دراسات عن مقدمة ابن خلدون
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
ژانرونه
يقول مونتسكيو في الفصل السالف الذكر: إن الإمبراطور «تيوفيل» شاهد سفينة تحمل أمتعة لزوجته «تيودورا»، فأمر بإحراق السفينة قائلا لها: «أنا إمبراطور، وأنت تريدين أن تجعليني رب سفينة؟! كيف يستطيع الناس الفقراء أن يكتسبوا أقواتهم إذا نحن زاحمناهم في مهنهم؟» «كان الإمبراطور يستطيع أن يضيف إلى ذلك الأقوال التالية أيضا: ومن يستطيع أن يصدنا عن الاحتكار؟ ومن يستطيع أن يجبرنا على القيام بتعهداتنا؟ ثم إن هذه التجارة التي نقوم بها نحن قد يتعاطاها رجال حاشيتنا أيضا، وإذا أقدم هؤلاء على ذلك يكونون - بطبيعة الحال - أشد طمعا وأكثر ظلما منا. إن الشعب يثق بعدالتنا، ولكنه لا يثق ببذخنا، إن كل الضرائب التي تؤدي إلى شقاء الشعب تدل دلالة قاطعة على بذخنا.»
يواصل مونتسكيو البحث المذكور في الفصل الذي يلي ذلك تحت عنوان: «استمرار الموضوع نفسه»، ويقول هناك ما يلي: «عندما كان البرتغاليون والقشتاليون يحكمون الهند الشرقية، كان للتجارة فروع رابحة جدا؛ مما حمل أمراءهم على الاستئثار بها، وذلك أدى إلى تقويض مؤسساتهم في تلك البلاد.» «إن نائب الملك في غوا
Goa
كان يمنح بعض الأشخاص امتيازات خاصة، ومثل هؤلاء الأشخاص لا يوثق بهم أبدا، فإن التجارة كانت تفقد مزية الاستمرار من جراء تبدل الأشخاص الذين يتولونها، ولم يكن لأحد من هؤلاء أن يهتم بمستقبل التجارة التي يتولاها، ولا أن يبالي إذا أصبحت كاسدة بعده حينما يتركها لخلفه، والمكاسب تبقى في أيدي أشخاص محدودين، فلا تتوسع بدرجة كافية.»
هذا كل ما كتبه مونتسكيو في هذا الموضوع.
وأما ابن خلدون فقد بحث الموضوع المذكور بتوسع وتعمق يستلفتان الأنظار؛ يبدأ ابن خلدون الفصل السالف الذكر بالبحث عن الأسباب التي تحمل السلطان على تعاطي التجارة، ويستعرض جميع الوسائل التي تتوسل بها الدول، حينما تحتاج إلى مزيد المال والجباية، قائلا: «اعلم أن الدولة قد ضاقت جبايتها - بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات - وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها، واحتاجت إلى مزيد المال والجباية.» «فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم، كما قدمنا ذلك في الفصل قبله، وتارة بالزيادة في ألقاب المكوس، إن كان قد استحدث من قبل، وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم؛ لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان، وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان» (ص281).
ثم يشرح ابن خلدون الأسباب والملاحظات التي تحمل السلطان على التوسل بالوسيلة الأخيرة: «لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم، وأن الأرباح تكون على نسبة رءوس الأموال، فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق، ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد.»
وبعد ذلك يبين ابن خلدون غلط هذا الحساب، ويوضح أضرار هذه الخطة قائلا: «هو غلط عظيم، وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة؛ فأولا مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك، فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون، ومزاحمة بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب، وإذا رافقهم السلطان في ذلك، وماله أعظم كثيرا منهم؛ فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته، ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد» (ص281). «ثم إذا حصل فوائد الفلاحة (ومغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات)، وحصلت بضائع التجارة (من سائر الأنواع)، فلا ينتظرون به حوالة الأسواق، ولا نفاق البياعات؛ لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة، فيكلفون أهل تلك الأصناف - من تاجر أو فلاح - بشراء تلك البضائع، ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد». وأهل تلك الأصناف يستوعبون في ذلك ناض أموالهم، وتبقى تلك البضائع في أيديهم عروضا جامدة، ويمكثون عطلا من الإدارة التي فيها كسبهم ومعاشهم، وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال؛ فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن، وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب رأس ماله، فيقعد عن سوقه، ويتعدد ذلك ويتكرر، ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة، ويؤدي إلى فساد الجباية. فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار، ولا سيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها، وإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة؛ ذهبت التجارة جملة، أو دخلها النقض المتفاحش.» «وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح القليلة؛ وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل» (ص282).
وبعد التوسع في شرح الأضرار التي تنجم عن ذلك، يقرر ابن خلدون أن الطريقة المثلى في هذه الأحوال هي الاعتماد على الجباية وحدها: «اعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولا يدر موجوده إلا الجباية، وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال، والنظر لهم بذلك، فبذلك تنبسط آمالهم، وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها؛ فتعظم منها جباية السلطان. وأما غير ذلك من تجارة أو فلح، فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا، وفساد للجباية، ونقص للعمارة» (ص282).
ثم ينتقل إلى شكل آخر من التجارة التي يقدم عليها الأمراء في بعض الأحوال: «وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم، ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاءون، ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن، وهذه أشد من الأولى، وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم» (ص283).
ناپیژندل شوی مخ