انسان دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرونه
الدين الفردي، وسأطلق عليه اسم الخبرة الفردية أو الحس الديني. (2)
الدين الجمعي، وهو نتاج مرشد للخبرات الدينية الفردية. (3)
الدين المؤسساتي، وهو البنية المصطنعة التي تقوم فوق الدين الجمعي في المجتمعات ذات التكوين السياسي والاجتماعي المركب. (1) الدين الفردي
في قاع الظاهرة الدينية، هنالك خبرة فردية يعانيها الإنسان في أعماق نفسه وبمعزل عن تجارب الآخرين؛ فإذا كان لكل بناء سامق أساس يقوم عليه، فإن بناء الدين إنما يقوم على هذا النوع من الخبرة الدينية الفردية. وإذا أردنا الإخبار عن هذه الخبرة الأساسية، اعتمادا على الاستبطان وعلى شهادة الآخرين ممن عبروا عن تجاربهم تلك، قلنا إنها إحساس أولاني متمكن من السيكولوجيا الإنسانية، قوامه مواجهة فريدة مع قوة شمولية منبثة في هذا العالم، تبدو متصلة به قدر استقلالها عنه. إنه المقدس الكلي وقد صار ماثلا في النفس التي تختبر حضوره بكليتها وفي معزل عن أي موقف عقلاني نقدي. وكما لاحظ رودولف أوتو، بحق، فإن هذا الإحساس هو واقعة نفسانية، لا تنشأ عن أية إرادة أو تصميم مسبق، بل العكس هو الصحيح تماما؛ ذلك أن الفرد يجد نفسه تحت سلطان هذا الإحساس، دون مقدرة منه على توجيهه أو التحكم به، فهو ضحيته أكثر منه خالقا له. ونظرا لهذا الطابع الانفعالي غير العقلاني الذي تتسم به التجربة، فإن التعبير عنها بلغة الواقع المعاش ومفردات التجارب اليومية، هو أمر على غاية من الصعوبة.
إن أكثر ما أود التوكيد عليه هنا، هو أن اختبار القدسي من خلال الحالة الانفعالية التي وصفتها، هو أمر سابق على أي تصور عقلاني لإله مشخص أو كائنات روحية متفوقة واعية. فغير العقلاني في هذه التجربة يسبق العقلاني، والتعبير الرمزي عن الكلانية الحاضرة في النفس يسبق المفاهيم. من هنا فإن شارة القدسي قد سبقت تمثال الإله المشخص، أو صورته المرسومة، في تاريخ الأديان البشرية. ولسوف أوضح بالتفصيل في فصول لاحقة، ومن خلال معالجتي الخاصة لديانات العصر الحجري القديم والحديث، كيف تقدمت الرموز التشكيلية التي تشير إلى «الألوهة» تمثال الإله، وكيف تكونت صور الآلهة نتيجة للتوتر الذي يحصل بين الخبرة الأولانية بالقدسي من جهة والأفكار المرشدة من جهة أخرى.
هذا الحس الديني، أو الخبرة الدينية الفردية، ليس ظاهرة يمكن مراقبتها ووصفها من الخارج، وإنما هو أمر ذاتي يختبر فرديا، ولا يستطيع الباحث أن يعرف عنه إلا بالتنقيب في ذاكرته وسيرته الذاتية، وبالاستماع إلى شهادات الآخرين التي ما فتئت تتالى منذ بدايات التاريخ المكتوب. وهو لا يختص بفرد دون آخر، ولا بفئة دون أخرى، بل يتعرض له الجميع وإن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معه بدرجات متفاوتة أيضا من القبول والاعتراف، خصوصا في العصر الحديث حيث يباهي معظمنا بركونه إلى العقل وبعده عن كل ما لا يمت إلى العلم التجريبي بصلة، في زمن تراجعت فيه الآلهة عن مواقعها القديمة، وباتت (على حد تعبير غوستاف يونغ) سيئة السمعة إلى حد كبير. وفي حال إفساح المجال كاملا أمام هذه الخبرة الدينية المباشرة، أو اقتحام الحس الديني ساحة الشعور وتجاوزه كل مقاومة مصطنعة، فإن الفرد غالبا ما يلجأ إلى تحويل مساره ليصب في عقيدة مؤسسة ومصاغة في قالب ثابت، تنشأ حولها طقوس معروفة للجميع، تدفع عن الفرد وطأة المجابهة المباشرة مع الإحساس بالقدسي. وحول هذا الموضوع يقول يونغ: «لقد كان هنالك منذ فجر البشرية ميل ظاهر إلى رسم حدود للتأثير فوق الطبيعي ، العاصف والتحكمي، وذلك في صيغ وشرائع محددة. وعلى مدى الألفين من السنين الماضية، مثلا، نجد الكنيسة المسيحية قد اتخذت لنفسها دور الوساطة والوقاية بين هذه التأثيرات والإنسان.»
1
في العقيدة والطقس المؤسسين اجتماعيا، تذوب الخبرات الفردية في خبرة واحدة مشتركة، هي الدين الجمعي. أما أولئك الأفراد الذين يستسلمون للخبرة المباشرة دون التماس عون من معتقدات وطقوس جمعية، فهم غالبا من طينة المتصوفة والشامانات ومؤسسي الديانات الجديدة. فعند هؤلاء تبلغ الخبرة الدينية المباشرة درجة عالية من الشدة، تنتج ما ندعوه بحالة الوحي، وهي أقصى حالات المواجهة بين الفرد المنعزل والمقدس الكلي. وأعلى درجات الوحي هي الدرجة التي تدعو إلى الفعل، إلى تغيير المعتقد السائد بدلا من الهروب إليه؛ أي إن وطأة الخبرة الدينية تدعو إما إلى تحويلها إلى مسار العقيدة الجمعية، وإما إلى تحويل العقيدة الجمعية إليها. نقرأ عن تجربة النبي إرميا في التوراة:
كانت كلمة الرب إلي قائلا: «وقبل أن أصورك في البطن عرفتك، وقبل أن تخرج من الرحم قدستك وجعلتك نبيا للأمم ... ثم مد الرب يده ولمس فمي وقال لي: ها أنا ذا قد جعلت كلامي في فمك. انظر، إني أقمتك اليوم على الأمم وعلى الممالك لتقطع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس.»
2
ناپیژندل شوی مخ