انسان دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرونه
المكونات الأساسية للدين
المكونات الثانوية للدين
الفصل الأول
المكونات الأساسية للدين
إن النظرة الفاحصة إلى تاريخ وجغرافية دين الإنسان، تكشف لنا عن بنية موحدة للدين، أنى وأين التقينا به كظاهرة ثقافية رائدة. تقوم هذه البنية على عدد من العناصر أو المكونات، بعضها أساسي لا نستطيع التعرف على الظاهرة الدينية بدونه، وآخر ثانوي لا يلعب دورا حاسما في تكوين الدين، أو في تعرفنا على الظاهرة الدينية. وسنلتفت في هذا الفصل إلى المكونات الأساسية، وهي ثلاثة: المعتقد والطقس والأسطورة. (1) المعتقد
هو أول أشكال التعبيرات الجمعية عن الخبرة الدينية الفردية التي خرجت من حيز الانفعال العاطفي إلى حيز التأمل الذهني. ويبدو أن توصل الخبرة الدينية إلى تكوين معتقد هو حاجة سيكيولوجية ماسة؛ لأن المعتقد هو الذي يعطي للخبرة الدينية شكلها المعقول، الذي يعمل على ضبط وتقنين أحوالها. فبعد تلك المواجهة الانفعالية مع القدسي في أعماق النفس، يتدخل عقل الإنسان من أجل صياغة مفاهيم من شأنها إسقاط التجربة الداخلية على العالم الخارجي، وموضعه القدسي هناك. وهنا يتم فرز موضوعات معينة، أو خلق شخصيات وقوى معنوية، تستقطب الإحساس بالمقدس وتجتذبه إلى خارج النفس؛ وبذلك تتكون الصيغ الأولية للمعتقدات، وندلف إلى ذلك الهيكل السامق الذي ندعوه بالدين.
والمعتقد الديني هو شأن جمعي بالضرورة. وكما أشرت منذ قليل، فإن عقول الجماعة تعمل على صياغته، كما تعمل الأجيال المتلاحقة على صقله وتطويره؛ فما من خبر وصلنا عن أهل الديانات القديمة يفيد بأنهم أخذوا معتقدهم جاهزا عن جهة ما أو شخص بعينه . فشعوب سومر وأكاد مثلا، وكنعان ومصر واليونان، قد تركت لنا مدونات عن معتقداتها وأساطيرها وصلواتها، دون أن تذكر شيئا عن صدور دياناتها عن كاهن أو عراف أو متنبئ من أي نوع؛ وأسفار الفيدا السنسكريتية المغرقة في القدم ما زالت تمارس تأثيرها العميق على الطوائف الهندوسية في الهند، دون أن يعرف أحد مصادرها والتواريخ الدقيقة لتدوينها؛ ومعتقدات الشعوب البدائية في أستراليا وميلانيزيا وغيرهما كانت دوما موجودة بالنسبة لأهلها، ولا يجوز البحث عن بداية لها أو مصدر لأنها تعكس الحقائق الأزلية التي لا تجوز مناقشتها. فإذا كان لا بد من تصور بداية ما للمعتقد، فإن هذه البداية توضع في الأزمنة الأسطورية السابقة لظهور الإنسان، أو الأزمنة القدسية التي رافقت ظهور الجماعات البشرية الأولى.
وهذا ما يقودنا إلى إقرار حقيقة تاريخية ثابتة، وهي أن ظاهرة مؤسسي الديانات من الأفراد هي ظاهرة حديثة نسبيا، ومعلوماتنا عنها لا تؤهلنا لمتابعتها إلى ما وراء القرن السادس قبل الميلاد. ففي النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد عاش زرادشت الإيراني، وبشر بمعتقد جديد كل الجدة على الثقافة الإيرانية. وفي النصف الثاني من القرن نفسه ظهر البوذا في الهند، ولاوتسي مؤسس التاوية في الصين. وليس من المصادفة أن يتزامن ظهور هؤلاء المفكرين الأفراد في المشرق مع ظهور نوع آخر من المفكرين الأفراد في الغرب، هم مؤسسو الفلسفات الفردية، في المناطق ذات الطابع اليوناني في غرب آسيا الصغرى، وفي أرض اليونان نفسها والجزر المتوسطية القريبة منها. ففي أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل الميلاد ظهرت المدرسة الملطية في آسيا الصغرى، وفي أواسط القرن السادس ظهر فيثاغورث أول عباقرة الفلسفة المدعوة بالإغريقية، وتبعه هرقليطس وزينوفان وبارمنديس. ومع سقراط الذي ولد عام 470ق.م. تدخل الفلسفة الإغريقية مرحلة نضجها وعطاءاتها الكبيرة.
والمعتقد شأن جمعي لأكثر من سبب؛ فأولا من غير الممكن أن يقوم كل فرد من أفراد الجماعة بصياغة معتقد خاص به، بما يستدعي ذلك من سلوك وأفعال سوف تتضارب حتما مع ما يبادر به الآخرين. وثانيا أن دوام واستمرار أي معتقد يتطلب إيمان عدد كبير من الأفراد به، وإلا اندثر وفقد تأثيره حتى في نفس صاحبه. من هنا نفهم لماذا يسعى مؤسسو الأديان وأصحاب الفلسفات الكبرى إلى التبشير بأفكارهم بين الناس وحثهم على اعتناقها؛ ذلك أنهم يجدون في هذا السعي ضمانتهم الوحيدة لحياة معتقداتهم واستمرارها. ويتناسب سعي المبشر طردا مع مدى اقتناعه بأنه قد وضع يده على الحقيقة المطلقة. ولنا في سيرة «ماني» مؤسس الديانة المانوية التي انطلقت من بابل أواسط القرن الثالث الميلادي خير دليل على ذلك؛ فعندما عاود الوحي السماوي ماني (على ما يذكره أتباعه ومؤرخو سيرته) وهو في الرابعة والعشرين، هب للتبشير بمعتقده مرتحلا ما بين الهند ومصر، ولم تهدأ حركته حتى أعدمه الملك الفارسي بهرام سنة 276 ميلادية. وهنالك وصف لماني في الكتابات المسيحية من تلك الفترة تصفه في تجواله، يرتدي سروالا واسعا أصفر اللون وعباءة زرقاء وبيده عصا طويلة من الأبانوس، متأبطا تحت ذراعه على الدوام كتابا خطه بنفسه باللغة البابلية (وهي الآرامية المشرقية في ذلك الوقت).
إن آلهة المعتقدات بحاجة إلى البشر حاجة البشر إليها، وآلهة الإنسان القديم كانت تستمد حياتها من الناس الذين يحملونها في أفكارهم، كما كان الناس يستمدون منها طاقة روحية تعينهم على الاستمرار في الحياة. فما تحتاجه الآلهة من الناس حقا هو الأفكار، أفكارهم عنها، أما العبادات والطقوس فلا تقدم للآلهة شيئا يذكر إلا بمقدار ما تديم الذكر وتنعش الفكر الذي يحمل صورها.
ناپیژندل شوی مخ