دين
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
ژانرونه
وإذا كانت تلك النظرة الأسطورية «التي تستنطق الجماد وتعتقد أن في جوفه روحا عاقلة» ليست عقلية ولا دينية، فهذه النظرة الاستنتاجية - على عكس ذلك - دينية منطقية معا؛ ذلك أن العقل الإنساني لا يكاد يتصور أن جمادات لا روح فيها ولا شعور يمكن أن تتحرك بنفسها وتنتقل في أوضاع منظمة، بين أجرام أخرى متحركة بحركات منظمة مباينة لها على أبعاد محددة، وبطريقة مؤدية إلى غايات معقولة، من غير أن تكون مدفوعة مباشرة أو من طريق غير مباشر، بشيء ذي إرادة وشعور، يحركها وينقلها في تلك الأوضاع، على حساب ثابت دقيق.
قدر في ذهنك بيتا منسق البنيان، فاخر الأثاث والرياش، قائما على جبل مرتفع، تكتنفه غابة كثيفة ... وقدر أن رجلا جاء إلى هذا البيت، فلم يجد فيه ولا حوله ديارا ولا نافخ نار ... فحدثته نفسه بأنه عسى أن تكون صخور الجبل قد تناثر بعضها، ثم تجمع ما تناثر منها ليأخذ شكل هذا القصر البديع، بما فيه من مخادع ومقاصير، وأبهاء ومرافق، وأن تكون أشجار الغابة قد تشققت بنفسها ألواحا، وتركبت أبوابا وسورا، ومقاعد ومناضد، ثم أخذ كل منها مكانه فيه، وأن تكون خيوط النبات، وأصواف الحيوان وأوباره، قد تحولت بنفسها أنسجة موشاة، ثم تقطعت طنافس، ووثائر، وزرابي، فانبثت في حجراته واستقرت على أرائكه، وأن المصابيح جعلت تهوي إليه بنفسها من كل مكان فنشبت في سقفه زرافات ووحدانا ... ألست تحكم بأن هذه حلم نائم، أو حديث خرافة، قد أصيب صاحبه باختلاط في عقله؟ فما ظنك بقصر ... السماء سقفه، والأرض قراره، والجبال أعمدته، والنبات زينته، والشمس والقمر والنجوم مصابيحه؟ أيكون في حكم العقل أهون شأنا من ذلك البيت الصغير؟ أولا يكون أحق بلفت النظر إلى بارئ مصور، حي قيوم، خلق فسوى، وقدر فهدى؟
وإذا كان الإعجاب بالأثر الفني البارع، يحمل الإنسان بفطرته على التساؤل عن الفنان الذي أبدعه، ويحفزه إلى التوجه بفكرته إليه، سواء أعرف شخصه أم لم يعرفه، ليعبر له عن هذا الشعور والتقدير، أليس الإعجاب ببدائع الملكوت أحق بأن يتحول إلى مناجاة مبدعه، والإفضاء إليه بعبارات التبجيل العميق والتقديس البليغ؟ وهل العبادة في جوهرها ولبها إلا ذلك؟
ألا وإنك لو أخذت تحلل هذه المناجاة الخاضعة، لوجدتها تنطوي بالضرورة على عنصرين جوهريين: فهي تفترض أولا: أن الشيء الذي تتوجه إليه أهل لأن يستقبل حديث من يناجيه. وتفترض. ثانيا: أنه أسمى مقاما وأكمل صفة من الإنسان؛ لأنه يستطيع ما لا يستطيع الإنسان، فلا يمكن - والحالة هذه - أن يكون مادة صماء عمياء، لا تحسك ولا تراك، ولا تسمع نجواك، وإلا لكان المعبود محروما من مزايا الحياة والعقل والشعور التي يتمتع بها عابده، وهو قول متناقض يهدم نفسه.
هكذا تتولد العقيدة الإلهية، والحركة العبادية، من تزاوج مبدأين نفسيين: أحدهما غريزة عقلية؛ وهي غريزة التطلع لفهم الطبيعة، والثاني حاسة وجدانية؛ وهي حاسة التذوق الفني لما في الطبيعة من جمال وجلال.
وإن مما يؤيد القول بأن فكرة التأليه وليدة هذه النظرة في الطبيعة، أن الارتباط بين هذا الإحساس الكوني، وهذا الإحساس الديني، تثبته التجارب النفسية المتكررة في كل الأمم وفي كل العصور،
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور * الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير .
1
ولذلك لا يزال هذا التفسير من أصح التفاسير وأقواها، على الرغم مما وجه إليه من اعتراضات.
الاعتراضات على هذه النظرية
ناپیژندل شوی مخ