بسم الله الرحمن الرحيم
دراسة عن الشاعر وديوانه
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه الكريم واستمطار رضاه على العالمين بإخلاص لصالح العرب والمسلمين.
مخ ۲
من الشعراء من يتجسم فيه تاريح أمته وينطبع على شعره حياتها بكل مظاهرها ومدجاليها فهو بذلك علم وطنه وعنوان أمته وهو بالأحرى كتاب نفيس يتحدث عن قومه ووطنه وهذا هو الشاعر الخالد وهذا هو الشاعر الذي يضعه النقاد في طليعة أدباء الأمة بل هذا هو الشاعر الذي يتخذونه مقياسا لفهم الأدب عند الأمة. ولست بمبالغ إذا قلت ذلك عن النابغين من الشعراء، لست بمبالغ إذ أجعلهم أعظم من الرؤساء والزعماء وقادة الحرب ذلك لأن الأدب الخالد هو المنبع الذي يمد هؤلاء بل هو الحافز الذي يدفع هؤلاء....وأنا لا أحب أن أطيل على القارئ الكريم فأقوده إلى الدليل على حقيقة سيقرها باستعراض عميق لما قرأه عن تاريخ الأمم. والقارئ العربي بوجه خاص لا يحتاج إلى إرشاد للدلالة على هذا القول فالشعر خاصة كان له مفعول كبير في نفوس العرب وقد كان دليلا على هذه الحقيقة بل كان لدى بعض الشعراء معينا لمعجزة النبوة وعندما انبثق نورها كان - صلى الله عليه وسلم - أول من يستعين به ويدرك أهميته وما خبر حسان عنكم بغامض وما أثر الشعر بتاريخ العرب بهين فيحتاج إلى تعريف. وها نحن نتلفت وراءنا فنجد على أقرب المواقف من تاريخنا مواكب من الشعر مهدت للبعث العربي الجديد في البلدان العربية جمعاء فأنت ما تكاد تقرأ روائع الشعر القومي الحديث حتى تفهم منها كثيرا من عناصر تاريخنا ومشاعرنا وسوف ترى كما قدمت أن كل شاعر من شعرائها صورة عن كتاب أمته وهذا هو الشاعر الذي يستحق الخلود.
مخ ۳
وهذه الحقيقة تبدي لك السر في شهرة بعض الادباء وخمود بعضهم فالأديب الذي صور عنصرا من عناصر حياة أمته أو عصره بقي خالدا في ذلك العصر والأديب الذي عبر عن مشاعر أمته اعتبر تراثا حيا من تاريخها ومثال الجانب الأول شعراء خلدوا بقصيدة واحدة كابن زريق في عينيته التب عبر فيها عن معان رائعة من المعاني الانسانية بأن طرق موضوع البيت والزوجة والهجرة ومثال الجانب الثاني أبو الطيب المتنبي الذي يعتبر مثالا حيا للكائن العربي بروحه وادراكه ونفسيته.
وفي ضوء هذه المقدمة أريدك أن تسألني أيها القارئ الكريم من هو الشاعر الذي يمثلكم أنتم في عمان؟ أجل من هو العنوان لكتاب الشعب العماني؟ نعم من هو؟ الحق أنه سؤال يتوقف على الاجابة عنه كيان شعب كامل وفي اعتقادي اننا إن وجدنا الأديب الذي يمثلنا فمعنى ذلك أن عناصر الحياة في عمان قوية وأن هذه الأرض التي تصطرع حولها اليوم القوى سوف تنتصر لأنها تملك الاشعاع الذي تلقيه على الجهاد فينطق وعلى الخامل فينشط هذا الاشعاع الذي تنشره على عقل الجاهل فيسطع منه الوعي ويزحف من معقله باقدام. وأنا قبل أن أجيبك عن هذا السؤال سأسأل نفسي فأسمع ما أقوله لها- هل عندنا نحن العمانيين شاعر يمثل ميولنا؟ هل عندنا شاعر يمثل روحيتنا؟ هل عندنا شاعر يمثل أخلاقنا؟ هل عندنا شاعر في شعره أمجادنا؟ هل عندنا شاعر يربطنا بأمتنا العربية الكبرى؟ هل عندنا شاعر يخرج بنا من عزلتنا في الجنوب الشرقي من هذه الجزيرة فينبه إخواننا العرب الينا حتى المحيط الاطلسي وعلى مآذن الأزهر وخمائل بردى وضفاف الرافدين ةمقدسات الحجاز وأمواج جزائر البحرين؟ اجيبي يا نفس فإن وجدت فقد بعثت لنا أملا كبيرا وأوجدت لنا شعلة من الحيوية نستطيع بها أن نقول للعماني قف إن لك لشأنا في هذا الوجود لأن لك شاعرا قف إن أمتك حية لأنها انطقت شاعرا عبر عن كل عناصر حياتها.
مخ ۴
ولكن نفسي أيها القارئ الكريم هذه النفس التي عجمتها المأساة في عمان هذه النفس التي عاشت منذ حداثتها مع الأحداث في عمان تجيب مطمئنة واثقة بأنها وجدت الشاعر بل لأنها وجدت شعراء لكل عصر ووجدت شاعرا عبر عن عمان في كل العصور. إن شاعرنا في عمان هو أبو مسلم ناصر بن سالم الرواحي العبسي وشكرا لقبيلة عبس إذ جاءتنا بمن يستطيع شعره أن يجعل كل عربي عندنا عنترة فكم حوى شعره بما يستثير الهمم ويبعث الشجاعة ويقود إلى الجرأة. وهكذا أجابت نفسي مطمئنة ولكني لن أقتنع بجوابها حتى يثق القارئ منه كل الثقة فإن وجد أن هذا الشاعر قد عبر عن ميزاتنا القومية وأخلاقنا التي تعارفنا عليها وميولنا التي انطبعنا بها فنحن لدينا شاعر.
مخ ۵
نحن أيها القارئ الكريم..نحن في عمان لا نقر على الظلم، نحن في عمان قوم لا نخضع الا لحكم يرضى عنه أهل الصلاح والخير كل الرضا، نحن في عمان قوم يعمنا الدين طبيعة وتدينا، نحن في عمان نؤمن بأن الفرد يعمل للمجموع ولذلك أسباب وأهمها طريقة الري في بلادنا ففي كل بلد ينابيع صغيرة يتفق الجميع أن تروي في ساعة زرع فلان وفي أخرى زرع فلان، نحن في عمان نعيش على الثقة والعزة وحماية الارض،فهل آتانا الشاعر بهذا كله وبذلك يمكن أن نعتبره معبرا عن حياتنا كل التعبير.. وجدنا نأخذ بنظام الانتخاب للحاكم فدعا اليه وحضنا عليه ووجدنا نواجه أول استعمار هجم على الشرق فنقارعه ونقضى عليه فعندما تبين مطامع الانجليز أخذ يستصرخ، وعندما أجيب أخذ يشجع بل أنه تنبأ عن المستقبل، المستقبل الذي أصبح حاضرا لنا نحن حملة الأمانة الآن، كان تنبؤه عين ما حدث لنا في السنين الأخيرة، ثم وجدنا نؤمن بالمبدأ القومي العربي فكانت له في استثارة عروبتنا وتأكيد اخوتنا قصائد ستراها في هذا الديوان، ووجدنا أفرادا نعمل للمجموع فاستصرخ الفرد وذكره بواجبه نحو الكل. أوليس هذا كله كافيا لأن يكون أبو مسلم شاعرنا نحن العمانيين وبذلك الا ترى فيه أيها القارئ ما يراه كل شعب في شاعره سواء كان شرقيا أو غربيا. ونظرتنا الى شاعرنا نرجو أن تفهم منها الاقليمية الفاشلة في رأينا فنحن هنا نريد أن نظهر لإخواننا أن في عمان شعراء يقفون مع اخوانهم الشعراء العرب في التعبير عن مشاعر العرب.
ها أنذا قد أوقفتك على شاعر بلادي فلم يبق الآن الا أن تدخل معي الى معقل شعره وتلاحظ مارسمته لك من خطوط فتحكم على الجواب الذي أجابت به النفس ,انا أوقفها على السؤال الخطير الذي توقف عليه حياة كل أمة فتجيب هي على ثقة واطمئنان.
مخ ۶
تعال معي الى شعر أبى مسلم لترى أنه يمكن تقسيمه الى (ديني) وهو ما حمل حمد الله والوعظ والزهد و " استنهاض ومديح وغزل وحنين ورثاء" وانا اعتقد أن شعر أبى مسلم في حقيقته كله جانب واحد وان تجزأ فهو يلتقى في ناحية واحدة هي الاستنهاض فأنت سوف ترله عندما يعبد ربه فيدعوه بالشعر ويسبحه به يعود الى الظالمين فيستنزل عليهم غضب الله فكأنه يريد أولا نفس قارئ شعره بذكر الله ليهيئها للعمل خالصة في مقابلة الظلم ولقد نظم في أسملء الله الحسنى قصيدة كاملة قسمها الى مقاطع وجعل كل مقطع مختصا باسم من اسماء الله الحسنى فيورد الاسم أولا ثم يحلل النعمة التي اسبغها الله على هذا العالم فوافقت اسمه ولنضرب مثلا لذلك بقوله عن " المصور"
مصور أشكال الوجود معدل الذوات ... على ما شئت في أي صورة
الهي زينت الظواهر مطلقا ... ... وأعطيت بالتخصيص نور السريرة
وميزت من بين البهائم خلقنا ... ... وزكيت بالإخلاص نفسا تزكت
وصورت فينا الغي والرشد والهوى ... فكل له ميل بحكم المشيئة
وصورت تكميل القوى كل قوة ... لما خصها في ذاتها من وظيفة
ويستمر هكذا يحلل تصوير الله في النفس وعندما ينتهي يختم المقطع بالدعاء وهو في مقطع المصور يدعو دعاء يتبين منه نفسه الطاهرة ويقتبس منه حكمة عالية:
الهي كما أحسنت صورة ظاهري ... ... فأحسن بحب الله باطن صورتي
فانك لم تنظر إلى حسن صورة ... ... ولكن إلى حسن القلوب المضيئة
أما الملاحظة التي أوردتها عن سعيه لتهيئة النفوس لمقاومة الظلم فيمكنك أن تراها في معظم المقاطع من هذه القصيدة الطويلة فنقرأ مثلا في مقطع اسم الله - الخافض-
إلى الله أشكو ظالما أنت حسبه ... ... ترفع طغيانا إلى ضعف قوتي
تراءت له الدنيا كلقمة جائع ... ... ... فساغت له أكلا وباشر أكله
فيا خافض اخفضه بأسفل سافل ... ... وسبط عليه الرجز في كل وجهة
وفي- المذل- يزلزل أوتاد الظلم بهذا البيت .
مخ ۷
وماعزة الطاغي وإن جد جدها ... ... بصائرة إلا لخزي وذلة وهذه المقاطع لا تخلو من معان إنسانية رفيعة فليست في الحقيقة شعرا دينيا خالصا فكثيرا ما وجدت فيها من وسائل الاستنهاض والتعبير عن معاني الحياة، انظر إليه في مقطع الرحمن.
الهي يا رحمن استوهب الغنى ... ... ففي سعة الرحمى الهي عنيتي
انه لا يريد غنى دراهم أو عقارات، كلا أنه يريد الرحمة من ربه وقد وسعت رحمته كل شئ فهي حرية بأن تغنيه عن كل مخلوق وعن الدراهم والعقارات، حرية أن توجد فيه غنى النفس فتحمله على الصبر لكل نازلة وتكشف عنه كل بلوى وهذا ما يظهره قوله.
بعاطفة الرحمن عاذت حقائقي ... ... وعمري وفقري وانقطاعي وذلتي
وفي مقطع- العزيز- يوضح لك أن عزة النفس تتوقف على الترفع عن الشهوات وما تقود إليه من دنيات فيقول:
ونفسي إن عزت فأنت معزها ... ... إذا انخلعت عن ربقة الشهوية
ولذلك فأنا مطمئن بعد هذا التوضيح إلى أن القارئ سوف يقرأ هذا المقاطع وأنه لن يسأم من الجانب الديني في شعره أبى مسلم لأنه ضم كثيرا من المعانى الانسانية ولأنه تمجيد لله ومن منا يسأم من تمجيد الله والله يقول { ولئن شكرتم لأزيدنكم } .
والرجل قد اندفع إلى الشعر الديني ما حدثتك من انطباعنا نحن العمانيين بالدين واتخاذه إياه سبيلا لدفع قومه نحو العزة وهنا أبيات تمثل مدى نفور الشاعر من زخرف الدنيا ونظرته إليها نظرة عميقة تدل على فهم واسع لحقائقها، اقرأ ما يقول:
أتمرح إن شاهدت نعشا لهالك ... ... إليك أكف الحاضرين تشير
ستركب ذاك المركب الوعر ساعة ... ... إلى حيث سار الأولون تسير
مخ ۸
نقى من غبار الأرض بيض ثيابنا ... ... وتلك رفات الهالكين تطير وما أروع البيت الأخير الذي وقف به مع أبي العلاء في طلبه تخفيف الوطء ولنأت إلى الاستنهاض وقد علمت أنه النبع الفياض في شعره ولذلك فلا عجب أن تجد له مظهرا في كل أقسامه، والاستنهاض اليوم في حياتنا نحن العرب يحتل الجانب الأكبر من شعرنا مهما تعددت وسائله وهو عمد الشاعر العماني أبي مسلم أقوى شعره معنى وأسلوبا بل أنه الصرح الضخم الذي يقف منه أبو مسلم شامخ الرأس بين رفقائه من الشعراء، كان الشاعر قومي النزعة شديد الخصومة للاستعمار وسماسرته حذر منه كثيرا، وتبصر فيه أن رحل إلى شرقي أفريقيه وشهد الكثير من مآسيه وأخص ما شهده هو تجزئة الدولة العمانية التي كانت تشمل زنجبار وكينيا وتتولى السيادة على المحيط الهندي أجمعه فلا عجب أن يزأر محذرا منه وداعيا إلى مقاومته ولا غرابة في أن نراه في بعض أبياته يذكرهم باسم "المشركين" إذ كان لا يجد خلافا لتعبيره فلم يجزئ بلاده إلا الإنكليز وقد شاركهم الألمان في أفريقيا الشرقية وكلا اللفظتين صحيحتان فهم مشركون ومستعمرون.
مخ ۹
وقبل أن تدخل معي إلى عرين هذا النوع من الشعر أحب أن تعرف عصر الشاعر لتعرف أسباب دعوته ومدى تأثره شعره به. ثار العمانيون في زمنه على سلطان مسقط فيصل بن تركي الذي كانت عاصمته مسقط لأسباب لسنا هنا في مجال سردها ولكن أهم سبب لها هو النزعة الفطرية والدينية لدى العمانيين في انتخاب الحاكم وبما أن السلطان قد ورث الحكم من أبيه ولم ينتخب له فقد ثار العمانيون عليه وأعلنوا انتخاب إمام لهم اسمه الإمام سالم بن راشد الخروصي والإمام في عمان لفظة تطلق على الرئيس المنتخب للحكم وهي تتناسب مع لفظة الخليفة في صدر الاسلام وتمكن المنتخبون من تأسيس دولة لهم ومهاجمة السلطان في عاصمته ولكن الإنكليز احتضنوا قضية السلطان وأنزلوا قوات من جيشهم فأشتبكت مع الحاكم المنتخب في قرية تبعد خمسة أميال عن العاصمة وهنالك خشى الإنكليز أن تستغل إحدى الدول عملهم هذا وأدركوا عدم تمكنهم من القضاء على هذه الحركة وكانت فرنسا أكبر منافس لهم في هذه المنطقة فعرضوا على الحاكم المنتخب أن يعترف السلطان به كما أدرك هؤلاء أن لا طاقة لهم وهم في أول نشأتهم بمقارعة السلطان ما دام يحميه المستعمرون وبذلك رضوا بالصلح وأصبحت في عمان ديمقراطية تسمى دولة الإمامة. وكان الشاعر بزنجبار فسمع عن هذا النبأ السار الذي دعا إليه كثيرا والذي ربما كان أحد أسباب خروجه من وطنه ولذلك أصبح داعية النظام الجديد وشاعر الحزب الذي يسند هذه الدولة ومثالا لذلك أرشدك إلى قصيدته النونية التي استهلها بالحنين إلى وطنه ثم أخذ يستصرخ القبائل العربية العمانية ويناديها قبيلة قبيلة يذكرها بمآثرها التالدة وينبهها إلى مفاخرة الماضية ثم يرسلها دعوة عامة للجهاد وطلع القصيدة:
تلك البوارق حاديهن مرنان ... ... ... فما لطرفك ياذا الشجو وسنان
ويستمر في الدعوة والتذكير حتى يعلن دعوته العامة بقوله:
يا للرجال لقد ذلتحفيظتكم ... ... ... إذا استطال على الاساد حملان إن السيوف التي كانت لسالفكم ... ما ضمها معهم رمس وأكفان
مخ ۱۰
مريضة هي في الإجفان إن مرضت ... قلوبكم أم نأي عنهن وجدان
ما عودتها بنو عدنان ما لقيت ... ... منكم ولا أسكنتها الغمد قحطان
لا تحملوها إذا كانت لزينتكم ... ... إن الرجال بفعل السيف تزدان
ألا تلاحظ أيها القارئ الكريم هذه الروعة التي يشير بها الشاعر من يخاطب ألا ترى إنها كفيلة بأن تجعل منه لهبا وقوده الأعداء ألا ترى الاسلوب القوي والشعر الرصين. ومع ذلك فإنه يود أن يكون في عمان، إنه لا يرضى بالشعر وحده، لا يرضى بأن يكون زوبعة على أعدائه يأتيهم بالويل والثبور كلا إنه يريد أن يكون وحده هذه الزوبعة يريدها أبا مسلم لحما ودما لا أبا مسلم شعرا ولا رأيا فحسب فأسمعه كيف يندب حظه ويأسف لتقصيره عن الجهاد مع إخوانه في عمان:
أفارق في أفريقيا عمر عاجز ... ... وبي كيس كالطود في النفس جاثم
كأني كهيم الطبع أو قاصر الوفا ... أو الخصم مظلوم أو الحق ظالم
وتسري سيوف الله في جنب خصمه ... بإيمان أمجاد وسيفي نائم
وأبو مسلم وراء النضال الوطني في كل مكان ما يكاد يسمع بأمة إسلامية أو عربية تحطم القيد أو تحيي مجدها حتى يكون لها داعيا ومشجعا فكيف إذا وجد ذلك في مصر من الأمة التي حملت مشعل العروبة وتؤدي أمانته اليوم حق التأدية:
يا بني التوحيد في مصر لقد ... ... ... صرتم في جبهة الدهر غرر ...
صبغة الله على نهضتكم ... ... ... إن من كان مع الله انتصر
بيئة مخلصة صادقة ... ... ... لم يدنسها رياء وأشر
فخذوا وجهتكم واصطبروا ... ... ... لا ينال النجح إلا من صبر
ويواصل توجيهاته للالتفاف نحو دعوة مصر ثم لا يقنع فيجب أن يشارك بالجهاد.
لو يكون الشعر نصرا لم أزل ... ... أنظم الأنجم لا أرضي الدرر
مخ ۱۱
لو ملكنا السيف لم نرجع إلى ... ... قلم في النصر إن قام عثر وأبو مسلم عندما يطمئن على نجاح المطالبين بالحكم المنتخب في عمان يجد في ذلك نصرا كبيرا- على الإنجليز المستعمرين فترمق عنه تلك البقعة الكريمة التي ليس لهم فيها نفوذ ولذلك يعقد عليها الأمل ويعتبرها نقطة الاندفاع نحو حرية العرب والمسلمين فيتجه اتجاها قوميا خالصا فيعلن في قصيدته له أن عمان سوف تقوم بحق العرب وسوف تعيد للعرب مجدهم وتسير مع شقيقاتها قوة فيتخلصون بها من الاستعمار وهذا اتجاه وجيه يعرف قيمته من فهم أحوال العرب في عصر الشاعر أي زمن الحرب العالمية الأولى ويدرك وعي الشاعر للفكرة القومية من يعرف أنه نظم هذه القصيدة القومية بزنجبار بعيدا عن العالم العربي الناهض آن ذلك. وهذه هي الأبيات التي تظهر غيرته القومية مخاطبا شاعرا عاب على العرب تأخرهم ونومهم الطويل.
تفضل بالزيارة في عمان ... ... ... تجد أفعال أحرار الرجال
تجد ما شئت من مجد وفضل ... ... واحساب عزيزات المثال
تجد من هيبة الإسلام شأنا ... ... ... عليه الكفر مبيض القذال
تجد همم الرجال مصممات ... ... ... بثأر الدين ترخص كل غال
قطين الشرق نمتم نوم عيد ... ... ... فنبهكم صناديد النكال
فقوموا عندنا أولا فناموا ... ... ... هنيئا بين ربات الحجال
سنأخذ حقكم ونزود عنكم ... ... ... زيادا باليمين وبالشمال
ثم يستمر مفتخرا بوطنه معتزا بالعروبة واعدا بأن يحمل على الاستعمار حتى القيامة ويختم وثبته هذه بعدم الغرابة في أن يتعاون مع الأحرار.
وما نصر الحقيقة مثل حر ... ... ... مثير الصدر متقد الخصال
وعند ذلك يحدث ما بدأنا نرى بوادره: نشاهد كيف حرف الضاد يعلو بلا شمس يعين ولا هلال.
ولعله يقصد هنا علو كلمة العرب بالحقائق لا بالاعتماد على الأفلاك والأيام وغيرها.
مخ ۱۲
أما إذا أردت موقد الحرارة في هذا الجانب من شعره قوة وحيوية ومعنى فعليك بقراءة مقصورته التي عارض بها اللغوي الكبير ابن دريد وأنا أعتقد أن الأجدر بأن اعتمد على القارئ في مراجعتها فكل ما بها درر وشرر وبلاغة وفصاحة ولكني سأشير إلى شيء من ذلك معتمدا على أن يكون مصعدا لدخولك إلى أفقها الواسع.
يستهل الشاعر المقصورة بذكريات ربعه وإلفه ثم يعاتب البرق كيف يسقي الأرض ويشعل النار في قلب الإنسان.
سقيت أجراز البلاد فأرتوت ... ... ... وحظ قلبي منك الهاب الجذى
ثم يحاول ان يتخلص من هذا الحب ولكنه يرى أن ضلاله بهوى القوم هدى "ولكن له في المشيب رادعا فيحلل وسائل هذا الربع وسيلة وسيلة، إذ ليس من السهل أن يودع حبيبه إلى الأبد فيستمر على ذلك حتى يوقفك على حكم أصيلة في الحياة" فكن جلدا لا يهزك الدهر والقوي من لا يميل إلى هوى نفسه- ولكي تسلم صفاته التي تكاد أن تكون دستورا للأخلاق الحميدة فهو يعطش ولا يشرب على القذى ولا يقف موقف الذل:
أذود عن حريتي بحقها ... ... ... وأجهد النصر لحر مبتلي
وهو يثابر في طلب العلى لأنه لا يعرف حدا لنهايتها ولا يداجي الممالئ ولا يحابي المتملق لأنه:
مالي وجهان ولا ثلاثة ... ... ... إن لم أكن حلوا أكن مر الجنى
ويتجه إلى النصح فيورد كثيرا من ذلك وينتهي إلى وصف الظالم وتشنيع عمله فيعتقد أن سطوة الظالم للإسلام من حد الظبا ويندد بأولئك الذين يسخطون على الظالم دون أن يقاوموه:
ما تنفع الغيرة في مكمنها ... ... ... والسيف في قرابه لا ينتضي
ومن هنا يدخل نحو الاستنهاض والدعوة للحرية فيذكر بالماضي ويواجه بالواقع الذي يصفنا فيه بقوله:
أذل من وتد الحمار فيهم ... ... ... وقدرنا أقصر من ظفر القطار
فحتى متى نحن نطيعهم ونكون أدنابا لهم وإلى متى يمتد إلينا جورهم وتقضمنا أضراسهم فأين من ينصر الله وأين ذوو الغيرة فقد " اتسع الخرق على راقعه من يشعب الوهي ويرتق الثأي" إن هؤلاء المستعمرين:
تحكموا في ملككم ورزقكم ... ... ... وكبسوا البئر وقطعوا الرشا ضنوا عليكم بغذاء طفلكم ... ... ... وحسوة الماء ونفحة الصبا
مخ ۱۳
وأزعجوكم عن ظلال ريفكم ... ... وليتكم لم تزعجوا عن الفلا
وضايقوكم في بلاد ربكم ... ... ... حتى على مدفن ميت في الثرى
أليست هذه حقائق واقعة يضعها نصب أعيننا هذا الشاعر العماني؟ كل هذا وحتى ازعاج الريف لم يبالغ الشاعر فيه ألم تحدث حادثة دنشواي؟ ألم يتخذوا الفلوات معسكرات ثم ألم يضايقونا حتى على مدفن ميت فلموتاهم مقابر خاصة لا ندفن فيها موتانا رغم أن الأرض أرضنا لقد أجاب هو على هذا التساؤل ومحا كثيرا من هذه المظاهر رجال مصر الذين يقودهم الزعيم العربي جمال عبد الناصر من سعى لمصلحة العرب ومحو عار الإحتلال عنهم من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي ولا يسعني إلا أن أختصر هذه المعلقة الرائعة فكل ما فيها وبالأخص بعد هذه الأبيات الرائعة فليقرأها القارئ من الديوان فإن الرجل يعلو إلى ذروة الروعة الشعرية ويرتفع إلى مستوى عال من التعبير والاقناع.
أليس عارا أن تعيش أمة ... ... ... مثل اللقى أو عرضا لمن رمى
يلفنا الخزي إلى أوتاره ... ... ... ويحكم النذل علينا ما يرى
ويذكر بعد هذا الواقع المؤلم بالماضي فيشيد به وبأهله ولكنه يعود فيقول إن أولئك لهم مجدهم ونحن ويا للأسف لناذلنا إلا إذا اتبعنا سبيلهم لا أن نكون كما يرانا أولا:
فتحت عيني فرأيت غافلا ... ... ... يحمله السيل وليته درى
ونائما والنار في جثمانه ... ... ... كأنه جزل الغضا وما وعى
ويستمر معددا صنوف الأفراد العرب حتى يصل إلى هذا الصنف القبيح:
وبائعا لوطن فيه انتشى ... ... ... للقمة يلذها وهي الردى
وبنظرة عامة إلى مجتمعنا يراه هكذا؟
همهم في شهوات طبعهم ... ... ... هم السوام في ارتياد المرتعى
سريهم من جمع المال ولو ... ... ... أفلس من مروءة ومن حجا
إذا دعا المجد تفادى ناقصا ... ... ... وإن دعاه بذخ قال أنا
أما العلامة لهذه الحالة المؤلمة فهي:
ليس أنا إلا التفاف قوة ... ... ... بقوة ومقتدي بمقتدي
ليس لها إلا نفوس أطفأت ... ... ... أضغانها وإشتعلت فيها التقى يلمها الإيمان قلبا واحدا ... ... ... وهيبة الله وسورة الهدى
مخ ۱۴
إذا رمت بقوسها واحدة ... ... ... وما رمت وإنما الله رمى ...
هذه هي المقصورة...إنها ملحمة مجدنا التالد وواقع حاضرنا المرير وطريق مستقبلنا الجديد وهي جديرة بالتأمل، وحسب صاحبها أن تجعله في الطليعة بين شعراء العرب. وما أجدرنا بقراءة المقصورة، " نحن الذين يسن الاستعمار اليوم أنيابه لامتصاص دمائنا بإحتلال بلادنا في وقت جدير بان يقف للمستعمرين بالمرصاد فياويل المستعمر من ظنه إذ يحسبنا غافلين.
بقي أيها القارئ الكريم أن تعرف جوانب شاعرية أبي مسلم بعد أن عرفت جانبين منهما وهما أوسع الجوانب في شعره ولعل شعر الحنين يجئ في المرتبة الثالثة وقد حق له أن يحن رغم تعلقه بوطنه وأمته كما رأيت فإن الأيام قد حاربته فسافر إلى أفريقية الشرقية وتظهر جودته في الحنين قصائده( تلك البوارق، ألا هل لداعي الله في الأرض سامع، قضت وطرا من سكن أفياء نعمان) وغيرها من القصائد التي سيجدها القارئ بالديوان وجودته في الحنين منتظرة ما دام يتمتع بالقدرة التي لاحظها القارئ وبالحب الكبير لوطنه.
على أن ذكر النفس عهدا ومعهدا ... امض بها مما تمج الأراقم
وللشاعر غزل ولكن يقتصر على وصف الحبيب أو وصف مجالسه، أما أن نجد المعاني الغزلية العميقة في الشوق والألم والصبر فليس له فيه ميدان وسوف يرى القارئ ذلك عندما يقرأ شعره.
ولم يكثر المديح لأنه لم يكن من طبعه التزلف ولكنه إذ يمدح يجيد معاني في المدح يبعثها دفع ممدوحة إلى أن يتبع سبل المجد والخير فأستمع إليه مثلا:
هزك المجد والفتوة والسؤدد ... ... والمجد كاهتزاز السيوف
إنما أنت مرزأ تحمل الكل ... ... ... وتنفي رزيئة الملهوف
إن قصدت العلى فليس عجيبا ... ... وليس قصد الشريف غير الشريف
مخ ۱۵
أنت منا كدرة التاج في التاج ... ... ومثل الربيع حذو الخريف وللشاعر جانب خاص من شعره فيما يتعلق ببيته والجانب هذا يمثل مدى إندماج الشاعر بأهله وهو في الأدب العربي محبوب وسوف يرى خطوات الشاعر فيه عند مطالعته الديوان.
أما الرثاء فقد كان لدى أبي مسلم دمعا يسيل وأجفانا تتقرح لا لفظا وصياغة فحسب، سوف تشعر أن الرجل أمامك يبكي وينتحب وربما تحس بعد حين أنك أنت نفسك الذي تبكي، إن الرجل جلود ولذلك بكى في رثائه بكاء الجلود وليس أكبر على المرء من أن يصاب في آماله وفي من يحققون له هذه الآمال ولذلك صبر الرجل وتجلد فيما واجهه من مصائب ولكنه لم يستطع أن يحافظ على جلده وهو يفقد القادة الذين قادوا وطنه ضد الاستعمار والطغيان. هذا هو يرثي العلامة الزعيم عبدالله بن حميد السالمي:
نكسي الأعلام يا خير الملل ... ... ... رزئ الإسلام بالخطب الجلل
وانتثر يا دمع أجفان التقى ... ... ... قد أصيب العلم واغتيل العمل
وانفطر يا قلب واستعص الأسى ... إن حبل الدين بالأمس انفتل
أشعل البرق علينا جذوة ... ... ... فإنطفا واتقدت فينا الشعل
أيها المسلمون اخفضوا الأعلام فالرزء عم الجميع منذ أن وردتنا برقية النعي فأشعلت في صدورنا صواعق الحزن. أن أبا مسلم قد أجاد في هذه المرثية انظر كيف يصف توديع الزعيم الذي اختاره الله:
عجبا من نعشه تحمله ... ... ... فتية وهو على الكون اشتمل
جمع العالم في حيزومه ... ... ... أترى العالم في القبر نزل
هذا هو أبو مسلم شاعرا مكافحا ولكني لم أخبرك عن شخصيته وكان حريا أن أتبع أصول الدراسة الأدبية فأعرف بالشاعر أولا ثم بشعره، وأنا أيها القارئ الكريم قد خرجت عن هذا العرف لسبب ذلك أني لم أرد أن أشغلك بالشخص وقد تكون لا تعرف عن شعره شيئا ولهذا فضلت أن أخبرك عن انتاجه لتلتقي به على معرفة.
مخ ۱۶
ولد الشاعر ناصر بن سالم بن عديم بن صالح بمدينة محرم وهي مركز قبيلة بني رواحة التي ترجع إلى قبيلة عبس المشهورة وتعتبر في عمان من القبائل الكبرى وتسكن في واد خصيب حصين. وقد نشأ هنالك وأخذ علمه من عدد من المشائخ وعرف في عمان الأدب والفقه الإسلامي وقد كانت الحالة الأدبية في عهده زاهية بشعراء عرفوا بالرقة في شعرهم ومتانة الأسلوب منهم الشاعر خميس بن سليم لمدينة سمائل وهي من المدن العمانية الكبرى وإحدى مراكز التجارة الهامة يسكنها أكثر من أعيان أفراد قبيلة بني رواحة وكانت مدينة الإمام الخليلي رحمه الله. ومنهم الشاعر محمد بن شيخان صاحب الغزل الرقيق الذي يكاد أن يقف مع أبي مسلم ومن معاصريه أيضا من الشعراء المر بن سالم. ويدرك القارئ من هذا أن المحيط الأدبي في زمن الشاعر كان خصبا فكثيرا ما إجتمع الأدباء ودرسوا إنتاج رفاقهم وكانت القصيدة تلاقي حفاوة بالغة لدى الفناس غير أن أبا مسلم لم يكن همه العيش فحسب بل أنه أحس بالواجب الملقى على عاتقه وتحسس الحوادث التي ينتظر أن تحقق الآمال في المستقبل فأراد أن يكون موجها لها فهاجر إلى أفريقية الشرقية حيث يسكن أخوته وحيث يتمتع العمانيون بنفوذ كبير وحيث يستطيع أن يوجه حرا فعاسن بزنجبار مرموق المكانة عند الناس عزيز الجانب ومنها أخذ يبلغ دعوته وينظم القصائد الاستنهاضية التي أشرت إليها أول البحث وبقي بزنجبار حتى اختاره الله إلى جواره في اليوم الأول من شهر صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة بعد الألف هجرية وقبره معروف تغمده الله برحمته وأسشكنه فسيح جنته وكان معروفا بالخلال الحميدة والأعمال الصالحة ثابت المبادئ واضح الأهداف وشعره الصادق خير موضح عن نفسيته الطاهرة.
مخ ۱۷
والآن هاأنت أيها القارئ الكريم أمام هذا الشاعر العماني وديوانه فلأدعك بعد أن رسمت لك خطوط شعره وعرفتك به راجيا منك العذر على الإطالة وأن تتغاضى عن اتجاه الشاعر الطائفي في بعض الأبيات التي آثرنا إثباتها اتباعا للأمانة الأدبية وتلتمس له العذر من عصره الذي عاش فيه عصر ما قبل الحرب العالمية الأولى. وأدع الله معي أن يهيئ لعمان سبل المجد وأن يحفظها من مكائد الاستعمار وأن يبلغها الذروة التي أرادها لها الشاعر فتسير مع شقيقاتها جنبا إلى جنب متحدة مع الموكب العربي.
الباب الأول
القصائد الدينية
الفصل الأول
في ذكر الله جل جلاله
القصيدة النهروانية
سميري وهل للمستهان سمير ... ... تنام وبرق الأبرقين شهير
تمزق أحشياء الرباب نصاله ... ... وقلبي بهاتيك النصال فطير
تطاير مرفض الصحائف في الملا ... ... لهن انطواء دائب ونشور
يهلهل في الآفاق ريطا موردا ... ... طوال الحواشي مكثهن قصير
بمنتحبات مرزمات يحثها ... ... ... حداء النعامى دمعهن غزير
تنبه سميري نسأل البرق سقيه ... ... لربع عفته شمأل ودبور
ذكرت به عهدا حميدا قضيته ... ... وذو الحزن بالتذكار ويك أسير
عهودا على عين الرقيب اختلستها ... ... ذوت روضة منها وجف غدير
متاعي رجع الطرف منها وكل ما ... ... يسرك من عيش الزمان قصير
وبي من تباريح الجوى ما شجا الهوى ... وذلك ما لا يدعيه ضمير
وفت لرسيس الحب بالصبر مهجتي ... وما كل من شف الغرام صبور
إلا فما بالي وغور مدامعي ... ... ... ودمع التصابي لا يكاد يغور
أدهري عميد الحب والعوذ ذابل ... ... فهلا واملود الشباب نضير
عذير غوايات الغرام من الصبا ... ... وما الغوايات المشيب عذير
وكل غرام قارن الشيب سوءة ... ... وكل غرير في المشيب غرور
أبعد تباشير المشيب غواية ... ... ... وللعقل منها زاجر ونذير
تناقلني عمران عمر قد انحنى ... ... يشيب وعمر للشباب كسير
تناهت حياتي غير نزر على شفا ... ... وذلك قدر لو نظرت يسير
صبابة عمر حشوها الغي والهوى ... ... وهذا مقام بالتقاة جدير
تقضي ثمين العمر في نشوة الهوى ... ... وحشو مزادي باطل وغرور أألهو وقد نادى المنادي لمنتهى ... ... إليه وإن طال المطال أصبر
مخ ۱۸
وصبحان من عقل وشيب تنفسا ... ... فذا مسفر هاد وذاك سفير
أأترك نفسي بعد ذا بيد الهوى ... ... تسام كما جر الحمار جرير
وأوقرها شرا وفيها استطاعة ... ... إلى الخير والناهي الرقيب غيور
وإني وإن سومت نفسي بمسرح ... ... مراعية سم ناقع وشرور
يطور لي الشيطان أطوار كيده ... ... ونفسي له فيما يشاء نصير
فلست بمتروك سدى دون موقفي ... ... على الغي عقبى أشرفت ومصير
سيوقفني من رقدة اللهو ناعب ... ... يحط بمحتوم الردى ويطير
مقضي بي المحيا وجهلي مطيتي ... ... وقائدها دنياي وهي غدور
أمان وأوهام وزخرف باطل ... ... سراب بقيعان الفلاة يمور
محصلها بالكد والكدح راقب ... ... لفوت وتفريق إليه تحور
فليس سديدا جمع هم لجمعها ... ... ودائرة التفريق سوف تدور
سنتركها بالرغم وهي حبيبة ... ... ... ورب حبيب للنفوس مبير
ومن عجيب ميل النفوس لعاجل ... ... يحول على اكداره ويبور
وإسراعها في الغي إسراع آمن ... ... وناقد أعمال العباد بصير
متى أقلعت عنا المنون وهل لنا ... ... بغير طريق الغابرين عبور
أم الأمل الملهى براءة غافل ... ... ... من الموت أم يوم المعاد يسير
أتمرح إن شاهدت نعشا لهالك ... ... إليك أكف الحاملين تشير
ستركب ذاك المركب الوعر ساعة ... ... إلى حيث سار الأولون تسير
نقى من غبار الأرض بيض ثيابنا ... ... وتلك رفات الهالكين تطير
لي الويل هلا أرعوي عن مهالكي ... ... أما في المنايا واعظ ونذير
أما في عويل النائحات مذكر ... ... أم النوح حولي والبكاء صفير
أم الغارة الشعواء من أم قشعم ... ... يشن أصيل هولها وبكور
على كل نفس غير نفسي رزؤها ... ... ويمنعني منها حمى وستور
بلى سوف تغشاني متى حان حينها ... ... فيعجز عنها ناصر وعشير
وتفجأني يوما وزادي خطيئة ... ... واثم وحوب في الكتاب كبير
أرى الخطب صعبا والنفوس شحيحة ... على زخرف فإن مداه قصير
وتلك ثمار الجهل والجهل مرتع ... ... وخيم وداء للنفوس عقور
ولو حاولت نفس عن الشر نزعة ... ... تنازعها طبع هناك خؤور
فزجت بها الآمال في غمراتها ... ... إلى إن دهاها منكر ونكير
مخ ۱۹
فثبطها تسويفها وهو قارض ... ... لرمة اجال النفوس هصور ودأب النفوس السوء من حيث طبعها ... إذا لم يصنها للبصائر نور
بها ترتمي في الخسر آفات طبعها ... ... خلائق توحيها الجبلة بور
تدارك وصايا الحق والصبر إنما ... ... يفوز محق بالفلاح صبور
وخذ بكتاب الله حسبك إنه ... ... ... دليل مبين للطريق خفير
فما ضل من كان القرآن دليله ... ... وما خاب من سير القرآن يسير
تمسك به في حالة السخط والرضا ... ... وطهر به الآفات فهو طهور
وحارب به الشيطان والنفس تنتصر ... فكافيك منه عاصم ونصير
دعيت لأمر ليس بالسهل فاجتهد ... ... وسدد وقارب والطريق منير
وأسس على تقوى من الله توبة ... ... نصوحا على قطب الكمال تدور
وزن صالح الأعمال بالخوف والرجا ... هما جنة للصالحات وسور
وبالعدل والإحسان قم واستقم كما ... ... أمرت وبادر فالمعاش قصير
وراقب وصايا الله سرا وجهرة ... ... ففي كل نفس غفلة وفتور
وجرد على الاخلاص جدك في التقى ... ففوقك بالشرك الخفي خبير
وثابر على المعروف كيف استطلعته ... ودع منكرات الأمر فهي ثبور
ومل حيث مال الحق والصدق واستبق ... مليا إلى الخيرات حيث تصير
واخلص مع الجد اليقين فإنه ... ... ... به تنضر الأعمال وهي بزور
وبالرتبة القصوى من الورع التبس ... ... فللورع الدين الحنيف يحور
وكن في طريق الاستقامة حاذرا ... ... كمين الإعادي فالشجاع حذور
يجوز طريق الاستقامة حازم ... ... على حرب قطاع الطريق قدير
مراصدها شتى وفي كل مرصد ... ... لخصمك حرب بالبوار تغور
فلا تخش ارهاقا وساور ليوثها ... ... بعزم يفض الخطب وهو حسير
ورافق دليل العلم يهدك إنه ... ... ... طريق يحار العقل فيه وعير
وفعلك حد المستطاع من التقى ... ... على غير علم ضيعة وغرور
فما زكت الطاعات إلا لمبصر ... ... على نور علم في الطريق يسير
أتدخر الأعمال جهلا بوجهها ... ... وأنت إلى علم هناك فقير
فيا طالب الله ائته من طريقه ... ... وإلا فبالحرمان أنت جدير
فلست إذا لم تهتد الدرب واصلا ... ... قبيلك في جهل السلوك دبير
وما العلم إلا ما أردت به التقى ... ... وإلا فخطأ ما حملت كبير
فكم حامل علما في الجهل لو درى ... ... سلامته مما إليه يصير
وما أنت بالعلم الغزير بمفلح ... ... ومالك جد في التقاة غزير وحسبك علما نافعا فرد حكمة ... ... بها السر حي والجوارح نور
مخ ۲۰
تعلم لوجه الله وأعمل لوجهه ... ... وثق منه بالموعود فهو جدير
تعرض لتوفيق الإله بحبه ... ... ... ودع ما سواه فالجميع قشور
هو الشأن بالتوفيق تركو ثماره ... ... ومتجره والله ليس يبور
كأي رأينا عالما ضل سعيه ... ... ... وضل به جم هناك غفير
معارفه بحر ويصرف وجهه ... ... إلى الباطل الخذلان وهو بصير
وأفلح بالتوفيق قوم نصيبهم ... ... ... من العلم في رأي العيون حقير
وتلك حظوظ للإرادة فسمها ... ... ... وحكمة من يختارنا ويخير
تحزبت الأحزاب بعد محمد ... ... ... فكل إلى نهج رآه يصير
وقرت على الحق المبين عصابة ... ... قليل وقل الأكرمين كثير
هم الوارثون المصطفى خير أمة ... ... لمدحهم آي الكتاب تشير
أولئك قوم لا يزال ظهورهم ... ... ... على الحق ما دام السماء تدور
على هضبات الاستقامة خيموا ... ... إذا إعوج أوقام وضل نفير
تنافر عنهم رفض وخوارج ... ... ... وحشوية حشو البلاد تمور
رأوا طرقا غير الهدى فتنافروا ... ... إليها وبئست ضلة ونفور
لهم نصب من بدعة وزخارف ... ... بها عكفوا ما للعقول شعور
تدعمهم أوهواؤهم في هلاكهم ... ... كما دع في ذل الأسار أسير
لأقوالهم صد وفيهم شقاشق ... ... ... لهن ولا جدوى هناك هدير
دليلهم يهوي بهم في مضلة ... ... ... وهم خلفه عمش العيون وعور
فيا أسفا للعلم يطمسه الهوى ... ... ... ويا أسفا للقوم كيف أبيروا
أرى القوم ضلوا والدليل بحيرة ... ... وللحق نور والصراط منير
سروا يخبطون الليل عميا تلفهم ... ... شمائل من أهوائهم ودبور
يتيهون سكعا في المجاهل ما بهم ... ... بمواطئ أخفاف المطي بصير
يقولون ما لا يعلمون وربما ... ... ... على علمه بالشيء ضل خبير
ولو كان عين الحق منشود جهدهم ... ... لما حال سد أو طوته ستور
نعم أبصروه حيث غرهم الهوى ... ... فصدهم عنه هوى وغرور
أقاموا لهم من زخرف القول ظهرة ... ... وللبطل فيما استظهروه ظهور
وفي زخرف القول إزدهاء لمن غوى ... والهنة عن لب الصواب قشور
وفي البدع الخضر ابتهاج الأنفس ... ... تدور بها الأهواء حيث تدور
مخ ۲۱