108

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

ژانرونه

وكتب عبد الرحمن بن محمد بن خلدون.

طرافة المقدمة وتأثيرها

شعور ابن خلدون بطرافتها وخطورتها (1)

يفتخر ابن خلدون فخرا شديدا بالتاريخ الذي ألفه، ويعبر عن فخره هذا بأصرح العبارات، يصرح بأنه كان مبتكرا ومخترعا في هذا التأليف ولم يكن مقلدا لأحد، أو مقتبسا من أحد، ومع ذلك لا يدعي النجاح التام في تحقيق أغراضه، ولا يستبعد النقص والقصور في أبحاثه، فيطلب من أخلافه انتقاده أولا، وإتمامه ثانيا.

إن ذلك يظهر بوضوح من بعض العبارات التي كتبها ابن خلدون في الديباجة التي صدر بها التاريخ والمقدمة معا؛ لأنه يقول هناك: «أنشأت في التاريخ كتابا سلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا، وطريقا مبتدعة وأسلوبا» (ص6). ثم يدعي بأن الكتاب الذي وضعه «استوعب أخبار الخليقة استيعابا، وذلل من الحكم النافرة صعابا ، وأعطى لحوادث الدول أسبابا؛ فأصبح للحكمة صوانا، وللتاريخ جرابا» (ص7).

ثم يسهب في وصف الأبحاث التي ضمنها في تأليفه هذا قائلا: «لم أترك شيئا في أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التصرف والحول، من القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملة، ومدينة وحلة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله؛ فجاء هذا الكتاب فذا بما ضمنته من العلوم الغريبة والحكم المحجوبة القريبة» (ص7).

ولكنه بعد هذه الكلمات المملوءة بروح الزهو والإعجاب يشعر بضرورة التواضع، فيقول: «أنا من بعد ذلك موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا الفضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتعمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء» (ص7). (2)

ومع هذا يعود ابن خلدون إلى التفاخر في ديباجة الكتاب الأول، ويسترسل فيه دون محاباة؛ لأنه يشعر شعورا واضحا بأنه قام بعمل هام جدا بابتكار «علم العمران»، وبتأسيس علم جديد تماما، فإنه يقول: «اعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث، وأدى إليه الغوص» (ص38).

ثم يصرح بأن البحث الذي أقدم عليه ليس من «علم الخطابة»؛ لأن هذا العلم «إنما هو الأقوال المقنعة النافعة لاستمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه»، ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية؛ إذ «السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة.» ويؤكد أن موضوع العلم الذي أسسه «قد خالف موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه»، ولا يتردد في القول بأنه «علم مستنبط النشأة »، ويزيد على ذلك بصيغة التأكيد البات: «لعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة.»

ومع هذا يلاحظ ابن خلدون الاحتمال التالي أيضا في هذا الصدد: «ربما كان الحكماء قد كتبوا في هذا الموضوع، لكن كتاباتهم فقدت بمرور الزمان.» ولذلك نراه يعقب على العبارة التي ذكرناها آنفا بقوله: «لا أدري ألغفلتهم عن ذلك؟ وليس الظن بهم، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه، ولم يصل إلينا» (ص38).

ناپیژندل شوی مخ