256

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

ژانرونه

وابنه من بعده مباشر لأبيه، فقد سمع منه ذلك وأخذه عنه، إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له.

ثم إن جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المباشر.

ثم إن جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة، وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم، وليس بعصابة ولا بخلال.» إنه يتوهم ذلك «لما يرى من التجلة بين الناس»، من غير أن يعلم «كيف كان حدوثها ولا سببها»، ويذهب إلى أن سبب ذلك هو «النسب فقط، فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته، ويرى الفضل له عليهم؛ وثوقا بما ربي فيه من استتباعهم، وجهلا بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال»، ولا يدرك أن من تلك الخلال «التواضع لهم، والأخذ بمجامع قلوبهم»؛ فيحتقرهم لذلك. ومن الطبيعي أن هذا السلوك الذي يسلكه نحوهم يضطرهم إلى تغيير سلوكهم نحوه، إنهم «ينغصون عليه ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب»؛ وذلك إذعانا لعصبيتهم «بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله»؛ ولهذا السبب «تنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول، وينهدم بناء بيته» (ص137).

إن هذا القانون يشمل - على رأي ابن خلدون - جميع أنواع الحسب؛ فيصح في الملوك كما يصح في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبية أجمع، كما أنه يشمل بيوت أهل الأمصار أيضا.

ومع هذا يصرح ابن خلدون أن «اشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب، وإلا فقد يندثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم، وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس»، إلا أن ذلك يكون في حالة «انحطاط وذهاب».

إن هذه الأجيال الأربعة بمثابة الباني، والمباشر، والمقلد، والهادم (ص137). (2)

بما أن ابن خلدون كان يقول بصحة نظرية الحسب هذه بالنسبة إلى جميع أنواع البيوت - بما فيها البيوت المالكة - وبما أنه كان يعتقد في الوقت نفسه أن الدول تقوم - بوجه عام - على عواتق البيوت المالكة؛ كان من الطبيعي أن يطبق أسس هذه النظرية على حياة الدول أيضا.

فإنه يقرر في فصل من فصول الباب الثالث «أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص» (ص170-171)، ويذهب إلى «أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال»، ويشرح رأيه هذا، ويعلله كما يلي: «لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها ووحشتها، من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحدهم مرهف وجانبهم مرهوب والناس لهم مغلوبون.»

وأما الجيل الثاني فقد «تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع»، ومع هذا «يبقى لهم الكثير من ذلك، بما أدركوا من الجيل الأول وباشروا أحوالهم وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ، ومراميهم في المدافعة والحماية؛ فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية وإن ذهب منه ما ذهب» (ص170-171).

زد على ذلك أنهم «يكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول، أو على ظن من وجودها فيهم» (ص171). «أما الجيل الثالث، فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما يتبنقوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة، ويفقدون «العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة». في الواقع إنهم يحاولون التظاهر بمظهر القوة؛ «يلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل، وحسن الثقافة، يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النساء على ظهورها.» «فإذا جاء المطالب لهم» - أي إذا قام قائم عليهم - «لم يقاوموا مدافعته»، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع من يغني عن «أهل» الدولة بعض الغناء ، حتى يتأذن الله بانقراضها؛ فتذهب الدولة بما حملت. «هذه ثلاثة أجيال، فيها يكون هرم الدولة وتخلقها؛ ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع، كما مر من أن المجد والحسب إنما هو أربعة آباء.»

ناپیژندل شوی مخ