دين
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
ژانرونه
ولا تحسبن هذه النقلة الأخيرة ضربا من النزوات الخيالية، أو التجريدات العقلية، المعتمدة على محض التشهي أو الفروض الممكنة؛ فالواقع أن الفكر قد يلجأ إليها إلجاء لتفسير ظواهر معينة لا يجد لها تفسيرا آخر؛ ذلك أنه كثيرا ما يحدث في ميدان النشاط الإنساني حوادث عجيبة، تخرج خروجا بينا - علوا أو انحطاطا - عن المستوى المألوف للناس، أو المألوف للشخص نفسه في مجرى حياته العادية. بل لا يكاد يخلو عصر من العصور من وجود هذه الشواذ التي لا يعرف لها سبب ظاهر، فتنسب إلى سبب من تلك الأسباب المعنوية السرية. فالعراف الماهر، والشاعر الملهم، والخطيب المفوه، والبطل الموقى، والصائد الذي لا يخطئ سهمه، والحاسب السريع الحساب، السديد الجواب، من غير استعانة بقرطاس ولا قلم، في أطول المسائل وأشدها تعقيدا، و«الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع»؛ كل أولئك ينسب نجاحهم وعبقريتهم إلى أنهم قد أمدوا بروح خيرة ذات قوة خارقة، وبعكس ذلك يقال فيمن يصاب بالصرع أو الجنون، وفيمن يولعون بالرذائل المبكرة، أو الجرائم الشاذة المنكرة: إنهم قد مستهم روح خبيثة شريرة.
أضف إلى هذا كله ضروبا من التجارب الجزئية في الرؤيا الصادقة، والفراسة السديدة، والإلهام الكاشف، والعلم بالحوادث البعيدة ساعة وقوعها، ورؤية الأشباح، وسماع الأصوات، إلى غير ذلك من الظواهر التي لا يستقيم تفسيرها بسبب من الأسباب المادية.
وليس يعنينا أن تكون كل هذه الملاحظات والتجارب والاستنباطات سليمة مستقيمة؛ ولكنها - في جملتها - يظاهر بعضها بعضا على تكوين الاعتقاد في أمرين: (1)
أن في الوجود كائنات عاقلة لا يقع عليها الحس؛ سواء أكانت في الأصل أرواحا إنسانية انتقلت عن أبدانها، أم كانت منذ بدايتها أرواحا مستقلة كالجن والملائكة، أم كانت روحا أعلى من ذلك وأسمى. (2)
أن هذه الكائنات الغيبية، المزودة بتلك القوة الخارقة، قد تتصل بعالم النفس أو عالم الحس من الحياة الإنسانية وتترك فيه أثرا من آثارها العجيبة.
7
هكذا تنشأ عقيدة التأليه من أقرب المقدمات وأيسرها:
فذلك الكائن الغيبي، الذي كانت المذاهب الكونية تستنتجه استنتاجا من مطالعة الآثار العظمى في عالم المادة، أصبحت تشتق صفاته من جنس عمله نفسه، ومن نوع التجارب التي دلت عليه، فهو لا ريب روح عظيم، ذلك الذي يصنع الأسرار والعجائب الروحية؛ وهو لا شك عقل خلاق، ذلك الذي يمد العقول بمزيد من النور أو يكف عن إمدادها.
سيقول قائل: لكن أليس تنوع هذه الآثار العجيبة آية على اختلاف مصدرها، كما أن تعدد الأنهار دليل على اختلاف منابعها؟ وإذا لم يكن في الغيب كائن فعال واحد، بل كائنات كثيرة، فهل كلها استوجب التأليه والعبادة؟
الجواب: أن ذلك يختلف باختلاف دقة الأفهام وغلظها:
ناپیژندل شوی مخ