درسونه فلسفي اسلامي
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
ژانرونه
فالله الواحد الذي ليس كمثله شيء والذي لا يرى ويرى كل شيء، ليس هو بالضرورة التصور الوحيد لله كما نعلم من تاريخ العقائد؛ هناك الله الحسي المجسم، محل الحوادث، عند الكرامية والمشبهة على اختلاف فرقهم. وليس بالضرورة أن يكون التصور الأول صحيحا والثاني باطلا؛ إذ يعكس التصوران صراع قوى؛ قوة السلطان الذي ليس كمثله شيء، وقوة المعارضة التي تجعل حركة التاريخ جزءا من الألوهية. أما الصفات التي تجعل الله يسمع ويرى ويبصر كل شيء فقد تمت صياغتها من أجل استخدام سياسي خالص للسلطة التي هي بدورها ترى وتسمع وتبصر كل شيء. والقول بأن العقل الذي لا يستقل بنفسه في المعرفة بها يحتاج إلى النقل، إنما هو دعوى طرحت حتى يمكن عبرها تأويل النقل لصالح السلطة القائمة دون مقياس عقلي واحد شامل ومطرد. وتصوير الإنسان ككائن ليست لديه القدرة على الفعل، وتعليق مصيره بإرادة أخرى إنما هو من أجل نفي قدرته واستقلاله، وجعله باستمرار تابعا لغيره معتمدا عليه. وجعل النبي هو الوصي على العقل ليحال دون استقلال الشعور عقلا وإرادة، والقول بأن النبوة تثبت بالمعجزات، هو من أجل عدم الالتفات إلى بنية الوحي الداخلية كنظام للعلم، أو رؤية مبادئه الاجتماعية والسياسية التي تقوم على رعاية الصالح العام. كما أن القول بأن المعاد خارج العالم هو من أجل أن يؤسس الإنسان ملكوته خارج العالم، ويعد له بعد الموت. أما داخل العالم وقبل الموت فهو حق السلطة القائمة لا ينازعها فيه أحد. والقول بأن الفعل ليس شرطا للإيمان إذ يكفي القول بل والتمتمة بالشفتين، إنما طرح حتى لا يكون الفعل موجها ضد السلطة القائمة فتصفي المعارضة، وحتى لا يحاسب الحكام على أعمالهم ما داموا يتشهدون. والإمامة التي وإن كانت بالاختيار إلا أنها تظل محصورة في قريش إنما هي كذلك حتى يقتصر الحكم والسلطة على فئة معينة من الأشراف أو من الضباط، من الملوك أو الأمراء. علم العقائد إذن اختيارات سياسية محضة وليس علما مقدسا. وكل ظروف تفرض اختياراتها. وقد تتم تحت ظروفنا الحالية اختيارات أخرى. قد يكون من صالح الأمة الآن الدفاع عن الله وتصوره باعتباره أرضا درءا للاحتلال وتحريرا للأرض، بل وتأصيلا للوحي في «إله السموات والأرض»،
رب السموات والأرض [الإسراء: 102]،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [الزخرف: 84]. كان الخطر قديما على التوحيد كتصور في عصر الفتوح، وأصبح الخطر الآن على الأرض في عصر الهزائم. دافع القدماء عن الواحد الحق ضد مخاطر الواحد الرياضي عند فيثاغورث، والواحد الميتافيزيقي عند بارمنيدس، والواحد الأنطولوجي الكوني عند أفلوطين، أما الآن فالواحد يتجلى في الدفاع عن وحدة الأمة ضد تجزئتها، ويتجلى في الوقت نفسه في إثبات التعددية ضد أحادية الطرف التي تعتمد على الواحد القديم دفاعا عن الحرية والديموقراطية وحق الاجتهاد. ربما يكون «الأصلح» الآن هو حرية الاختيار وخلق الأفعال عند المعتزلة وليس الكسب الأشعري، وإثبات استقلال العقل والإرادة، وليس تبعيتهما أو قصورهما. وربما يكون الأصلح اختيار الخوارج في أن العمل جزء لا يتجزأ من الإيمان، وليس اختيار المرجئة أو اختيار الشيعة بل رأي أحمد بن حابط في أن النعيم والعذاب في هذه الدنيا وليس خارجها. أيهما أفضل؛ الصلاح والأصلح والغائية في الأفعال أم اللامعقول والعشوائية؟ ربما يكون اختيار المعتزلة والخوارج رفض القرشية أصلح لنا من اختيار الأشاعرة حتى لا تحتكر السلطة فئة معينة. إذا كان القدماء قد استعملوا حديث الفرقة الناجية ضد الخصوم السياسيين؛ فإن جيلنا ينقده - كما فعل ابن حزم من قبل - من أجل الانتقال من الفرقة المذهبية إلى الوحدة الوطنية، وللحفاظ على حق كل فرقة في الاجتهاد، وأن للمخطئ أجرا وللمصيب أجرين، وأن الصواب متعدد في النظر، واحد في العمل كما قرر الأصوليون، أو في لغة عصرنا: السماح باختلاف الأطر النظرية والاتفاق على حد أدنى من برنامج موحد للعمل الوطني.
وإذا كانت علوم الحكمة القديمة قد تسرب إليها الإشراق الصوفي بحيث تركزت نظرية المعرفة والسعادة فيها على الاتصال بالعقل الفعال والقرب منه والاتحاد به، صارت الطبيعيات مقدمة للإلهيات أو هي «إلهيات مقلوبة»، والمنطق صوري لا حياة فيه ولا جدل ولا صراع ولا واقع ولا بشر، والفضائل النظرية فيها أفضل من الفضائل العملية، فقد تكون مهمة الحكيم اليوم التخلص من الإشراقيات القديمة دفاعا عن العقل، مع النظر إلى الطبيعة نظرة علمية خالصة، مميزا بين الفكر العلمي وبين الفكر الديني، واختيار منطق حسي طبيعي تجريبي مادي كاختيار الأصوليين، وإعطاء الأولوية للقيم العملية على القيم النظرية، وللشعوب والمؤسسات على خصال الرئيس وصفات الإمام.
لقد نشأت علوم التصوف عند القدماء كرد فعل على حياة البذخ والترف وتكالب الناس على الدنيا، وحرصهم على الثروة والجاه، وبعد اليأس من تغيير العالم عقب استشهاد الأئمة من آل البيت، وانتهاء المقاومة الخارجية. وهنا لم يتبق إلا النفس، فليعمل المرء على خلاص النفس إن صعب خلاص العالم، وعلى التغيير من الداخل إن استحال تغيير الخارج، وإنقاذ الفرد إن استعصى إنقاذ المجتمع، وإقامة ملكوت السموات خارج العالم إن استحالت إقامته في هذا العالم، وتصوره بالخيال إن استحال تحليل الواقع بالعقل. لقد تحول جدل الطبيعة والمجتمع والتاريخ إلى جدل عواطف وانفعالات كما هو واضح في حالات الصوفية؛ الصحو والسكر، والغيبة والحضور، الخوف والرجاء، الفقد والوجد. وظهرت القيم السلبية باعتبارها الطريق إلى الخلاص القريب كما هو واضح في مقامات الصوفية مثل الصبر، والورع، والرضا، والتوكل، والشكر، والقناعة والزهد.
والآن تغيرت الظروف، فلم يعد الأمر ميئوسا منه، ولم تنته المقاومة الفعلية من الداخل أو من الخارج، ولم يستشهد منا آلاف الأئمة دفاعا عن الشرعية. هناك إمكانية لتغيير العالم وإقامة ملكوت الله على الأرض، وتحويل الوحي إلى نظام مثالي للعالم. الجماهير حاضرة، والطلائع الجديدة متشوقة، والغضب والمداراة والحسرة، والإحساس بالظلم والهوان يعم الجميع.
وإذا كان علم أصول الفقه القديم هو الوحيد الذي استطاع أن يحكم استعمال العقل وأن يضع منطق اللغة وأن يقنن السلوك العملي وأن يلتزم بقضايا الناس والمصالح العامة، فإنه اليوم أقل العلوم تأثيرا في حياتنا، ولا يدرس في جامعاتنا باستثناء كليات الحقوق كفرع للشريعة بالرغم من تنبيه رواد الفلسفة الأول عليه.
2
ومع ذلك فقد أعطى القدماء الأولوية للنص على الواقع كما هو الحال في ترتيب الأدلة الشرعية الأربعة دفاعا عن النص الجديد في مجتمع قديم. وقد تكون مهمتنا اليوم إعطاء الأولوية للواقع على النص دفاعا عن الواقع في عصر لا يعتمد إلا على علوم الواقع ويعاني من النص.
3
ناپیژندل شوی مخ