انسان دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرونه
وقد انتقل هذا المفهوم من الهندوسية إلى البوذية، حيث تشكل الدهارما فيها مجمل الشرائع والقواعد الأخلاقية المستمدة من مواعظ البوذا، والتي جمعها وثبتها تلامذته من بعده. ويتصل بمفهوم الدهارما البوذي والهندوسي مفهوم آخر هو «الكارما»، والكلمة في الأصل تعني «الفعل»، وبالمفهوم الديني يتسع معناها الأصلي لتشمل الفعل وجزاءه ثوابا كان أم عقابا. غير أن الجزاء والعقاب لا يفرضه إله متسام مشخص يدير الكون، كما هو الحال في الأديان الشرق أوسطية، بل يأتي نتيجة لسريان مبدأ كارمي في الكون متصل بعقيدة تناسخ الروح. فالأرواح تخضع لسلسلة غير متناهية من التقمصات في أجساد بشرية أو حيوانية أو حتى إلهية، وذلك تبعا لنوع الفعل الكارمي الذي يصدر عنها في كل حياة من حيواتها المتعاقبة، بحيث يجد الفعل الذي تقوم به في حياة ما جزاءه في الحياة التي تلي، تنعما كان هذا الجزاء أم معاناة لألم. وقد تستمر هذه الدورة التناسخية إلى الأبد؛ إذ لم تفلح الروح في الوصول إلى مرتبة من النقاء تؤهلها لكسر هذه السلسلة والدخول في الأبدية. وبهذا المعنى تعمل الكارما وفق آلية ضبط ذاتي ودونما تدخل خارجي.
9
غير أن اتصال الأخلاق والشرائع بالدين ليس مسألة حتمية في تاريخ الدين، فهناك ديانات حافظت حتى النهاية على استقلالها عن الأخلاق، ومنها الديانة الإغريقية والديانة الصينية. فعند الإغريق، لم يكن كبير الآلهة زيوس يتطلب أكثر من الذبائح والقرابين، وهو لم يضع وصايا أخلاقية ولم يستن الشرائع، وصواعقه التي كان يرسلها على الأرض لعقاب البشر لم تكن معدة للفجرة بالمعنى الخلقي المعروف، بل لأولئك الذين يهددون نظام الجماعة عموما ولا يعيرون الآلهة التفاتا. وإذا كان يهوه التوراتي يأمر بالخلق الحسن ثم لا يخضع تصرفاته هو للمعايير الأخلاقية، فإن زيوس لم يأمر بمكارم الأخلاق من جهة، ولم يجعل سلوكه قدوة خلقية من جهة أخرى. ومثله في ذلك بقية الآلهة الأوليمبيين؛ فمواقف هؤلاء وتصرفاتهم كانت تصدر عن فطرية سلوكية وردود أفعال آنية، غالبا ما اتسمت بالبعد عن روح المسئولية الخلقية، وبذلك تركت المجتمعات الإغريقية لتدير شئونها الداخلية بنفسها وبمعزل عن تدخل الآلهة. وربما لهذا السبب نشأت فلسفة الأخلاق الدنيوية أول ما نشأت لدى هؤلاء الإغريق؛ ففي الوقت الذي عكف فيه فقهاء الديانات الأخلاقية على اكتناه إرادة السماء فيما ينبغي أن يكون عليه السلوك القويم، فإن الفلسفة الإغريقية منذ سقراط كانت تتساءل عن ماهية الخير من وجهة نظر إنسانية بحتة، وبعيدا عن توسط قوى إلهية أو مبدأ كارمي من أي نوع.
أما في الصين، فمنذ بدايات تاريخها المكتوب يقوم القانون في استقلال عن الدين. وأكثر من ذلك، فإن هذا القانون المدني لم يكن مطبقا إلا على الشرائح الدنيا من المجتمع، أما الشرائح العليا فكانت تسللت وفق نظام معقد من الأخلاقيات الاجتماعية، وتؤمن أنها قادرة على الالتزام به دونما مؤيد خارجي.
10
من هنا فقد أكد المفكرون الصينيون على الطابع الدنيوي للأخلاق والشرائع، ونشأ في الصين فكر أخلاقي دنيوي وضع أسسه عدد من المفكرين الكبار، على رأسهم كونفوشيوس (بالصينية
KUNG FU-TZU ). ولد «المعلم»، كما يدعوه الصينيون، عام 155ق.م. وتوفي عام 478؛ أي عندما كان لسقراط الإغريقي سبع سنوات من العمر؛ فالاثنان ينتميان إلى فترة واحدة من تاريخ الحضارة الإنسانية، وكلاهما وضع أسس الأخلاق الدنيوية لثقافتين متباعدتين في كل شيء، ولا يجمعهما إلا قيامهما على الفصل بين الدين والأخلاق. لم يعن كونفوشيوس بالمسألة الدينية، وكان يرى في المسائل الميتافيزيقية واللاهوتية مضيعة للوقت؛ لأن الإنسان يجب أن يولي جل اهتمامه لكيفية سلوكه في هذا العالم. ونحن نجد في أجوبته على تساؤلات تلامذته الدينية خير مثال على مواقفه تلك؛ فقد سأله واحد منهم: «كيف نستطيع أن نخدم أرواح الأسلاف؟» فأجاب: «إنك لم تتعلم بعد أن تخدم الأحياء، فكيف تستطيع أن تخدم الأموات ؟» وسأله آخر عن الموت وطبيعته وحال الأموات، فأجاب: «إنك لم تصل إلى فهم الحياة بعد، فكيف لك أن تفهم الموت؟»
11
من هنا فقد حض كونفوشيوس على اتباع العبادات الصينية التقليدية، مثل عبادة الأسلاف وعبادة قوة السماء، وعلى إقامة الطقوس المتوارثة، ووقف نفسه على إصلاح المجتمع من خلال نظام أخلاقي بينه بشكل أساسي للحكام وأصحاب الرأي في المجتمع؛ لأنهم القدوة التي يعمل الناس على تقليدها. ويمكن القول إنه كان يحلم بصنع «الإنسان الأعلى» الذي تجتمع فيه الفضائل، ويكون بسبب حساسيته الخلقية معيارا لنفسه؛ فالنظام الأخلاقي مزروع في النفس الإنسانية، وهو انعكاس للنظام الأخلاقي الكوني، وما على الفرد إلا أن يحاول الانسجام مع هذه الأخلاقية الكونية. يقول كونفوشيوس: «إن حياة الفرد الأخلاقي تقوم على احتذاء النظام الخلقي الكوني والانسجام معه، أما حياة الأوغاد فتقوم على معاكسة ذلك النظام الكوني.» وأيضا: «إن الغاية الأسمى للإنسان هي العثور على مفتاح كيانه الأخلاقي الذي يوحده بالنظام الكوني.»
12
ناپیژندل شوی مخ