انسان دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرونه
12
هذا الوصف الذي يقدمه لنا الشامان وغيره من أصحاب التجارب الوجدية الفائقة، يجب ألا يؤخذ بحرفيته وبمعناه المباشر؛ لأن صاحب التجربة إنما يحاول أن ينقل من خلال اللغة المعتادة ما لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، فيلجأ إلى المجاز والرمز، ومخاطبة أقرانه بصور وكلمات من شأنها تقريب رؤيته إليهم. وإلا فكيف ننظر إلى تلك الصور الباهرة في سفر يوحنا اللاهوتي: «كنت في الروح في يوم الرب، وسمعت ورائي صوتا عظيما كصوت البوق قائلا: أنا هو الألف والياء الأول والآخر، والذي تراه، اكتب في كتاب وأرسل إلى السبع الكنائس ... فالتفت لأنظر الصوت الذي تكلم معي، ولما التفت رأيت سبعة المنابر من ذهب، وفي وسط سبعة المنابر شبه ابن إنسان متسربلا بثوب إلى الرجلين ومتمنطقا عند ثدييه بمنطقة من ذهب. وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض، كالثلج، وعيناه كلهيب نار، ورجلاه شبه النحاس النقي كأنهما محميتان في أتون، وصوته كصوت مياه كثيرة، ومعه في يده اليمنى سبعة كواكب ...»
13
وفي مقابل التكلم بمثل هذه المجازات يفضل آخرون الصمت في حضرة القدسي؛ يقول النفري: «وأوقفني في الصمت وقال لي: «إن لي عبادا صامتين رأوا جلالي فلا يستطيعون أن يكلموه، ورأوا بهائي فلا يستطيعون أن يسبحوه؛ فلا يزالون صامتين حتى آتيهم فأخرجهم من مقام صمتهم إلي. فمن صمت عني فهو عبدي الصامت.» وقال لي: اصمت لي ما استطعت تكن أول من يدعى إلي إذا جئت. وقال لي: عبدي الصامت أتلقاه قبل موقفه وأشيعه إلى داره.»
14
وليست تجربة مؤسسي الديانات بكثيرة الاختلاف عن بقية التجارب الروحية الكبرى إلا من حيث نتائجها؛ فتجارب هؤلاء لا تكتمل إلا بتعميمها وهداية الآخرين إلى ما اهتدوا إليه: «هنا، وفي هذا المكان، سأجلس حتى يبلى جسدي ويجف جلدي، أو أصل إلى المعرفة.» هذا ما قاله البوذا وهو يأخذ مكانه تحت شجرة الاستنارة، والأرض اهتزت ست مرات. ولكن رئيس الأبالسة أحس بالخطر الداهم على سلطانه إذا استنارت نفس البوذا وسطعت جنباته بالحقيقة، فجاء بكل مغريات الدنيا وعرضها أمامه ليثنيه عما انتوى، إلا أن قلب البوذا بقي ساكنا كبرعم لوتس فوق مياه بحيرة صافية، راسخا كجبل عميق الأسس، ثم أطلق كبير الأبالسة عليه أصنافا مرعبة من العفاريت وتنانين هائلة أحاطت بشجرة الاستنارة، وراحت تضيق الخناق عليها، ولكنها ارتدت أخيرا خائبة مدحورة. وما إن حل المساء الموعود حتى بدا قلب البوذا يضيء بالاستنارة كزهرة كونية تتفتح. في البداية اطلع فؤاده على أحوال كل الكائنات الحية وأسباب ولاداتها الثانية، عبر الأمكنة وظلال الدهور، رأى الكائنات تحيا وتموت وتتناسخ، وتذكر هو نفسه حيواته السابقة، وفهم الصلات الحتمية بين الأسباب ونتائجها، ثم تأمل في المعاناة البشرية فاستبصر أصلها ووسائل الشفاء منها. وما إن لاح الصباح حتى حصل على الاستنارة الكاملة ... عقب ذلك انفتح أمام البوذا طريقان؛ فإما الدخول في النيرفانا عالم السكينة الأبدية، وهذا ما انطلق رئيس الأبالسة يحضه على اختياره، أو البقاء في عالم الآلام للتبشير بما اهتدى إليه، وهذا ما اجتمعت الآلهة طرا لكي تحضه على اختياره. ولما تردد برهة في الاختيار تقدم إليه الإله الكبير براهما يرجوه البقاء لنشر دعوته، فلبى البوذا النداء رافضا خلاصه الفردي، مفضلا خلاص الجنس البشري كله.»
15
وهكذا عمم الأمير سدهارتا الذي صار بوذا تجربته الفردية لتصير دينا لملايين الناس.
ويتكرر عنصر تجربة الشيطان للمستنير المقبل على تغيير وجه العالم في استنارة يسوع المسيح؛ فبعد هبوط الروح القدس على يسوع عقب اعتماده على يد يوحنا المعمدان عند الأردن، أخذه الشيطان إلى الصحراء يجربه أربعين يوما: «وقال له إبليس: إن كنت حقا ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزا. فأجابه يسوع قائلا: مكتوب أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله. ثم أصعده إبليس إلى جبل عال، وأراه ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن (أي الممالك)؛ لأنه إلي دفع وأنا أعطيه لمن أريد، فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع. فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان، إنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد ... ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين.»
16
ناپیژندل شوی مخ