انسان دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرونه
تتمتع الأسطورة بقدسية وبسلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم. إن السطوة التي تمتعت بها الأسطورة في الماضي لا يدانيها سوى سطوة العلم في العصر الحديث؛ فنحن نؤمن بوجود الجراثيم وبقدرتها على تسبيب المرض، سواء رأيناها تحت المجهر أم لا؛ وذلك لأن العلم قد أثبت وجودها، كما أننا نؤمن بالطريقة نفسها بأن المادة مؤلفة من جزيئات وذرات، وأن الكون مؤلف من مليارات المجرات ... إلخ. وفي العالم القديم لم ير الشياطين أو الآلهة سوى قلة من الكهنة في أحلامهم أو في نوبات الوجد التي تعتريهم، ومع ذلك آمن الإنسان القديم بكل العوالم التي نقلتها له الأسطورة، وكان الكفر بمضامينها كفرا بكل القيم التي تشد الفرد إلى جماعته وثقافته، وفقدانا للتوجه السليم في الحياة. (8)
ترتبط الأسطورة بنظام ديني معين، وتتشابك مع معتقدات ذلك النظام وطقوسه المؤسسة، وهي تفقد كل مقوماتها كأسطورة إذا انهار النظام الذي تنتمي إليه، وتتحول إلى حكاية دنيوية تنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الشبيهة بالأسطورة، مثل الحكاية الخرافية والقصة البطولية، وقد تدخل بعض عناصرها في الحكاية الشعبية.
اعتمادا على الوصف الذي قدمته أعلاه أستطيع أن أخلص إلى ما يشبه التعريف، فأقول بأن الأسطورة هي «حكاية مقدسة مؤيدة بسلطان ذاتي». والسلطان الذاتي للأسطورة هنا لا يأتي من أية عوامل خارجة عنها، بل من أسلوب صياغتها وطريقة مخاطبتها للجوانب الانفعالية وغير العقلانية في الإنسان. وما زلنا حتى اليوم، نحن أهل دولة العقل العالمية هذه، نشعر بسلطان الأسطورة يغمرنا كلما وقفنا بين يديها دون أن ندري لذلك سببا.
تنشأ الأسطورة إذا عن المعتقد الديني، وتكون امتدادا طبيعيا له، فهي تعمل على توضيحه وإغنائه، وتثبته في صيغة تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال، كما أنها تزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يربطه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية. ويبدو أن المهمة الأساسية للأسطورة هي تزويد فكرة الألوهة بألوان وظلال حية، خصوصا في المعتقدات التي تقوم على تعدد الآلهة؛ فالأساطير هي التي ترسم صور الآلهة، وتعطيها أسماءها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها، وتحد لها صلاحياتها وعلاقات بعضها ببعض. فالإله الأزلي القابع فيما وراء الزمن الجاري هو إله نظري ذو طبيعة فلسفية، وهو لا يباشر وجوده الفعلي وصلته بعالم الناس إلا عندما يعلن عن فعاليته الواضحة في الزمن ويقوم أو يشارك في خلق وتكوين العالم، وهذا ما ترويه وتفصله لنا الأساطير. فالأسطورة تقوم على مفهوم زماني لا مكاني، كما يقول الفيلسوف الألماني المعاصر أرنست كاسيرر؛
3
ولذلك فإن الأسطورة الحقة كما يراها لا تبدأ عندما نكون تلك الصور المحددة عن الآلهة، بل عندما نعزو لهذه الآلهة بداية محددة في الزمن، وعندما تباشر هذه الآلهة فعالياتها وتنبئ عن وجودها في سياق زمني؛ أي عندما يتحول الوعي الإنساني من فكرة الألوهة إلى تاريخها.
4
فمن خلال هذا التاريخ الذي ترسمه الأسطورة، يعلو الإله على مظاهر الطبيعة ويتسلط عليها، ومن خلال الذاتية التي ترسم خروجه من العماء الساكن إلى الزمن المتحرك، تنتقل الألوهة من الوجود المجرد إلى الفعل الذي يظهرها في عالم الإنسان ويربطها إلى مسار حياته.
من هنا تأتي أهمية ميثولوجيا التكوين في أديان الشعوب، وعلو شأن أسطورة الخلق في النظم الميثولوجية. إن العمل الأول الذي يقوم به الإله الأكبر هو خلق العالم والخروج به من عماء اللاتمايز المكاني والزمن الراكد إلى الوضوح وعالم الحركة والفعل، عالم الزمن الدينامي. فهذا الإله إنما يبتكر نفسه بابتكاره للكون، ويبدأ تاريخه الخاص إذ يبتدر مظاهر هذا الكون. لذلك كانت أسطورة التكوين البابلية هي سيدة أساطير تلك الثقافة؛ فعندما «لم يكن هنالك سماء في الأعالي، ولم يكن هنالك أرض في الأسفل»، كما يقول مطلع الأسطورة، لم يكن هناك سوى آلهة العماء القابعة وراء الزمن، والمعارضة لأية حركة أو فعل، ثم جاء الإله الخالق مردوخ ليبتدئ سيرة حياته مع سيرة حياة الكون الذي أخرجه من لجة العماء البدئي؛ ولذلك أيضا تتصدر أسطورة التكوين التوراتية الصفحة الأولى من كتاب «العهد القديم». «ففي البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف فوق وجه المياه»، كما يقول مطلع سفر التكوين، أما ما كان قبل ذلك فلا نعرف عنه شيئا، ولا عما كان يفعله «يهوه» قبل أن يشرع في خلق السموات والأرض.
إضافة إلى العروة الوثقى التي تجمع الأسطورة إلى المعتقد، فإن الأسطورة من ناحية أخرى ترتبط بشكل وثيق بالطقس؛ فالطقس كما أوضحت هو جسر بين المتعبد وقوى قدسية معينة، وكلما كانت هذه القوى ذات شخصيات محددة وخصائص وسيرة حياة ترسمها الأساطير، كلما ازداد الطقس غنى وتعقيدا. وعلى العكس من ذلك، فإن الطقس يميل نحو البساطة كلما مال المعتقد إلى التجريد وافتقر إلى الأساطير. وهنا يمكن أن نسوق مرة أخرى مثالا مستمدا من الديانة الآتونية، التي وجدنا في معتقدها نموذجا معبرا عن المعتقد التجريدي الذي لا يستعين بالأساطير؛ فبعض الباحثين في الفرعونيات، يعلن صراحة أنه لا يعرف شيئا عن طقوس ديانة أخناتون،
ناپیژندل شوی مخ