دين
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
ژانرونه
13
ينتظم في مقدمات ثلاث: (1)
أن كل إنسان - حتى الطفل المميز - يجد في نفسه استحسانا لبعض الأفعال، واستهجانا لبعضها، ويدرك بنفسه أن بعضها يجب أن يفعل، وبعضها يجب أن يجتنب. هذا القانون الأدبي يضاهي القانون الطبيعي، في أن كلا منها ضرورة لا مفر منها، ولكنه ليس كالقانون الطبيعي في التعبير عن شيء واقع بالفعل تحققه المشاهدة والتجربة، بل عن شيء لم يقع بعد وإنما يطلب تحقيقه طلبا مؤكدا، وهو في الخارج يمكن أن يقع وألا يقع. بل قد يقال: إنه ليس في الوجود مثال واحد يشهد لوقوعه على الوجه المطلوب؛ فكل بني آدم خطاءون، وما الطهر والعصمة إلا لله وحده، حتى إن الذين يؤدون أعمالهم طبقا لقانون الواجب «حرفيا» لا سبيل إلى اليقين بأنهم يؤدونها «روحيا» كما يجب؛ أي: بقصد أداء الواجب خالصا من شائبة الهوى والغرض، ودون تلقي معاونة عليها من الميول والنزعات الفطرية الشريفة.
فالواجب هو أداء الواجب، للواجب، وبالواجب، أي: تحت سلطان «فكرة» الواجب، لا «حب» الواجب، وكل خدش في عنصر من هذه العناصر يجعل العمل هباء، فمن ذا الذي يستطيع أن يجرد نفسه هذا التجريد؟ ومع ذلك فهذا هو حكم قانون الأخلاق الذي يفرض نفسه علينا فرضا غير مكترث بمعارضة قانون الطبيعة المتسلط على حواسنا وجوارحنا وإرادتنا بصفة قاهرة، ومنه نعلم أن الإنسان ينتسب إلى عالمين: عالم العقل، وعالم الطبيعة والحس، كلاهما يطالبنا بحاجته، وما القانون الأدبي إلا ترجمان العقل الخالص، ينطق بلسانه متجاهلا ما للطبيعة من سلطان. (2)
غير أننا لما كان العقل يطالبنا بإلحاح أن نحقق هذا الخير المطلق، كان من الضروري أن تكون هناك وسيلة لتحقيقه؛ لأن وجوب الشيء بالعقل دليل إمكانه، وإلا لما كان العقل عقلا، وإذن لا سبيل إلى تحقيق هذا الخير الكامل في لحظة من لحظات حياتنا، فلم يبق إلا إمكان تحقيقه على التدريج إلى ما لا نهاية ... وهكذا يجب أن تفرض لنا حياة لا تتناهى، يتم فيها ذلك التقدم اللانهائي، الذي هو الهدف الحقيقي لإراداتنا العاقلة، فكان خلود الروح مطلبا لا بد من تسليمه ليصح في العقل وجود ذلك القانون الأخلاقي، ودعوى أن الإنسان يمكنه في هذه الدنيا أن يصل إلى القدسية والفضيلة الكاملة دعوى باطلة؛ كدعوى أن الواجب الأخلاقي يكتفي منا بأدنى مراتب الكمال. (3)
فإذا حققنا «الخير المطلق» بتحصيل الفضيلة الكاملة، فقد بقي المطلب الأخير من مطالب العقل، وهو تحقيق «الخير الأعلى»، وليس الخير الأعلى معنى مفردا، بل هو جماع عنصرين: أحدهما الفضيلة، والآخر السعادة، التي هي حصول المرء على ما يرضيه في الحياة، بحيث يجري كل شيء في الوجود على وفق ما يهواه، ألا وإننا نرى هذين العنصرين يسيران أمامنا في طريقين منفصلين قلما يلتقيان، فقلما تعيش الفضيلة العامة الكادحة، الصامتة القانعة، إلا في زوايا الخمول والنسيان، والتقتير والحرمان، بينما الرذيلة الصاخبة المتبجحة، الملقة الطامحة، لها القوة، والثروة ورغد العيش، والجاه، والنفوذ والسلطان.
لكن مقتضى الوضع العقلي السليم أن تكون الفضيلة والسعادة صنوين، والرذيلة والشقاء توأمين، وأن توزع درجات البؤس والنعيم على حسب الأعمال وبواعثها ومقاصدها، فلا بد إذن من مبدأ أعلى يحقق هذا التوازن، مبدأ تخضع الطبيعة لإرادته، ويسير هو في تصرفاته على وفق قانون عادل، وما ذلك إلا خالق الطبيعة والإنسان جميعا، وهو الله تعالى.
فكان وجود الله هو المطلب الأخير، الذي لا بد من تسليمه لتصحيح معقولية القانون الأخلاقي.
الناظر في هذا النسق الفكري قد يروقه ما فيه من نسيج بديع مبتكر، ولكن الذي يفلي سداه ولحمته سوف يجد في طياته خيوطا واهنة، وعناصر غريبة، سترتها مهارة الصنعة وحسن السبك؛ بل سيجد أن هذه المقدمات الثلاث التي يتألف منها الاستدلال ليست بالمقدمات البديهية، ولا بالمبرهنة، ولا بالتي يتوقف عليها صحة المطلوب.
أما المقدمة الأولى فلأن القانون الأخلاقي وإن كان في جملته مركوزا في أصل النفوس، ولكنه على الصورة التي يصوره بها «كانت» لا يفرض نفسه على كل العقول، بل تمجه كثير من الطباع السليمة، ليس لأنه عنيف، قاس، فحسب، أو لأنه يمحو الفروق بين الواجبات الأساسية والواجبات التكميلية، بل لأنه فوق ذلك كله يقلب الأوضاع والموازين المألوفة؛ إذ يقتضي أن الذي يمتثل الأمر عن أريحية ورضى لا يكون قد أدى واجبه، وإنما يكون ممتثلا إذا فعله وهو كاره له، متبرم به، وهكذا تبعد النفوس الخيرة عن المثل الأعلى للفضيلة، بقدر ما تقترب منه النفوس الشريرة حين تحمل نفسها على فعل الواجب حملا.
ناپیژندل شوی مخ