آخر:
مساكين أهل العشق حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر
وقال الشيخ شرف الدين بن الفارض:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به وله عقل
وعش خاليًا فالحب راحته عنا ... فأوّله سقم وآخره قتل
فأوله سقم وآخره قتل
الفصل الخامس
اختلاف الناس فيه هل هو اضطراري أو اختياري
أقول هذا فصل عقدناه لما تقدم ذكره وأسفر كالصباح سفره إذ للناس فيه كلام من الطرفين وتبختر بين الصفين فقائل بأنه اضطراري وقائل بأنه اختياري ولكل من القوانين وجه مليح.
1 / 12
وقدر رجيح ونحن نذكر من ذلك ما يعم به الانتفاع ونتكلم في طوله وعرضه بالباع والذراع فمن ذلك ما قاله القاضي أبو عمر ومحمد بن أحمد النوفاني في كتابه تحفة الظراف العشاق معذورون على كل حال مغفور لهم جميع الأقوال والأفعال إذ العشق إنما دهاهم على غير اختياري بل اعتراهم على جبر واضطرار والمرء إنما يلام على ما يستطيع من الأمور لا في المقضي ﵊ فتضع حملها فكيف ترى هذه وضعته أباختيار منها كان ذلك أم باضطرار لا بل باضطرار وفقد اقتدار هذا مما لا شك فيه دولب ولا يختلج خلافه في قلب قلت: وجاء في تفسير قوله تعالى " فلما رأينه أكبرنه " أي رأينه في أعينهن كبيرًا وقيل حضن من الدهش. وقال ابن عباس أمذين وأمنين من الدهش وقطعن أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج ولم يجدن ألمًا لحز أيديهن لاشتعال قلوبهن بحسنه. وقال وهب: كن أربعين امرأة فمات منهن تسع وجدًا بيوسف وكمدًا عليه. وما أحسن قول بعض بني عذرة، وقد قال له بعض العرب ما لأحدكم يموت عشقًا في هوى امرأة يألفها إنما ذلك ضعف نفس ورقة وخور تجودنه فيكم يا بني عذرة. فقال أما والله لو رأيتم الحواجب الزج فوق النواظر الدعج تحتها المباسم الفلج لأتخذتموها اللات والعزى. وقال الفضيل بن عياض: لو رزقني الله دعوى مجابة لدعوت الله بها أن يغفر للعشاق لان حركاتهم اضطرارية لا اختيارية ورؤى أبو السائب المخزومي وكان من أهل العلم والدين بمكان متعلقًا بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم ارحم العاشقين وقوي قلوبهم واعطف عليهم قلوب المعشوقين فقيل له ذلك. فقال: والله للدعاء لهم أفضل من عمرة من الجغرانة ثم أنشد:
يا هجر كف عن الهوى ودع الهوى ... للعاشقين يطيب يا هجر
ماذا تريد من الذين جفونهم ... قرحى وحشو قلوبهم جمر
متذبلين من الهوى ألوانهم ... مما تجن قلوبهم صفر
وسوابق العبرات فوق خدودهم ... درر تفيض كأنها قطر
والظاهر أن قوله أفضل من عمرة من الجعرانة هو الذي جسر الفتح ابن خاقان على قوله من أبيات:
أيها العاشق المعذب صبرًا ... فخطايا أهل الهوى مغفورة
زفرة في الهوى أحط لذنب ... من غزاة وحجة مبرورة
قلت وقد بالغ في هذا الكلام حتى استحق الملام فليته اكتفى بما قتل في التمثيل:
على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا عليّ ولا ليّا
والظاهر أن الحامل له على هذا ما ذهب إليه الشافعي في أن الميت عشقًا من الشهداء للحديث الوارد في ذلك وسيأتي ذكره في باب العفاف إن شاء الله تعالى. وقال التميمي في كتابه امتزاج الأرواح. سئل بعض الأطباء عن العشق. فقال أن وقوعه بأهله ليس باختيارهم ولا بحرصهم عليه ولا لذة لأكثرهم فيه ولكن وقوعه بهم كوقوع العلل المدنفة والأمراض المتلفة فقال: لا فرق بينه وبين ذلك. وقال المدائني لام رجل رجلًا من أهل الهوى. فقال: لو كان الذي هوى اختيار لا اختياران لا يهوي ولكن لا اختيار الذي هوى قالوا والعشق نوع من العذاب والعاقل لا يختار العذاب لنفسه وفي هذا قال المؤمل شفا المؤمل يوم الحيرة النظر ليت المؤمل لم يخلق له بصر يكفي المحبين في الدنيا عذابهم والله لا عذبتهم بعدها سقر حكي أنه نال ما تمنى لأنه عمي بعد قوله، وقال أبو محمد بن حزم قال رجل لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين إني رأيت امرأة فعشقتها فقال عمر ذلك مما لا يملك وقال كامل في سلمي:
يلومونني في حب سلمى كأنما ... يرون الهوى تمنيته عمدًا
ألا إنما الحب الذي صدع الحشا ... قضاء من الرحمن يبلو به العبدا
وقال الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " بالعشق وهذا لم يريدوا به التخصيص وإنما أرادوا به التمثيل وأن العشق من تحميل ما لا يطاق والمراد بالتحميل ههنا التحميل القدري لا الشرعي الأمري انتهى كلامه.
1 / 13
وقال عبيد الله بن طاووس في قوله تعالى " وخلق الإنسان ضعيفًا " قال إذا نظر إلى النساء لم يصبر نقله عنه سفيان بن سعيد في تفسيره وقالوا قد رأينا جماعة من العشاق يطوفون على من يدعو لهم أن يعافيهم الله من العشق ولو كان اختياريًا لأزالوه من نفوسهم ومن هنا يتبين خطأ كثير من العاذلين ويظهر أن عزلهم من هذا الحال بمنزلة عذل المريض في مرضه وما أحسن قول بعضهم:
يا عاذلي والأمر في يده ... هلا عذات وفي يدي الأمر
وإنما ينبغي العدل قبل تعلق هذا الداء بالقلب وانصباب دمع العاشق الصب.
وذهب جماعة من الأطباء وغيرهم إلى أنه اختياري لا اضطراري وقد تقدم في حد العشق الذي ذكره ابن سينا وغيره أنه مرض وسواسي يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل فهذا تصريح منهم بأن الإنسان هو المختار في العشق بتسليط فكرته الواقع في بحار سكرته قالوا ولأن المحبة إرادة قوية والعبد يحمد ويذم على إرادته ولهذا يحمد مريد الخير وإن لم يفعله وقد ذم الله تعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وأخبر أن عذابهم أليم ولو كانت المحبة لا تملك لم يتوعدهم بالعذاب على ما لا يدخل تحت قدرتهم ومنه قوله تعالى " ونهى النفس عن الهوى " ومحال أن ينهي الإنسان نفسه عما لا يدخل تحت قدرته قالوا والعقلاء قاطبة مطبقون على لوم من يحب ما يتضرر بمحبته وهذه فطرة فطر الله عليها الخلق فلو اعتذر بأني لا أملك قلبي لم يقبلوا له عذرًا قلت، والقول الصحيح الذي ليس فيه رد ولا عن محبوبة صد التفصيل في ذلك وهو أن العشق يختلف باختلاف بني آدم وما جبلوا عليه من اللطافة ورقة الحاشية وغلظ الكبد وقساوة القلب ونفور الطباع وغير ذلك منهم من إذا رأى الصورة الحسنة مات من شدة ما يرد على قلبه من الدهش كما تقدم في حق النسوة اللاتي متن لما رأين يوسف عليه الصلاة وقد كان مصعب ابن الزبير إذا رأته المرأة خاضت لحسنه وفيه يقول الشاعر:
إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت بنوره الظلماء
ومنهم من إذا رأى المليح سقط من قامته ولم يعرف نعله من عمامته قال الشاعر:
فما هو إلا أن يراها فجاءة ... فتصطك رجلًا ويسقط للجنب
فهذا وأمثاله عشقه اضطراري والمخالفة فيه مكابرة في المحسوس ومنهم من يكون أول عشقه الاستحسان للشخص ثم تحدث له إرادة القرب منه ثم المودة وهو أن يود لو ملكه ثم يقوى الود فيصير محبة ثم يصير خلة ثم يصير هوى ثم يصير عشقًا ثم يصير تتيمًا والتتيم حالة يصير بها المعشوق مالكًا للعاشق ثم يزيد التقيم فيصير ولها والوله والخروج عن حد الترتيب والتعطل عن التمييز فهذا وأمثاله مبدأ عشقه اختياري لأنه كان يمكنه دفع ذلك وحسم مادته على أن هذا النوع أيضًا إذا انتهى بصاحبه إلى ما ذكرناه صار اضطراريًا كما قال الشاعر:
العشق أول ما يكون مجانة ... فإذا تمكن صار شغلًا شاغلًا
ولهذا قال بعض الفلاسفة لم أر حقًا أشبه بباطل ولا باطلًا أشبه بحق من العشق هزله جد وجده هزل أوله لعب وآخره عطب قال الشاعر:
تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة ... فلما تمكن منها غرق
قال صاحب روضة المحبين وهذا بمنزلة السكر مع شرب الخمر فإن تناول المسكر اختياري وما يتولد عنه من السكر اضطراري فمتى كان السبب واقعًا باختياره لم يكن معذورًا فيما تولد عنه بغير اختياره ولا ريب أن متابعة النظر واستدامة الفكر بمنزلة شرب المسكر فهو يلام على السبب ولهذا إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يلم عليه صاحبه كمن كان يعشق امرأته أو جاريته ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له فهذا لا يلام على ذلك كما في قصة مغيت وبربرة المشهورة وقد ظهر بهذا أن العشق يكون اضطراريًا تارة وتارة اختياريًا وذلك بحسب كمالة العاشق كما تقدم فحينئذ يكون إدعاء من قال أنه اضطراري مطلقًا أو اختياري مطلقًا غير مقبول عند ذوي العقول والله تعالى أعلم أقول وإلى هنا انتهى الكلام على هذه الفصول التي طاب زمانها واعتدل وظهر بها في جنة الورد حمرة الخجل وما بقي إلا الدخول في الأبواب على الوجه المقترح والإتيان بما فتح الله سبحانه ومن دق باب كريم فتح.
الباب الأول
ذكر الحسن والجمال
1 / 14
وما قيل فيهما من تفصيلي وإجمالي
أقول هذا باب عقدناه للكلام على الحسن وأقسامه: والحبيب وكلامه.
ولا سيما إذا ابتسم عن حبب.
واضطرب في ثغره الصرب.
فعذب مقبله.
وتساوى من حسنه في الحالي ماضيه ومستقبله.
هنالك يحتوي من الجمال على القسمين الذين هما الظاهر والباطن.
والظاعن والقاطن.
فالجمال الباطن المحمود لذاته كالعلم والبراعة.
والجود والشجاعة.
والجمال الظاهر ما ظهر من غصن قوامه الرطيب.
ووجهه الذي فاق البدر بلا غيبة للشمس عند المغيب.
فعند ذلك يشمت بالبدر بشاماته.
ويقول لخدة الذي ازداد بها حسنًا من زاد زاد الله في حسناته.
فلذلك قيل الحسن الصريح.
ما استنطق الآفواه بالتسبيح.
وقيل بل هو كما قيل شيء به فتن الورى غير الذي يدعي الجمال ولست أدري ما هو قلت وهو الصحيح لأنه لا يدري كنهه ولا يعرف شبهه.
حتى كأنه فكرة لا تتعرف.
ومجهول لا يعرف.
ولذلك قال بعضهم للحسن معنى لا تناله العبارة ولا يحيط به الوصف وقيل الحسن مشتق من الحسنة قلت والذي يظهر أنه لهذا المعنى قيل للشامات حسنات قال بعضهم في سوداء مليحة يا رب سوداء تجلى.
بحسنها الظلمات ماذا يعيبون فيها رؤيته.
وكلها حسنات وقلت أنا ووجه زال رونقه فأضحت.
محاسنه بلحيته عيوبًا قليل الحظ بالشامات أمسي.
فما حسناته إلا ذنوب.
وقيل الحسن أمر مركب من أشياء وضاءة وصباحة وحسن تشكيل وتخطيط ودموية في البشرة وقيل الحسن تناسب الخلقة واعتدالها واستواؤها ورب صورة متناصبة الخلقة وليست في الحسن بذاك.
وقال عمر بن الخطاب ﵁ إذا تم بياض المرأة في حسن شعرها فقد تم حسنها وقالت عائشة ﵂ البياض شطر الحسن وقالوا في الجارية جميلة من بعيد ملحية من قريب فالجميلة التي تأخذ جملة بصرك فإذا دنت منك لم تكن كذلك والمليحة التي كلما كررت بصرك فيها زادتك حسنًا وقيل الجميلة السمينة من الجمال وهو أشحم والمليحة أيضًا من الملحة وهي البياض والصبيحة كذلك من الصبح لبياضه وقال بعضهم الظرف في القدر والبراعة في الجيد والرقة في الأطراف والخصر والشأن كله في الكلام وأحسن الحسن ما لم يجلب بتزيين وقال امرؤ القيس:
وجدت بها طيبًا وإن لم تطب
وقال آخر:
إن المليحة من تزين حليها ... لا من غدت بحليها تتزين
وقال بعض أهل اللغة العرب تقول الحلاوة في العينين والملاحة في الفم والجمال في الأنف والظرف في اللسان ومنه قول الحسن ﵁ إذا كان اللص ظريفًا لا يقطع أي إذا وقع دفع عن نفسه بطلاقة لسانه ومنطقه وما أحسن قول بعضهم البدن فيه الوجه والأطراف.
وفي الوجه المحاسن وإليها الاستشراف.
وفي المحاسن النكت التي هي الغاية في الاستحسان والاستظراف.
كالملاحة في العين ونكتة الملاحة الدعج وكالحسن في الفم ونكتة الحسن الفلج وكالطلاوة في الجبين ونكتة الطلاوة البلج وكالرونق في الخد ونكتة الخد الضريح.
وما يستحسن في المرأة طوال أربعة وهي أطرافها وقامتها وشعرها وعنقها.
وقصر أربعة يديها ورجليها ولسانها وعينيها والمراد بهذا القصر المعنوي فلا تبذر ما في بيت زوجها ولا تخرج من بيتها ولا تستطيع بلسانها ولا تطمع بعينها.
وبياض أربعة لونها وفرقها وثغرها وبياض عينها وسواد أربعة أهدابها وحاجبها وعينيها وشعرها.
وحمرة أربعة لسانها وخذها وشفتيها مع لعس واشراب بياضها بحمرة.
وغلظ أربعة ساقها معصمها وعجيزتها وما هنالك. وسعة أربعة جبهاتها وجبينها وعينها وصدرها. وضيق أربعة فمها ومنخرها ومنفذ أذنيها وما هنالك وهو المقصود الأعظم من المرأة. قيل وجدت جارية في زمن بني ساسان بهذه الصفات المذكورة جميعها فما كان أحقها أن يقال في حقها.
لو أن عزة حاكمت شمس الضحى في الحسن عند موفق لقضى لها وحكى أن يعصور أحد ملوك الصين أهدى إلى كسرى أنوشر وأن ملك فارس هدية من جملتها جارية تغيب في شعرها وتتلألأ جمالًا فبعث إليه كسرى بهدية من جملتها جارية طولها سبعة أذرع تضرب أهداب عينيها خديها كأن بين أجفانها لمعان البرق مقرونة الحاجبين لها ضفائر تجرهن إذا مشت.
1 / 15
فصل: قال روضة المحبين كان النبي ﷺ يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر كما قال جرير بن عبد الله وكان عمر بن الخطاب يسميه يوسف هذه الأمة قال: قال لي رسول الله ﷺ " أنت امرؤ حسن الله خلقك " وقال بعض الحكماء ينبغي للعبد أن ينظر كل يوم في المرآة فإن رأى صورته حسنة فلا يشنها بقبيح فعله وإن رآها قبيحة فلا يجمع بين قبح الصورة والفعل. وقد نظم بعضهم هذا فقال:
يا حسن الوجه توق الحنا ... لا تفسدنّ الزين بالشين
ويا قبيح الوجه كن محسنًا ... لا تجمعن بين قبيحين
ولما كان الجمال من حيث هو محبوبًا للنفوس معظمًا في القلوب لم يبعث الله نبيًا لا جميل الوجه كريم الحسب حسن الصوت كما قال علي بن أبي طالب وقد سئل أكان وجه الرسول ﷺ مثل السيف قال: لا بل مثل القمر وفي صفته ﷺ كأن الشمس تجري في وجهه فكان كما قال شاعرة حسان بن ثابت:
متى يبدو في الدجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد
فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لمعتدي
وقال أيضًا:
فأجمل منه لم تر قط عيني ... وأكمل منه لم تلد النساء
خلقت مبراء من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء
وكان أبو بكر الصديق ﵁ إذا رآه يقول:
أمين مصطفى بالحير يدعو ... كضوء البدر زايله الظلام
وكان عمر بن الخطاب ﵁ إذا رآه ينشد قول زهير:
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المضيء لليلة البدر
ونظرت إليه عائشة يومًا ثم تبسمت فسألها عن ذلك فقالت: كأن أبا كثير الهذلي إما عناك بقوله:
وإذا نظرت إلى اسرّة وجبه ... برقت كبرق العارض المتهلل
وفي الجملة فقد كان رسول الله ﷺ من الحسن في الذروة العليا وروى بعض الصحابة لقي راهبًا فقال: صف لي محمدًا كأني أنظر إليه فإني رأيت صفته في التوراة والإنجيل. فقال: لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصر فوق الربعة أبيض اللون مشربًا بالجمرة جعد الشعر ليس بالقطط جمته إلى شحمة أذنه صلب الجبين واضح الحد أدعج العينين أقنى الأنف مفلج الثنايا كأن عنقه إبريق فضة وجهه كدائرة القمر فأسلم الراهب وكان ﷺ مع هذا الحسن قد ألقيت عليه المحبة والمهابة فمن وقعت عليه عيناه أحبه وهابه وقد كمل الله سبحانه له مراتب الكمال ظاهرًا وباطنًا فكان أحسن خلق الله خلقًا وخلقًا وصورة ومعنى وهكذا كان يوسف ﵊. قال ربيعة: قسم الحسين نصفين فبين سارة ويوسف نصف الحسن ونصف الحسن بين سائر الناس وفي الصحيح عنه ﷺ أنه رأى يوسف ليلة الإسراء وقد أعطى شطر الحسن وكان النبي ﷺ يستحسن أن يكون الرسول حسن الوجه حسن الاسم وكان يقول إذا أبرد تم بريدًا فليكن حسن الوجه حسن الاسم وقد روى الخرائطي من حديث ابن جريج عن أبي مليكة يرفعه من آتاه الله وجهًا حسنًا واسمًا حسنًا وجعله في موضع غير شائن له فهو من صفوة الله من خلقه. وقال وهب: قال داود يا رب أي عبادك أحب إليك. قال: مؤمن حسن الصورة. فقال أي عبادك أبغض إليك قال: كافر قبيح الصورة ويذكر عن عائشة ﵂ أن رسول الله ﷺ كان ينتظره نفر من أصحابه على الباب فجعل ينظر في المرآة ويسوي شعره ولحيته ثم خرج إليهم فقالت: يا رسول الله وأنت تفعل هذا. فقال نعم: " إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليجملن نفسه فإن الله جميل يحب الجمال " وقال معاوية لرجل دخل عليه فرى في وجه ما يكرهه مما يمكن إزالته ما يمنع أحدكم إذا خرج من منزله أن يتعاهد أديم وجهه.
1 / 16
فصل: قوله تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " أي في أحسن تعديل لقامته وصورته وحسن شارته منتصبًا يتناول مأكوله بيده مزينًا بالعقل لا كالبهائم وعلى هذا حكاية الرشيد لما خلا بزوجته في ليلة مقمرة فقال لها: إن لم تكوني أحسم من هذا القمر فأنت طالق فأفتى علماء زمانه بالحنث إلا يحيى بن أكثم فإنه قال: لا يقع عليه الطلاق فقيل له: خالفت شيوخك فقال الفتوى بالعلم ولقد أفتى به من هو أعلم منا وهو الله ﷾ حيث قال: " لقد خلقت الإنسان في أحسن تقويم ".
وجاء تفسير قوله تعالى يزيد في الخلق ما يشاء أنه الصوت الحسن والوجه الحسن ولهذا قال أبو فراس:
قد فاق بدر السماء حسنًا ... والناس في حبه سواء
فزاده ربه عذارًا ... تم به الحسن والبهاء
لا تعجبوا ربنا قدير ... يزيد في الخلق ما يشاء
وحكي عن بعض النساء أنها كانت تكثر صلاة الليل فقيل لها في ذلك فقالت أنها تحسن الوجه وأنا أحب أن يحسن ٣ وجهي.
وحكي أن المأمون استعرض جيشًا فمر رجل قبيح فاستنطقه فرآه ألكن فأمر بإسقاطه. وقال: إن الروح إذا وقع أثرها في الظاهر كانت صباحة وإذا وقع أثرها في الباطن كانت فصاحة وهذا الرجل لا ظاهر له ولا باطن ولكن شخص له حكمان: أحدهما من جهة جسمه وهو منظره والآخر من جهة نفسه وهو مخبره وكثيرًا ما يتلازمان ولذلك فرغ أصحابه الفراسة من معرفة أحوال النفس الهيئة البدنية حتى قال بعض الحكماء قلما توجد صورة حسنة تدبرها نفس رديئة وقد قال ﵊ اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه فهذا كله يدل على أن الحسن وكمال الجسم من الفضائل ويدل عليه قوله تعالى: " وزاده بسطة في العلم والجسم " والحسن أول سعادة الإنسان لأن الله تعالى بلطف حكمته لم يخلق الصورة مختارة الصفات سليمة من الآفات إلا وأضاف إليها ما يناسبها من العقل والصفات وقلما تجد الخلق إلا تبعًا للخلقة تناسبًا مطردًا وأصلًا لا ينعكس وإجماعًا لا ينفرد وما خلق الله نبيًا قط إلا وقد بهر أهل زمانه بحسنه وإحسانه فإذا نظرته أول مرة رأيته أحسنهم صورة وأتقنهم بنية فهو أولاهم مرتبة وأعلاهم منقبة. وقد قال ﷺ: " لا يعذب الله حسان الوجوه سود الحدق ". قال الإمام فخر الدين الرازي في أسرار التنزيل ما ملخصه حسن الصورة وإن كان أمرًا مرغوبًا فيه فإن حسن السيرة من مطالب الحكمة ولا شك أن الحكمة أفضل من الشهوة فكان حسن السيرة أفضل من حسن الصورة لا محالة، ومنها أن يوسف ﵊ اجتمع له حسن الصورة وحسن السيرة ثم أنه بسبب حسن الصورة وقع في أنواع من البلايا منها أن أباه كان يحبه أزيد من أخوته بدليل قوله تعالى " إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا " فهذا قصدوا قتله بدليل حكايته عنهم " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخل لكم وجه أبيكم " ومنها أنه وقع بسب الحسن في أسر الرق ومراودة امرأة العزيز وإدخاله السجن بسبب ذلك فلما علم الملك بعد ذلك حسن سيرته اصطفاه لنفسه وقال له إنك اليوم لدينا مكين أمين ولم يقل صبيح مليح فدل ذلك على أن حسن السيرة أفضل من حسن الصورة ومعلوم أن حسن الصورة لا يبقى إلا أيامًا قلائل وأما حسن السيرة فإنه لا يزول أثره ولا تبطل نتيجته قلت وممن حصل له الأذى بسبب حسن صورته نصر بن حجاج وذلك أن عمر بن الخطاب ﵁ مر ليلًا فسمع امرأة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فدعا نصر بن حجاج وهو من بني سليم فرآه أحسن الناس وجهًا وله شعر حسن فحلق شعره فكان أحسن منه بشعر فقال: لا تساكني في بلد فتشفع نصر إليه أن لا يخرجه من المدينة فلم يقبل عمر ﵁ فلما ودعه نصر قال له يا أمير المؤمنين لقد سمتني قتل نفسي فقال عمر كيف ذلك فقال قال الله تعالى: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم " فقرن هذا بهذا. فقال عمر: ما أبعدت لكن أقول ما قال شعيب ﵇: إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ولقد أضعفت لك يا نصر عطاءك ليكون ذلك عوضًا لك أقول ذكرت بحلقة شعره فكان أحسن منه بشعر قول بعضهم في ذلك:
حلقوا رأسه ليزداد قبحًا ... غيرة منهم عليه وشحا
1 / 17
كان صيحًا عليه ليل بهيم ... فمحوا ليله وأبقوه صبحًا
وما أحسن قول السراج الوراق في مليح قلندري:
عشقت من ريقته قرقفًا ... وماله إذ ذاك من شارب
قلندر يا حلقوا حاجبًا ... منه كنون الخط من كاتب
سلطان حسن زاد في عدله ... فاختار أن يبقى بلا حاجب
وقال ابن سنا الملك:
حكيت جسمي نحوك ... فهل تعشقت حسنك
وكان جفنك مضني ... فصرت كلك جفنك
وزادك السقم حسنًا ... والله إنك أنك
فصل
قد تقدم ذكر ما يستحسن من المرأة فلنذكر هنا ما قالته الشعراء في تشبيه الأعضاء بالحروف لأنهم أكثروا من ذلك فشبهوا الحاجب بالنون والعين بالصدغ بالواو والفم بالميمي والصاد والثنايا بالسنين والطرة المضفورة بالشين ومن أحسن ما قيل في ذلك قول محاسن الشواء أرسل فرعًا ولوى هاجري صدغًا فأعيا بهما واصفة فخلت ذا من خلقه حية:
تسعى وهذا عقربًا واقفه ... ذي ألف ليست لوصل ودي
واو ولكن ليست العاطفة. وقول الآخر
ياسين طرتها وصاد عيونها ... إلى أعوّذ بسورة طه
وقول ابن مطروح
قالت لنا ألف العذار بخده ... في ميم مبسمه شفاء الصادي
وقول ابن نقاده
ضم الجمال فصاده من عينها ... والنون حاجبها بخال ينقط
والميم فوهًا فالحروف تألفت ... مكتوبة والصبر عنها يكشط
وقول الآخر:
لا تقول لي لا فمكتوب على ... وجهك المشرق نورا نعم
بحروف صورت من قدرة ... ما جرى قط عليها قلم
نونها الحاجب والعين بها ... طرفك الفتان والميم الفم
وقال شهاب الدين أحمد بن الخيمي:
إن صدغ الحبيب والفم والعا ... رض منه واو وصاد ولام
هي وصل بين المحاسن لما ... تم حسنًا وبالعذار التمام
غير أني أراه وصل وداع ... فيه يفضي افتراقنا والسلام
وقلت أنا:
حبيب تعالي قد حين سمته ... وقال قوامي رمحه ما يقوم
وخط عذاري أعجم الخال لامه ... ولم أدر أن اللام في الخط يعجم
وقلت أيضًا:
يرنو إليّ بعين نون حاجبها ... كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان
وقلت أيضًا: في عكس هذا المعنى أشارت وهو تشبيه الحروف بالأعضاء في تقريظ قصيدة مدحت بها مولانا السلطان الملك الناصر حسن.
فكم ألف بها أمسى ... رشيق القامة النضره
وكم شين بحاشية ال ... كتاب تخالها طرّه
وعين أصبحت في العين ... مثل العيز والنقرة
وقلت أيضًا: في تقريظ كاب ورد على بعض الأحباب من رسالة افتتحها بقصيدة منها:
رفضت النوم بعدك يا علي ... فلا تعجب لدمعي أن توالا
ووافاني كتاب منك عال ... حكت الفاته السمر الطوالا
وكم شاهدت من خطا ولكن ... مثالك ما رأيت له مثالا
لين أمست به الفات قطع ... فكم وصل به ضمن الوصالا
وكم ألف به للوصل لاحت ... كغصن البان لينًا واعتدالا
تعانق لامها طورًا يمينًا ... وآونة تعانقه شمالا
ظننت اللام فيه عذار خدّ ... وخلت النقط فوق الخدخالا
وامسى طالع الطاآت فيه ... يعلم لينه غصن الكمالا
وقال القاضي الفاضل من رسالة كتب بها إلى موفق الدين خالد القيرواني وقد وقف له على رسالة كتبها بالذهب جاء منها فمن ألفات ألفت الهمزات غصونها حمائم ومن لامات بعدها يحسدها المحب على عناق قدودها النواعم ومن صادات نقعت غلة القلوب الصوادي والعيون الحوائم ومن واوات ذكرت ما في وجنة الأصداغ من العطفات ومن ميمات دنت الأفواه من ثغرها لتنال جنى الرشفات ومن سينات كأنها الثنايا في تلك الثغور ومن دالات على الطاعية لكاتبها بانحناء الظهور ومن جيمات كالمناسر تصيد القلوب التي تخفق لروعات الاستحسان كالطيور وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وخالد فيها خالد وتحيته فيها المحامد ويده تضرب في ذهب ذائب والناس تضرب من حدي بارد.
1 / 18
الباب الثاني
ذكر المحبين الظرفاء من الملوك والخلفاء
أقول هذا باب عقدناه لذكر أحسن الملوك طباعًا وأطولهم باعًا وأطيبهم عيشًا وأكثرهم طيشًا وأرقهم شعرًا وأدقهم فكرًا وأقربهم مرجوعًا وأكثرهم بالحبيب ولوعًا أذهم في الحقيقة أولى الناس بذلك وأحقهم بالنوم على تلك الأرائك وذلك بحسب ما سولته لهم نفوسهم وزينه لهم جليسهم كما قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى
إذا كنت في القوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى
فمنهم من قنع من محبوبه بالنظر ... حتى مات كمدًا ولحق مثل نور الدين
الشهيد بالشهدا
وستأتي حكايته في باب العفاف إن شاء الله تعالى ومنهم من أصبح دونه في العفاف وأقام سالف محبوبه مقام السلاف ومنهم من خلع العذار واحتج بقول الشعر في العقار:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
فجمع ما بين ذات العقود وابنة العنقود ولكن مع صيانة ورجوع إلى ديانه فهو وإن طال به المجلس اختصر وإن جنى فيه على محبوبه اعتذر كما قيل:
إن أكن قد جنيت في السكر ذنبًا ... فاعف عني يا راحة الأرواح
أي عقل يبقى هناك لمثلي ... بين سكر الهوى وسكر الراح
ومنهم من نال بالراح اللذة المحظورة وأخرج بها وجنة الحبيب من صورة إلى صورة فجارى النديم في الجريال وسما إلى الحبيب سمو حباب الماء حالًا على حال فأفضى به ذلك إلى هلكه وفساد ملكه كما اتفق للأمين بن الرشيد وغيره قال الربيع: قعد الأمين يومًا للناس وعليه طيلسان أزرق وتحته لبد أبيض فوقع في ثمانمائة قصة فوالله لقد أصاب وما أخطأ وأسرع فما أبطأ ثم قال يا ربيع أتراني لا أحسن التدبير والسياسة ولكن وجدت شم الآس وشرب الكاس والاستلقاء من غير نعاس أشهى إلى مقابلة الناس وكذلك خلع قبله الوليد بن يزيد وبعده المتوكل وغيرهم من الخلفاء والأمراء ممن آثر راحة النفس على تعب السياسة والذي آراه إطلاق ما ذهبوا إليه بالصريح ومفارقة الجميع على وجه مليح كما قيل:
لو رأى وجه حبيب عاذلي ... ولتفارقنا على وجه مليح
وما أحسن قول أبي الفتح البستي إذا غدا ملك باللهو مشتغلًا: فاحكم على ملكه بالويل والحرب أما ترى الشمس في الميزان هابطة لما غدا وهو برج اللهو والطرب ومن هنا نشرع في ذكر من ذل لمحبوبه من الملوك فصبح مع كونه مالكًا له كالملوك وهم في ذلك لشدة البأس على خلاف ما عليه الناس وهذا وذلك لأن العشق وأصحابه طبقات فمنهم من لا يطيب له العشق إلا بالذل هو الغالب على العشاق الصادقين في المحبة كما قال الشيخ شرف الدين بن الفارض:
ولو عز فيها الحب ما لذلي الهوى ... ولم يك لولا الذل في الحبّ عزتي
كما قيل:
تذلل لمن تهوى لتكسب عزة ... فكم عزة قدنا له المرء بالذل
ومنهم من يرى توحيد المحبوب وعدم الشريك كما قيل:
ليس في القلب موضع لحبيبين ... ولا أحدث الأمر اثنان
فكما العقل واحد ليس بدري ... خالقًا غير واحد رحمن
فكذا القلب واحد ليس يهوى ... غير فرد مباعدًا ومدان
وكذا الدين واحد مستقيم ... وكفور من عنده دينان
هو في شرعة المودة ذو شر ... بعيد من صحة الإيمان
فمن كان على خلاف هذا ممن يرى الشريك في المحبة كالرشيد وغيره كما يأتي بيانه في بابه لم يكن محبًا حقيقة وهذا الغالب عل الملوك لكثرة ما لديهم واختلاف الشكل عليهم كما قيل:
تنقل فلذات الهوى في التنقل ... ورد كل صاف لا تقف عند منهل
فالملوك ليسوا كغيرهم لقدرتهم على من يحبونه بالنقود النضة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة نعم قد يعشق الملك العظيم فلا يذهب به عشقه إلى ترك تدبير ملكه وإنما أكثر ما يظهر من أمر الملوك أن يضعوا محبوبهم في مقام مالكهم وهم مالكوه كما قال الحكم بن هشان ملك الأندلس ظل من فرط حبه مملوكًا:
لقد كان قبل ذاك مليكا ... تركته جآذر القصر صبا
مستهامًا على الصعيد تريكا ... يجعل الخد واضعًا فوق ترب
1 / 19
للذي يجعل الحرير أريكا ... هكذا يحسن التذلل بالحرّ
اذا كان الهوى مملوكًا
وقال الرشيد وقد عشق ثلاث جوار:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلّها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعزّ من سلطاني
وقال المستعين بالله بن الحكم الأموي أحد خلفاء المغرب واجآد:
عجبًا يهاب الليث حدّ سناني ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان
وأقارع الأهوال لا متهيبًا ... منها سوى الأعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان
حاكمت فيهنّ السلو إلى الصبا ... فقضى بسلطان على سلطان
فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ... في عزّ ملكي كالأسير العاني
لا تعذلوا ملكًا تذلل للهوى ... ذلّ الهوى عزّ وملك ثاني
ما ضرّ أني عبدهنّ صبابةً ... وبنو الزمان وهن من عبداني
قلت وكم:
مثله من ملك قاهر وسلطان قادر ... تذل لهيبته الأملاك وتذعن
لسطوته الفتاك هدم الهوى ... أركانه وأذل عزه وسلطانه
فقصر جفنه في الليالي الطوال ... واقعه مع عقله الحسن في أسر
الاعتقال
فقال:
أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضا أحسنت زيدي
وقيل هما للرشيد وقيل هما للمأمون وقيل هما للمهدي وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان كان السلطان أبو عبد الله محمد بن السلطان الغالب بالله أحد ملوك الأندلس جميلًا حسن السياسة متظاهرًا بالدين رأيته مرارًا بغرناطة وأنشدني شعر وأحضرت عنده إنشاد الشعراء ومن شعره:
أيا ربة الخدر التي أذهبت نسكي ... على كل حال أنت لا بد لي منك
فأما بذل وهو أليق بالهوى ... وأما بعز وهو أليق بالملك
وقال الملك الأمجد:
من مثلي في عصري ... بستاني في قصري
معشوقي مملوكي ... غني لي من شعري
وقال الملك الظاهر في مملوكه أيبك الجامدار:
أنا مالك مملوك ظبي أغيد ... ومن العجائب مالك مملوك
وأنا الفتى وإنني من وصله ... بين البرية معدم صعلوك
ولكم سفكت دمًا بسيف عنوة ... ودمي بسيف لحاظه مسفوك
وقال الملك الأشرف في مملوكه وكان خازنداره دوبيت:
أفدى قمرًا تحار فيه الصفة ... يسخو بدمي وهو أمين ثقة
ماذا عجبًا يحفظ مالي ويرى ... روحي تلفت به ولا يلتفت
وبقية ماله من المقاطيع ذكرتها في الباب الأول من نقل الكرام في مدح المقام وذكرت فيه أيضًا حكاية محبوبه ابن مملوكه وما بان فيها عنه من حسن السيرة وهي من أغرب ما يحكى عن الملوك وقال الملك تميم:
بالله جدّ لي بوعد صدق ... وخلّ هذا الدلال عنكا
ولا تدعني أظل أشكو ... مثل محياك ليس يشكا
وحكي عن المأمون أنه غضب على جاريته عريب المعنية وكان كلفا بها فأعرض عنها وأعرضت عنه ثم أسلمه الغرام وقلقه الشوق حتى أرسل إليها يطلب مراجعتها فلما اجتمعا لم تلتفت إليه وكلمها فلم ترد عليه فأنشأ يقول:
تكلم ليس يوجعك الكلام ... ولا يزري محاسنك السلام
أنا المأمون والملك الهمام ... ولكني بحبك مستهام
يحق عليك أن لاتقتليني ... فيبقى الناس ليس لهم إمام
فقالت له: يا أمير المؤمنين والدك أمير المؤمنين هرون الرشيد أعشق منك حيث يقول ملك الثلاث الآنسات الأبيات المتقدمة وتمام حكايتها ذكرتها في الباب الثاني من السكردان وهي حكاية مليحة جدًا ورأى المأمون أيضًا يومًا غلامًا مليحًا لأحمد بن يوسف فقال: ما اسمك؟ فقال: فتح. فقال المأمون:
يا فتح يا فاتحًا لبلوائي ... ويا عليمًا بطول شكوائي
الحمد لله لا شريك له ... مولاك عبدي وأنت مولائي
فبلغ ذلك أحمد فوهبه الغلام قلت فكان كما قيل:
1 / 20