دين
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
ژانرونه
أليست قضية هذا التصادق الكلي بين الكتب السماوية أن تكون الكتب المتأخرة إنما هي تجديد للمتقدمة وتذكير بها، فلا تبدل فيها معنى، ولا تغير حكما، وإلا كيف يقال: إنها تصدق ... إلخ، بينما هي تبدل وتعدل، وإذا كان من قضية التصادق الكلي بين الكتب ألا يغير المتأخر منها شيئا من المتقدم، فهل الواقع هو ذلك؟
الجواب: ليس الواقع ذلك، فقد جاء الإنجيل بتعديل بعض أحكام التوراة؛ إذ أعلن عيسى أنه جاء ليحل لبني إسرائيل بعض الذي حرم عليهم:
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (آل عمران، الآية: 50)، وكذلك جاء القرآن بتعديل بعض أحكام الإنجيل والتوراة؛ إذ أعلن أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
جاء ليحل للناس كل الطيبات، ويحرم عليهم كل الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم:
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (سورة الأعراف، الآية: 157).
ولكن يجب أن يفهم أن هذا وذاك لم يكن من المتأخر نقضا للمتقدم، ولا إنكارا لحكمة أحكامه في إبانها، وإنما كان وقوفا بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر ... مثل ذلك مثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إلى الطفل في الطور الأول من حياته فقرر قصر غذائه على اللبن، وجاء الثاني إلى الطفل في مرحلته التالية فقرر له طعاما لبنا وطعاما نشويا خفيفا، وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأذن له بغذاء قوي كامل.
لا ريب أن ها هنا اعترافا ضمنيا من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقا كل التوفيق في علاج الحال التي عرضت عليه ... نعم إن هناك قواعد صحية عامة في النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها لا تختلف باختلاف الإنسان، فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل، ولا يختلف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين.
هكذا الشرائع السماوية كلها صدق وعدل في جملتها وتفصيلها، وكلها يصدق بعضها بعضا من ألفها إلى يائها، ولكن هذا التصديق على ضربين: تصديق القديم مع الإذن ببقائه واستمراره، وتصديق له مع إبقائه في حدود ظروفه الماضية؛ ذلك أن الشرائع السماوية تحتوي على نوعين من التشريعات: «تشريعات خالدة» لا تتبدل بتبدل الأصقاع والأوضاع - كالوصايا التسع
4 - ونحوها، فإذا فرض أن أهل شريعة سابقة تناسوا هذا الضرب من التشريع جاءت الشريعة اللاحقة بمثله - أي: أعادت مضمونه تذكيرا وتأكيدا له - «وتشريعات موقوتة» بآجال طويلة أو قصيرة فهذه تنتهي بانتهاء وقتها وتجيء الشريعة التالية بما هو أوفق بالأوضاع الناشئة الطارئة ... وهذا - والله أعلم - هو تأويل قوله تعالى:
ناپیژندل شوی مخ