163

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

ژانرونه

3

وأما ابن خلدون فقد درس المسألة بمقياس أوسع، ونظر أشمل، وتفكير أعمق، في فصول متعددة، ومن وجوه مختلفة، فإنه لم يكتف بدرس تأثير قساوة الحكومة وظلمها على الولادات وحدها، بل لاحظ تأثير ذلك على الوفيات، وعلى تجمع السكان وتبعثرهم، وعلى الهجرة من البلاد وإليها أيضا، وزيادة على كل ذلك فإنه لاحظ تأثير استقلال الأمة واستعبادها في نشاط الأفراد، وعدد النفوس، وثروة الدولة أيضا في جميع تلك الحوادث والأمور.

فقد قرر في أحد فصول الباب الثالث «أن الظلم مؤذن بخراب العمران»، وقال في الفصل المذكور في جملة ما قاله: «اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها؛ لما يرونه حينئذ من أن غايتها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها؛ انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك» (ص286). «والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب، ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش، وانقبضت أيديهم عن المكاسب؛ كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال، وانذعر الناس في الآفاق من غير تلك الأيالة، في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن القطر وخلت دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان؛ لما أنها صورة للعمران، تفسد بفساد مادتها ضرورة» (ص287).

يؤكد ابن خلدون أن الظلم يؤدي إلى خراب العمران، ويعود على الدولة بالفساد والانتقاض، ثم يقول: «ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة، من الدول التي بها ولم يقع فيها خراب، واعلم أن ذلك إنما جاء من قبيل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر؛ فلما كان المصر كبيرا، وعمرانه كثيرا، وأحواله متسعة بما لا ينحصر، كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيرا؛ لأن النقص إنما يقع بالتدريج، وإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر، لم يظهر أثره إلا بعد حين.» «والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه، ووباله عائد على الدول» (ص288).

هذا ويقرر ابن خلدون في فصل آخر «أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها؛ أسرع إليها بالفناء» (ص147). ويعلل ذلك قائلا : «والسبب في ذلك - والله أعلم - ما حصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها، وصارت بالاستعباد آلة لسواها، وعالة عليهم؛ فيقصر الأمل، ويضعف التناسل.» «والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل، وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية، فإذا ذهب الأمل بالتكاسل، وذهب ما يدعو إليه من الأحوال، وكانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم؛ تناقص عمرانهم، وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم» (ص148).

ويرى ابن خلدون لذلك سببا آخر، ويشرح هذا السبب كما يلي: «إن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، والرئيس إذا غلب على رئاسته، وكبح عن غاية عزه؛ تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده، وهذا موجود في أخلاق الأناسي، ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة، إنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين.»

ثم يقول: «فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقض واضمحلال، إلى أن يأخذهم الفناء.»

وبعد ذلك يستشهد ابن خلدون بما حدث للفرس بعد استيلاء العرب عليهم، فيقول: «ولا تحسبن أن ذلك لظلم نزل بهم، أو لعدوان شملهم، فملكة الإسلام في العدل ما علمت، وإنما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمره، وصار آلة لغيره» (ص148).

وزيادة على كل ذلك، يتطرق ابن خلدون إلى هذه المسألة في فصل آخر حينما يقرر: «أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة على قوتها» (ص174)، حيث يقول: «والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف؛ كثر التناسل والولد والعمومية؛ فكثرت العصابة، واستكثروا أيضا من الموالي والصنائع، وربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه؛ فازدادوا به عددا إلى عددهم وقوة إلى قوتهم» (ص174).

وأبلغ مثال على ذلك هو ما وقع في الدولة العربية في الإسلام، يقول ابن خلدون إن العرب زادوا بعد الإسلام زيادة كبيرة، ويرد سبب هذه الزيادة إلى الرفه الذي حصل عند ذاك: «واعلم أن سببه الرفه والنعيم الذي حصل للدولة وربي فيه أجيالهم» (ص175).

ناپیژندل شوی مخ