انسان دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرونه
إلى ماذا تشير ترتيبات رءوس الدب في مقامات الباليوليت الأوسط إذن؟ في تفسيرنا لشتات بقايا قبور النياندرتال، قلنا إن ذلك الإنسان كان أول من دفن موتاه بعناية خاصة وفق طقوس ثابتة متكررة، وصاغ لنفسه، ولنا من بعده ، أولى التصورات الدينية. واستنتجنا أن تصوراته تلك كانت تدور حول مستوى لا مرئي، أو مجال قدسي، ترحل إليه أرواح الموتى بعد مغادرتها للمستوى المرئي المعاين والمعاش، وأسمينا المجالين أو المستويين للوجود بعالم اللاهوت وعالم الناسوت. وإضافة إلى ذلك فإن كل الظواهر الطبيعية الغامضة وغير المفسرة، المواتية منها لحياة الإنسان أو المهددة لها، قد فسرت على أنها أعراض صادرة عن المستوى الموازي القدسي؛ فالزلازل والبراكين والأعاصير وتتابع الفصول وحركة الأجرام السماوية، ليست إلا ظواهر ناجمة عن فعل قوة غفلة وغير مشخصة تنشأ عن عالم اللاهوت لتؤثر في عالم الناسوت، وتعود إلى مصدرها في دورة دائبة، قوة منبثة في العالم المرئي وليست منه في الآن نفسه. من هنا فقد شعر النياندرتالي بالحاجة إلى إقامة صلة مع ذلك العالم، فعمد إلى إفراد بقع مقدسة يتنزل فيها اللاهوت في عالم الناسوت، أو يرتفع منها الناسوت إلى عالم اللاهوت، وكانت تلك المقامات الأولى في أعماق المغاور، بمثابة مقرات للتمارين الدينية الأولى التي مارسها الإنسان. ولكن الإنسان لا يستطيع أن يركن إلى ملاذ عميق في ظلمة الأرض، متأملا في ذلك العالم غير المرئي، محاولا النفاذ إليه أو استجلاب قوته، دونما وساطة أو شفاعة، بل كان لا بد له من التفكير في اللامرئي من خلال موضوع مرئي يرمز إليه ويشير، ويتخذ دور الوسيط بين السماء والأرض، وهذا الموضوع المرئي هو شارة قدسية تجعل الغائب حاضرا أو المجرد ملموسا. وبالنسبة إلى الإنسان النياندرتالي كانت هذه الشارة القدسية هي رأس الدب الذي يرمز إلى القوة الكونية التي تربط عالم اللاهوت بعالم الناسوت. وقد تم اختيار رأس الدب تحديدا؛ لأن النياندرتالي قد رأى في الدب نموذجا أعلى للقوة في المسرح الطبيعي الذي يعيشه، وهو أصلح ما يكون لتمثيل القوة الشمولية الغفلة السارية في الكون.
ولتقريب مفهوم الشارة القدسية إلى الأذهان، أقول بأن أكثر أشكال التأمل الديني سموا وتجريدا في ديانات الشرق الأقصى، تبدأ مستعينة عادة بشارة قدسية ما، برمز من هذا العالم يشير إلى ما وراءه في المستوى الآخر، الذي يحاول المتأمل إقامة صلة معه. من هذه الشارات القدسية، التكوين التشكيلي المعروف باسم المندالا. والمندالا هي دائرة ترتسم في داخلها أشكال تنتظم حول المركز في ترتيب ذي دلالة، فيقوم المتأمل بتركيز بصره عليها، ناظرا من خلالها إلى أعماق نفسه صعودا نحو العوالم القدسية. فإذا كان طالب الاستنارة في الديانات الشرقية، وهو أقدر الناس طرا على تلمس العوالم التجريدية، راغبا في شارة من هذا العالم تعينه على عقد صلة مع لاهوته، فإن الإنسان الأول كان أكثر منه حاجة إلى مثل هذه الشارة. وإذا كانت المندالا شكلا فنيا معدا بعناية فائقة، ويحمل وراءه تاريخا طويلا من التجربة الفكرية والروحية، فإن شارة الإنسان الأول كانت هيئة طبيعية غير مصقولة من عالمه ومن أكثر مجالات الطبيعة قربا إليه.
إن الشكل الحيواني الذي تم تشخيصه في تكوينات الباليوليت الأوسط، ومن بعده في فنون الباليوليت الأعلى وصولا إلى العصر الحجري الحديث، قد تم استخدامه في وظيفة رمزية بحتة، ولم يكن بأية حال صورة لإله معبود؛ إنه رداء لقوة ما ورائية يتم استحضارها من خلاله وعقد صلة معها. أما لماذا قامت ثقافة ما باختيار حيوان معين أو أكثر، من بين عشرات الخيارات المتاحة، فأمر يحتمل أكثر من تفسير، ولسوف أتقدم بما يبدو أكثرها إقناعا عند هذه المرحلة من البحث؛ فالإنسان الأول الذي كان يشعر بوحدة عضوية تجمعه إلى كل مظاهر الحياة على الأرض، كان يعقد صلة روحية مع فصيلة معينة من الحيوان، هي غالبا موضوع صيده الرئيسي ومصدر غذائه. وكان لهذا السبب يحس معها بنوع من المشاركة، وقيام نوع من «العهد» بينهما لا تنفصم عراه، وهو عهد ملزم لكلا الطرفين بالدرجة والقوة نفسها. لهذا لم يكن صيده لها وتحويلها إلى غذاء بمثابة فعل عادي دنيوي، بل كان طقسا له من القدسية ما لطقوس الصلوات والعبادة. من هنا، فإن الشارة القدسية سوف تستمد من أقرب العوالم إلى الصياد؛ من فصيلة حيوانه المفضل أو رفيقه الروحي؛ فهنا تتحول كل الهيئات المتماثلة لأفراد لا حصر لهم من الطرائد لتندمج في هيئة مثالية واحدة، هي في الآن نفسه تجسيد أسمى للفصيلة وشارة قدسية لعالم اللاهوت.
إن الارتباك الحاصل في مجال البحث عن الحياة الروحية لإنسان العصور الحجرية، ينبع من كوننا نبحث في ديانة أي جماعة بشرية عن إله وعن صورة إله، وتغيب عنا حقيقة أن فكرة الإله لم تكن سوى ناتج متأخر نسبيا من نواتج الحياة الروحية للإنسان؛ فقبل الإله المشخص الذي يحمل معه تاريخا وسيرة حياة ومعالم شخصية واضحة ومستقلة، أحس الإنسان بحضور مجال قدسي، بعالم ألوهي لا تحكمه شخصية معينة فاعلة، بل تفيض منه قوة شمولية تتخلل عالم الناسوت، كل زاوية وركن، كل هيئة حية وجامدة. ولم يكن هنالك في الحقيقة أنسب من الصورة الحيوانية لاستخدامها في الرمز إلى تلك القوة الغفلة؛ فالحيوان لا شخصية له، ولا يتمتع بفردية ظاهرة كشأن الإنسان، والدب المفرد هو دب وحسب، بلا اسم وبلا هوية ولا سيرة ذاتية، أما الهيئة الإنسانية فما إن تصب في قالب تشكيلي حتى يتم التساؤل عن هويتها وأصلها وفصلها وعلائقها. من هنا يمكن القول بأن ابتداء تشكل الآلهة خروجا من عالم اللاهوت غير المتمايز، قد ترافق مع حلول الشكل الإنساني محل الشكل الحيواني في التصوير الديني. وقد تمت هذه العملية ببطء شديد وعبر عشرات الألوف من السنين، ولم تكن الأشكال الإنسانية الأولى التي عبرت عن عوالم الألوهة سوى أشكال مفرطة في الرمزية، ولا تحمل ملامح شخصية محددة؛ الأمر الذي جعل وظيفتها أقرب إلى الوظيفة الرمزية للشكل الحيواني.
سوف نتعرض في الفصل المقبل لبداية ظهور الشكل الإنساني مع ظهور التكوينات النحتية العشتارية التي يدعوها الأوروبيون بفينوسات العصر الحجري، ولكن بعد وقفة مطولة مع أولى كاتدرائيات الإنسان العاقل، وأعني بها كهوف الرسوم الجدارية. (3) الباليوليت الأعلى وكاتدرائيات الأعماق
إن النياندرتال الكلاسيكي الذي عرفته أوروبا خلال الباليوليت الأوسط، هو غصن منقطع من شجرة التاريخ الطبيعي للإنسان، وقد انقرض بعد أن بدأت طلائع الإنسان العاقل تفد من مناطق المشرق العربي، وهي طلائع تطورت عن النياندرتال المشرقي. فهياكل النياندرتال التي تم اكتشافها في فلسطين بشكل خاص، تظهر مرحلة وسطى من التطور نحو هيئة الإنسان العاقل، وحالة انسلاخ كان يقوم بها النياندرتالي هنا، عن الهيئة النموذجية المعروفة في أوروبا. إن عظام أطراف الهياكل التي اكتشفت في مغارة السخول، على سبيل المثال، تبدي شبها كبيرا جدا بعظام أطراف الإنسان العاقل، وكذلك عظم الفك الأسفل والجزء الخلفي من الجمجمة. ويبلغ الشبه درجة يعتقد علماء الأنتروبولوجيا معها بأن هذه القطع لو اكتشفت مستقلة عن بقية هياكلها، لكان من الصعب التعرف عليها كأجزاء من هياكل نياندرتالية. وهكذا يبدو ظهور الإنسان العاقل في الشرق الأدنى كنتيجة واضحة لتطور محلي، أما في أوروبا فقد ظهر الإنسان العاقل دفعة واحدة، مع أدواته الجديدة التي كانت شائعة في الشرق الأدنى منذ زمن بعيد؛ الأمر الذي يدل على وصوله مع ثقافته المكتملة من المشرق، عن طريق البلقان فأوروبا الوسطى، حيث عثر على دلائل تشير إلى مثل هذا الارتحال.
15
ورغم ذلك فإن ثقافة الباليوليت الأعلى التي ابتدرها الإنسان العاقل المشرقي لم تزدهر في مواطنه الأصلية، بل في مواطنه الأوروبية التي ارتحل إليها، بحيث وصلت قمة أوجها وأتمت دورتها كاملة في أوروبا. تتميز هذه الثقافة، التي ابتدأت في وقت ما بين 35000 و40000 قبل عصرنا هذا، عن سابقتها بميزتين رئيسيتين؛ الأولى تسارع التقدم التكنولوجي، والثانية ولادة الحس الجمالي عند الإنسان. وتتجلى النهضة الجمالية للباليوليت الأعلى بشكل خاص في التصوير الجداري، الذي اكتشفت آياته البديعة في كهوف تقع في أعماق بعيدة عن سطح الأرض، أفردها إنسان ذلك العصر لهذه الغاية.
نظرت حضارتنا الحديثة إلى فن التصوير على أنه من الفنون العليا المرتبطة بالمدنيات الكبرى؛ لذلك فقد كان من الصعب على جمهرة المهتمين، وحتى الاختصاصين، أن يقتنعوا بأن ذلك الإنسان المجهز بفأس حجري، كان قادرا على إنجاز تلك الروائع في فن التصوير، والتي يمكن وضعها جنبا إلى جنب مع روائع الحضارات العليا ، بما فيه الحضارة الغربية الحديثة. وقد ساعد على خلق هذه الشكوك في بداية الأمر، أن اكتشاف كهوف الرسوم الجدارية قد تم قبل أن يكون الرأي العام والدوائر المعنية في حالة تهيؤ لقبولها؛ ولذا فقد بقيت فترة طويلة في حالة شك وتجاهل لقيمتها التاريخية. ففي عام 1875م، على سبيل المثال، اكتشف كهف التاميرا في إسبانيا، رحالة ودارس آثار هاو، وتردد عليه مرات كثيرة حتى تعرف على معظم قاعاته وأروقته. وعندما أعلن هذا الباحث الرائد عن اكتشافه، وعن رأيه بخصوص علاقة رسوم هذا الكهف بإنسان ما قبل التاريخ، قوبل بعاصفة قوية من الاستغراب، وحتى السخرية أحيانا، ولم يتم الاعتراف بانتساب هذا الكهف إلى العصور الحجرية القديمة حتى عام 1902م، وبعد فترة لا بأس بها من موت مكتشفه. ورغم أن الوسائل الحديثة في تاريخ اللقى الأثرية، قد كشفت تدريجيا عن أصالة جميع رسوم الكهوف المعروفة وأحقية الإنسان القديم بها، فإن ظلال الشك لم تنقشع عن بعضها إلى ما بعد فترة الخمسينيات من القرن العشرين.
16
ناپیژندل شوی مخ